صدرت يوميات جديدة بعنوان “يوميات معلم في الجبل” الجزء3 لعزالدين الماعزي، عن مطبعة الأنوار الذهبية بخريبكة في فبراير 2020 ب94 صفحة، لوحة الغلاف واللوحات المرفقة للفنانة التشكيلية سناء سقي .
وهي اليوميات الثالثة للكاتب بعد الجزئين الأول الصادر عن حلول تربوية 1998 والثاني عن دار القرويين 2006 .
تضم المجموعة 15 نصا بعتبات مثيرة : إنذار في الجبل، ثعبان في القسم، أغنية الوطن الحزين، برغوت الموعاليم ، كأني في حلمي ، الرقص بالقبعة وأمي لا تكتفي بالنظر إلي …
وتلك النصوص هي عبارة عن محطات، تزين أغلبها لوحات من إنجاز الفنانة سناء سقي. نصوص تختلف من حيث الحكم والحدث، لكنها تظل مشدودة إلى مكان واحد يعد ناظمها الأساس.
العنوان:
أستعير قراءة الناقد الدقاقي، فأقول قوله:
-1- العنوان: هل هو عتبة مؤطرة أم باب موارب لسياحة الذات ؟
منذ بوابة العبور الأول إلى أرض النص استوقفتنا جمارك اللغة لنؤدي قولا تعريفة المرور لذا كنا وكان العنوان..فيوميات هذا المبتدأ المضاف يعلن منذ البدء عدم مسؤولية الكاتب في تواتر الوقائع والأحداث على ترتيب بحيث يمكن للقارئ الولوج من آخر الكتاب او وسطه أو من أي فصل أراد دون حدوث أي تشويش في الصورة العامة الناجمة عن الفعل القرائي..وهو ليس مثلبة ما دامت اليوميات لا ترتكن عموما إلى شروط الكتابات الأخرى وما دامت عند عزالدين خصوصا تنماز على رأي ذ احمد بوزفور بغلبة البوح والتعبير على الوقائع والأحداث والفضاءات الخارجية والعناصر الثقافية كأن الكاتب ليس سيرة حياة أو يوميات معلم بقدر ماهي سيرة وجدان ويوميات إحساس إذن فالقاص يخبرنا تركيبا وبلاغيا منذ أولى مركبات العنوان بوضع زوادة القراءة النقدية الصرفة جانبا ومشاركته هذا الانتشار اللغوي والوجداني أما إذا أضفنا يوميات إلى معلم فأكيد أن هذا المضاف إليه الذي كاد أن يكون رسولا أصبح مقذوفا به على جميع الأصعدة إلى حد انه افتتن بالرقص على أصابع الألم و ترويض اللغة على البوح..والبوح المطلق. وأخيرا إذا كان الجبل وملحقاته هو فضاء معلم وخبر يوميات فإننا سنكتشف الى أي ألم استطاع الكاتب ان يتلألأ في بيئته كل مكوناتها تشي بالجذب ولن يكون أضغاث كلام إذا قلنا إن الحكي في لغة اليوميات سيتشح بصدق نادر بما ينضاف له من شعرية الأسلوب ومائية الصورة بشكل يجعل الكاتب سائحا .. مغربيا في ارض مغربية….
واليوميات سرد استرجاعي يعتمد على الذاكرة، يقوم فيه السارد بضمير المتكلم على استعادة محطات من حياته الواقعية وبلسانه الصادق؛ استعادة أحداث ما زالت مؤثرة في حياته حتى اللحظة الراهنة، :
حلمت أني في نفس المكان النائي الذي كنت فيه سابقا هكذا أو خيل إلي. ص11.
أدب اليوميات: عبارة عن الكتابات التي ندون فيها الأحداث التي تترك أثراً ما فينا أو في محيطنا يوماً بيوم. أي الكتابة في نفس اليوم. و اليوميات يدونها الشخص المعني، لذا فهي عبارة عن سيرة ذاتية يومية.
