تعد قِصص "كُحل" لتغريد أبي شاور، وهو كتابها الثالث بعد "خرز" و "نمش"، تنويعا آخر من تنويعات الكتابة التي تجعل من البوح الأنثوي الشفيف والجارح أفقا جماليا يُجلي مكنونات المرأة ومعاناتها، ويصور تطلعاتها وأفراحها. وهو تنويع جديد في الكتابة الإبداعية سلك سبلا غير مطروقة في عمليها السابقتين.
وانطلاقا من هذا الغنى والتنوع الفني والموضوعي في تجربة الكاتبة، وتركيزا على قصصها التي اشتملت عليها مجموعة "كُحل" اخترنا لهذه القراءة زاوية نظر أُحادية نستند إليها في مقاربة النصوص، وتتمثل في الكشف عن سمات بوح الأنثى في هذه القصص، وذلك انطلاقا من اتخاذ أشكال توظيف المفارقة مدخلا للقراءة باعتبارها مكونا هاما في بناء متخيل القصة وتشكيل عوالمها السردية. فكيف يتمثل بوح الأنثى في قصص "كُحل"؟ وكيف تعمل المفارقة على تشكيل عوالم القصص ومتخيلها؟ وهل استطاعت المفارقة تحديدَ ملامحَ خاصة للبوح الأنثوي في هذه القصص؟
إن المطلع على "كُحل"، وقبلها "خرز" و"نمش" يُلفي اهتمام الكاتبة بالمرأة وقضاياها لا من زاوية ما يُطلق عليه "الأدب النسائي" والانتصار الكلي للمرأة ضدا على الرجل ونكاية فيه، كما تذهب بعض تيارات "النسوية" المبالِغة في طروحاتها، وإنما تنظر إلى وضع المرأة ومعاناتها في سياق فني متوازن، واستنادا إلى رؤية أدبية تؤمن بأن التعبير عن معاناة المرأة ومكابدتها لا يتجزأ من التعبير عن ثقل الواقع ووقره الذي يلقي بكلكله على الرجل والمرأة على السواء، في عالم تخلخلت فيه القيم واضطربت فيه معايير كل شيء.
في قصة "سارة" نرى الساردة "ليزا" تحكي في بساطة وعذوبة رغباتها الأنثوية، وحلمها الطبيعي في الزواج برجل، وحلمها بفستان عرس جميل وطرحة فاخرة، وطوقٍ شَعَري أحمر مشكوك بغصن أخضر رهيف من شجر الليمون. وذلك أثناء حديثها مع أمها وهما عائدتان من عرس ابنة الجيران "سارة". وفي الطريق ارتطمت قدمُ "ليزا" بشيء طري سقطت بسببه على وجهها، بينما ارتفع أنين يشبه المواء أو العواء، فإذا به جرو صغير منهك القوى. أخذته أم "ليزا" بين ذراعيها ومضيتا نحو البيت. لم تتبينا طبيعة الجرو، هل هو جرو كلب أم ذئب. أخلدتا للنوم في انتظار عودة الأب من المدينة صباحا، وتقريره مصير الجرو، هل تربيه "ليزا" أم لا. بهذه الكيفية كانت القصة تضع في بؤرة اشتغالها بوح "ليزا" برغباتها الأنثوية الطفولية وحلمها بعرس شبيه، أو يفوق عرس جارتها الجميلة "سارة". "سارة" التي اختارت ليلة مكتملة البدر لتكون ليلة عرسها، لكن لكل اكتمال نقصان. وهكذا كانت المفارقة تثوي في تفاصيل هذا الاختيار، ومن ثم تتمثل في مصير "سارة" السيئة الحظ التي نهشت جمالها الذئاب حينما أحاطت بعربة العروسين، ولولا أن أب الساردة صرخ هو ومن معه حتى استفاق أهل القرية وطاردوا الذئاب بالنار لتحول العرس إلى مأتم. وقد كانت الذئاب تبحث عن جروها الضائع من يومين. وبسرعة فائقة هرعت أم الساردة نحو المطبخ لتحمل الجرو الصغير الذي وضعته بين يدي زوجها ليهرع به بعيدا عن البيت، بينما كانت الأم تخبر ابنتها بأن لا أحد سيتزوج الفتاة التي تربي في بيتها ذئبا. وبهذه الشاكلة كانت مفارقة أخرى تثوي بين تلافيف أحداث القصة: بين أحلام الساردة في الزواج، وبين أعراف القبيلة التي تأبى أن تتزوج من فتاة آوت ذئبا صغيرا وربته. فالمحبة والحنو والتعاطف ومشاعر الإنسان لا تلتقي بغدر الذئاب وفتكها. ومن خلال الحدث الأخير نرى مدى تقارب الأب والأم في تقرير مصير ابنتهما وإسراعهما إلى التخلص من الجرو الصغير قبل أن يتفطن أي من أهل القرية إلى ما قامت به المرأتان من خطوة نحو إيواء الجرو والنية في تربيته.
