أدب المناجم خيري حمدان - حجرةٌ للحياةِ والموت





حجرةٌ للحياةِ والموت

لم ينسَ أن يصلّي ركعتين قبل أن يَلِجَ المكان، ثمّ رفع يديه إلى السماء طالبًا المغفرة.
- أنت تخيفني يا وليد بتقاليدك هذه، لماذا الصلاة دومًا قبل أن ندخل وكأنّ العودة مستحيلة؟ ابتسم وليد وقال في سرّه "اتّكلنا على الله".
مجموعة الحفر والتنقيب مكوّنة من أربعة أشخاص، بدأوا الهبوط اللولبي الضيّق تحت باطن الأرض. وصلوا إلى عمق ثلاثمئة متر، كان الهواء شحيحًا والجوّ حارًّا على هذا العمق، لكن هذا لم يُعِقْهُم عن العمل وسرعان ما أخذوا باستخراج الفحم الحجري وتحميله فوق عربات مثبّتة على سكك حديدية، لتصعد بدورها إلى الأعلى كلّما امتلأت لتفريغ حمولتها وتشكيل تلال جديدة من الفحم الحجري في مستودعات المنجم. يكره وليد العمل في المناجم، بل وينفر من الأماكن المغلقة، لكنّه لم يجد في هذه المدينة سوى هذه الفرصة للعمل وإيجاد ما يسدّ الرمق. أخذ يحفر متعوّذًا من شيطان ذاته، ومن حوله الزملاءُ يغنّون ليس طربًا، ولكن تطيّرًا وقتلا للوقت الثقيل الذي يبدو كأنّه أصاب عقارب الساعة بالتخمة والشلل. بعد قليل، سمع صوتًا مدويًا يأتي من بعيد تجاههم، تلفّت أحدهم للآخر وأدركوا بأنّ المحظور قد وقع. تحقّقت إذًا تنبّؤات الخبراء بانجراف التربة، ولكن ما حجم هذا الانجراف يا تُرى، وهل يمكنهم النجاة إذا ما انغلقت المنافذ الخارجية لسراديب المنجم المتفرّعة تحت هذا العمق من الأرض؟ أصاخ وليد السمع وتيقّن من أنّ الانجراف هائل وسرعان ما سيطمر كافّة المعابر المؤدّية للحجرة المتواجدين فيها، الصوت قادم ويتفاقم من جهة المخرج الوحيد للعودة. قذف وليد بنفسه في مؤخرة الحجرة حيث التجويف المحميّ بأعمدة فولاذية، وفي اللحظة التالية تمكّن زميله الآخر من القيام بالخطوة نفسها قبل أن تطمر الأتربةُ المندفعة الزميلين الآخَرين ليُقْتَلا على الفور. عمّ الظلامُ المكان وزكمت رائحة التراب الأنوف، تحسّس وليد نفسه وشعر ببعض الطمأنينة حين وجد بأنّه لم يتعرّض لأذىً كبير، مجرّد كدمات خفيفة وجرح في القدم اليمنى، كتفه كانت تؤلمه أيضًا بعد أن نال منها لوح حجريّ صلد في أثناء وقوعه وتدحرجه. لم يكن الألم شديدًا ما يعني أيضًا بأنّه قد تفادى كسر العظام، خلافًا لصاحبه فلاديمير الذي صاح من شدّة الألم.