والمصدر الأساس في كتابة اليوميات هي أفكارنا الشخصية و ما نعيشه شخصياً من أحداث و ما نبديه من مواقف و ما ننطقه من أقوال و مناقشات. فنحنُ لا نعتمد في تدوين يومياتنا الشخصية على أي مصدر خارجي. و لا يمكننا أن نكتب أموراً لا نتأثر بها أو لا نتفاعل معها. و لا يمكننا كذلك كتابة أمور لا تعنينا شخصياً و لا تعني محيطنا الثوري العام. بالطبع هذا يتوقف على اهتماماتنا الشخصية.
تتسم كتابة الذات بالصدق والواقعية في سرد الأحداث، الأمر الذي ينزّلها في سياق الأدب المرجعي ولذلك كان النثر وسيلة الكتابة وشكلها في الأجناس الذاتية لأن طبيعته نمطية قادرة على نقل الوقائع بشكل عفوي وبسيط يحافظ قدر الإمكان على مبدأ الصدق والواقعية عنصر أساسي في أبجديات أدب الذات عموما واليوميات على وجه الخصوص.
وبناء عليه، فقد جاءت يوميات المبدع عز الدين الماعزي تقريرية قدر الإمكان قريبة من لغة السّرد دون أن تكون سردا، تنقل الوقائع بلغة بسيطة وبقدر كبير من الحقيقة ولكنّها مع ذلك موزونة عروضيا ومثقلة بضروب التخييل من مجاز واستعارات ومفارقات وتقنيات فنية حداثية كالمونولوج..
يقول السارد مؤكدا هذا المسلك:
اكتب بلغة هي أقرب إلى ما يوجد داخلي، لغة هي التي تطاردني وتبعث رائحتي وتستفز مشاعري وتترك أثرا من الآثار التي تحدث عنها السابقون إلى اللاحقين بتتمة وتتابع، أثرا من تلك الريح التي لا تكاد تخفق لكي تظهر أكثر قوة تلك اللغة التي تشكوك وتستوي بك. ص18.
لكن الملاحظ أن اليوميات تقوم بسرد أحداث وتصمت عن أخرى، خصوصا تلك التي يراد نشرها بين الناس، يقول السارد: اكتب بحس نادر وأنا احرص أن أبقى وفيا لقيمة الكتابة وجماليتها، أحاول أن أتخلص منها.
بالكتابة أطمح أن يهبني الكلام تحقيق الكثير من الرغبات المكبوتة داخلي، لن أفصح عنها طبعا. ص35.
فالفقرة السالفة تؤكد على أن هناك المسكوت عنه، وهو ما لا تقبل الذات البوح به، أو الإفصاح عنه، فهناك رقيب ذاتي يعمل على فرز الأحداث، والسماح لبعضها بالمرور، والبعض الآخر يحكم عليه بالبقاء في قعر الذات.
صحيح أنه يقوم بعرض بعض المشاهد الجريئة قليلا، من مثل قيام صديقه الذي يقاسمه المكان بالتعري كاملا، والسير في ما يسمى غرفة وكأن السارد غير مرئي، لكن الجرأة لن تتعدى ذلك، خاصة وأن من يعيش وحيدا في منطقة نائية لابد من أن تنتابه رغبات وهواجس وأحلام، ويعيش مغامرات معينة، لكن الرقيب يقف ضد البوح السافر، ولا يترك سوى فرصة الإيحاء، من ذلك التلصص على نساء وفتيات الجبل بغاية تجزية الوقت الثقيل.
كما أنه يرصد مواجهته لغرائزه بربط عضوه الى فخذه حتى لا يوقظ مكامن الجرج ص60. ما يتغلب على هذه المكامن بالكتابة إلى معشوقته التي تسكن ذاته، وتوجد في المدى البعيد.
ويقدم السارد إشارة مهمة في معرض حديثه عن زميلته المتحررة التي التحقت مؤخرا بالعمل وقد أثارت انتباه رجال المنطقة، ورجت المكان، وأربكت مديرها، تقول الإشارة:
لا تمر الأنثى على مكان إلا وأحييته..ص68. سيرا على نهج ابن عربي الذي قال المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه. فالمرأة هي الحياة، ولا حياة من دونها.
والسارد_عز الدين حريص على تدوين كل ما يجري له:
في دفتر من فئة 50 ورقة برتقالي اللون علامة "صومابا"، أدون فيه الوقائع والأحداث بتفصيل وكأني أخاطب بعيدا، يمكن أن يكون أخي أو أبي أو أحدا من أهلي أو الجبل "كااع" ص50.
