القاهرة من أحمد رجب شلتوت
"حطم سيفك، وتناول معولك، واتبعنى لنزرع المحبة والسلام"، بهذا المقتطف من رسالة الإله بعل ( حدد ) إله البرق والعواصف والأمطار يفتتح الكاتب السوري "زياد كمال حمامي" روايته "قيامة البتول الأخيرة _ الأناشيد السرية" الصادرة عن دار نون 4 بحلب الشهباء، هذه الدعوة إلى المحبة والسلام تلقي بظلال قاتمة على العمل منذ بدايته، فلا محل للدعوة إلى تحطيم السيف إلا لو كان مشهرا، ولا موجب للدعوة إلى زرع المحبة والسلام لولا الحاجة إليهما، وبالفعل تجىء أجواء الرواية مفعمة بالقتامة إلا إنها _ أى الرواية _ تحفل كذلك بمواقف الرفض والتحدى والمقاومة التى تمثل بعدا إيجابيا ملموسا. تتركز أغلب أحداث الرواية داخل "البندرة" وهي حارة اليهود بحلب حيث ترصد من خلالها ما أحدثته الحرب في سوريا، تلك الحرب التي لم يدرك "عبدالسلام" الفنان كنهها فيتسائل: "ما هذه الحرب المؤلمة؟ طرف يقول إنها ثورة، والطرف الآخر يصفها بالأزمة والفتنة، وطرف ثالث يعتنقها جهاداً، وآخر يعدها احتلالاً، وأطراف تؤكد أنها فوضى".
أما الحارة المنسية فهي ليست مقصورة على اليهود وقد هاجر أغلبهم ولم يبق منهم إلا أقل القليل، فيسكنها العرب والأرمن، وتنوعت أديان سكانها من يهود ومسيحيين ومسلمين، ويتعايشون معا في وئام.
دلالة العنوان
للرواية عنوانان متواشجان يعكسان مضمونها، العنوان الرئيس "قيامة البتول الأخيرة"، وبين مزدوجتين يثبت المؤلف عنوانا آخر "الأناشيد السرية"، فكيف يتواشجان؟
القيامة انبعاث من الموت، والبتول هي العذراء العفيفة التي لم يمسها رجل، وهو اسم السيدة مريم أم المسيح، وفي الرواية البتول هي أجمل بنات الحارة، وقد تعرضت لاغتصاب جماعي، يدفعها الشعور بالعار إلى التوجه نحو "سطح الدار العالي، تقف على حافّته، ترفع رأسها إلى السماء عاليا، تفتح يديها كحمامة بيضاء، تطيِّرهما، وتلقي بنفسها باكية إلى الجنة، عفوا، إلى الأرض الخراب، حيث ركام الموت، والأطلال، والبيوت المدّمرة، والأنفاق العميقة، والقطط السمان المتوّزعة في كل مكان". هكذا تصف الرواية مشهد انتحارها لكن جثتها اختفت بلا أثر. وتضيف "أمام الفوّهة العميقة، مكان سقوط البتول. كانت المفاجأة في تراكم حجارة صخريّة ضخمة لتكوِّن هرماً صغيراً يصعب إزالته". ولم تبح الرواية بديانة البتول لتجعل منها رمزا لما يوحد بين الجميع، ورغم تأكد موتها إلا أن طيفها يظهر في مراحل مفصلية من الرواية، ملقيا بظلاله على الأحداث، فيراها يحيي الذي كان متيما بها، ويستشعر عبدالسلام وجودها بل ويراها قبيل النهاية، فحينما يسقط عبد السلام: "ولومضة خاطفة تهيأت له البتول ... فجأة ظهرت في سماء المتحف الوطني حمامة بيضاء"، فتصبح بتجليها رمزا للسلام المأمول كما كانت باغتصابها ثم موتها رمزا لوطن تم تدميره. أما العنوان الفرعي"الأناشيد السرية"، فيشير إلى ممارسات جمعية أخوة الحليب، التي تعمل على تهريب تمثال الإله حدد، وهو أهم آلهة الكنعانيون، وقد عبده العبرانيون، ويعتبره العهد القديم إله أجدادهم، وبالتالي تصبح محاولة تهريبه حلقة من سلسلة تزوير التاريخ. فكأن قيامة البتول كانت إيذانا بإفشال مخطط تدمير الوطن والاستيلاء على تاريخه.
