في روايته " مذكرات دجاجة " ( ١٩٤٣ ) يقترح د. اسحق موسى الحسيني على الزعيم وأتباعه ممن انحازوا إلى خيار السلاح للدفاع عن أحقيتهم في المأوى الذي أراد دجاج غريب طاريء السيطرة عليه ، يقترح على لسان الدجاجة الحكيمة ، عدم اللجوء إلى القوة ، فهي ليست حلا ، فما من قوي إلا سيبتلى بأقوى " ومن صرع بقوته يوما صرعته قوة غيره يوما آخر " وعليه فلا بد من نفوس مصلحة لإنقاذ العالم الذي يتردى في الشقاء " فالشرارة الصغيرة تحدث فيها نورا عظيما ، وكذلك النفس المصلحة التي تبعث في وسط الشقاء العالمي تحدث فيه نورا عظيما " وتطلب الدجاجة الحكيمة من الزعيم وأتباعه أن يكونوا تلك الشرارة الصغيرة " سيحوا في الأرض ، وتوزعوا بين الخلق ، وانشروا بينهم المثل العليا ، والمباديء السامية ." والدجاجة هذه واثقة بتطهير العالم أجمع من ضلالاته ، لا وطننا الصغير فحسب .
صدرت الرواية في العام ١٩٤٣ ، ولم يعجب اقتراح الدجاجة النقاد ، فقد هاجموها وكاتب مذكراتها ، فإن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب ، ويجب أن تكون ديكا لا دجاجة ، واتهم عدد من الكتاب الفلسطينيين طروحات الكاتب بخيانة القضية ( كتب عبد الحميد يس " مذكرات ديك " ردا على الرواية ، و كتب فاروق وادي في " ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية " واتهم الكاتب بأنه يعبر عن طبقته البرجوازية ولم يجامل فاتهم الدجاجة وصاحبها بصراحة ) .
بعد سبعين عاما تقريبا يكتب الكاتب المصري عز الدين شكري فشير رواية " عناق عند جسر بروكلين " ( ٢٠١١ ) وسيقرأ المرء عن نماذج فلسطينية تذكره ، في رحلة حياتها ، برواية الحسيني وطروحاته .
من هو عز الدين شكري فشير ؟ ومن هو نموذجه الفلسطيني ؟ وما وجه الشبه بين دجاجة الحسيني والفلسطيني في رواية فشير ؟
فشير سياسي مصري بالدرجة الأولى ، ولد في الكويت في العام ١٩٦٦ ، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعات أميركية ، وله روايات عديدة ، وشغل مناصب عديدة منها منصب سفير أعلى بالسفارة المصرية في تل أبيب لمدة عامين . وهو في " عناق عند جسر بروكلين " ( ٢٠١١ ) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية ( بوكر ) يكتب عن عوالم يعرفها جيدا ، ( انظر مقالي في الأيام بتاريخ ١٩ شباط ٢٠١٢ ) ولفت نظري فيها كتابته عن أميركا وعن شخصية فلسطينية أقامت هناك ، وهي محور هذه الكتابة .
خلافا للشخصيات الأخرى التي ذكرت بالاسم يكتب المؤلف عن الفلسطيني تحت عنوان " عين جالوت " وهو عنوان له حمولاته المعرفية التاريخية الدالة التي تجسدها تحولات شخصية الفلسطيني في المتن الروائي .
الفلسطيني الذي يسرد بضمير الأنا ما أدرج تحت " عين جالوت " ( الصفحات ٩٥ - ١٠٨ ) هو لاجيء فلسطيني مقاتل ولد في مخيم وقتل أبوه في حرب ١٩٦٧ بالقنابل العنقودية ، وذبحت أمه في مجازر صبرا وشاتيلا في أيلول ١٩٨٢ ، ونجا هو من الذبح ، وكان للسلاح الأميركي المزودة به إسرائيل دور في القتل ، ما دفعه لأن يغزو أميركا ليحاربها من داخلها ، فالحرب بين الطرفين لا تنتهي " وهكذا نحن الاثنان ، متداخلان في هذا العناق المميت الذي يدمينا سويا ، ولنر من سيتحمل الألم أكثر " .