- يبدو بأنّ تنبؤاتك قد تحقّقت يا وليد! أنت على الأقل صلّيت لربّك ركعتين قبل أن تدخل المنجم يا فتى، حاول فلاديمير أن يضحك لكنّه تأوّه بدلا من ذلك. أضاف: كان حريًّا بك أن تبقى في حلب، الحربُ الأهليّة أرحم بكثير من منجم أورانوفو اللعين(1).
- فلادي، حاول أن لا تتحدّث كثيرًا، نحن بحاجة ماسّة للهواء في هذا المكان وأنت تعرف بأنّه سرعان ما سينفذ.
- رجلي اليمنى مكسورة يا رجل، انكسرت في المكان ذاته تحت الركبة مباشرة. تعرّضت لحادث قبل سنتين، كنت أركل الكرة فوق الأرض وليس على عمق ثلاثمئة متر تحتها. لا تخف، الفحم الحجري يولّد بعض الأوكسجين، لن نختنق لكنّنا سنموت جوعًا وعطشًا على أيّة حال. المسافة التي تفصلنا عن المدخل طويلة، ولا يمكن لرجال الانقاذ العمل على تنظيف المعبر بسرعة، السرداب ضيّق ولا يتّسع لعبور ما يزيد على أربعة أو خمسة رجال فقط. لقد وقع المحظور يا وليد! أنا لستُ متفائلا.
رفض وليد الاستسلام للقدر الذي رسمه فلادي، كان مليئًا بإرادة البقاء "لم أهرب من الرصاص لأموت مطمورًا في منجم هذه المدينة الصغيرة المُعدمة". صمت فلادي وانقطع الحراك من الجهة الأخرى حيث انطمر الآخرَان تحت ركام الأتربة. هناك في مدخل الحجرة ((القبر الجماعيّ)) بصيصٌ من نور باهت بدأ يتوضّح مع مرور الوقت. أخذ فلادي يسعل بعد قرابة الساعة. قد يكون تقديره للوقت مخطئًا، وقد يكون ما مرّ لا يتجاوز عشر دقائق فقط! عليه الآن أن ينسى وقع الزمن ويركّز جلّ تفكيره على إيجاد طريقة للنجاة. نظر إلى فلادي، لم يرَ في كيانه البشريّ في تلك اللحظة سوى كتلة عضوية صامتة. راودته رغبة عارمة بأن يستمع لصوت الرجل الثرثار ثانية، لكن دون طائل. ربّما خلد فلادي للنوم والراحة وقد يكون قد فقد وعيه من شدّة الألم وراح في غيبوبة طويلة. رأى قدمه المكسورة ترتجف، أصيب وليد بالإحباط وأدرك بأنّ سبل النجاة ليست سهلة كما يعتقد وربّما تكون مستحيلة.

ما الذي يعرفه عن فلادي وعن الرجليْن اللذين قضيا نحبهما قبل وقت قصير وبسرعة لا يجرؤ عليها ولا يبلغها بسهولة وإتقان سوى الموت. إنّه يعرف القليل، بالقدر الذي يعرفونه هم بدورهم عن حياته الخاصّة. كان بإمكانه هو وليد أبو سُكَّرَة أن يتواجد الآن في شارع "الماركات" في حيّ السبيل في حلب، بدلا من الكفاح للبقاء على قيد الحياة في هذا المنجم، لكن يبدو القدر غريبًا في مخطّطاته، فقد هرب من موت محقّق وكانت القذائف تهطل كالمطر فوق مدينته ومسقط رأسه. في تلك اللحظة كان متواجدًا على الطريق العام، ليس بعيدًا عن المعبر الدولي مع تركيا "باب الهوى"، هرب نحو المنطقة الحدودية وتمكّن بمساعدة المهرّبين من الوصول إلى أقرب المدن التركية "الريحانية". بقي هناك شهرًا من الزمن، علم بأنّ منزله قد دمّر بالكامل وقتلت عائلته عن بكرة أبيها، هكذا قرّر الهرب نحو العالم الحرّ إلى أوروبا. لم يتردّد كثيرًا ودفع آخر قرش يملكه لتهريبه عبر جبال الرودوبي الواقعة في شمال تركيا إلى بلغاريا. ألقي القبض عليه ثمّ أطلق سراحه بعد أن أمضى ستّة أشهر في مراكز اللجوء. وجد نفسه بلا مال ولا عمل، تعرّف على ندى، امرأة لبنانية تعيش في مدينة سيميتلي الواقعة في جنوب البلاد بالقرب من اليونان. لكنّ البطالة أجبرته للعمل اليوميّ المؤقت في المنجم القريب، شجّعه على ذلك معرفته بعلوم الجيولوجيا وطبقات الأرض.