الغراب والنسر
كان الفنان المحبط والمستلب عبدالسلام يمارس حياته وفنه داخل القبو، وهو معادل لمكانه في قاع المجتمع، ولهروبه من واقعه على السطح قبل الحرب ومن الغارات خلالها، ومن روائح الموت المتوزعة في المدينة كلها، تبدأ الرواية به وهو يعمل في نحت تمثال "الحرية"، تمثال الحرية الشهير نتاج محاولة متقنة لتقليد تمثال الإله حدد، أما التمثال الذي ينحته عبدالسلام، يجسد به قيامة البتول باستعادة لحظة طيرانها قبل اختفاء جثتها، يصورها على هيئة "نسر ضخم له وجه امرأة تخرج من الرماد، تحضن أولادها بخوف ممزوج بالحنان، تظلِّلهم بجناحيها الضخمين، تُرضعهم من حليب ثدييها اللذين يشبهان قلعة المدينة". يبدأ الكاتب روايته بضربات إزميل ناعمة تتنزل على رأس الحجر الذي ينحت منه التمثال، يصبح الإزميل أداته في تجسيد الحلم، ووسيلته لتغيير واقع المدينة المدمرة التي أصبحت ركاما ، وتحولت دروبها أقبية مملوءة بالحجارة، فليس سوى الإزميل وسيلة لتحويل قبح الركام إلى فن يستنهض الهمم لإعادة البناء. يتماوج طيف البتول في مخيلة عبدالسلام وهو يضرب الحجر الأصم محاولا تجسيد النسر، فيعيده إلى الواقع حيث غراب ضخم يجثم على قمة جدار في البندرة، وينعق بأعلى صوته حيث الأزقة (قاع المدينة) تغط بالعتمة، وفي الأقبية ترتع الهوام، ويصبح البشر كالدمي، "الفارق بيننا وبين الدمى أننا نملك أرواحًا مكسورة، وهي بلا روح، ولكننا معًا بلا حياة"، لذلك يتسائل قبل أن يعود للقبض على إلإزميل "هل تعرف المدينة أنّها تعيش نهايتها الآن، مثل رجل مريض ميؤس من شفائه؟"، ترصد الرواية علامات النهاية، فوسط الأنقاض يعيش الجقجوق الذي يسرق الجثث ويغتصبها، والنونو مجنون الحارة الذي يدعى سماعه لصراخ النسوة المغتصبات من ميكروفون مسجد الشيخ سيتا، والثريا العمياء التي ترى ما لا يرونه، تستطيع الرؤية من خلال تذبذب الأصوات ومن الرائحة، كانت تقول للبتول "صدّقيني، إنّني أراكِ، وأرى نفسي، من خلال خفقات قلبكِ الطيّب، ورائحتك المميّزة بعطر الياسمين"، وهي شقيقة "أمّ القطط”، تلك العانس العجوز التي لا تغادر بيتها ذو الرائحة الكريهة إلا لتنادي تنادي على قططها الهاربة، أو المقتولة، تنادي كلَّ قطّة باسمها، وكما أنسنت أم القطط قططها ومنحتها أسماء كأهل الحارة، أنسن السارد الكلب ميمو، وجعله واحدا من سكان الحارة، فهو الذي يكشف جرائم الجقجوق، ويشارك في المقاومة بأن يعض أحد قادة الهجوم على الحارة ويخطف سلاحه، فيتم تكليف قناص بقتل ميمو، وقد أسمعنا السارد صوته: "صحيح أنّني كلب بن كلب بن كلبة إلّا أنّ عشقي وجذوري هنا، في الحارة، ولن يغيّر ذلك في نفسي شيئاً حتى وإن كنتُ مجهول النسب".
إخوة الحليب
وسط هذا الخراب يرتع "إخوة الحليب" وهم جماعة ماسونية تعمل في الخفاء ولها علاقاتها بدوائر صهيونية، وتحكم قبضتها على البلد فتشارك في تدميره، وتحاول سرقة ذاكرته ممثلة في تمثال الإله حدد، وتسعى إلى توريط عبدالسلام في جريمة تهريب التمثال. يدبر الخطة إبراهام فارحي، أهل الحارة يجتازون الحواجز بينهم وبينه فينادونه ابراهيم، هو حارس معبد الصفراء ويدعي امتلاكه لأقدم النسخ في العالم من التوراة، يستغل مشاعر الحب المتبادلة بين ابنته ليزا وعبدالسلام، كذلك يتضح معرفته بسوزانا اليهودية الكندية التي عمل عبدالسلام دليلا لها خلال رحلتها في حلب قبل سنتين فقط من قيام الحرب، كانت تقيم بفندق البارون الشهير، وفي الغرفة 202، التي سبق وأقام بها الجاسوس المعروف باسم لورانس العرب، ولعل في ذكر تلك المعلومة إشارة من السارد إلى جاسوسية سوزانا، وفي نفس الغرفة يفرغ عبدالسلام كل مكبوتاته في جسد سوزانا التي ترحل تاركة له رسالة تخبره فيها بأنها يهودية، وبعد سنوات تأتيه رسالتها الثانية متضمنة صورة طفل تخبره بأنه ابنهما يوسف، أما صور ليلتهما معا في الغرفة 202، فيفاجئه بها ابراهام، ويردف قائلا " كنتُ أعرف كلّ شيء، أجل، كلّ شيء"، يستغل تأثير المفاجأة فيواصل حواره حتى يكشف هدفه "اشرب الحليب يا عبد السلام، اشرب، أنتَ من اليوم، أصبحت أخا لنا من أخوة الحليب".