حارب هذا الفلسطيني في صفوف الثورة الفلسطينية وظل يحارب إلى أن اقتنع بلا جدوى مقارعة دولة إسرائيل التي كلما حاربناها هزمتنا ونحن لا نستطيع هزيمة أميركا ، ويجادل هذا الفلسطيني قيادته في هذا الأمر ، ولكنها ترى أن الأهم هو أن نظل نحارب ، لأننا لا ننهزم إلا إذا تركنا ميادين القتال ، وظل هذا الفدائي يتساءل عن جدوى حروب خاسرة ، وتوصل إلى أن النصر لن يتحقق إلا " حين ننقل المعركة إلى أرضكم أنتم " - أي إلى أميركا ، وهكذا يهاجر إلى هناك ، فقد قرر المجيء " إليكم في عقر داركم ، فمنذ أكثر من مائة عام وأنتم تقاتلونا على أرضنا ، وحان الوقت الذي ننقل فيه القتال إلى أرضكم ( هنا نتذكر مصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " وما قاله عن الصراع بين الشرق والغرب ، وما يفعله هو في الغرب ) . نحن داوود وأنتم جالوت الطاغية " وسيكون الفلسطيني في أميركا الطفل داوود الذي يدمي الجبار جالوت / جليات . هكذا يوظف الروائي الأسطورة التوراتية معكوسة ، وهو توظيف سبقه إليه الكاتب يعقوب الأطرش في بعض قصص كتبها عن الانتفاضة الأولى في ١٩٨٧ ( انظر دراستي " اليهود في القصة الفلسطينية القصيرة في الانتفاضة / مجلة جامعة النجاح ١٩٩٤ ) .
يتحول الفلسطيني من فدائي مقاتل ، وإن كان ذا خلفية إسلامية ، إلى داعية إسلامية ، وتتضخم لديه الأنا حتى إنه يعترف بأنه كان على علم مسبق بحادث تفجير البرجين في ١١ أيلول ٢٠٠١ ، وأن المعلومات التي يعرفها تفوق المعلومات التي لدى الجهات الأميركية الحاكمة " أنا الذي أعرف حقيقة ما حدث. أنا الذي أعرف الصورة الكاملة . أنا رقم صفر. أنا الرقم المكمل لأي رقم تعرفه ..... أنا الوحش الذي اغتبطت للهجوم ، وشعرت بموجة عارمة من التشفي ..." ويقص ما شاهده في قصف الطائرات الإسرائيلية لبيروت بلا رحمة ، فالناس الذين قتلوا لا قيمة لهم .
يتوصل هذا الفلسطيني إلى ما توصلت إليه دجاجة الحسيني الحكيمة :
" الآن أعظ بالقانون وعدم العنف . لا أحمل سلاحا ولا أدعو إليه، بل أتم الصلاة في مسجدنا الصغير ببروكلين ، وألقي دروس الفقه والسنة على من يريد الاستماع ، وأدبر للشباب منحا للدراسة ووظائف ، وزيجات صالحة ، لا أكثر من ذلك . لا أدرب أحدا على حمل السلاح، لا أعلم أحدا القتال ، بل لا أنصح أحدا به . كل ما أفعله هو تقوية هوية شبابنا ، وإعادته لجذوره ، وإبعاده عن السقوط في براثن الحضارة المادية .. " .
هل هذا هو حال الفدائيين الفلسطينيين الذين مالوا إلى الفكر الإسلامي ؟ وماذا عن حركتي الجهاد الإسلامي وحماس ؟
إن تحولات بعض المقاتلين الفلسطينيين إلى الفكر الإسلامي يظهر في روايات عربية منها رواية اللبناني الياس خوري " سينالكول " ، كما تحفل روايات عربية كثيرة بتحولات اليسار وتراجعه ، وهو ما يحتاج إلى وقفة .
