تتوازى التجربة الشعرية وتتماثل مع التجربة الصوفية بصورة لافتة على نحو ما أشار صلاح عبد الصبور في كتابه "حياتي فى الشعر" فانتظار الوارد الصوفي أو الإلهام الشعرى أمر مشترك فى التجربتين كما يشتركان فى لحظة الإشراق أو التجلي التى هي ختام الرحلتين الصوفية والشعرية وهذا ما نلاحظه فى بعض نماذج ديوان "ترنيمات شاعر قبل الرحيل" للشاعر محمد الشحات الذى ينتمى إلى جيل السبعينيات لكنه كان بعيدا عن جماعتي: أصوات التى ضمت أحمد طه ومحمد سليمان وعبد المنعم رمضان وعبد المقصود عبد الكريم.. وإضاءة التى كان من أهم شعرائها حسن طلب وحلمي سالم وجمال القصاص؛ لكن شعراء مثل محمد الشحات وفولاذ عبد الله الأنور وفوزي خضر وأحمد فضل شبلول كانوا خارج هذين التجمعين.
وقد توالت أعمال محمد الشحات منذ ديوان "الدوران حول الرأس الفارغ" الذى أصدره عام 1974وحتى ديوان "يكتب فى دفتره" عام 2018وقد بلغ عدد الدواوين الصادرة على مدار هذه السنوات خمسة عشر ديوانا تتوزع بين الخاص والعام وتجمع بينهما أحيانا كثيرة وقد اتضح هذا فى ديوان "ترنيمات شاعر قبل الرحيل" الذى يتكون من خمس وأربعين قصيدة، وعنوان الديوان يقترب من عنوان إحدى هذه القصائد وهى " كلمات شاعر قبل الرحيل" لهذا يحق لنا البدء بها لمعرفة دلالات هذا العنوان المعتمد على بنية جملة اسمية محذوف مبتدؤها فتقدير العنوان " هذه ترنيمات شاعر قبل الرحيل " والأمر نفسه ينطبق على عنوان القصيدة فتقديرها " هذه كلمات شاعر قبل الرحيل " واستبدال الشاعر مفردة " كلمات " بمفردة " ترنيمات" يدل على ارتباط الشعر بالغناء فى وعى الشاعر وهذه حقيقة على نحو ما نجد فى قول شاعر الرسول حسان بن ثابت:
"تغن بالشعر إما أنت قائله = إن الغناء لهذا الشعر مضمار"
فالشعر ترنيم فى الأساس؛ لأنه يعتمد على حاسة الأذن ويسعى إلى جذب المتلقى المستمع ليحدث التوحد الوجداني بين الشاعر وجمهوره.
وبقراءة قصيدة " كلمات شاعر قبل الرحيل" نعلم أن الموت هو المقصود بدل الرحيل وليس السفر والانتقال من مكان إلى مكان وأن كلماته هي وصيته الأخيرة فهو يوصى من يمرون على قبره ألا يبكوا أو يتركوا ما "يختمر على أحبال الصوت يتدحرج" لأن هذا يضيق من قبره ويحزن قلبه حيث تبدأ القصيدة هكذا:
"أوصيكم خيرا / حين تمرون على قبري
ألا تبكوا أو تدعوا ما يختمر على أحبال الصوت
يتدحرج
حتى يسكن فوق شواهد قبري فيضيق القبر فيحزن قلبي"
فالشاعر هنا يتوجه مباشرة إلى قرائه من خلال المخاطبين وهناك ما يسمى باستباق الأحداث، فالشاعر يستشرف موته ويتحسب لما سوف يحدث بعده ويحتاط منه بتلك الوصايا التى يثبتها واللافت حقا هو توظيفه لدلالات حرف العطف "الفاء" مرتين للدلالة على السرعة والتعاقب وعلاقة السبب بالنتيجة فالبكاء وإرسال الكلام الحزين الذى يتدحرج على شواهد القبر هما سبب حزن الشاعر لكن المقطع الثاني يعطى معنى أعمق لهذا الموت فهو يناظر موت أحلام الشاعر فى مقلته دون أن تتحقق فى الواقع.