كل ما حدث إذن كان مدبرا، من أجل تطويع عبدالسلام الذي يتم تكليفه بتهريب تمثال الإله حدد، الذي اختفى من المتحف ليظهر في بيت إبراهام، ما حدث يلهب حماس عبدالسلام، فيعود لتوجيه ضربات إزميله لرأس الحجر لينجز تمثال الحرية، ويدبر مع يحيي وشباب آخرين لإحباط مخطط إخوة الحليب في سرقة التمثال ليختلقوا لأنفسهم تاريخا حتى ولو كان مزورا، كما أوضح لهم جارهم الفلسطيني العجوز "أبوالرمز" الذي يسير متكئا على عصا من خشب الزيتون، ويعد أرشيفا يوثق للذاكرة الفلسطينية، فهو الحافظ للوعي الجمعي للحارة، لذلك يكرهه إبراهام ويخشاه. يبدى عبدالسلام موافقته على تهريب التمثال وهو يضمر رده إلى المتحف، في خطوة عمل ابراهام و جماعته حسابها، ولما مال عبدالسلام عن المسار المرسوم له، حاول حراس الحواجز إيقافه وأطلقوا عليه رصاصاتهم فأصابوه لكنه واصل طريقه حتى المتحف، وهناك انهار جسده، وتهيأت له البتول، تطير كفراشة، ترتدي ثوب زفافها الأبيض، وفجأة ظهرت في سماء المتحف الوطني حمامة بيضاء، تهادت برشاقة جانب جثته.
"حطم سيفك، وتناول معولك، واتبعنى لنزرع المحبة والسلام"، بهذا المقتطف من رسالة الإله بعل ( حدد ) إله البرق والعواصف والأمطار يفتتح الكاتب السوري "زياد كمال حمامي" روايته "قيامة البتول الأخيرة _ الأناشيد السرية" الصادرة عن دار نون 4 بحلب الشهباء، هذه الدعوة إلى المحبة والسلام تلقي بظلال قاتمة على العمل منذ بدايته، فلا محل للدعوة إلى تحطيم السيف إلا لو كان مشهرا، ولا موجب للدعوة إلى زرع المحبة والسلام لولا الحاجة إليهما، وبالفعل تجىء أجواء الرواية مفعمة بالقتامة إلا إنها _ أى الرواية _ تحفل كذلك بمواقف الرفض والتحدى والمقاومة التى تمثل بعدا إيجابيا ملموسا. تتركز أغلب أحداث الرواية داخل "البندرة" وهي حارة اليهود بحلب حيث ترصد من خلالها ما أحدثته الحرب في سوريا، تلك الحرب التي لم يدرك "عبدالسلام" الفنان كنهها فيتسائل: "ما هذه الحرب المؤلمة؟ طرف يقول إنها ثورة، والطرف الآخر يصفها بالأزمة والفتنة، وطرف ثالث يعتنقها جهاداً، وآخر يعدها احتلالاً، وأطراف تؤكد أنها فوضى".
أما الحارة المنسية فهي ليست مقصورة على اليهود وقد هاجر أغلبهم ولم يبق منهم إلا أقل القليل، فيسكنها العرب والأرمن، وتنوعت أديان سكانها من يهود ومسيحيين ومسلمين، ويتعايشون معا في وئام.