هل يحضر فلسطينيون آخرون؟
في الرواية نقرأ عن مصري اسمه لقمان يفضل أن يبقى في القاهرة على الرغم من تحولاتها نحو الأسوأ :
" ما الذي يدفعني للبقاء في القاهرةرغم كراهيتي لما آلت إليه ؟ " .
ولقمان هذا هو طبيب مصري تزوج من ابنة المؤرخ درويش ليلى وخلف منها طفلة سماها سلمى ، ولكنه لا يوفق في حياته الزوجية . يتصادق مع هولندية ( ماريك ) ويتواصلان معا ولا يتزوجان ، فكل منهما يرفض التخلي عن بلاده مع أنه يدرك بؤس الحياة في العالم العربي ، وحين تقترح عليه أن يتزوجا ويقيما في نيويورك يرفض . الطبيب لقمان يعحب بالفلسطيني ادوارد سعيد دون أن يراه . إنه يشبهه شكلا وكأنه له والده الروحي ، وحين يزور نيويورك وتتاح له الفرصة للقائه يموت ادوارد سعيد ، فهل سيشارك في جنازته التي تقتصر على أفراد عائلة المتوفى ؟ أليس سعيد الأب الروحي للقمان ؟ ولأنه الابن الروحي لسعيد فإن ( ماريك ) تحثه على المشاركة في الجنازة . هنا نحن أمام فلسطيني مختلف ، وإن كان حضوره عابرا ومن خلال شخصية مصرية .
والسؤال هو ماذا عن الشخصيات الأخرى في الرواية وتحديدا الشخصيات المصرية ؟
ما الصورة التي يقدمها فشير للمصريين في روايته ؟
أتيت على شخصية لقمان ، ولكن الشخصية الأكثر أهمية هي شخصية د . درويش .
هنا أحيل إلى مقالي في جريدة الأيام الفلسطينية المنشور بتاريخ ١٩شباط ٢٠٢٠ ، ولسوف اقتبس منه ما يخص شخصية درويش المصري المتأمرك .
" درويش هو مؤرخ مصري غير موفق في حياته الزوجية . حين يبلغ السبعين من عمره يصاب بسرطان الرئة ، وهكذا يقرر هجر شقته ليقيم في بيت أصغر حجما / مساحة .
كان درويش تزوج وخلف ولدين هما يوسف وليلى ، ولكنه لم يوفق مع زوجته ، وهكذا انفصل عنها وظل ولداه مشكلته التي لم يستطع أن يجد لها حلا ، فقد ظلا يؤرقانه ، وظلا يحولان بينه وبين نجاح علاقته مع جين الانجليزية ومع زوجته ريما وزوجته زينب ، وفي سنواته الخمس والعشرين الأخيرة أذعن للدنيا وعزف عن النساء ، وأدرك أنه قضى عمره واعظا ، ولهذا ، ربما فشل في حياته .
كان درويش معجبا بكتاب ألبرت حوراني " تاريخ الشعوب العربية " ، وكلما تعرف إلى واحدة من السابقات طلب منها أن تقرأ الكتاب المذكور علها تدرك حقيقة العرب ، وعل الفجوة بينه وبينها تضيق ، وهذا ما لم يتحقق ، فلقد مررن على الكتاب مرور الكرام ، وبعضهن لم يقرأنه ، وحين يرى الكتاب وهو يرتب مكتبته يقرر أن يضعه جانبا ، فهو كتاب مشؤوم وذكرياته أيضا مشؤومة :
" ماذا أفعل بهذا الكتاب ؟ ولماذا لا أستطيع أن أحمل نفسي على التخلص منه؟"
كان درويش أقام في مصر بعد دراسته الدكتوراه في لندن لمدة سبع سنوات ، ولكنه غادر مصر إذ اكتشف أن " السبع سنوات من التدريس لطلبة جهلاء لا يفهمون ولا رغبة لديهم في التعلم جعلته يغير رأيه " الذي شكله وهو في لندن ، وهو أن عليه أن يخدم بلده . وهكذا غادر مصر إلى نيويورك التي ناسبته ، وأخذ يدرس فيها . وحين أصابه اليأس من النساء سيطر عليه هاجس التدريس والبحث والكتابة وأصبح أكثر اهتماما بطلبته ، فقضى معهم وقتا أطول في الشرح والنقاش و .. و .. وهكذا أصبح درويش قبلة المؤرخين من أميركا الشمالية ، وحين كانت تأتيه عروض من بلده ليعود إليها كان يرفضها كلها ، فلم يكن " يرى أية فائدة في محاولة تغيير أي شيء " .
