لا مفر من الوحدة بين البشر في مواجهة الوباء العالمي الذي بدأ ينتشر من مكان إلى آخر، ويسجل أرقاما ومعطيات مخيفة حتى شعر العالم بالفزع والرعب من مواجهة كائن لا مرئي يدمر خلايا الإنسان، ويعيد إنتاج ذاته بأشكال متنوعة، انه لأمر يحير علماء البيولوجيا وذوي الاختصاص في علم الفيروسات والأوبئة وليس بوسعنا سوى التضافر ونشر الوعي بين الناس وانتظار الأمل، والتقليل من الاحتقان السياسي والصراعات الايدولوجية لأجل الغايات النبيلة من الوجود الإنساني. ظرفية الصراع لا يصب في صالح البشرية، ولا يؤدي سوى لاتهامات متبادلة، ولغة الخطاب العلمي والإجرائي أقوى سلاح في مواجهة انزياح السياسة، حفظ الحياة والنفس وزرع بسمة الأمل في القلوب من دون التهوين أو التهويل، ولنا في الحكومة الصينية خير مثال على شراسة المواجهة وعقلانية الفعل. الناس لا يعلمون أننا في عالم الفيروسات منها النافعة والضارة، وعالم الأوبئة، والبيئة السقيمة بأفعال الإنسان المشينة، وأن التنصل من توصيات المؤتمرات العالمية للمناخ وعدم الإنصات لصوت العقل يجر علينا نتائج وخيمة، مشاهدة رهيبة من التصفيق في تركيا، والبكاء والغناء والمخاطرة بالخروج من الحجر الصحي للصلاة في الشوارع والتكبير. إنها عولمة من نوع آخر، وتعميم الأوبئة التي لازال الإنسان لا يعرف أسبابها، فقد تعايش الناس منذ مدة طويلة مع الأوبئة والأمراض الفتاكة، والآن دخلنا مجال الكائنات اللامرئية، وكنا نعتقد أن العلم والتكنولوجيا ودقة التخصصات في مجال الطب والبيولوجيا والفيزياء كفيلة بفهم الظواهر وإزاحة الحجب عنها من خلال بناء المختبرات العلمية ومراكز الأبحاث ، لا ننتقص بالفعل من قدرة العلم في تشخيص أمراض كانت مستعصية في القرن العشرين، فأصبحت ميسرة للعلم بفعل الأدوات والمقاربات والنظريات العلمية ، لا نبحث عن الأسباب في الصراع الاقتصادي والأيديولوجي بين الصين وأمريكا ، ولا يهمنا صعود الصين كقوة عظمى في 2050 وأفول الحضارة الغربية، وانتقال مركزها نحو الشرق ، كلام صالح للتحليل السياسي وفي الدراسات الإستراتيجية البعيدة المدى، وفي التوازنات الاقتصادية أو خلق عالم بأقطاب متعددة ، عولمة الفيروسات يعني سيادة الوباء الذي يسري في الجسد العالمي كالنار في الهشيم، والتسابق مع الزمن لانقاد البشرية من تعميم الوباء واستفحاله، وما يزيد الأمر تعقيدا تقاعس البشرية في استبقاء المخاطر، وتحويل الأموال والإمكانات المادية، من صناعة التفاهة والسباق نحو التسلح، وبناء السفن الحاملة للطائرات والدخول في حروب استباقية، وصرف التفكير نحو القضايا النافعة ، وتنشيط تجارة السلاح وتقوية ساحة تجار الحروب والنزاعات دون الاهتمام بالإنسان ومستلزماته ، ولذلك يجب إعادة الاعتبار للعلم وتكريم العلماء ، وإعادة النظر في التربية ووظائف كل من المدرسة والاعلام ، وتحسين شروط السلامة الصحية في بيئة سليمة، التي تعرف للاسف تكاثر التلوث وانبعاث الغازات وانتشار النفايات بأنواعها، وقطع الأشجار، وكل ما يسئ للطبيعة ويعمل على استنزافها ، والحيوانات بدورها كائنات لا تتغذى على الطعام المفيد والصحي ، في الطبيعة ترمى النفايات، وفي البحار يتم التخلص من الأشياء الفاسدة، إضافة للتجارب النووية في البر البحر، فكيف يمكن للموجودات العيش بتناغم في ظل الوضع القاتم للطبيعة ؟