دلالة العنوان
للرواية عنوانان متواشجان يعكسان مضمونها، العنوان الرئيس "قيامة البتول الأخيرة"، وبين مزدوجتين يثبت المؤلف عنوانا آخر "الأناشيد السرية"، فكيف يتواشجان؟
القيامة انبعاث من الموت، والبتول هي العذراء العفيفة التي لم يمسها رجل، وهو اسم السيدة مريم أم المسيح، وفي الرواية البتول هي أجمل بنات الحارة، وقد تعرضت لاغتصاب جماعي، يدفعها الشعور بالعار إلى التوجه نحو "سطح الدار العالي، تقف على حافّته، ترفع رأسها إلى السماء عاليا، تفتح يديها كحمامة بيضاء، تطيِّرهما، وتلقي بنفسها باكية إلى الجنة، عفوا، إلى الأرض الخراب، حيث ركام الموت، والأطلال، والبيوت المدّمرة، والأنفاق العميقة، والقطط السمان المتوّزعة في كل مكان". هكذا تصف الرواية مشهد انتحارها لكن جثتها اختفت بلا أثر. وتضيف "أمام الفوّهة العميقة، مكان سقوط البتول. كانت المفاجأة في تراكم حجارة صخريّة ضخمة لتكوِّن هرماً صغيراً يصعب إزالته". ولم تبح الرواية بديانة البتول لتجعل منها رمزا لما يوحد بين الجميع، ورغم تأكد موتها إلا أن طيفها يظهر في مراحل مفصلية من الرواية، ملقيا بظلاله على الأحداث، فيراها يحيي الذي كان متيما بها، ويستشعر عبدالسلام وجودها بل ويراها قبيل النهاية، فحينما يسقط عبد السلام: "ولومضة خاطفة تهيأت له البتول ... فجأة ظهرت في سماء المتحف الوطني حمامة بيضاء"، فتصبح بتجليها رمزا للسلام المأمول كما كانت باغتصابها ثم موتها رمزا لوطن تم تدميره. أما العنوان الفرعي"الأناشيد السرية"، فيشير إلى ممارسات جمعية أخوة الحليب، التي تعمل على تهريب تمثال الإله حدد، وهو أهم آلهة الكنعانيون، وقد عبده العبرانيون، ويعتبره العهد القديم إله أجدادهم، وبالتالي تصبح محاولة تهريبه حلقة من سلسلة تزوير التاريخ. فكأن قيامة البتول كانت إيذانا بإفشال مخطط تدمير الوطن والاستيلاء على تاريخه.
الغراب والنسر
كان الفنان المحبط والمستلب عبدالسلام يمارس حياته وفنه داخل القبو، وهو معادل لمكانه في قاع المجتمع، ولهروبه من واقعه على السطح قبل الحرب ومن الغارات خلالها، ومن روائح الموت المتوزعة في المدينة كلها، تبدأ الرواية به وهو يعمل في نحت تمثال "الحرية"، تمثال الحرية الشهير نتاج محاولة متقنة لتقليد تمثال الإله حدد، أما التمثال الذي ينحته عبدالسلام، يجسد به قيامة البتول باستعادة لحظة طيرانها قبل اختفاء جثتها، يصورها على هيئة "نسر ضخم له وجه امرأة تخرج من الرماد، تحضن أولادها بخوف ممزوج بالحنان، تظلِّلهم بجناحيها الضخمين، تُرضعهم من حليب ثدييها اللذين يشبهان قلعة المدينة". يبدأ الكاتب روايته بضربات إزميل ناعمة تتنزل على رأس الحجر الذي ينحت منه التمثال، يصبح الإزميل أداته في تجسيد الحلم، ووسيلته لتغيير واقع المدينة المدمرة التي أصبحت ركاما ، وتحولت دروبها أقبية مملوءة بالحجارة، فليس سوى الإزميل وسيلة لتحويل قبح الركام إلى فن يستنهض الهمم لإعادة البناء. يتماوج طيف البتول في مخيلة عبدالسلام وهو يضرب الحجر الأصم محاولا تجسيد النسر، فيعيده إلى الواقع حيث غراب ضخم يجثم على قمة جدار في البندرة، وينعق بأعلى صوته حيث الأزقة (قاع المدينة) تغط بالعتمة، وفي الأقبية ترتع الهوام، ويصبح البشر كالدمي، "الفارق بيننا وبين الدمى أننا نملك أرواحًا مكسورة، وهي بلا روح، ولكننا معًا بلا حياة"، لذلك يتسائل قبل أن يعود للقبض على إلإزميل "هل تعرف المدينة أنّها تعيش نهايتها الآن، مثل رجل مريض ميؤس من شفائه؟"، ترصد الرواية علامات النهاية، فوسط الأنقاض يعيش الجقجوق الذي يسرق الجثث ويغتصبها، والنونو مجنون الحارة الذي يدعى سماعه لصراخ النسوة المغتصبات من ميكروفون مسجد الشيخ سيتا، والثريا العمياء التي ترى ما لا يرونه، تستطيع الرؤية من خلال تذبذب الأصوات ومن الرائحة، كانت تقول للبتول "صدّقيني، إنّني أراكِ، وأرى نفسي، من خلال خفقات قلبكِ الطيّب، ورائحتك المميّزة بعطر الياسمين"، وهي شقيقة "أمّ القطط”، تلك العانس العجوز التي لا تغادر بيتها ذو الرائحة الكريهة إلا لتنادي تنادي على قططها الهاربة، أو المقتولة، تنادي كلَّ قطّة باسمها، وكما أنسنت أم القطط قططها ومنحتها أسماء كأهل الحارة، أنسن السارد الكلب ميمو، وجعله واحدا من سكان الحارة، فهو الذي يكشف جرائم الجقجوق، ويشارك في المقاومة بأن يعض أحد قادة الهجوم على الحارة ويخطف سلاحه، فيتم تكليف قناص بقتل ميمو، وقد أسمعنا السارد صوته: "صحيح أنّني كلب بن كلب بن كلبة إلّا أنّ عشقي وجذوري هنا، في الحارة، ولن يغيّر ذلك في نفسي شيئاً حتى وإن كنتُ مجهول النسب".
