هذا مساء استثنائي لا كالمساءات مضمخ بالذكرى بالإنسان بالوجع وبالبهاء المترامي الأطراف، بيننا هنا حاضر غائب رحمه الله هو من جمع كل هذا الحضور الطيب المتذوق للغة الضاد لغة الذرر.
ما الشعر إلا جذوةٌ من الشعور، وميضٌ من النبض الإنساني، تجربةُ روحيةُ تجوب أنفاقَ المواجعِ، إنصاتٌ عميقُ لسراديبَ نفسيةٍ دفينةٍ، نبعٌ خصيبٌ يتدفَّقُ بين مراعي الوجدان، يوثِّقُ صورَ المعاناةِ و يرسم ألوانَ المكابدةِ.
ملكوتُ جمالٍ منحوتٍ بالكلمة والصورة و الا يقاع
لحظاتُ إدهاشٍ بعيون القلب تطمسُ كلَّ الخيباتِ...
ترنيمةٌ تُنجِبُ صرخاتٍ مكتومةً، تَروي عطشَ السؤالِ، تزرَع القيمَ وتحُثُّ على أنبلِ المطالبِ.
إنها باقة من دلالات شاعرية وليست تعريفا للشعر، فما أعقدَ تعريفَه، لِنَتَمَلَّ بها تتدفَّقُ زخَّاتٍ عبِقَةً في محراب ديوانٍ لافِتٍ موسومٍ بِ*أنا لا أرى أحدا* للشاعر * ذ أحمد بوحويطة* رحمه الله.
التعريف بالشاعر:
ذ أحمد بوحو يطة شاعر فذٌّ متمرسٌ من شعراء القصيدة النثرية، مسكون بوجعِ الإبداع، متمرسٌ في ترويضِ الحرفَ و تطويعِهِ، امتطى خيولَ الشعرِ الجامحةِ بشموخٍ ونهمِ مطالعةٍ، ترجم أوجاعَه أ شعارا عذبةً، اختار أن تتماهى فيها الذاتُ الشاعرةُ مع عبقِ الطبيعةِ مع أطيارِها الغناءِ وعناصرِها الساحرةِ، فاضت قريحتُه بديوانين:
"لا تصدقي الكمنجاتِ" كان لي كل الشرف أن أقرأه له بطنجة يوم توقيعه
"أنا لا أرى أحدا"
لكن فارقنا على عجل، وافته المَنِيَّة يوم 24 مارس 2019 رحمه اللهُ رحماتٍ واسعةً.
دلالة العتبات:
قراءة للغلاف:
لا محالةَ أنَّ الغلافيَ يُعَدُّ أولَ عتبةٍ بصريةٍ تثير الفضولَ، تكرسُ التشويقَ و توحي بهُوية النص على حد قول جيرار جينيت " العنوان نقطة ذهاب وإياب"
وهذا غلافٌ نوعيٌّ يستوقِفُنا بِما توشَّحَ به من لونٍ أسودَ، تَمدَّد على كل مساحتِه، ربما استدعاءً لِليلٍ مُعْتِم يُشاركُ المبدعَ بوحَ الذاتِّ الشاعرةِ، أوِ استلهاماً للوجعِ وترجمةً لآهاتٍ حارّةٍ تُؤَرِقُه، فتَكشِفُ عن حالةٍ نفسيةٍ عسيرةٍ خاصةٍ..نفس ما رمى إليه الشاعرُ "محمود غنيم":
"مالي وللنجمِ يَرعاني وأَرعاهُ = أمسى كلانا يَعافُ الغَمْضَ جفنَاهُ
لي فيك يا ليلُ آهاتٌ أُردِّدُها = أوَّاهُ لَوْ أَجْدَتِ المَحزُونَ أَوَّاهُ
ليس غريبا أن يَستعينَ المبدع بألوانِ الطبيعةِ، فالألوانُ هدية العالمِ المرئِيّ، رمزٌ بصريٌ دالٌّ، يُؤَثِّثُ الصورةَ الفنِّيَةَ، ويُشخِّصُ الإحساسَ.