وحرصه على وصف دفتر التدوين نجده أيضا في وصف لباسه التقليدي كعنوان على تشبثه بأصله البدوي الضارب بجذوره في منطقة دكالة. ثم إنه يوظف كلمة "كااع" مرات عدة حين يرغب في التعبير عن ضيقه وتبرمه وغضبه ورفضه.
إن الانخراط في ممارسة اليوميات هو شروع في نسج أسطورة ذاتية. وعند هذه اللحظة بالذات يمكننا أن نفكر في قيمة اليوميات، إذ قيمتها في قدرتها على صنع تلك الأسطورة وقدرة كاتبها على التحايل للتأثير، إن كان ذلك بالعفوية أو بالصنعة والتركيب، فالكاتب، أي كاتب، يكتب للآخرين ويسعى جاهدا لكسب اعترافهم سلميا، فهو يعلم علم اليقين أنه يكتب لأحرار لا لعبيد، وأنه استعاض بالقلم عن البندقية، كما يشير إلى ذلك سارتر في كتابه "ما الأدب؟".
يقول السارد عن يومياته مؤدا هذا المعنى:
أما يومياتي فكانت محل نقاش وتقدير فنشرتها إحدى الجرائد الوطنية في صفحتها الأخيرة.
أما المجلة المختصة بما هو تربوي فقد راسلني مديرها بمكاتبته ومده بنصوص بعض اليوميات لان فيها جرأة وإبداع وأشياء يحبذها الوسط التعليمي.. ص75.
هو، إذن، اعتراف بأهمية ما يكتبه السارد، ورد اعتبار رمزي له، وتقدير للذات الكاتبة، وشعور بنوع من الابتهاج والسرور النفسيين يدعمانه في خلوته البعيدة عن الأسرة حيث حضن الأم التي تعانقه بشوق، وحيث الإخوة في ترقبهم لما يحمله لهم من هدايا..
وإذا كانت اليوميات ترصد الكثير من الاختلالات التي تسببت في معاناة السارد، وواجهها بصر وأناة وشجاعة، فإنها ترصد في الآن ذاته جوانب مشرقة من مثل الانكباب على القراءة والكتابة ومن مثل كرم الضيافة التي حظي بها من لدن أسرة بالجبل. دون أن ينسى وصف جمال المنطقة التي عين بها "تافراوت" وسحر طبيعتها التي جعلت فنانا معجبا يترك العنان لريشته ترسم وتلطخ الصخور فأضحى المنظر جميلا ورائعا للعين وساحرا فاتنا لكل السياح والزوار..ص 84.
لكن السارد وهو يكتب يومياته تنتابه لحظات تساؤل حول جدوى من كتابة الذات، خاصة حين يغيب الفطور، إذ هناك، بالنسبة له، تلازم ضروري بين الكتابة والفطور:
...جامد الحركات لا شيء يملي علي هذا الصباح بدون فطور{ الأصوب: من دون فطور}..وأنا أكرر ما الجدوى من كتابة الذات أو من البوح "كااع"..؟ ص49.
فالملاحظ أن الكتابة لا تستقيم وغياب ضروريات الحياة وأبسطها: كوب شاي، من هنا ذلك الغضب الذي يعتري الذات، ويجعلها تطرح جدوى الكتابة، ونلاحظ بلوغ توتر الذات حين تستعمل كلمة من اللغة المحكية وبشكل ممطوط وممتد، وكأنه صرخة مدوية ترددها جنبات الجبل ومقر العمل.
لكنه رغم ذلك يكتب نكاية في النسيان؛ فالكتابة شرط وجود، وضرورة من ضروريات إثبات الذات وحضورها في العالم، ومصلا مضادا للمحو. كما أن الكتابة صحبة القراءة رياضة مفيدة للصحة النفسية، ودواء ضد داء الملل؛ ملل العمل بتحضيراته المكررة والمعادة، وملل الحياة بجبل راكد الحركة، وملل من النسيان ولعنة البقاء بانتظار تنقيل قد يأتي وقد لا يأتي، وترقب وانتظار الأجرة كهلال رمضان، يحملها المدير كبشارة.