انطلاقا مما سبق نلمس مدى حضور المفارقة في تشييد عوالم هذه القصة الجميلة في تقاطعاتها الإنسانية وبوحها الأنثوي البريء الشفيف.
ولا تختلف حكاية "وجدان" عن حكاية "ليزا" ساردة قصة "سارة" من حيث التيمة التي اشتغل بها النصان، وهي موضوعة الرغبة في الزواج، والحلم بزوج يحمي الساردة الحالمة، ويكون له قدر بين الرجال، ويكون كفؤا لها، كما كان يمنيها الأب، وهو يُقسم بجلال شيبته، وبأوطانه الضائعة، وبعمره الثقيل الذي يحمله على كتفيه. ومن ثم، فهي قصة جعلت من البوح الأنثوي برغباته وحلمه بالاستقرار وبناء أسرة، أساسا لبناء عوالمها السردية. غير أن المفارقة في هذه القصة لم تأت من عنصر طبيعي، ولم تتشكل من خلال تعارض مشاعر الرحمة والبراءة مع نواميس المجتمع وأعرافه، وإنما تتشكل المفارقة في كنه العوائد الاجتماعية، وفي تجلياتها لدى الرجل. وهكذا يجد القارئ نفسه أمام واقعة لا تخلو من سخرية وفكاهة، ومن قدرة لدى الكاتبة على تحليل نفسية شخصياتها وكشف عقدها.
إن الشاب "كمال" الذي اختاره الأب لوجدان وظن أنه ملأ يديه الإثنتين منه لم يتبدى سوى عن شبه رجل تتنازعه أفكار طائشة، وتحركه نوازع متخلفة، ويمتلك روحا حيوانية (كما نعتته وجدان)، على الرغم من أن الأب زكاه، والعمة اعتبرته شابا عائلي المزاج، وعلى الرغم من أنه تعلم في أوروبا، وعاد إلى وطنه ليشتغل طبيبا بيطريا، وعلى الرغم من أنه ينتمي إلى عائلة ذات حسب ونسب، إلا أنه ابن مخيم ولاجئ مثله مثل الساردة "وجدان" معلمة الأدب، كان من المفروض أن يكون أكثر وعيا وأشد خبرة بالحياة. وهكذا تقف القصة عند طبيعة هذه الشخصية المضطربة اللامتوازنة في رؤاها وتفاعلها مع العالم من حولها، التي تتميز بالغطرسة، وتسعى من وراء زواجها بوجدان إلى الانتقام ورد إهانة قديمة تلقاها منها. وقد كان التلاسن وإبداء عدم التفاهم بين "وجدان" و"كمال" سمة طبعت مسار حياتهما، وكان هذا الحال وراء تدخل الأب، وصفعه كمال وطرده من بيته.
هكذا تكشف هذه القصة طبيعة شخصية "كمال" المتناقضة التي تتسم بالمفارقة والتضاد، فشتان ما بين ظاهرها وباطنها، وما بين هيئتها وتفكيرها، وبين ما تعلنه من سلوك وما تضمره من نوايا. ولعل هذه الطبيعة المضطربة كانت سببا في خلاف "كمال" و "وجدان"، ومن ثم رفض "وجدان" الاقتران به على الرغم من بلوغها سن التاسعة والثلاثين. وهكذا كانت المفارقة بين طبيعة الشخصيتين واختلافهما عنصرا جوهريا في تشكيل متخيل هذه القصة، ومن ثم تشخيص معاناة بطلتها، وتوزعها بين الواقع والحلم.