يؤكد ذلك د. نشوان حسين بقوله:
" إن الصورَ والألوانَ تكمن في جُوانيةِ الشاعر، وخبرتِه البصريَة، ووعْيِه التاريخي وحفرياتِه الأسطوريَةِ... بحيث تصبح الصورةُ ليست مجردَ أداةٍ للمعرفةِ فحسبُ، وإنما أداةٌ للحريَةِ أيضا"
بحق إن اللونَ تعبيرٌ، حرِّيةٌ رحبةٌ بوُسْعٍ لامُتناهٍ، يترجم دفينِ المشاعرِ، وعميقِ الرُّؤى.
وللون الأسود شموخٌ سلطةٌ، يعدُّ سيدَ الألوان الأُحاديةِ، يُرمزُ به إيجابا للأناقةِ و التفرد، وسلباً يُرمزُ به للتكتُّمِ، العتمةِ، الخوفِ الأسى الاغترابِ و الحداد.
بتأمل الغلاف يتبدّى بيسر أن المبدع يجوب ويجولُ على ضفاف اللونِ الأسودِ، كمن يَعْبُر نفقا طويلا، يَستضيئُ بفانوسٍ يَشِعُّ بضوءٍ برتقاليٍّ وهَّاجٍ، لونٌ يُضْفِي الطاقةَ ويجدد النشاطَ ، أسلمَهُ فانوسُه إلى باب تعجُّ ضياءً، تحسبها تباشيرَ فجرٍ، لم يتوان أن غاص بالضياء احتضن الأفق كمن يتوقُ منجاةً من ضجيج اليومي المؤرِّقِ، أو انعتاقا ليعيش حلما منشودا دون غيومٍ أو لواعجَ، كمن لم يعد يرجو العود إلى الوراء المعتمِ
لا أظن ذاك الضياءَ إلا شعرُهُ المتوهجُ، به استنارَ في حياةٍ برحابتِها ضاقت عليه فلم يعد يرى أحدا سوى والديه كما أسر بذلك.
دوما ردد أن الشعر انغماس عميق في محراب الذات في عوالمِ حالمة سامية، كلما تعاظم المدُّ كان البوح كفيلا برتقِ ثقوبِ الروحِ.
فسبحان من أعقبَ الظلماءَ بالفَلَقِ.
يقول المبدع :
أنا... لا أرى أحدا
يا غَدي المأهولَ بالمجهول ما أجملَك
أُطِلُّ منكَ على وجعي أنا لا أرى أحدا
غير أمي تريد أن تصنع قلبَها كما تريد ص63
دلالة العنوان:
"أنا لا أرى أحدا" عنوانٌ جاء عتبةً محفزّةً ،عميقةَ الإيحاء بارزةً كالثريا، ،مستفزةً للمتلقي، تراود فضوله لولوج المتن الشعري .
يبدو العنوان متناغما واللونَ الأسودَ و فريدا من نوعه ومعناهَ..مراوغ عصي على القبض مدجج بدكاء ثاقب
لماذا لا يرى أحدا؟ كيف تتعذر الرؤيا وهو المبصرُ؟ أتراه وسط ظلام دامس،و يجنح إلى عالم قصي لا مرئي؟ كأنها لحظاتٌ منفلتةٌ من الزمان والمكان كأنه من الغُثاء، غصنٌ لفظته أزهارُه انقطع من شجرته و حملهُ سيلٌ هادر، ذاك يوحي بمعاناة نفسية مكابدةٍ روحية غربةٍ قاسية تمزقٍ روحيٍ صارخِ، يلتمسُ الفَ خلاصٍ ومَخرجِ.
العنوان جملة إسمية تامة، تصدرتها أنا ضمير رفع منفصل للمتكلم مبتدأ، تليه جملة خبرية فعلية منفية، فعلها مضارع، زمنٌ حاضرٌ مفتوحٌ، المعنى تام لو اكتفى بِ لا أرى أحدا، أكدها بِأنا، فصاغ عنوانه بنسيج رمزي يستدعي من المتلقي أن يحفر على المعنى ويحسن تأويله.
قد لا يقصد بالمرة رؤية العين بل رؤية الروح و المشاعر.
ما جَانب الصَّوابَ د "عصام شر تح" لما قال أنَّ:
*جمالية العنوان تكمن في مساحته الدلالية التي يشْغَلُها والاشعاعات الدالية التي يَبثُّها، لإضاءة ما يختزِنُه المتنُ من منظوراتٍ ورُؤى* .