وهنا يبدأ المعنى العام للأحلام التى تدور حول رغبة الشاعر أن يزرع قمحا ويصنع خبزا للفقراء وهذا المعنى العام يمر بسلاسة دون ضجيج حين نقرأ:
" قولوا نامت فى مقلته أحلام فتى
ظلت تبحث عن وطن تسكنه
كان يطيب له أن يزرع قمحا
حتى يصنع خبزا للفقراء"
(ترنيمات شاعر قبل الرحيل" محمد الشحات ص84 دار الأديب للنشر والتوزيع"
لكن هذه الأحلام وئدت فى مهدها وتحولت إلى ما يشبه الكابوس فأفراخ الشاعر– التى هي معادل موضوعي لصغيراته – أكلتها الحدأة والزرع الذي كان يطاوله صار هشيما كما يبدو فى قوله: "وبقايا أفراخ كنت تربيها أكلتها الحدأة / أو زرع ظل يطاولك فصار هشيما تذروه الريح " واستخدام الأفراخ يذكرنا بقول الحطيئة، مخاطبا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:
"ماذا تقول لأفراخ بذي مرج = حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم فى قعر مظلمة = فاغفر عليك سلام الله يا عمر ".
لكن الشاعر – رغم هذه النهاية البائسة – لا يستسلم لمصيره بل يقاوم ويثبت أقدامه فى أرض الواقع كما يبدو فى قوله فى القصيدة نفسها:
" استمسك حتى تثبت قدماك على السفح
فإن جاء ما يحملك على الصمت فلا تتركه يناوئ أصواتك
أطلقها حيث تشاء وابدأ من حيث بدأت قيامتك الأولى"
فالشاعر – حقيقة – يقاوم الصمت بل الموت بأصواته التى يطلقها شعرا يعرى الواقع ويرسم الأحلام ويقاوم الفقر والقهر.
وفى سياق مقاومة القهر يسعى الشاعر إلى البدء بمساومة الخوف ومغالبته ثم قهره فى النهاية كما يظهر فى قصيدة "أساوم خوفي" التى تبدأ بقوله:
" كنت أساوم خوفي
كيما يرحل أو يتوارى"
ويظل فعل المقاومة بين الشاعر وخوفه مما يخلق بنية درامية واضحة حين يقول:
"كنت أراه يحاول أن ينقر
فى جنبات القلب
وينقض كما ينقض الذئب على القاصية
فكنت أحاول أن استجمعني
أن أرقب ما كان يحاول أن يرصدني
أو يترصدني
فأغض الطرف قليلا حتى أستجمع كل قواي وأقهر خوفي"
تنقسم هذه السطور إلى حركتين متقابلتين: حركة الخوف الذى يشبه ذئبا يطارد الشاعر ويفترسه منفردا.
ولنلاحظ هنا أن الخوف شيء معنوي؛ لكن الشاعر يجسده فى صورة حسية منفرة ثم تأتى الحركة الثانية ممثلة فى موقف الشاعر إزاء هذا الخوف فهو يستجمع نفسه ويستجمع قواه ويستطيع فى النهاية أن يقهر خوفه وهذا ما نجده فى قصيدة "عندما تختلط الألوان" التى يرسم فيها الشاعر بعض زهور وعصفور و"عين صغير / لايزال يحاول أن يبدأ رحلته أو يرسم شيئا يبهجه".
وهكذا يستمر الشاعر فى رسم أحلامه وتصويرها انتظارا لتحقيقها فى الواقع الذى يقوم الشاعر بتعريته وفضحه بصورة مباشرة فى قصيدة: " موتوا بغيظكم" التى تبدأ بهذه الحدة الواضحة
" نحن فى زمن اللهو فى زمن العهر فى زمن القهر فى زمن كل من فيه يمكر
فامكر كما يمكرون ولا تستح
حين ترسم فوق ملامح وجهك كل فنون التنكر"
وهو ما يذكرنا بقول المتنبي
" فلما صار حب الناس خبا = جزيت على ابتسام بابتسام"
ولا شك أن الشاعر لا يدعو إلى التنكر أو لبس أقنعة التلون وأن كل ذلك يقال على سبيل السخرية المرة بدليل أن الشاعر ظل متمسكا بمقاومة الزيف حتى ولو كان سجينا كما يبدو من قصيدته "من يوميات سجين" حين يقول:
"ظل يقاوم رغبته فى أن يترك محبسه
ظن بأن خفافيش الليل لها أجنحة سوف تحاصره حين تراه
فيحمل حيطان السجن يرتب بعض وسائد كان يجمعها
من أوراق الصحف ويرسم فوق الحائط
بعض وجوه لنساء كان يغازلها فى أضغاث الأحلام"
يأخذ السجن هنا معنى عاما فهو ليس دائما سورا وبابا من حديد كما كان يقول أحمد عبد المعطى حجازي، فقد تكون الحياة كلها سجنا ولهذا فإن الشاعر مضطر بأن يعيش فيها لكن ذلك لا يعنى عدم مقاومته للقبح فهو "يجمل حيطان السجن" ويرسم بعض وجوه النساء اللائي كن يغازلهن فى أحلامه إنه يستدعى طاقة الحلم لمقاومة القبح والسجن ويتوازى حلم استحضار النساء مع ما يسميه الشاعر بزراعة الكلمات ورعايتها كما يبدو فى قصيدته: "حين تفر حروفى " والتى تبدأ بقوله:
"انطفأت كل مصابيح الفرح / فتاه/ استطرد ومضى يبحث عن كلمات كي يبذرها فى أرض
ظل يقلب تربتها شعرا
كان يظن بأن الأحرف مثل الأطفال ولا تأتى إلا حين تلاعبها فلا تقس بقول طاوعها إذ ما لانت حتى لا تنكسر
فإذا استعصت فاهجرها".