لقد أتت اللغة بسيطة لتحقيق التواصل لكنها عميقة من حيث ما تنوء به من موضوعات معاصرة ما زال الكثير ممن يشتغل في حقل الأدب يعاني منها. لغة توسلت بالتصوير والمجاز من دون إفراط أو تكلف، بل كانت لتجويد الكتابة دون أن تحول والموضوعات المطروقة. لقد كان عز الدين على وعي بأهمية هذا المكون في بعده التواصلي، لذا، تجنب اللغة المتعالية والمتقعرة، ورام اللغة البسيطة والعميقة والمعضدة بلغة الشعر والتأمل بطرح أسئلة نابعة من داخل الذات المجروحة، يقول:
هل مثلي قادر على البؤس وإشعال الالتباس من داخل حياتنا اليومية...؟
هل أقدر على المشي بعد الصراخ الداخلي...؟
كلما فكرت.. في درجة الاحتماء التي تؤرقني كلما{كذا} وجدت مخرجا ضيقا..
أني فوق عربة موتى تحمل الموتى، والموتى حولي كثر، كثر، يتكدسون، يتفاوتون، يتلونون، يتحزبون، يتنقبون يمشون بعيون مفتوحة ولا يدرون ان المياه تجرفهم... ص 42 و43.
فمقطع "الرقص بالقبعة" جاء مفعما بالتفكير وتأمل شؤون الحياة، كما جاء بلغة شاعرية، إضافة إلى اشتماله على مقاطع ذات بعد شعري كما هذا المقتطف:
مرغما محاصرا بأنانيتي ولكي أكون موجودا في تاريخ اللحظة أقدم قلبي لك هدية.. وبعضا من قطرات دمي في كفي
وقبلات في الهواء
كأني أصافح امرأ لا تشبهك لا تشبهني إلا في حلمي. ص45.
وجملة "قبلات في الهواء "ستصير عنوان عمل له في مجال السرد.
وتستحضر اليوميات في ذات السياق نصوصا شعرية لشعراء منهم محمود درويش.
لم تخضع يوميات معلم في الجبل لمبدأ التأريخ للهوية الزمنية التي تنزّل كل نص في سياقه الزمني الخاص وتميزه عن النص السابق والنص اللاحق له..
فلكل نص في اليوميات استقلاليته وكونه وطبيعته المرجعية المستقلّة. وهي سمة أساسية في أدب اليوميات لا يكاد يغفل عنها كاتب لها.
وعدم خضوع اليوميات لمبدأ التأريخ، يتيح للقارئ حرية قراءة أي محطة من دون ترتيب، أي يمكنه عدم السير على نهج الترتيب المقدم في الكتاب، وهو ما يفيد استقلالية تلك النصوص وعدم خضوعها لثيمة واحدة بل لكل محطة نواتها الموضوعية التي تدور حولها والتي تصب جميعها في الثيمة الأساس التي ترتبط بالعنوان الأم.
في الصفحة الأخيرة نقرأ مقطعا جميلا:
“هل أنا محظوظ مثلا، حين أوجد هنا خلف هذا الجبل أو مقابل هذا الجبل الضخم اللعين، آكل بيضة مقلية بقليل من البهار وكأس شاي أسود أو أتمرن بعلب السردين بأنواع جولي واللوكوس ..
أراني قطعة حجر انقذفت هنا، خواء مدو ضاج بالصراخ إلى حد المقت بلا طموح كما يقولون، كيف استطعت أن أبقى وحيدا كالماعز طوال سنين ؟
هل يمكن أن تكون هناك حياة أخرى خلف الجبل ؟ ” ص92
وقبلها مباشرة هذه التحية لنساء التعليم المعينات حديثا:
معذرة إن أسأت أو أخطات التعبير.. فأنتن حمائم المستقبل وشهيدات الوطن الذي لم يعد يحتمل جراحكن، ويمضي، كما تمضين في اتجاه واحد رسم الغد الذي لا بد منه..
تحية لكن ولكم أيها الجنود الذين يلعنون الظلام ويطهرون الأرض من الفساد، يعبثون بغبار الطباشير ويعبث بهن وبهم الزمان..