القراءة التحليلية:
يقول جلال الدين الرومي" دع قلبك يعزف موسيقى روحك"
يبدو بجلاء أن الديوانَ ثريٌّ بحمولتِه الإبداعيةِ بدفقاتِه الشعورية، يشمل تسعَ وعشرين قصيدةً بنُكهةٍ وجوديةٍ، على امتداد مائة صفحةٍ، تميدُ بعناوينَ شاعريةٍ، اغْتُرِفَتْ من مخيالٍ حالمٍ لا يكف يسكُب البهاءَ في كؤوس من ذهول.
وهذا بعض هذا البهاء:
أحبك مجازا
بحدسِ الفراشِ
لن أسلِّمَ المجازَ أغنيتي
أنساكِ تُذّكّرُني شقائقُ النعمان
لاَ أَفسَدَ كُحْلَ عينَيْكِ حَبُّ الغمَام
موتُ القطا فيك غرقا يُحرجُنِي
قَدَّمَتْ للديوان الناقدةُ الحصيفةُ ذ *عسال مالكة*، بقراءة باذخة، حاكتها بتمرُّسٍ و حِرفيَةٍ.
فكل قراءة نقدية تعد حياةً حقيقيةً للنص، تُقلِّبُ أغوار طبقاته، تسبر أعماقه و تُقرِّبُ فهمَ المغاليق.
لعل في غمرة سكرات الأسى والأتراح، غاص المبدع إلى سراديبِ محرابه ،وقف على مراتعِ الذات ارتكن غصة الوجع، داعب تفاصيل الرحيل نَظَمَها عقداً استثنائيا من قصائدَ رصينةٍ تتدفق صدقا، و أفرد أجنحتَه المخمليةَ حيث حلق نورسا على تخوم الشعر، يُعلن ميلادَ البهاء في فضاء طبيعي رحب يغرد للمرأة رمز الوطن فهما وجهان لعملة واحدة إليها يسكن يطمئن ويحتمي
غرد للحمام والقطا والبجع و الهدهد .
صدق من قال: "إن الحرفَ رسولُ الوجعِ".
من الجلي أن همومه كانت لا تبارح روحه، تلبسه ويلبسها، كان الطائرَ الغرِّيدَ القادمَ من أرض الحلم الجميل، صمم أن يسافر بنا فوق غمامة داكنة لنصغي لأنين الوجود ونستطيب معه تكسير أصفادِ الخلجات.. بحروف سرمدية لا تموت يقول:
يا غدي المسؤول عن المجهول
ما أطولك أنا لا أرى أحدا
لكنني سأحذر قلبي من طيبوبته
فاليأس ليس من طبع الحمام يا أمنا
و الملائكة لن تحزن بعد موتك ص 65
اللغة:
بعذوبة منقطعة النظير عزف على تلافيف الروح ، طالعنا بأسلوب شاعري شاهق، مترع بجمال الإستعارة و نواذرِ الإنزياح وتعالقات التناص وخطاب رمزي يستنطق ما وراء اللغة، تحسبه وهجَ حناء على كف عروس.
شحن بَوْحَه بمضامينَ اجتماعيةِ إنسانية عميقة، ناغى بها الآخر و الطير وكل الوجود.
تنحى وانزاح عن اللغة المعيارية النمطية، تفنن في اقتناص الصور المدهشة، أودعها بثقة صرخاته المكتومة وانكساراته وكل أنين الروح والجسد.
التناص:
لا يفوتني أن أشير أنه أبى إلا أن يكثف تجربته الإبداعية بدلالات قوية خارج النص عن طريق استدعاء التَّنا ص وإعادة تشكيل الموروث التراثي، ليغذ ق فضاءًات أرحبَ وأثرى.