"ماء!" تحسّس التربة الرطبة بأطراف أصابعه، كان الظمأ قد وصل حدّ الألم ولم يتمكن من فتح شفتيه من شدّة الجفاف. الشفتان ذاتهما اللتان قبّلتا إلى وقتٍ قريب زوجته وطفلته الصغيرة وابنه القتلى، وندى التي حَنَتْ عليه وآوته في منزلها. تشقّقت شفتاه، فقدتا القدرة على الهمس وترتيل الشعر وقراءة ما تيسّر من القرآن. مضى بعضُ الوقت قبل أن ينطفئ بصيصُ الضوء في المنطقة الواقعة في الدنيا السفلية. قد يكون هذا المكان تحديدًا قد خصّص للعقاب، وقد يكون المطهر الذي يسبق دخول الجنّة مرفوع الرأس مثقلا بالنوايا الحسنة ومشاريع ما بعد الحياة المضيئة. مرّ بأصابعه فوق شفتيه لعدّة مرات متتالية. لن يرتوي بهذه القطرات الملوّثة، وربّما سيصاب بالديزنطاريا وآلام المعدة والأمعاء، لكنّه الصراع من أجل الحياة والبقاء. ترطّبت شفتاه قليلا، همس مناديًا صاحبه فلادي، سمع أنينه أخيرًا بعد أن عاد لوعيه. زحف نحوه وبلّل أطراف أصابعه مجدًدًا ليمرّرها فوق شفتي فلادي. همس الأخير باكيًا "باركك الله يا وليد". ثمّ غاب مجدّدًا عن الوعي.

الظلمة لا ترحم، تحرم الإنسان القدرة على التمييز ما بين ساعات الليل والنهار. كم مضى من الوقت، سنة، أسبوع، أربع وعشرين ساعة أو ساعات معدودة فقط؟ سمع صوت انفجار مكتوم خلف الكثبات الرملية وأكوام الحجارة المتراكمة. بدأت إذًا أعمال الإنقاذ. أدرك العالمُ الفوقي ما حدث في عالم الفحم الأسود تحت سطح الأرض. بعد قليل اشتدّ الألم في صدره، هل يمكن أن يقضي خنقًا في هذه الحجرة؟ معدته الفارغة تمضغ ذاتها، تحسّس جيبه، حمد الله حين وجد بعض البسكويت، كان يحتفظ به تحسبًّا لمثل هذه اللحظة. تناول قطعة صغيرة منه وكان يخشى ذات الوقت أن يُصاب بمزيد من الظمأ. تجمّع بعضُ الماء المتسرّب من ثقوب المكان. ماءٌ ملوّث لكنّه في تلك اللحظة كان بمثابة تذكرة العودة نحو الحياة. طعمه الغريب بدا لذيذًا، تمنّى أن تبقي الطبيعة على إكسير الحياة ما دام مطمورًا في هذه الحجرة.