** تمت الاستفادة من بعض المقالات التي لم يتم الغشارة إليها، لذا، وجب التنبيه، والسلام.
وهي اليوميات الثالثة للكاتب بعد الجزئين الأول الصادر عن حلول تربوية 1998 والثاني عن دار القرويين 2006 .
تضم المجموعة 15 نصا بعتبات مثيرة : إنذار في الجبل، ثعبان في القسم، أغنية الوطن الحزين، برغوت الموعاليم ، كأني في حلمي ، الرقص بالقبعة وأمي لا تكتفي بالنظر إلي …
وتلك النصوص هي عبارة عن محطات، تزين أغلبها لوحات من إنجاز الفنانة سناء سقي. نصوص تختلف من حيث الحكم والحدث، لكنها تظل مشدودة إلى مكان واحد يعد ناظمها الأساس.
العنوان:
أستعير قراءة الناقد الدقاقي، فأقول قوله:
-1- العنوان: هل هو عتبة مؤطرة أم باب موارب لسياحة الذات ؟
منذ بوابة العبور الأول إلى أرض النص استوقفتنا جمارك اللغة لنؤدي قولا تعريفة المرور لذا كنا وكان العنوان..فيوميات هذا المبتدأ المضاف يعلن منذ البدء عدم مسؤولية الكاتب في تواتر الوقائع والأحداث على ترتيب بحيث يمكن للقارئ الولوج من آخر الكتاب او وسطه أو من أي فصل أراد دون حدوث أي تشويش في الصورة العامة الناجمة عن الفعل القرائي..وهو ليس مثلبة ما دامت اليوميات لا ترتكن عموما إلى شروط الكتابات الأخرى وما دامت عند عزالدين خصوصا تنماز على رأي ذ احمد بوزفور بغلبة البوح والتعبير على الوقائع والأحداث والفضاءات الخارجية والعناصر الثقافية كأن الكاتب ليس سيرة حياة أو يوميات معلم بقدر ماهي سيرة وجدان ويوميات إحساس إذن فالقاص يخبرنا تركيبا وبلاغيا منذ أولى مركبات العنوان بوضع زوادة القراءة النقدية الصرفة جانبا ومشاركته هذا الانتشار اللغوي والوجداني أما إذا أضفنا يوميات إلى معلم فأكيد أن هذا المضاف إليه الذي كاد أن يكون رسولا أصبح مقذوفا به على جميع الأصعدة إلى حد انه افتتن بالرقص على أصابع الألم و ترويض اللغة على البوح..والبوح المطلق. وأخيرا إذا كان الجبل وملحقاته هو فضاء معلم وخبر يوميات فإننا سنكتشف الى أي ألم استطاع الكاتب ان يتلألأ في بيئته كل مكوناتها تشي بالجذب ولن يكون أضغاث كلام إذا قلنا إن الحكي في لغة اليوميات سيتشح بصدق نادر بما ينضاف له من شعرية الأسلوب ومائية الصورة بشكل يجعل الكاتب سائحا .. مغربيا في ارض مغربية….
واليوميات سرد استرجاعي يعتمد على الذاكرة، يقوم فيه السارد بضمير المتكلم على استعادة محطات من حياته الواقعية وبلسانه الصادق؛ استعادة أحداث ما زالت مؤثرة في حياته حتى اللحظة الراهنة، :
حلمت أني في نفس المكان النائي الذي كنت فيه سابقا هكذا أو خيل إلي. ص11.
أدب اليوميات: عبارة عن الكتابات التي ندون فيها الأحداث التي تترك أثراً ما فينا أو في محيطنا يوماً بيوم. أي الكتابة في نفس اليوم. و اليوميات يدونها الشخص المعني، لذا فهي عبارة عن سيرة ذاتية يومية.
والمصدر الأساس في كتابة اليوميات هي أفكارنا الشخصية و ما نعيشه شخصياً من أحداث و ما نبديه من مواقف و ما ننطقه من أقوال و مناقشات. فنحنُ لا نعتمد في تدوين يومياتنا الشخصية على أي مصدر خارجي. و لا يمكننا أن نكتب أموراً لا نتأثر بها أو لا نتفاعل معها. و لا يمكننا كذلك كتابة أمور لا تعنينا شخصياً و لا تعني محيطنا الثوري العام. بالطبع هذا يتوقف على اهتماماتنا الشخصية.