توسّل دلالات مركبة مكثفة بتوظيف آيات أمثلة وأقوال مأثورة ، حيث "يتمظهر النص الغائب في النص الحاضر" على حد تعبير محمد بنيس..وهذه تعالقات نصية واضحة كما جاءت في متنه الشعري
على قومها جنت الكمنجات
سولت لي نفسي
يا هدهدنا أينك؟ يا أجمل الوشاة
أنا لم أر أحد عشر
وإن جاؤوك بدم كذب على ثيابي لا تحزن يا حلمي
حسبي الله ما أَجْهَلَكْ
كأنها ولدت نفسها كما تريد
ليس هذا باستدعاء صامت للنصوص الغائبة بل له أبعاد جمالية تثري النص الحاضر وتكثف التجربة الشعرية و تنتج دلالات جديدة تحيل على حقب تاريخية
الخاتمة:
كم كان يحلم أن يُخرسَ بحرفه الوجعَ، ويشذِّبَ الألمَ ، منيتُه تعميمُ نقاء الوجود، إثراؤُه بكل المثل العليا الداعية إلى التسامح والمساواة والسلام..
كم ابتغى أن يحققَ أحلامَه و يترجمَ كوامن الدواخل
وهذه عناوين بعض قصائده دليل على أحلامه المترامية:
سأكتبُ إسمي أسفلَ القصيدةِ
أحلمُ بأندلسٍ أخرى
إذا مِتُّ قبلَكِ يا حُلمي
لا تمَسِّي غَدِي بسُوءٍ
رهانُ لغويّ روحي، رصده ليحول الواقع الآسن الطافح بالأسى إلى قصيدةٍ خالدةٍ..
إن الحر ف الماجد كالزعفران ناذر طيب، ولا ينبت إلا في أرض طيبة.
قراءة متواضعة لن تسع مسار مبدعنا الألمعي لن تسع جوانب حرفه الراقي، فإن غيبه الموت سيظل معنا يشرف من وراء حروفه خاصة عند عيد الشعر، مع حلول كل ربيع، عند هذيل كل حمام، وتمدد كل ظل في كل أرجاء بساتين الشعر، فالحرف من دم ونبضات لا يموت بل يُخلِّد اسم صاحبه.
إذا لم يكتب لقراءتي أن تسمع في حضرتك، فأنا أخاطب روحك المتعلقة على شذرات حروفك وأناجي حضرتك في الغياب.. سلام عليك حيا وميتا...
لروحه السكينةُ والسلامُ ورحماتٌ واسعةُ من رحمان رحيم.
المراجع:
1المعجم اللوني في الشعر العربي الديني المناصرة الأردن 2004 ص126
https://www.facebook.com/majida.majida.566/posts/2581713842148146
26
ما الشعر إلا جذوةٌ من الشعور، وميضٌ من النبض الإنساني، تجربةُ روحيةُ تجوب أنفاقَ المواجعِ، إنصاتٌ عميقُ لسراديبَ نفسيةٍ دفينةٍ، نبعٌ خصيبٌ يتدفَّقُ بين مراعي الوجدان، يوثِّقُ صورَ المعاناةِ و يرسم ألوانَ المكابدةِ.
ملكوتُ جمالٍ منحوتٍ بالكلمة والصورة و الا يقاع
لحظاتُ إدهاشٍ بعيون القلب تطمسُ كلَّ الخيباتِ...
ترنيمةٌ تُنجِبُ صرخاتٍ مكتومةً، تَروي عطشَ السؤالِ، تزرَع القيمَ وتحُثُّ على أنبلِ المطالبِ.
إنها باقة من دلالات شاعرية وليست تعريفا للشعر، فما أعقدَ تعريفَه، لِنَتَمَلَّ بها تتدفَّقُ زخَّاتٍ عبِقَةً في محراب ديوانٍ لافِتٍ موسومٍ بِ*أنا لا أرى أحدا* للشاعر * ذ أحمد بوحويطة* رحمه الله.
التعريف بالشاعر:
ذ أحمد بوحو يطة شاعر فذٌّ متمرسٌ من شعراء القصيدة النثرية، مسكون بوجعِ الإبداع، متمرسٌ في ترويضِ الحرفَ و تطويعِهِ، امتطى خيولَ الشعرِ الجامحةِ بشموخٍ ونهمِ مطالعةٍ، ترجم أوجاعَه أ شعارا عذبةً، اختار أن تتماهى فيها الذاتُ الشاعرةُ مع عبقِ الطبيعةِ مع أطيارِها الغناءِ وعناصرِها الساحرةِ، فاضت قريحتُه بديوانين:
"لا تصدقي الكمنجاتِ" كان لي كل الشرف أن أقرأه له بطنجة يوم توقيعه
"أنا لا أرى أحدا"
لكن فارقنا على عجل، وافته المَنِيَّة يوم 24 مارس 2019 رحمه اللهُ رحماتٍ واسعةً.