ومن الواضح أن الكلمات تتماهى – فى رؤية الشاعر – مع الأنثى وتوحى هذه السطور بإيمان الشاعر بنظرية الطبع فى كتابة الشعر فهو لا يفتعل الكلمات ولا يقسو عليها ولا يستحضرها عنوة؛ بل يجعلها تأتيه طواعية لتكون أكثر صدقا على أن الرفض الصريح القاطع يتضح فى قصيدة "طلقة الصمت المدبب" التى تبدأ بتصوير خوف الشاعر وشيخوخة كلماته وندرة حروف الرفض فى لغته حين يقول:
"كنت انتبهت بأن صوتي عندما مرت به الأيام شاخ
وقد اتشحت ببعض خوف
عندما شحت حروف الرفض فى لغتي وما عادت تطاوعني"
ورغم هذا الإحساس بالخوف وشيخوخة كلمات الشاعر فقد ظل يقاوم بدمه حتى لا يستسلم أو يسلم رايته أو يكون واحدا من الخانعين ومتملقي السلطان، وهذا ما يظهر فى المقطع الثاني وهو ما يصنع تقابلا بين المقطعين حين يقول:
"فبات دمى يقاوم رغبتي
فى أن أسلم رايتي / أو أن أنكسها
لا أنتمى للخانعين ولا أجيد تملق السلطان
أعلن رغبتي فى أن أقاوم رغم حشرجة الحروف"
وهكذا تستمر نغمة المقاومة فى هذه القصيدة وفى الكثير من قصائد الديوان.
هذه بعض السمات والتيمات الشعرية فى ديوان "ترنيمات شاعر قبل الرحيل" للشاعر محمد الشحات، أرجو أن أكون قد تمكنت من توضيح بعض جمالياتها.
وقد توالت أعمال محمد الشحات منذ ديوان "الدوران حول الرأس الفارغ" الذى أصدره عام 1974وحتى ديوان "يكتب فى دفتره" عام 2018وقد بلغ عدد الدواوين الصادرة على مدار هذه السنوات خمسة عشر ديوانا تتوزع بين الخاص والعام وتجمع بينهما أحيانا كثيرة وقد اتضح هذا فى ديوان "ترنيمات شاعر قبل الرحيل" الذى يتكون من خمس وأربعين قصيدة، وعنوان الديوان يقترب من عنوان إحدى هذه القصائد وهى " كلمات شاعر قبل الرحيل" لهذا يحق لنا البدء بها لمعرفة دلالات هذا العنوان المعتمد على بنية جملة اسمية محذوف مبتدؤها فتقدير العنوان " هذه ترنيمات شاعر قبل الرحيل " والأمر نفسه ينطبق على عنوان القصيدة فتقديرها " هذه كلمات شاعر قبل الرحيل " واستبدال الشاعر مفردة " كلمات " بمفردة " ترنيمات" يدل على ارتباط الشعر بالغناء فى وعى الشاعر وهذه حقيقة على نحو ما نجد فى قول شاعر الرسول حسان بن ثابت:
"تغن بالشعر إما أنت قائله = إن الغناء لهذا الشعر مضمار"
فالشعر ترنيم فى الأساس؛ لأنه يعتمد على حاسة الأذن ويسعى إلى جذب المتلقى المستمع ليحدث التوحد الوجداني بين الشاعر وجمهوره.