تتسم كتابة الذات بالصدق والواقعية في سرد الأحداث، الأمر الذي ينزّلها في سياق الأدب المرجعي ولذلك كان النثر وسيلة الكتابة وشكلها في الأجناس الذاتية لأن طبيعته نمطية قادرة على نقل الوقائع بشكل عفوي وبسيط يحافظ قدر الإمكان على مبدأ الصدق والواقعية عنصر أساسي في أبجديات أدب الذات عموما واليوميات على وجه الخصوص.
وبناء عليه، فقد جاءت يوميات المبدع عز الدين الماعزي تقريرية قدر الإمكان قريبة من لغة السّرد دون أن تكون سردا، تنقل الوقائع بلغة بسيطة وبقدر كبير من الحقيقة ولكنّها مع ذلك موزونة عروضيا ومثقلة بضروب التخييل من مجاز واستعارات ومفارقات وتقنيات فنية حداثية كالمونولوج..
يقول السارد مؤكدا هذا المسلك:
اكتب بلغة هي أقرب إلى ما يوجد داخلي، لغة هي التي تطاردني وتبعث رائحتي وتستفز مشاعري وتترك أثرا من الآثار التي تحدث عنها السابقون إلى اللاحقين بتتمة وتتابع، أثرا من تلك الريح التي لا تكاد تخفق لكي تظهر أكثر قوة تلك اللغة التي تشكوك وتستوي بك. ص18.
لكن الملاحظ أن اليوميات تقوم بسرد أحداث وتصمت عن أخرى، خصوصا تلك التي يراد نشرها بين الناس، يقول السارد: اكتب بحس نادر وأنا احرص أن أبقى وفيا لقيمة الكتابة وجماليتها، أحاول أن أتخلص منها.
بالكتابة أطمح أن يهبني الكلام تحقيق الكثير من الرغبات المكبوتة داخلي، لن أفصح عنها طبعا. ص35.
فالفقرة السالفة تؤكد على أن هناك المسكوت عنه، وهو ما لا تقبل الذات البوح به، أو الإفصاح عنه، فهناك رقيب ذاتي يعمل على فرز الأحداث، والسماح لبعضها بالمرور، والبعض الآخر يحكم عليه بالبقاء في قعر الذات.
صحيح أنه يقوم بعرض بعض المشاهد الجريئة قليلا، من مثل قيام صديقه الذي يقاسمه المكان بالتعري كاملا، والسير في ما يسمى غرفة وكأن السارد غير مرئي، لكن الجرأة لن تتعدى ذلك، خاصة وأن من يعيش وحيدا في منطقة نائية لابد من أن تنتابه رغبات وهواجس وأحلام، ويعيش مغامرات معينة، لكن الرقيب يقف ضد البوح السافر، ولا يترك سوى فرصة الإيحاء، من ذلك التلصص على نساء وفتيات الجبل بغاية تجزية الوقت الثقيل.
كما أنه يرصد مواجهته لغرائزه بربط عضوه الى فخذه حتى لا يوقظ مكامن الجرج ص60. ما يتغلب على هذه المكامن بالكتابة إلى معشوقته التي تسكن ذاته، وتوجد في المدى البعيد.
ويقدم السارد إشارة مهمة في معرض حديثه عن زميلته المتحررة التي التحقت مؤخرا بالعمل وقد أثارت انتباه رجال المنطقة، ورجت المكان، وأربكت مديرها، تقول الإشارة:
لا تمر الأنثى على مكان إلا وأحييته..ص68. سيرا على نهج ابن عربي الذي قال المكان الذي لا يؤنث لا يعول عليه. فالمرأة هي الحياة، ولا حياة من دونها.
والسارد_عز الدين حريص على تدوين كل ما يجري له:
في دفتر من فئة 50 ورقة برتقالي اللون علامة "صومابا"، أدون فيه الوقائع والأحداث بتفصيل وكأني أخاطب بعيدا، يمكن أن يكون أخي أو أبي أو أحدا من أهلي أو الجبل "كااع" ص50.