دلالة العتبات:
قراءة للغلاف:
لا محالةَ أنَّ الغلافيَ يُعَدُّ أولَ عتبةٍ بصريةٍ تثير الفضولَ، تكرسُ التشويقَ و توحي بهُوية النص على حد قول جيرار جينيت " العنوان نقطة ذهاب وإياب"
وهذا غلافٌ نوعيٌّ يستوقِفُنا بِما توشَّحَ به من لونٍ أسودَ، تَمدَّد على كل مساحتِه، ربما استدعاءً لِليلٍ مُعْتِم يُشاركُ المبدعَ بوحَ الذاتِّ الشاعرةِ، أوِ استلهاماً للوجعِ وترجمةً لآهاتٍ حارّةٍ تُؤَرِقُه، فتَكشِفُ عن حالةٍ نفسيةٍ عسيرةٍ خاصةٍ..نفس ما رمى إليه الشاعرُ "محمود غنيم":
"مالي وللنجمِ يَرعاني وأَرعاهُ = أمسى كلانا يَعافُ الغَمْضَ جفنَاهُ
لي فيك يا ليلُ آهاتٌ أُردِّدُها = أوَّاهُ لَوْ أَجْدَتِ المَحزُونَ أَوَّاهُ
ليس غريبا أن يَستعينَ المبدع بألوانِ الطبيعةِ، فالألوانُ هدية العالمِ المرئِيّ، رمزٌ بصريٌ دالٌّ، يُؤَثِّثُ الصورةَ الفنِّيَةَ، ويُشخِّصُ الإحساسَ.
يؤكد ذلك د. نشوان حسين بقوله:
" إن الصورَ والألوانَ تكمن في جُوانيةِ الشاعر، وخبرتِه البصريَة، ووعْيِه التاريخي وحفرياتِه الأسطوريَةِ... بحيث تصبح الصورةُ ليست مجردَ أداةٍ للمعرفةِ فحسبُ، وإنما أداةٌ للحريَةِ أيضا"
بحق إن اللونَ تعبيرٌ، حرِّيةٌ رحبةٌ بوُسْعٍ لامُتناهٍ، يترجم دفينِ المشاعرِ، وعميقِ الرُّؤى.
وللون الأسود شموخٌ سلطةٌ، يعدُّ سيدَ الألوان الأُحاديةِ، يُرمزُ به إيجابا للأناقةِ و التفرد، وسلباً يُرمزُ به للتكتُّمِ، العتمةِ، الخوفِ الأسى الاغترابِ و الحداد.
بتأمل الغلاف يتبدّى بيسر أن المبدع يجوب ويجولُ على ضفاف اللونِ الأسودِ، كمن يَعْبُر نفقا طويلا، يَستضيئُ بفانوسٍ يَشِعُّ بضوءٍ برتقاليٍّ وهَّاجٍ، لونٌ يُضْفِي الطاقةَ ويجدد النشاطَ ، أسلمَهُ فانوسُه إلى باب تعجُّ ضياءً، تحسبها تباشيرَ فجرٍ، لم يتوان أن غاص بالضياء احتضن الأفق كمن يتوقُ منجاةً من ضجيج اليومي المؤرِّقِ، أو انعتاقا ليعيش حلما منشودا دون غيومٍ أو لواعجَ، كمن لم يعد يرجو العود إلى الوراء المعتمِ
لا أظن ذاك الضياءَ إلا شعرُهُ المتوهجُ، به استنارَ في حياةٍ برحابتِها ضاقت عليه فلم يعد يرى أحدا سوى والديه كما أسر بذلك.
دوما ردد أن الشعر انغماس عميق في محراب الذات في عوالمِ حالمة سامية، كلما تعاظم المدُّ كان البوح كفيلا برتقِ ثقوبِ الروحِ.
فسبحان من أعقبَ الظلماءَ بالفَلَقِ.