مقال الأحد لجريدة الأيام الفلسطينية
١٥ آذار ٢٠٢٠ ،
صدرت الرواية في العام ١٩٤٣ ، ولم يعجب اقتراح الدجاجة النقاد ، فقد هاجموها وكاتب مذكراتها ، فإن لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب ، ويجب أن تكون ديكا لا دجاجة ، واتهم عدد من الكتاب الفلسطينيين طروحات الكاتب بخيانة القضية ( كتب عبد الحميد يس " مذكرات ديك " ردا على الرواية ، و كتب فاروق وادي في " ثلاث علامات في الرواية الفلسطينية " واتهم الكاتب بأنه يعبر عن طبقته البرجوازية ولم يجامل فاتهم الدجاجة وصاحبها بصراحة ) .
بعد سبعين عاما تقريبا يكتب الكاتب المصري عز الدين شكري فشير رواية " عناق عند جسر بروكلين " ( ٢٠١١ ) وسيقرأ المرء عن نماذج فلسطينية تذكره ، في رحلة حياتها ، برواية الحسيني وطروحاته .
من هو عز الدين شكري فشير ؟ ومن هو نموذجه الفلسطيني ؟ وما وجه الشبه بين دجاجة الحسيني والفلسطيني في رواية فشير ؟
فشير سياسي مصري بالدرجة الأولى ، ولد في الكويت في العام ١٩٦٦ ، وهو حاصل على الدكتوراه من جامعات أميركية ، وله روايات عديدة ، وشغل مناصب عديدة منها منصب سفير أعلى بالسفارة المصرية في تل أبيب لمدة عامين . وهو في " عناق عند جسر بروكلين " ( ٢٠١١ ) التي وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة الرواية العربية ( بوكر ) يكتب عن عوالم يعرفها جيدا ، ( انظر مقالي في الأيام بتاريخ ١٩ شباط ٢٠١٢ ) ولفت نظري فيها كتابته عن أميركا وعن شخصية فلسطينية أقامت هناك ، وهي محور هذه الكتابة .
خلافا للشخصيات الأخرى التي ذكرت بالاسم يكتب المؤلف عن الفلسطيني تحت عنوان " عين جالوت " وهو عنوان له حمولاته المعرفية التاريخية الدالة التي تجسدها تحولات شخصية الفلسطيني في المتن الروائي .
الفلسطيني الذي يسرد بضمير الأنا ما أدرج تحت " عين جالوت " ( الصفحات ٩٥ - ١٠٨ ) هو لاجيء فلسطيني مقاتل ولد في مخيم وقتل أبوه في حرب ١٩٦٧ بالقنابل العنقودية ، وذبحت أمه في مجازر صبرا وشاتيلا في أيلول ١٩٨٢ ، ونجا هو من الذبح ، وكان للسلاح الأميركي المزودة به إسرائيل دور في القتل ، ما دفعه لأن يغزو أميركا ليحاربها من داخلها ، فالحرب بين الطرفين لا تنتهي " وهكذا نحن الاثنان ، متداخلان في هذا العناق المميت الذي يدمينا سويا ، ولنر من سيتحمل الألم أكثر " .