وحرصه على وصف دفتر التدوين نجده أيضا في وصف لباسه التقليدي كعنوان على تشبثه بأصله البدوي الضارب بجذوره في منطقة دكالة. ثم إنه يوظف كلمة "كااع" مرات عدة حين يرغب في التعبير عن ضيقه وتبرمه وغضبه ورفضه.
إن الانخراط في ممارسة اليوميات هو شروع في نسج أسطورة ذاتية. وعند هذه اللحظة بالذات يمكننا أن نفكر في قيمة اليوميات، إذ قيمتها في قدرتها على صنع تلك الأسطورة وقدرة كاتبها على التحايل للتأثير، إن كان ذلك بالعفوية أو بالصنعة والتركيب، فالكاتب، أي كاتب، يكتب للآخرين ويسعى جاهدا لكسب اعترافهم سلميا، فهو يعلم علم اليقين أنه يكتب لأحرار لا لعبيد، وأنه استعاض بالقلم عن البندقية، كما يشير إلى ذلك سارتر في كتابه "ما الأدب؟".
يقول السارد عن يومياته مؤدا هذا المعنى:
أما يومياتي فكانت محل نقاش وتقدير فنشرتها إحدى الجرائد الوطنية في صفحتها الأخيرة.
أما المجلة المختصة بما هو تربوي فقد راسلني مديرها بمكاتبته ومده بنصوص بعض اليوميات لان فيها جرأة وإبداع وأشياء يحبذها الوسط التعليمي.. ص75.
هو، إذن، اعتراف بأهمية ما يكتبه السارد، ورد اعتبار رمزي له، وتقدير للذات الكاتبة، وشعور بنوع من الابتهاج والسرور النفسيين يدعمانه في خلوته البعيدة عن الأسرة حيث حضن الأم التي تعانقه بشوق، وحيث الإخوة في ترقبهم لما يحمله لهم من هدايا..
وإذا كانت اليوميات ترصد الكثير من الاختلالات التي تسببت في معاناة السارد، وواجهها بصر وأناة وشجاعة، فإنها ترصد في الآن ذاته جوانب مشرقة من مثل الانكباب على القراءة والكتابة ومن مثل كرم الضيافة التي حظي بها من لدن أسرة بالجبل. دون أن ينسى وصف جمال المنطقة التي عين بها "تافراوت" وسحر طبيعتها التي جعلت فنانا معجبا يترك العنان لريشته ترسم وتلطخ الصخور فأضحى المنظر جميلا ورائعا للعين وساحرا فاتنا لكل السياح والزوار..ص 84.
لكن السارد وهو يكتب يومياته تنتابه لحظات تساؤل حول جدوى من كتابة الذات، خاصة حين يغيب الفطور، إذ هناك، بالنسبة له، تلازم ضروري بين الكتابة والفطور:
...جامد الحركات لا شيء يملي علي هذا الصباح بدون فطور{ الأصوب: من دون فطور}..وأنا أكرر ما الجدوى من كتابة الذات أو من البوح "كااع"..؟ ص49.
فالملاحظ أن الكتابة لا تستقيم وغياب ضروريات الحياة وأبسطها: كوب شاي، من هنا ذلك الغضب الذي يعتري الذات، ويجعلها تطرح جدوى الكتابة، ونلاحظ بلوغ توتر الذات حين تستعمل كلمة من اللغة المحكية وبشكل ممطوط وممتد، وكأنه صرخة مدوية ترددها جنبات الجبل ومقر العمل.
لكنه رغم ذلك يكتب نكاية في النسيان؛ فالكتابة شرط وجود، وضرورة من ضروريات إثبات الذات وحضورها في العالم، ومصلا مضادا للمحو. كما أن الكتابة صحبة القراءة رياضة مفيدة للصحة النفسية، ودواء ضد داء الملل؛ ملل العمل بتحضيراته المكررة والمعادة، وملل الحياة بجبل راكد الحركة، وملل من النسيان ولعنة البقاء بانتظار تنقيل قد يأتي وقد لا يأتي، وترقب وانتظار الأجرة كهلال رمضان، يحملها المدير كبشارة.