يقول المبدع :
أنا... لا أرى أحدا
يا غَدي المأهولَ بالمجهول ما أجملَك
أُطِلُّ منكَ على وجعي أنا لا أرى أحدا
غير أمي تريد أن تصنع قلبَها كما تريد ص63
دلالة العنوان:
"أنا لا أرى أحدا" عنوانٌ جاء عتبةً محفزّةً ،عميقةَ الإيحاء بارزةً كالثريا، ،مستفزةً للمتلقي، تراود فضوله لولوج المتن الشعري .
يبدو العنوان متناغما واللونَ الأسودَ و فريدا من نوعه ومعناهَ..مراوغ عصي على القبض مدجج بدكاء ثاقب
لماذا لا يرى أحدا؟ كيف تتعذر الرؤيا وهو المبصرُ؟ أتراه وسط ظلام دامس،و يجنح إلى عالم قصي لا مرئي؟ كأنها لحظاتٌ منفلتةٌ من الزمان والمكان كأنه من الغُثاء، غصنٌ لفظته أزهارُه انقطع من شجرته و حملهُ سيلٌ هادر، ذاك يوحي بمعاناة نفسية مكابدةٍ روحية غربةٍ قاسية تمزقٍ روحيٍ صارخِ، يلتمسُ الفَ خلاصٍ ومَخرجِ.
العنوان جملة إسمية تامة، تصدرتها أنا ضمير رفع منفصل للمتكلم مبتدأ، تليه جملة خبرية فعلية منفية، فعلها مضارع، زمنٌ حاضرٌ مفتوحٌ، المعنى تام لو اكتفى بِ لا أرى أحدا، أكدها بِأنا، فصاغ عنوانه بنسيج رمزي يستدعي من المتلقي أن يحفر على المعنى ويحسن تأويله.
قد لا يقصد بالمرة رؤية العين بل رؤية الروح و المشاعر.
ما جَانب الصَّوابَ د "عصام شر تح" لما قال أنَّ:
*جمالية العنوان تكمن في مساحته الدلالية التي يشْغَلُها والاشعاعات الدالية التي يَبثُّها، لإضاءة ما يختزِنُه المتنُ من منظوراتٍ ورُؤى* .
القراءة التحليلية:
يقول جلال الدين الرومي" دع قلبك يعزف موسيقى روحك"
يبدو بجلاء أن الديوانَ ثريٌّ بحمولتِه الإبداعيةِ بدفقاتِه الشعورية، يشمل تسعَ وعشرين قصيدةً بنُكهةٍ وجوديةٍ، على امتداد مائة صفحةٍ، تميدُ بعناوينَ شاعريةٍ، اغْتُرِفَتْ من مخيالٍ حالمٍ لا يكف يسكُب البهاءَ في كؤوس من ذهول.
وهذا بعض هذا البهاء:
أحبك مجازا
بحدسِ الفراشِ
لن أسلِّمَ المجازَ أغنيتي
أنساكِ تُذّكّرُني شقائقُ النعمان
لاَ أَفسَدَ كُحْلَ عينَيْكِ حَبُّ الغمَام
موتُ القطا فيك غرقا يُحرجُنِي
قَدَّمَتْ للديوان الناقدةُ الحصيفةُ ذ *عسال مالكة*، بقراءة باذخة، حاكتها بتمرُّسٍ و حِرفيَةٍ.
فكل قراءة نقدية تعد حياةً حقيقيةً للنص، تُقلِّبُ أغوار طبقاته، تسبر أعماقه و تُقرِّبُ فهمَ المغاليق.
لعل في غمرة سكرات الأسى والأتراح، غاص المبدع إلى سراديبِ محرابه ،وقف على مراتعِ الذات ارتكن غصة الوجع، داعب تفاصيل الرحيل نَظَمَها عقداً استثنائيا من قصائدَ رصينةٍ تتدفق صدقا، و أفرد أجنحتَه المخمليةَ حيث حلق نورسا على تخوم الشعر، يُعلن ميلادَ البهاء في فضاء طبيعي رحب يغرد للمرأة رمز الوطن فهما وجهان لعملة واحدة إليها يسكن يطمئن ويحتمي
غرد للحمام والقطا والبجع و الهدهد .
صدق من قال: "إن الحرفَ رسولُ الوجعِ".