ولعل القصة التي حملت المجموعة اسمها "كُحل" أكثر قصص المجموعة بَوحا بأحلام الأنثى ومعاناتها، وأجملَها من حيث توظيفُ المفارقة وجعلُها أساسا لتشكيل المتخيل القصصي، ورصدُ تمزقات المرأة في عالم مبني على التناقض والمفارقة. إنها قصة امرأة حملت اسم "كُحل"، ولاقتران الاسم بها وحملها إياه مسارا طويلا من المفارقات التي تنطوي على مأساة هذه الشخصية، وتُشكل عمق معاناتها. فقد أسماها والدها بهذا الاسم لأنه كرهها معتقدا أنها حرمته من زوجته التي كان شغوفا بها، فهي قد ماتت أربعة أيام، فقط، بعد ولادة ابنتها. والكحل كان سببا في امتصاص وميض عيني الساردة "كحل" بعدما أضيف إليه الزيت البلدي وعُفرت به جفونها لامتصاص حمى ألهبتها. ولأنها كانت قاسية صبيانية النزعة مع أبناء الجيران سميت "القائد كحل"، ولأن الكحل يسهم في جمال الأنثى ويقربها من زوجها، اكتحلت الساردة لرجلين أحدهما في آخر سنين عمره أخبرها أن الكحل يزيدها قتامة ونصحها بالامتناع عنه، فلم تمتنع فامتنع عنها الشيخ بالموت، أما ثانيهما الأرمل فقد قال لها إن عينيها تردان الكحل إلى أصله، فلما عرفت أن الكحل سيخرجها من إطار الصورة صار التحدي أكبر وازدادت تعلقا به، مدركة أن الحياة تنهب الكثير وتعطي القليل، وأن النساء اتفقن على الخطوط الأولى للجمال، ولم يفكرن في البداية سوى بالبهجة، والحب، والروح الهائمة المحلقة ونسين أصل الأشياء، ولهذا يستبدلن كحلهن في كثير من الأوقات بدموع آخر الليل. ومن ثم قررت أن تظل "كحل" في مجتمع انكسر مروده.
بهذه الشاكلة تترى المفارقات في القصة لتكوِّن جوهر المتخيل، ولتشكل حياة الشخصية القصصية. وقد قامت لعبة السرد على التلاعب باسم الشخصية في تقاطعه مع الكحل الذي اتخذته المرأة وسيلة للزينة، وعُد من عناصر إضفاء الجمال على المرأة، لكنه بالنسبة إلى بطلة هذه القصة، كان وبالا عليها، وكان علامة قتامة ودمامة، وسبب معاناة وخلاف مع كيانها، ومع من أحاط بها.
وعلى وتيرة هذا اللعب بالمفارقة في تجلياتها المختلفة، وفي سياق بوح أنثوي جارح استطاعت هذه القصة تجسيد جوانب من معاناة بطلتها في مفردات قليلة وصور دالة وفي سرد متوتر سريع الإيقاع.
في ضوء كل ما سبق نتبين أن المفارقة أدت دورا فعالا في تشكيل متخيل أغلب قصص مجموعة "كحل"، وأنها كانت أداة فنية أساس في التعبير عن تطلعات الأنثى وآمالها، وكشف معاناتها وآلامها، وأن اقتران المفارقة بالبوح الأنثوي الشفيف تارة، والجارح تارة أخرى منح هذه القصص نكهة فنية تتميز بالحيوية والجدة. وننتظر من الكاتبة أعمالا أخرى قد تطور هذه الإمكانات الفنية وتمضي بها نحو آفاق جديدة من البوح الأنثوي، وبالله التوفيق.
تغريد أبو شاور، كحل، منشورات وزارة الثقافة، إبداعات (عدد 76)، عمان/الأردن، 2017.