لقد أتت اللغة بسيطة لتحقيق التواصل لكنها عميقة من حيث ما تنوء به من موضوعات معاصرة ما زال الكثير ممن يشتغل في حقل الأدب يعاني منها. لغة توسلت بالتصوير والمجاز من دون إفراط أو تكلف، بل كانت لتجويد الكتابة دون أن تحول والموضوعات المطروقة. لقد كان عز الدين على وعي بأهمية هذا المكون في بعده التواصلي، لذا، تجنب اللغة المتعالية والمتقعرة، ورام اللغة البسيطة والعميقة والمعضدة بلغة الشعر والتأمل بطرح أسئلة نابعة من داخل الذات المجروحة، يقول:
هل مثلي قادر على البؤس وإشعال الالتباس من داخل حياتنا اليومية...؟
هل أقدر على المشي بعد الصراخ الداخلي...؟
كلما فكرت.. في درجة الاحتماء التي تؤرقني كلما{كذا} وجدت مخرجا ضيقا..
أني فوق عربة موتى تحمل الموتى، والموتى حولي كثر، كثر، يتكدسون، يتفاوتون، يتلونون، يتحزبون، يتنقبون يمشون بعيون مفتوحة ولا يدرون ان المياه تجرفهم... ص 42 و43.
فمقطع "الرقص بالقبعة" جاء مفعما بالتفكير وتأمل شؤون الحياة، كما جاء بلغة شاعرية، إضافة إلى اشتماله على مقاطع ذات بعد شعري كما هذا المقتطف:
مرغما محاصرا بأنانيتي ولكي أكون موجودا في تاريخ اللحظة أقدم قلبي لك هدية.. وبعضا من قطرات دمي في كفي
وقبلات في الهواء
كأني أصافح امرأ لا تشبهك لا تشبهني إلا في حلمي. ص45.
وجملة "قبلات في الهواء "ستصير عنوان عمل له في مجال السرد.
وتستحضر اليوميات في ذات السياق نصوصا شعرية لشعراء منهم محمود درويش.
لم تخضع يوميات معلم في الجبل لمبدأ التأريخ للهوية الزمنية التي تنزّل كل نص في سياقه الزمني الخاص وتميزه عن النص السابق والنص اللاحق له..
فلكل نص في اليوميات استقلاليته وكونه وطبيعته المرجعية المستقلّة. وهي سمة أساسية في أدب اليوميات لا يكاد يغفل عنها كاتب لها.
وعدم خضوع اليوميات لمبدأ التأريخ، يتيح للقارئ حرية قراءة أي محطة من دون ترتيب، أي يمكنه عدم السير على نهج الترتيب المقدم في الكتاب، وهو ما يفيد استقلالية تلك النصوص وعدم خضوعها لثيمة واحدة بل لكل محطة نواتها الموضوعية التي تدور حولها والتي تصب جميعها في الثيمة الأساس التي ترتبط بالعنوان الأم.
في الصفحة الأخيرة نقرأ مقطعا جميلا:
“هل أنا محظوظ مثلا، حين أوجد هنا خلف هذا الجبل أو مقابل هذا الجبل الضخم اللعين، آكل بيضة مقلية بقليل من البهار وكأس شاي أسود أو أتمرن بعلب السردين بأنواع جولي واللوكوس ..
أراني قطعة حجر انقذفت هنا، خواء مدو ضاج بالصراخ إلى حد المقت بلا طموح كما يقولون، كيف استطعت أن أبقى وحيدا كالماعز طوال سنين ؟
هل يمكن أن تكون هناك حياة أخرى خلف الجبل ؟ ” ص92
وقبلها مباشرة هذه التحية لنساء التعليم المعينات حديثا:
معذرة إن أسأت أو أخطات التعبير.. فأنتن حمائم المستقبل وشهيدات الوطن الذي لم يعد يحتمل جراحكن، ويمضي، كما تمضين في اتجاه واحد رسم الغد الذي لا بد منه..
تحية لكن ولكم أيها الجنود الذين يلعنون الظلام ويطهرون الأرض من الفساد، يعبثون بغبار الطباشير ويعبث بهن وبهم الزمان..
** تمت الاستفادة من بعض المقالات التي لم يتم الغشارة إليها، لذا، وجب التنبيه، والسلام.