من الجلي أن همومه كانت لا تبارح روحه، تلبسه ويلبسها، كان الطائرَ الغرِّيدَ القادمَ من أرض الحلم الجميل، صمم أن يسافر بنا فوق غمامة داكنة لنصغي لأنين الوجود ونستطيب معه تكسير أصفادِ الخلجات.. بحروف سرمدية لا تموت يقول:
يا غدي المسؤول عن المجهول
ما أطولك أنا لا أرى أحدا
لكنني سأحذر قلبي من طيبوبته
فاليأس ليس من طبع الحمام يا أمنا
و الملائكة لن تحزن بعد موتك ص 65
اللغة:
بعذوبة منقطعة النظير عزف على تلافيف الروح ، طالعنا بأسلوب شاعري شاهق، مترع بجمال الإستعارة و نواذرِ الإنزياح وتعالقات التناص وخطاب رمزي يستنطق ما وراء اللغة، تحسبه وهجَ حناء على كف عروس.
شحن بَوْحَه بمضامينَ اجتماعيةِ إنسانية عميقة، ناغى بها الآخر و الطير وكل الوجود.
تنحى وانزاح عن اللغة المعيارية النمطية، تفنن في اقتناص الصور المدهشة، أودعها بثقة صرخاته المكتومة وانكساراته وكل أنين الروح والجسد.
التناص:
لا يفوتني أن أشير أنه أبى إلا أن يكثف تجربته الإبداعية بدلالات قوية خارج النص عن طريق استدعاء التَّنا ص وإعادة تشكيل الموروث التراثي، ليغذ ق فضاءًات أرحبَ وأثرى.
توسّل دلالات مركبة مكثفة بتوظيف آيات أمثلة وأقوال مأثورة ، حيث "يتمظهر النص الغائب في النص الحاضر" على حد تعبير محمد بنيس..وهذه تعالقات نصية واضحة كما جاءت في متنه الشعري
على قومها جنت الكمنجات
سولت لي نفسي
يا هدهدنا أينك؟ يا أجمل الوشاة
أنا لم أر أحد عشر
وإن جاؤوك بدم كذب على ثيابي لا تحزن يا حلمي
حسبي الله ما أَجْهَلَكْ
كأنها ولدت نفسها كما تريد
ليس هذا باستدعاء صامت للنصوص الغائبة بل له أبعاد جمالية تثري النص الحاضر وتكثف التجربة الشعرية و تنتج دلالات جديدة تحيل على حقب تاريخية
الخاتمة:
كم كان يحلم أن يُخرسَ بحرفه الوجعَ، ويشذِّبَ الألمَ ، منيتُه تعميمُ نقاء الوجود، إثراؤُه بكل المثل العليا الداعية إلى التسامح والمساواة والسلام..
كم ابتغى أن يحققَ أحلامَه و يترجمَ كوامن الدواخل
وهذه عناوين بعض قصائده دليل على أحلامه المترامية:
سأكتبُ إسمي أسفلَ القصيدةِ
أحلمُ بأندلسٍ أخرى
إذا مِتُّ قبلَكِ يا حُلمي
لا تمَسِّي غَدِي بسُوءٍ
رهانُ لغويّ روحي، رصده ليحول الواقع الآسن الطافح بالأسى إلى قصيدةٍ خالدةٍ..
إن الحر ف الماجد كالزعفران ناذر طيب، ولا ينبت إلا في أرض طيبة.
قراءة متواضعة لن تسع مسار مبدعنا الألمعي لن تسع جوانب حرفه الراقي، فإن غيبه الموت سيظل معنا يشرف من وراء حروفه خاصة عند عيد الشعر، مع حلول كل ربيع، عند هذيل كل حمام، وتمدد كل ظل في كل أرجاء بساتين الشعر، فالحرف من دم ونبضات لا يموت بل يُخلِّد اسم صاحبه.
إذا لم يكتب لقراءتي أن تسمع في حضرتك، فأنا أخاطب روحك المتعلقة على شذرات حروفك وأناجي حضرتك في الغياب.. سلام عليك حيا وميتا...
لروحه السكينةُ والسلامُ ورحماتٌ واسعةُ من رحمان رحيم.
المراجع:
1المعجم اللوني في الشعر العربي الديني المناصرة الأردن 2004 ص126
https://www.facebook.com/majida.majida.566/posts/2581713842148146
26