وبقراءة قصيدة " كلمات شاعر قبل الرحيل" نعلم أن الموت هو المقصود بدل الرحيل وليس السفر والانتقال من مكان إلى مكان وأن كلماته هي وصيته الأخيرة فهو يوصى من يمرون على قبره ألا يبكوا أو يتركوا ما "يختمر على أحبال الصوت يتدحرج" لأن هذا يضيق من قبره ويحزن قلبه حيث تبدأ القصيدة هكذا:
"أوصيكم خيرا / حين تمرون على قبري
ألا تبكوا أو تدعوا ما يختمر على أحبال الصوت
يتدحرج
حتى يسكن فوق شواهد قبري فيضيق القبر فيحزن قلبي"
فالشاعر هنا يتوجه مباشرة إلى قرائه من خلال المخاطبين وهناك ما يسمى باستباق الأحداث، فالشاعر يستشرف موته ويتحسب لما سوف يحدث بعده ويحتاط منه بتلك الوصايا التى يثبتها واللافت حقا هو توظيفه لدلالات حرف العطف "الفاء" مرتين للدلالة على السرعة والتعاقب وعلاقة السبب بالنتيجة فالبكاء وإرسال الكلام الحزين الذى يتدحرج على شواهد القبر هما سبب حزن الشاعر لكن المقطع الثاني يعطى معنى أعمق لهذا الموت فهو يناظر موت أحلام الشاعر فى مقلته دون أن تتحقق فى الواقع.
وهنا يبدأ المعنى العام للأحلام التى تدور حول رغبة الشاعر أن يزرع قمحا ويصنع خبزا للفقراء وهذا المعنى العام يمر بسلاسة دون ضجيج حين نقرأ:
" قولوا نامت فى مقلته أحلام فتى
ظلت تبحث عن وطن تسكنه
كان يطيب له أن يزرع قمحا
حتى يصنع خبزا للفقراء"
(ترنيمات شاعر قبل الرحيل" محمد الشحات ص84 دار الأديب للنشر والتوزيع"
لكن هذه الأحلام وئدت فى مهدها وتحولت إلى ما يشبه الكابوس فأفراخ الشاعر– التى هي معادل موضوعي لصغيراته – أكلتها الحدأة والزرع الذي كان يطاوله صار هشيما كما يبدو فى قوله: "وبقايا أفراخ كنت تربيها أكلتها الحدأة / أو زرع ظل يطاولك فصار هشيما تذروه الريح " واستخدام الأفراخ يذكرنا بقول الحطيئة، مخاطبا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب:
"ماذا تقول لأفراخ بذي مرج = حمر الحواصل لا ماء ولا شجر
ألقيت كاسبهم فى قعر مظلمة = فاغفر عليك سلام الله يا عمر ".
لكن الشاعر – رغم هذه النهاية البائسة – لا يستسلم لمصيره بل يقاوم ويثبت أقدامه فى أرض الواقع كما يبدو فى قوله فى القصيدة نفسها:
" استمسك حتى تثبت قدماك على السفح
فإن جاء ما يحملك على الصمت فلا تتركه يناوئ أصواتك
أطلقها حيث تشاء وابدأ من حيث بدأت قيامتك الأولى"
فالشاعر – حقيقة – يقاوم الصمت بل الموت بأصواته التى يطلقها شعرا يعرى الواقع ويرسم الأحلام ويقاوم الفقر والقهر.
وفى سياق مقاومة القهر يسعى الشاعر إلى البدء بمساومة الخوف ومغالبته ثم قهره فى النهاية كما يظهر فى قصيدة "أساوم خوفي" التى تبدأ بقوله:
" كنت أساوم خوفي
كيما يرحل أو يتوارى"
ويظل فعل المقاومة بين الشاعر وخوفه مما يخلق بنية درامية واضحة حين يقول:
"كنت أراه يحاول أن ينقر
فى جنبات القلب
وينقض كما ينقض الذئب على القاصية
فكنت أحاول أن استجمعني
أن أرقب ما كان يحاول أن يرصدني
أو يترصدني
فأغض الطرف قليلا حتى أستجمع كل قواي وأقهر خوفي"
تنقسم هذه السطور إلى حركتين متقابلتين: حركة الخوف الذى يشبه ذئبا يطارد الشاعر ويفترسه منفردا.
ولنلاحظ هنا أن الخوف شيء معنوي؛ لكن الشاعر يجسده فى صورة حسية منفرة ثم تأتى الحركة الثانية ممثلة فى موقف الشاعر إزاء هذا الخوف فهو يستجمع نفسه ويستجمع قواه ويستطيع فى النهاية أن يقهر خوفه وهذا ما نجده فى قصيدة "عندما تختلط الألوان" التى يرسم فيها الشاعر بعض زهور وعصفور و"عين صغير / لايزال يحاول أن يبدأ رحلته أو يرسم شيئا يبهجه".