وحدة البشرية الآن لا تعني الانجرار للخطاب الاستئصالي، ولا السماح بصعود القوى الراديكالية المعادية للغرب أو الشرق، ولا التسليم بالتقابلات بين الأديان والتقليل من شأن بعضها، بل الإنسان في مركب واحد، وغرق السفينة يصيبنا جميعا، فالإنسانية عنوان للمنظمات الدولية والأمم المتحدة، ومن يؤمنون بضرورة سلامة الإنسان بقطع النظر عن الدين والثقافة، هذا الإنسان نتاج للتفاعل مع بيئته، والإنسانية وحدة متكاملة أما مسألة التجزيء فهي لدوافع ثقافية ، وحدة الجنس البشري يعني أن الإنسانية مثل وحدة عضوية نتجت عنها تطورات في مجرى الحياة الاجتماعية، وتكللت بتأسيس الإنسان للمجتمعات البشرية ، أصل الاجتماع في رأي الفلاسفة يعود إلى ما هو طبيعي ومدني ، بالفطرة والغريزة اهتدى الإنسان نحو إقامة مجتمعات، وتدرج من الفرد إلى الأسرة ثم العائلة والقرية والمدينة والأمة، وأنتج أنظمة في الحكم والتدبير ، ولم يكن ذلك كافيا بل خلق الإنسان شروطا أخرى في العيش عندما نقل القانون الطبيعي إلى قوانين وضعية مكتوبة حتى يحافظ على سيرورة المجتمع وتطوره . والبشرية في وصولها إلى مرحلة الاكتمال والنضج يعني الوعي بشروط الوجود الإنساني وحدود الكائن البشري في الوجود .
إننا نشترك مع الآخر كما قال الفيلسوف الألماني -هايدغر - في الذوق والمعيش والمصير ، ويكفي من خلال هذه العناصر الثلاث أن نولي أهمية للوجود والموجود معا، والعمل أكثر لصيانة حياته من القهر والاستلاب، وهيمنة البعد التقني ، وحفظ ذاته من كل الأوبئة والحروب الفتاكة . ضمائر حية في العالم تعيد النظر في طبيعة الإنسان والدوافع القاتلة التي تهدد سلامة البشر . فقد كان المحلل النفسي -سيغموند فرويد- صائبا في تقسيم دوافع الإنسان بين الوعي واللاوعي وتحديد طبيعة الإنسان المنقسمة بين غريزة الموت والتدمير وغريزة الحب والحياة، والقوى اللاعقلية حسب فرويد أقوى من القوى العقلية ، ومن الصواب الإعلاء من الغريزة والحياة حتى نحافظ على الحضارات، العالم اليوم يتجه نحو الهاوية حسب ادغار موران لا بسبب صراع الحضارات وصعود قوى جديد وتراجع الهيمنة الأمريكية على العالم، بل بفعل القدرة التدميرية للطبيعة التي أصبحت غير قادرة في مواجهة شراسة البشر، وجشع الشركات العملاقة العابرة للقارات، والتحالف المتين بين المال والسياسة والاقتصاد. ضرورة بناء ثقافة كونية شاملة كوكبية، والخروج من الأنا المطلقة نحو ثقافة جماهيرية وسياسة كونية، لأن روح القرن الواحد والعشرين تجعل الإنسان يفكر في الالتقاء أكثر، وفي التعايش بين الحضارات، وصناعة الممكن بالنسبة للإنسان أما هيمنة الثقافة الأمريكية المتمركزة على ذاتها ونموذجها الليبرالي يزيد العالم نفورا أو على الأقل انتقاء ما يناسب هذه الثقافات .