حارب هذا الفلسطيني في صفوف الثورة الفلسطينية وظل يحارب إلى أن اقتنع بلا جدوى مقارعة دولة إسرائيل التي كلما حاربناها هزمتنا ونحن لا نستطيع هزيمة أميركا ، ويجادل هذا الفلسطيني قيادته في هذا الأمر ، ولكنها ترى أن الأهم هو أن نظل نحارب ، لأننا لا ننهزم إلا إذا تركنا ميادين القتال ، وظل هذا الفدائي يتساءل عن جدوى حروب خاسرة ، وتوصل إلى أن النصر لن يتحقق إلا " حين ننقل المعركة إلى أرضكم أنتم " - أي إلى أميركا ، وهكذا يهاجر إلى هناك ، فقد قرر المجيء " إليكم في عقر داركم ، فمنذ أكثر من مائة عام وأنتم تقاتلونا على أرضنا ، وحان الوقت الذي ننقل فيه القتال إلى أرضكم ( هنا نتذكر مصطفى سعيد بطل رواية الطيب صالح " موسم الهجرة إلى الشمال " وما قاله عن الصراع بين الشرق والغرب ، وما يفعله هو في الغرب ) . نحن داوود وأنتم جالوت الطاغية " وسيكون الفلسطيني في أميركا الطفل داوود الذي يدمي الجبار جالوت / جليات . هكذا يوظف الروائي الأسطورة التوراتية معكوسة ، وهو توظيف سبقه إليه الكاتب يعقوب الأطرش في بعض قصص كتبها عن الانتفاضة الأولى في ١٩٨٧ ( انظر دراستي " اليهود في القصة الفلسطينية القصيرة في الانتفاضة / مجلة جامعة النجاح ١٩٩٤ ) .
يتحول الفلسطيني من فدائي مقاتل ، وإن كان ذا خلفية إسلامية ، إلى داعية إسلامية ، وتتضخم لديه الأنا حتى إنه يعترف بأنه كان على علم مسبق بحادث تفجير البرجين في ١١ أيلول ٢٠٠١ ، وأن المعلومات التي يعرفها تفوق المعلومات التي لدى الجهات الأميركية الحاكمة " أنا الذي أعرف حقيقة ما حدث. أنا الذي أعرف الصورة الكاملة . أنا رقم صفر. أنا الرقم المكمل لأي رقم تعرفه ..... أنا الوحش الذي اغتبطت للهجوم ، وشعرت بموجة عارمة من التشفي ..." ويقص ما شاهده في قصف الطائرات الإسرائيلية لبيروت بلا رحمة ، فالناس الذين قتلوا لا قيمة لهم .
يتوصل هذا الفلسطيني إلى ما توصلت إليه دجاجة الحسيني الحكيمة :
" الآن أعظ بالقانون وعدم العنف . لا أحمل سلاحا ولا أدعو إليه، بل أتم الصلاة في مسجدنا الصغير ببروكلين ، وألقي دروس الفقه والسنة على من يريد الاستماع ، وأدبر للشباب منحا للدراسة ووظائف ، وزيجات صالحة ، لا أكثر من ذلك . لا أدرب أحدا على حمل السلاح، لا أعلم أحدا القتال ، بل لا أنصح أحدا به . كل ما أفعله هو تقوية هوية شبابنا ، وإعادته لجذوره ، وإبعاده عن السقوط في براثن الحضارة المادية .. " .
هل هذا هو حال الفدائيين الفلسطينيين الذين مالوا إلى الفكر الإسلامي ؟ وماذا عن حركتي الجهاد الإسلامي وحماس ؟
إن تحولات بعض المقاتلين الفلسطينيين إلى الفكر الإسلامي يظهر في روايات عربية منها رواية اللبناني الياس خوري " سينالكول " ، كما تحفل روايات عربية كثيرة بتحولات اليسار وتراجعه ، وهو ما يحتاج إلى وقفة .
هل يحضر فلسطينيون آخرون؟
في الرواية نقرأ عن مصري اسمه لقمان يفضل أن يبقى في القاهرة على الرغم من تحولاتها نحو الأسوأ :
" ما الذي يدفعني للبقاء في القاهرةرغم كراهيتي لما آلت إليه ؟ " .