وهكذا يستمر الشاعر فى رسم أحلامه وتصويرها انتظارا لتحقيقها فى الواقع الذى يقوم الشاعر بتعريته وفضحه بصورة مباشرة فى قصيدة: " موتوا بغيظكم" التى تبدأ بهذه الحدة الواضحة
" نحن فى زمن اللهو فى زمن العهر فى زمن القهر فى زمن كل من فيه يمكر
فامكر كما يمكرون ولا تستح
حين ترسم فوق ملامح وجهك كل فنون التنكر"
وهو ما يذكرنا بقول المتنبي
" فلما صار حب الناس خبا = جزيت على ابتسام بابتسام"
ولا شك أن الشاعر لا يدعو إلى التنكر أو لبس أقنعة التلون وأن كل ذلك يقال على سبيل السخرية المرة بدليل أن الشاعر ظل متمسكا بمقاومة الزيف حتى ولو كان سجينا كما يبدو من قصيدته "من يوميات سجين" حين يقول:
"ظل يقاوم رغبته فى أن يترك محبسه
ظن بأن خفافيش الليل لها أجنحة سوف تحاصره حين تراه
فيحمل حيطان السجن يرتب بعض وسائد كان يجمعها
من أوراق الصحف ويرسم فوق الحائط
بعض وجوه لنساء كان يغازلها فى أضغاث الأحلام"
يأخذ السجن هنا معنى عاما فهو ليس دائما سورا وبابا من حديد كما كان يقول أحمد عبد المعطى حجازي، فقد تكون الحياة كلها سجنا ولهذا فإن الشاعر مضطر بأن يعيش فيها لكن ذلك لا يعنى عدم مقاومته للقبح فهو "يجمل حيطان السجن" ويرسم بعض وجوه النساء اللائي كن يغازلهن فى أحلامه إنه يستدعى طاقة الحلم لمقاومة القبح والسجن ويتوازى حلم استحضار النساء مع ما يسميه الشاعر بزراعة الكلمات ورعايتها كما يبدو فى قصيدته: "حين تفر حروفى " والتى تبدأ بقوله:
"انطفأت كل مصابيح الفرح / فتاه/ استطرد ومضى يبحث عن كلمات كي يبذرها فى أرض
ظل يقلب تربتها شعرا
كان يظن بأن الأحرف مثل الأطفال ولا تأتى إلا حين تلاعبها فلا تقس بقول طاوعها إذ ما لانت حتى لا تنكسر
فإذا استعصت فاهجرها".
ومن الواضح أن الكلمات تتماهى – فى رؤية الشاعر – مع الأنثى وتوحى هذه السطور بإيمان الشاعر بنظرية الطبع فى كتابة الشعر فهو لا يفتعل الكلمات ولا يقسو عليها ولا يستحضرها عنوة؛ بل يجعلها تأتيه طواعية لتكون أكثر صدقا على أن الرفض الصريح القاطع يتضح فى قصيدة "طلقة الصمت المدبب" التى تبدأ بتصوير خوف الشاعر وشيخوخة كلماته وندرة حروف الرفض فى لغته حين يقول:
"كنت انتبهت بأن صوتي عندما مرت به الأيام شاخ
وقد اتشحت ببعض خوف
عندما شحت حروف الرفض فى لغتي وما عادت تطاوعني"
ورغم هذا الإحساس بالخوف وشيخوخة كلمات الشاعر فقد ظل يقاوم بدمه حتى لا يستسلم أو يسلم رايته أو يكون واحدا من الخانعين ومتملقي السلطان، وهذا ما يظهر فى المقطع الثاني وهو ما يصنع تقابلا بين المقطعين حين يقول:
"فبات دمى يقاوم رغبتي
فى أن أسلم رايتي / أو أن أنكسها
لا أنتمى للخانعين ولا أجيد تملق السلطان
أعلن رغبتي فى أن أقاوم رغم حشرجة الحروف"
وهكذا تستمر نغمة المقاومة فى هذه القصيدة وفى الكثير من قصائد الديوان.
هذه بعض السمات والتيمات الشعرية فى ديوان "ترنيمات شاعر قبل الرحيل" للشاعر محمد الشحات، أرجو أن أكون قد تمكنت من توضيح بعض جمالياتها.