طموح الفلاسفة في المواطنة العالمية والحكم الرشيد، رسائل في التسامح ونبذ التعصب، مواجهة الأزمات بروح الجماعة حتى ندرك بالتمام أن البشرية واحدة رغم الاختلاف الثقافي والحضاري . فالخطر الذي يداهم العالم اليوم لا يفرق بين غني وفقير، وبين الطبقة البورجوازية والطبقة العمالية، وبين اليسار واليمين ، وبين الغرب والشرق، أنه وباء معولم ، شر ينتقل من هنا إلى هناك ، يحصد قتلى ويهدد بنسف الحياة، ويقلص من حركية الإنسان، ويعيدنا لبيوتنا ويلزمنا بالإقامة والعودة لأحضان الأسرة والعائلة. ولا ندري شكل العالم بعد القضاء عليه ، وباء فتاك أخرج الجيوش، وخلت الأحياء من أهلها، والطرقات من السيارات، وشلت الحياة الاقتصادية، والملاحة البحرية وحركة النقل بأنواعه . فيروس لا مرئي تفنن العلم في وصفه وشرح أعراضه دون القدرة على محاصرته وإبادته، اليوم نعيش زمن إهانة الإنسان، وتمريغ أنفه في التراب بفعل هذا الكائن المتناهي في الصغر، لا تنفع معه المضادات الحيوية ولا العقاقير ، يتغلغل في النواة ويصيبك بألم في الرئة ويجهز على عصب التنفس، والمواجهة الشاملة في حصره، وتضييق الخناق عليه أمر مفيد للبشرية، سحابة من الغمام والضيق تمر وتعود الأمور إلى طبيعتها بالحجر الصحي والاحتراز، وأخذ الأمور بجدية ، مصير العالم واحد، ونحن نشاهد سرعة المرض في دول متقدمة كايطاليا وألمانيا وصربيا ، وطلب المساعدة من الصين كما رأينا في تصريح الرئيس الصربي في نقده الشديد للاتحاد الأوربي، ونهاية أواصر العلاقات المتينة التي تبث عكسها عندما قدمت الصين مساعدات، ايطاليا التي ذكرت الأشقاء الأوربيون بماضيها وفضلها عليهم في عصر النهضة باتت الآن تعاني وحدها وفي صمت، ولا أحد هب لنجدتها سوى ما قدمته الصين من مساعدات طبية وخبراء في الوباء ، والمستشارة الألمانية ميركل التي ناشدت الألمان بأخذ الأمر بجدية والالتزام بنصائح الأطباء والعلماء .
إننا في زمن التفكك وزمن الأنانية والاحتراز من الآخر، وما كانت تدعيه الأمم الكبرى من الوحدة والدفاع المشترك، أصبح من الماضي، أمريكا بقوتها وجبروتها وأساطيلها الحربية العابرة للقارات، أصبحت عاجزة عن إعطاء بسمة أمل للإنسانية ، اختفى الخطاب السياسي المهلل للديمقراطية وحقوق الإنسان، وحل محله الخطاب المحلي في نهج سياسية ذاتية وحمائية ، العالم يطلب من الصين الإمداد بالتوجيهات والنصائح اللازمة ، الإنسان واحد كما يقول العالم الانثروبولوجي ستراوس، وهناك بنية واحدة تربط الجنس البشري ، والاختلاف الثقافي مرده إلى التنوع في إنتاج الإنسان للثقافة، طموح الإنسان في الوجود الدمج بين عالم الطبيعة وعالم الثقافة ، وعدم التقليل من ثقافة الآخر التي تبقى في الأخير صناعة إنسانية للعيش، وإظهار مظاهر التنوع والاختلاف. ولعل الإسلام واضحا في هذا الشأن في نسب الإنسان لآدم، وكل الناس من تراب، والفرق بين الناس على أساس الفضل والتقوى، وليس على أساس الغنى والانتماء الطبقي واللون . والدعوة للإنسانية ونصرة المظلوم في كل مكان من شيم أهل الفضل، ومن أخلاق الحكماء من الناس. سيكون العالم بعد الوباء مطالب بإعادة النظر في السياسة والاقتصاد والعلم ، نظام التفاهة الذي أصاب العالم من التافهين، ومن أصحاب المصالح والمنتفعين، ومن خبراء التقنية، ودعاة البرامج التافهة وطفيليات الفرص الجاهزة، السياسية الميكيافيلية لا تؤسس للعلاقات المتوازنة ، لا مكان للتافهين في رسم مستقبل البشرية، ما يقدمونه لا يرقى إلى تطلعات الشعوب في وحدة مشتركة تعيد الاعتبار للعلم والتربية وتوازن الحضارات. وحدة البشرية ضرورة حتمية في تقديم العون والمساندة لكل الشعوب بعيدا عن معارك السياسة والصراعات الأيديولوجية . ولن يخرج العالم إلا بالوحدة بين الأمم حتى لا تظهر فيروسات جديدة أشد فتكا .