إخوة الحليب
وسط هذا الخراب يرتع "إخوة الحليب" وهم جماعة ماسونية تعمل في الخفاء ولها علاقاتها بدوائر صهيونية، وتحكم قبضتها على البلد فتشارك في تدميره، وتحاول سرقة ذاكرته ممثلة في تمثال الإله حدد، وتسعى إلى توريط عبدالسلام في جريمة تهريب التمثال. يدبر الخطة إبراهام فارحي، أهل الحارة يجتازون الحواجز بينهم وبينه فينادونه ابراهيم، هو حارس معبد الصفراء ويدعي امتلاكه لأقدم النسخ في العالم من التوراة، يستغل مشاعر الحب المتبادلة بين ابنته ليزا وعبدالسلام، كذلك يتضح معرفته بسوزانا اليهودية الكندية التي عمل عبدالسلام دليلا لها خلال رحلتها في حلب قبل سنتين فقط من قيام الحرب، كانت تقيم بفندق البارون الشهير، وفي الغرفة 202، التي سبق وأقام بها الجاسوس المعروف باسم لورانس العرب، ولعل في ذكر تلك المعلومة إشارة من السارد إلى جاسوسية سوزانا، وفي نفس الغرفة يفرغ عبدالسلام كل مكبوتاته في جسد سوزانا التي ترحل تاركة له رسالة تخبره فيها بأنها يهودية، وبعد سنوات تأتيه رسالتها الثانية متضمنة صورة طفل تخبره بأنه ابنهما يوسف، أما صور ليلتهما معا في الغرفة 202، فيفاجئه بها ابراهام، ويردف قائلا " كنتُ أعرف كلّ شيء، أجل، كلّ شيء"، يستغل تأثير المفاجأة فيواصل حواره حتى يكشف هدفه "اشرب الحليب يا عبد السلام، اشرب، أنتَ من اليوم، أصبحت أخا لنا من أخوة الحليب".
كل ما حدث إذن كان مدبرا، من أجل تطويع عبدالسلام الذي يتم تكليفه بتهريب تمثال الإله حدد، الذي اختفى من المتحف ليظهر في بيت إبراهام، ما حدث يلهب حماس عبدالسلام، فيعود لتوجيه ضربات إزميله لرأس الحجر لينجز تمثال الحرية، ويدبر مع يحيي وشباب آخرين لإحباط مخطط إخوة الحليب في سرقة التمثال ليختلقوا لأنفسهم تاريخا حتى ولو كان مزورا، كما أوضح لهم جارهم الفلسطيني العجوز "أبوالرمز" الذي يسير متكئا على عصا من خشب الزيتون، ويعد أرشيفا يوثق للذاكرة الفلسطينية، فهو الحافظ للوعي الجمعي للحارة، لذلك يكرهه إبراهام ويخشاه. يبدى عبدالسلام موافقته على تهريب التمثال وهو يضمر رده إلى المتحف، في خطوة عمل ابراهام و جماعته حسابها، ولما مال عبدالسلام عن المسار المرسوم له، حاول حراس الحواجز إيقافه وأطلقوا عليه رصاصاتهم فأصابوه لكنه واصل طريقه حتى المتحف، وهناك انهار جسده، وتهيأت له البتول، تطير كفراشة، ترتدي ثوب زفافها الأبيض، وفجأة ظهرت في سماء المتحف الوطني حمامة بيضاء، تهادت برشاقة جانب جثته.