ولقمان هذا هو طبيب مصري تزوج من ابنة المؤرخ درويش ليلى وخلف منها طفلة سماها سلمى ، ولكنه لا يوفق في حياته الزوجية . يتصادق مع هولندية ( ماريك ) ويتواصلان معا ولا يتزوجان ، فكل منهما يرفض التخلي عن بلاده مع أنه يدرك بؤس الحياة في العالم العربي ، وحين تقترح عليه أن يتزوجا ويقيما في نيويورك يرفض . الطبيب لقمان يعحب بالفلسطيني ادوارد سعيد دون أن يراه . إنه يشبهه شكلا وكأنه له والده الروحي ، وحين يزور نيويورك وتتاح له الفرصة للقائه يموت ادوارد سعيد ، فهل سيشارك في جنازته التي تقتصر على أفراد عائلة المتوفى ؟ أليس سعيد الأب الروحي للقمان ؟ ولأنه الابن الروحي لسعيد فإن ( ماريك ) تحثه على المشاركة في الجنازة . هنا نحن أمام فلسطيني مختلف ، وإن كان حضوره عابرا ومن خلال شخصية مصرية .
والسؤال هو ماذا عن الشخصيات الأخرى في الرواية وتحديدا الشخصيات المصرية ؟
ما الصورة التي يقدمها فشير للمصريين في روايته ؟
أتيت على شخصية لقمان ، ولكن الشخصية الأكثر أهمية هي شخصية د . درويش .
هنا أحيل إلى مقالي في جريدة الأيام الفلسطينية المنشور بتاريخ ١٩شباط ٢٠٢٠ ، ولسوف اقتبس منه ما يخص شخصية درويش المصري المتأمرك .
" درويش هو مؤرخ مصري غير موفق في حياته الزوجية . حين يبلغ السبعين من عمره يصاب بسرطان الرئة ، وهكذا يقرر هجر شقته ليقيم في بيت أصغر حجما / مساحة .
كان درويش تزوج وخلف ولدين هما يوسف وليلى ، ولكنه لم يوفق مع زوجته ، وهكذا انفصل عنها وظل ولداه مشكلته التي لم يستطع أن يجد لها حلا ، فقد ظلا يؤرقانه ، وظلا يحولان بينه وبين نجاح علاقته مع جين الانجليزية ومع زوجته ريما وزوجته زينب ، وفي سنواته الخمس والعشرين الأخيرة أذعن للدنيا وعزف عن النساء ، وأدرك أنه قضى عمره واعظا ، ولهذا ، ربما فشل في حياته .
كان درويش معجبا بكتاب ألبرت حوراني " تاريخ الشعوب العربية " ، وكلما تعرف إلى واحدة من السابقات طلب منها أن تقرأ الكتاب المذكور علها تدرك حقيقة العرب ، وعل الفجوة بينه وبينها تضيق ، وهذا ما لم يتحقق ، فلقد مررن على الكتاب مرور الكرام ، وبعضهن لم يقرأنه ، وحين يرى الكتاب وهو يرتب مكتبته يقرر أن يضعه جانبا ، فهو كتاب مشؤوم وذكرياته أيضا مشؤومة :
" ماذا أفعل بهذا الكتاب ؟ ولماذا لا أستطيع أن أحمل نفسي على التخلص منه؟"
كان درويش أقام في مصر بعد دراسته الدكتوراه في لندن لمدة سبع سنوات ، ولكنه غادر مصر إذ اكتشف أن " السبع سنوات من التدريس لطلبة جهلاء لا يفهمون ولا رغبة لديهم في التعلم جعلته يغير رأيه " الذي شكله وهو في لندن ، وهو أن عليه أن يخدم بلده . وهكذا غادر مصر إلى نيويورك التي ناسبته ، وأخذ يدرس فيها . وحين أصابه اليأس من النساء سيطر عليه هاجس التدريس والبحث والكتابة وأصبح أكثر اهتماما بطلبته ، فقضى معهم وقتا أطول في الشرح والنقاش و .. و .. وهكذا أصبح درويش قبلة المؤرخين من أميركا الشمالية ، وحين كانت تأتيه عروض من بلده ليعود إليها كان يرفضها كلها ، فلم يكن " يرى أية فائدة في محاولة تغيير أي شيء " .
مقال الأحد لجريدة الأيام الفلسطينية
١٥ آذار ٢٠٢٠ ،