هل يحلم الإنسانُ حين يغيب عن الوعي؟ شعر بدفق من الفرح يتفجّر في أقصى شرايينه وأوعيته الدمويّة الدقيقة، كان يركض في حيّ السبيل والشمس تحرق جبينه، كان يصرخ فرحًا للقاء صغيرته سامية، وكانت هي تبتسم هامسة "أبي، أبي". بعد قليل بدأ شارع الماركات يضيق ويضيق، ثمّ أخذت النيران تشتعل في كلّ مكان من حوله، ظهرت في سماء المدينة طيورٌ سوداء محمّلة بحمم قاتلة. الوجوه من حوله قاتمة، وجوهٌ عربيّة سمراء تبحث عن الموت والثأر. اختفت سامية كما ظهرت، اختفت الشمس أيضًا، نفذ الهواء من الشارع ومن حيّ السبيل ومن المدينة ومن البلاد ومن قارة آسيا. نفذ الهواء من على سطح الأرض. "كلّهم يريدون قتلي والتخلّص من جسدي ومن أحلامي وطموحي وحضوري القلق المتوتّر، أين أذهب بعد كلّ هذا وقد أصبحتُ شبه مقبورٍ على قيد الحياة، تحت سطح الأرض بمئات الأمتار؟". ما تزال الكوابيس تهزّ كيان وليد والحوارُ الداخليّ ثقيل لا يرحم ولا ينقطع. تيقّين بأنّه قد فارق الوعي وراح في غيبوبة طويلة. حين استيقظ لوهلة كان جسده يرتجف من شدّة البرد. لا بدّ أنّ النهاية باتت قريبة. كيف ينجو من هذا الكمين وكلّ ما حوله موت وظمأ؟ ما أن خطرت له هذه الأفكار حتّى شعر بالعطش الشديد والجوع يهرس معدته وأمعاءه مجدّدًا. بودّه أن يموت بكرامة محاطًا بلمسات إنسانية تمسك بيده، لكنّه يرفض الموت بهذه الطريقة الصعبة المهينة! ألا يكفي حقيقة أنّه قد قضى حياته بالهرب والبحث عن الخلاص وعن مكانٍ ما يتّسع لظلّه فوق الأرض؟

المطارق تعمل، تدقّ النفق طوال الوقت، تسعى للوصول إلى بقايا حطام المكان. سمع في البعيد صدى طرق الصخر وجرف الأتربة المتراكمة. العرق يتصبّب من خلايا جسده المرهق بانتظار مفارقة الحياة والأمل يدعوه للصمود وانتظار وصول زملائه لينقلوه إلى الأعلى حيث أشعة الشمس والمياه الوفيرة ووجوه الصحفيين والإعلاميين ووجه ندى الجميل. هل سيشعر بالدفء إذا فعلها ونفق؟ شعر بالخجل لمرور هذا الفعل "نفق" في المفردات المتبقية في ذاكرته! بكى، يا لها من معجزة، كيف يبكي والبكاء يحتاج للأمل عدا الاستسلام والإحباط؟ لأوّل مرّة شعر برغبة هائلة لممارسة كلّ أنماط الحياة. كان وليد قد تخطّى الثلاثين بسنتين، لكنّ عيني سامية وضحكات ابنه عبدالله تلاحقانه باستمرار تطلب منه البقاء على قيد الحياة، سامية تريد أختًا تحمل اسمها وشيئًا من جيناتها، تحمل ابتسامتها وعينيها العسليتين. عبدالله يريد كرة جديدة ليلعب ويركل ما طاب له ذلك. بكى وارتجفت أوصاله ثمّ غاب مجدّدًا عن الحياة.

حين عاد لوعيه شعر بالدفء يحاصره. هل هذه الأنوار حقيقية أم أنّ الملائكة قد هبطت لتحمله إلى السماوات العلى لمقابلة سامية وعبدالله وزوجته ميساء وابنه وأهله وأحبّته الذين قضوا تحت النيران المتقاطعة في بلاده؟ فتح عينيه وشاهد ممرّضة تدفع بالنقّالة إلى باطن عربة الإسعاف. همس لها باسمًا "فلادي؟" هزّت رأسها بحزن وأدرك بأنّه الوحيد الذي نجا من بطن الحوت في سميتلي. صعدت إلى عربة الإسعاف زوجته ندى ممسكة بيده، شدّت على أصابع يده مبشّرة بنهار جديد وهمست في أذنه قائلة "أهلا بك يا وليد في عالم الأحياء".

______________________________________________
(1)أورانوفو: منجم في مدينة سميتلي البلغارية ذات أغلبية مسلمة. المنجم قديم للغاية وظروف العمل فيه صعبة. تعرّض المنجم لأكثر من مرّة لانهيار ترابيّ بسبب تسرّب المياه الجوفية في أنفاقه الداخلية. الحدث والشخصيات الواردة من وحي خيال الكاتب، لكنّ المنجم تعرّض حقيقة لعدّة أحداث مأساوية أدّت إلى مقتل بعض العمال في باطنه.



خيري حمدان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى