تكشف رواية "رائحة الموت" للكاتبة المغربية ليلى مهيدرة عن التباسات الواقع، واختلال الحياة المعاصرة استنادا إلى لعبة فانتاستيكية قوامها بلاغة العبث. ورواية "رائحة الموت" هي العمل الروائي الثاني للمبدعة بعد روايتها الأولى "ساق الريح"، وهي رواية طورت فيها تجربتها السردية وأغنتها باشتغالها الجديد انطلاقا من الأفق الفانتاستيكي الذي نلمس بعض تجلياته في نصوصها القصصية. فكيف تتمثل لعبة الفانتاستيك في "رائحة الموت"؟ وكيف تُسهم هذه اللعبة الفنية في بناء بلاغة العبث؟ وكيف تتشكل الأبعاد الدلالية والترميزية في الرواية استنادا إلى هذين المكونين السرديين؟
يجد قارئ رواية "رائحة الموت" نفسه أمام لعبة فانتاستيكية تحكم عالم الرواية منذ الصفحة الأولى، فعلى غير المعهود، ومخالفة للمألوف لدى كتاب الرواية، نلفي الكاتبة تعلن أن روايتها من "نسج الواقع، وأي تشابه قد يكون مقصودا. فالأحداث حقيقية. قد يختلف المكان، قد يتغير الزمان، لكنها قد تكون قصة لشخص تعرفه ومن يدري لعلك المقصود" (ص. 6)
هكذا يضرب هذا التوضيح عرض الحائط بما درجنا عليه من إشارات إلى أن أحداث الرواية من نسج الخيال، وأن أي تشابه بين الشخصيات وبين أناس من الواقع محض صدفة.. وما شابه ذلك من الكلام الذي اعتاد الروائيون من خلاله تأكيد تميز فن الرواية بالإيهام، وتشكيل واقعه الخاص على أساس المتخيل. غير أن الكاتبة، وانطلاقا من الأفق الذي ارتضته لكتابتها السردية، تستفز متلقيها منذ البداية بتصديرها ذاك الذي يؤكد أن هذه الرواية من نسج الواقع وليس الخيال. وسيرى القارئ أن الخيال، هنا، ولَعبة الفانتاستيك هي جوهر هذا الواقع الغريب، وأن هذه الأحداث الحقيقية على الرغم من غرابتها وإمعانها في الفانتاستيكية هي الوجه الفعلي لواقع أغرب من الخيال.
وقبل التصدير الذي وقفنا عنده نرى الحمولة الفانتاستيكية للإهداء الذي وجهته الكاتبة إلى الموت، قائلة:" للموت الذي تفوح منا رائحته حتى في اللحظات الأكثر حياة" (ص.5)
وبعد هاتين العلامتين تورد الكاتبة عتبتين أولهما لعلي بن أبي طالب، وثانيتهما لبيير غابي تتحدثان عن الموت والحياة، ولهما ارتباط وثيق بالعوالم التي تنسجها الرواية. تؤكد الأولى أن الناس نيام حتى إذا ماتوا استيقظوا وانتبهوا، وتتساءل الثانية إن كانت هناك حياة قبل الموت. (ص. 7)
ومدار الرواية يتمحور حول انتباه شخصيتيها المحوريتين ومساءلتهما للحياة التي عاشها كل منهما من أفقه الخاص، واستنادا إلى وعي جديد بما يجري من حولهما. ومن هذا الأفق تتشكل لعبة الفانتاستيك في بلاغة عبثية سنجلي قسماتها في هذه القراءة.
تتقاطع في الرواية حكايتان، أو صوتان: أحدهما لشخصية كاتب يتم سرد معاناته وواقعه من طرف راو عالم عارف بدقائق حياته، وثانيهما حكاية شخصية متخيلة من خلق الكاتب بلقايد تحكي من بعد موتها حكايتها موظفة ضمير المتكلم. وعبر تداخل هذان الصوتان في الرواية وتشابك حكايتهما تنسج لعبتها الفانتاستيكية وتُشكل بلاغة العبث استنادا إلى المفارقة والسخرية باعتبارهما إمكانا روائيا يحقق الغايات الدلالية والترميزية المقصودة في الرواية.
1-حكاية بلقايد،
إن الحكاية الجوهرية للرواية، هي حكاية بلقايد الخمسيني الذي تطارده لعنة الجد (القائد) الظالم، فنبذته المدينة وعاش على الهامش، ولم تخلص له سوى أمه زينب، يُهيمن على حياته كابوس الجد. هذا الجد الذي يرفض الانتماء إليه، ويسعى إلى التخلص من أثره. يقول السارد مصورا حالة شخصية بلقايد التي تحيا وضعها الغريب وطقسها العبثي الخاص:
".. صار هذا الانتماء القسري لجده عبئا ثقيلا، فكان كلما عبر الممر الطويل بالبيت الكبير الذي يسكنه إلا وكتب اسمه في آخر قائمة المظلومين بعد اسم أمه طبعا، ليس لأنه يحمل وزر اسمه فقط، ولا لأنها ترملت قبل الأوان بعد أن قتل زوجها، وإنما لأن سلطة القايد استمرت حتى بعد موته برفض الناس له وعبر كوابيس تملي عليه وعلى والدته أوامره فيستيقظان من نومهما فزعين ساعيين لتلبيتها، وإلا لكان مصيرهما كمصير من كانت تروي له حكايتهم كل ليلة. ومن بينهم والده المختار. حاله لم يكن بأحسن من حال والدته زينب فهو أيضا ورث عنها قلقها وارتباكها والكابوس المتكرر كل ليلة وهو الذي لا يذكر من جده إلا فترات انهزامه الأخيرة. كان نصيبه هو كابوس مختلف ما كانت والدته لتصدقه حين يروي لها ما كان يحصل معه، ولا أي أحد يمكن أن يتفهم الأمر، فمن يمكن أن يقتنع أن سبب الآلام التي كانت توقظه كل ليلة هو جده الذي يتسلل إليه وهو نائم بعد أن ينتعل الحذاء العسكري الضخم ويضغط به على حجره ولا يرحمه مهما صرخ !؟" (الرواية، ص.16-17)
يجلي هذا المقطع المستشهد به عمق معاناة بلقايد الذي ما زالت وطأة سلطة الجد تقهره عبر إصداره لأوامره المتعسفة وإملائها عليه وعلى أمه زينب، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد فحسب، بل إن الجد يعمد إلى ممارسة عدوان سافر على حفيده ليئد رجولته وينزعها منه. وهكذا يتشخص حضور الجد من أفق فانتاستيكي واضح ليشكل منطق عبث يحكم حياة شخصية بلقايد ويجعلها تعيش آلاما متنوعة ناجمة عن تهميش جيرانه، وعن وضع اجتماعي مختل لم يجد فيه مكانه، وعن حضور كوابيس تلقي بثقلها على حياته. ولم تقف الرواية عند هذا البعد فقط في كشف عجائبية حياة بلقايد، بل نجد هذا العبث يمتد إلى سياقات أخرى يتصل بممارسة بلقايد الكتابة ومحاولته من خلالها رد الاعتبار لذاته المهمشة المكلومة، ويتمثل العبث في تعرض بلقايد للسجن لأنه كتب قصة قصيرة نشرها في إحدى الصحف، فاعتُبر سجين رأي من طرف السلطة، بينما لقي العنت والاضطهاد والسخرية الجارحة من السجناء الذين اعتبروه خائنا كجده لا سجين رأي. (ص. 51-52)
وبهذه الكيفية نرى في الحكاية الأولى خيوطا شتى لعبثية تضرب أطنابها في جوهر ما يجري لشخصية بلقايد، وقد كانت لعبة الفانتاستيك وسيلة جوهرية لكشف مكامن الخلل في واقع المجتمع وفي اختلال القيم الاجتماعية واضطراب الأحوال إلى درجة المفارقة. وقد ركز التصوير الساخر في الرواية على تجسيد هذه الأحوال جميعا مشكلا بلاغة عبث توازي فظاظة ما تمر به شخصية بلقايد. ولعل المقطع الذي استشهدنا به خير ما يعبر عن مناحي فانتاستيكية دالة في النص، بحيث إن فعل الجد الساعي إلى وئد رجولة حفيده نجد له امتدادا في النص إذ ظلت الشخصية تشكو من ألم مزمن بين فخذيها، وجعلتها تشك في رجولتها. وبذلك نجد هذا التداخل بين الحلمي والواقعي يحول المتخيل إلى أفق عبثي تتحكم فيه عوامل غير منطقية، ومن ثم يسهم الفانتاستيك في تشخيص خلل الواقع والحياة. هذه الحياة التي تسعى الرواية إلى تجلية تفاهتها، وعدميتها عبر حكاية بلقايد من جهة، ومن خلال حكاية شخصيته المتخيلة/ الميتة من جهة أخرى. ولا يخفى على المتلقي ما تحمله شخصية الجد من حمولات رمزية ودلالية، إذ إنها تمثل امتداد سلطة المستعمِر وجبروتها من جهة، وترمز إلى الماضي المزري الذي يتحكم في الحاضر ويعمل على جعل المستقبل كالحا أسود، من جهة أخرى.
2-حكاية الشخصية الميتة،
تتبع سردية المنتحِر خطا كرونولوجيا متتابعا تبدأ من فترة استعداده للانتحار مرورا بفعل الانتحار وحضور الشرطة والطبيبة والانتقال إلى المشرحة ثم الجنازة إلى أن ينتهي الأمر إلى التصريح بالدفن.. وتُدخلنا هذه السردية إلى عالم فانتاستيكي من خلال محكي هذه الشخصية المعنية وقد استيقظت (طبعا بموتها) لتروي تجربتها الحياتية وتقف عند عبث ما عاشته في واقع مختل وظروف سريالية قاسية. ولعل هذه الشخصية هي الوجه الثاني لشخصية بلقايد الذي عرف حياة لا تقل عبثا عن حالة شخصيته السردية. وفي محكي هذه الشخصية يتجلى الفانتاستيك في أجلى صوره، وتتشكل بلاغة العبث استنادا إلى المفارقة والسخرية في صور دالة تعري الواقع، وتبين أن الواقع أغرب من الخيال ذاته. تقول الشخصية ساردة حكايتها مفلسفة رؤيتها لماضيها من عالم الماوراء (الموت):
".. وأنت منتحر تمتلك كل الحق في إعادة رسم خيوط حياتك كما تحب، فقط عليك أن تكون مقنعا، القدرة على الإقناع وحدها تجعل الآخر يصدق ما ستقوله، أن تقدم البرهان الكافي الدافع لما فعلت، أن تقنع الآخرين ضِعف ما أقنعت به نفسك قبل أن تستسلم لمشنقتك، خذ كل الوقت الذي يلزمك للسفر لماضيك، لتدرك الحقائق كما وقعت، أو كما خيل لك، فعندما نقرر أن نروي حكايتنا فليس بالضرورة أن ما سنقوله هو الحقيقة، قد تكون ما قد تصورناه كذلك فقط، من وجهة نظرنا على الأقل، وربما بأبعاد مختلفة، فقط افتح ملفك العمري واستعرض الحقائق كما تحب وحتى دون تجميلها، فهي حياتك وكفى". (ص.38)
هكذا ينص المقطع على أن الاستيقاظ من الحياة يُمكِّن الشخصية من الوقوف على ما عاشته، أو خُيل لها أنها عاشته. ولا يهم في النهاية أن تقول الحقيقة، وإنما ما تصورت أنه حقيقة، وربما أمكنها بذلك أن تنظر إليها بأبعادها المختلفة. بهذه الكيفية تجعل لَعبة الفانتاستيك من السرد وسيلة لعرض النسبي، واعتبار المتخيل في امتزاجه بالواقع، والحلم بالمعيش الفعلي، والمعقول باللامعقول، والجد بالعبث إمكانات لملامسة حقيقة زئبقية قد تكون هي حياة الشخصية. ومن ثم، فإن محكي هذه الشخصية يبدأ من لحظة خطفها من قريتها، وحضن أمها وجدتها لتعيش في حي هامشي بالمدينة لدى مختطفتها التي تطلق عليها (الغولة)، إلى فرارها من جحيم هذه المختطفة والتشرد في الشوارع والأزقة، ومكابدة شتى أشكال الاضطهاد والإقصاء، وحتى الانتحار والموت، ومن ثم حكي مسار الحياة من مشرحة المستشفى، وقد استيقظت من موت الحياة.
ومن خلال اللعبة الفانتاستيكية والاشتغال بالمحتمل، نرى السخرية والمفارقة تحكم سردية هذه الشخصية كما تحكمت في محكي بلقايد، ومن خلالهما تنبني بلاغة العبث.
3-بلاغة العبث في الرواية،
لا شك أن اللعبة الفانتاستيكية التي تنبني عليها الرواية اتخذت من بلاغة العبث في تشغيلها للمفارقة والسخرية منطلقا لكشف معاناة الشخصيات الروائية وتجلية لا واقعية ما يجري لها ومن حولها في حياة لا ندرك حقيقتها إلا في سياق استيقاظ من بعد الموت، أو في حالة وعي حاد ووضع شقي يجعلنا ندرك مدى فداحة الواقع وتفاهة الحياة. وهكذا تتجلى في الرواية عبثية تعيشها شخصيتها المحورية الأولى بلقايد، وتمتد إلى الشخصية المتخيلة التي تحكي من بعد موتها في مخطوطة بلقايد الروائية. ولعل هذا ما جعل شخصية بلقايد تشعر بنوع من الزهو لأنها انتصرت على ضياعها وتشتتها، وتمكنت من المزاوجة بين الموت والحياة في كتابتها، وبأن تجعل من الموت قيمة ووسيلة تعري بها موت الحياة ودخولها سراديب العبث. يقول السارد:
"جلس بلقايد مزهوا بأن منح شخصيته هذا التزاوج بين الحياة والموت يكاد يغبط نفسه لأنه حقق لها هذه الرغبة، هذا شعور لا يتأتى لأي أحد. تساءل كثيرا كيف استطاع فكره أن يرسم هذا الانشطار؟ وكيف استطاع بنفسيته المرتبكة أن يرسم هذا التوازن الشفاف بهذه الدقة وأن يمنحها كل هذا الرضا وهو الذي كان حبيس التشتت والضياع؟
أطال النظر بأوراقه ملتحفا إحساسه الغريب حول شخصيته الممددة بعد أن تم تشريحها ومع ذلك ما زالت تحس وتفكر وتتفاعل. أحس للحظة أنه شطح كثيرا بفكره لأنه ألبسها رغبته في مداعبة أنثوية، فإذا كان قد أجاز لنفسه أن يمنحها بعض الحرية لتغادر سريرها ولتتلصص على عالم الأحياء وأن تحلم وأن تبني مجموعة حيوات فكيف له الآن أن يتخطى الحدود ليجعل جثة شخصيته تتفاعل مع أنامل تغرس أظافر من حديد لتبين سبب الوفاة، فتثير رجولته؟" (الرواية، ص.125)
هكذا نرى أن مدار الرغبة وتطلع شخصية بلقايد إلى إثبات رجولته ضدا على سلطة الجد وقهره، قد تمثلت في شخصيته الميتة المتخيلة بحيث إنها، وهي جثة في مشرحة، يحركها شبق ما ورغبة في مداعبة أنثوية حتى لو كانت تحمل مشرطا وأدوات حادة. وبهذه الكيفية يتخذ العبث آفاقا سردية تكشف عمق الشخصية وحدة معاناتها وإشكالها في الحياة. ولعل هذا المقطع لا يخلو من مفارقة وهو يجعل الموت تحقيقا لرغبات موؤودة في الحياة، ولا شك أن القارئ يدرك ما تكتنزه اللحظة من كوميديا سوداء تدين القهر والتسلط وكل أشكال القمع التي تحرم الكائن وتنفي عنه إنسانيته. وبذلك، فإن بلاغة العبث، وهي تُشكل العوالم الفانتاستيكية في رواية "رائحة الموت"، تتخذ من المفارقة والسخرية في تجلياتها المختلفة مكونات أساس في بناء الدلالة وتشكيل رمزية الرواية.
في ضوء ما سلف، ومن خلال الإشارات التي ألمعنا إليها في هذه القراءة، يمكن القول إن رواية "رائحة الموت" من الروايات المغربية القليلة التي شكلت عوالمها الفانتاستيكية استنادا إلى متخيل ضارب في الواقعية، لكنه ينزاح بها ليجعل منها عالما شديد الغرابة، يدين هذا الواقع ويكشف اضطرابه وخلله. وقد تمكنت الكاتبة من توظيف إمكانات السخرية والمفارقة والكوميديا السوداء لتجلية العبث المستشري من حولنا، والذي يحكم حياتنا. وقد عملنا ما أمكن لتجلية هذا الاشتغال الفني في الرواية وكشف بعض أبعاده الدلالية والرمزية.
ليلى مهيدرة، رائحة الموت، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت، 2018.
يجد قارئ رواية "رائحة الموت" نفسه أمام لعبة فانتاستيكية تحكم عالم الرواية منذ الصفحة الأولى، فعلى غير المعهود، ومخالفة للمألوف لدى كتاب الرواية، نلفي الكاتبة تعلن أن روايتها من "نسج الواقع، وأي تشابه قد يكون مقصودا. فالأحداث حقيقية. قد يختلف المكان، قد يتغير الزمان، لكنها قد تكون قصة لشخص تعرفه ومن يدري لعلك المقصود" (ص. 6)
هكذا يضرب هذا التوضيح عرض الحائط بما درجنا عليه من إشارات إلى أن أحداث الرواية من نسج الخيال، وأن أي تشابه بين الشخصيات وبين أناس من الواقع محض صدفة.. وما شابه ذلك من الكلام الذي اعتاد الروائيون من خلاله تأكيد تميز فن الرواية بالإيهام، وتشكيل واقعه الخاص على أساس المتخيل. غير أن الكاتبة، وانطلاقا من الأفق الذي ارتضته لكتابتها السردية، تستفز متلقيها منذ البداية بتصديرها ذاك الذي يؤكد أن هذه الرواية من نسج الواقع وليس الخيال. وسيرى القارئ أن الخيال، هنا، ولَعبة الفانتاستيك هي جوهر هذا الواقع الغريب، وأن هذه الأحداث الحقيقية على الرغم من غرابتها وإمعانها في الفانتاستيكية هي الوجه الفعلي لواقع أغرب من الخيال.
وقبل التصدير الذي وقفنا عنده نرى الحمولة الفانتاستيكية للإهداء الذي وجهته الكاتبة إلى الموت، قائلة:" للموت الذي تفوح منا رائحته حتى في اللحظات الأكثر حياة" (ص.5)
وبعد هاتين العلامتين تورد الكاتبة عتبتين أولهما لعلي بن أبي طالب، وثانيتهما لبيير غابي تتحدثان عن الموت والحياة، ولهما ارتباط وثيق بالعوالم التي تنسجها الرواية. تؤكد الأولى أن الناس نيام حتى إذا ماتوا استيقظوا وانتبهوا، وتتساءل الثانية إن كانت هناك حياة قبل الموت. (ص. 7)
ومدار الرواية يتمحور حول انتباه شخصيتيها المحوريتين ومساءلتهما للحياة التي عاشها كل منهما من أفقه الخاص، واستنادا إلى وعي جديد بما يجري من حولهما. ومن هذا الأفق تتشكل لعبة الفانتاستيك في بلاغة عبثية سنجلي قسماتها في هذه القراءة.
تتقاطع في الرواية حكايتان، أو صوتان: أحدهما لشخصية كاتب يتم سرد معاناته وواقعه من طرف راو عالم عارف بدقائق حياته، وثانيهما حكاية شخصية متخيلة من خلق الكاتب بلقايد تحكي من بعد موتها حكايتها موظفة ضمير المتكلم. وعبر تداخل هذان الصوتان في الرواية وتشابك حكايتهما تنسج لعبتها الفانتاستيكية وتُشكل بلاغة العبث استنادا إلى المفارقة والسخرية باعتبارهما إمكانا روائيا يحقق الغايات الدلالية والترميزية المقصودة في الرواية.
1-حكاية بلقايد،
إن الحكاية الجوهرية للرواية، هي حكاية بلقايد الخمسيني الذي تطارده لعنة الجد (القائد) الظالم، فنبذته المدينة وعاش على الهامش، ولم تخلص له سوى أمه زينب، يُهيمن على حياته كابوس الجد. هذا الجد الذي يرفض الانتماء إليه، ويسعى إلى التخلص من أثره. يقول السارد مصورا حالة شخصية بلقايد التي تحيا وضعها الغريب وطقسها العبثي الخاص:
".. صار هذا الانتماء القسري لجده عبئا ثقيلا، فكان كلما عبر الممر الطويل بالبيت الكبير الذي يسكنه إلا وكتب اسمه في آخر قائمة المظلومين بعد اسم أمه طبعا، ليس لأنه يحمل وزر اسمه فقط، ولا لأنها ترملت قبل الأوان بعد أن قتل زوجها، وإنما لأن سلطة القايد استمرت حتى بعد موته برفض الناس له وعبر كوابيس تملي عليه وعلى والدته أوامره فيستيقظان من نومهما فزعين ساعيين لتلبيتها، وإلا لكان مصيرهما كمصير من كانت تروي له حكايتهم كل ليلة. ومن بينهم والده المختار. حاله لم يكن بأحسن من حال والدته زينب فهو أيضا ورث عنها قلقها وارتباكها والكابوس المتكرر كل ليلة وهو الذي لا يذكر من جده إلا فترات انهزامه الأخيرة. كان نصيبه هو كابوس مختلف ما كانت والدته لتصدقه حين يروي لها ما كان يحصل معه، ولا أي أحد يمكن أن يتفهم الأمر، فمن يمكن أن يقتنع أن سبب الآلام التي كانت توقظه كل ليلة هو جده الذي يتسلل إليه وهو نائم بعد أن ينتعل الحذاء العسكري الضخم ويضغط به على حجره ولا يرحمه مهما صرخ !؟" (الرواية، ص.16-17)
يجلي هذا المقطع المستشهد به عمق معاناة بلقايد الذي ما زالت وطأة سلطة الجد تقهره عبر إصداره لأوامره المتعسفة وإملائها عليه وعلى أمه زينب، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد فحسب، بل إن الجد يعمد إلى ممارسة عدوان سافر على حفيده ليئد رجولته وينزعها منه. وهكذا يتشخص حضور الجد من أفق فانتاستيكي واضح ليشكل منطق عبث يحكم حياة شخصية بلقايد ويجعلها تعيش آلاما متنوعة ناجمة عن تهميش جيرانه، وعن وضع اجتماعي مختل لم يجد فيه مكانه، وعن حضور كوابيس تلقي بثقلها على حياته. ولم تقف الرواية عند هذا البعد فقط في كشف عجائبية حياة بلقايد، بل نجد هذا العبث يمتد إلى سياقات أخرى يتصل بممارسة بلقايد الكتابة ومحاولته من خلالها رد الاعتبار لذاته المهمشة المكلومة، ويتمثل العبث في تعرض بلقايد للسجن لأنه كتب قصة قصيرة نشرها في إحدى الصحف، فاعتُبر سجين رأي من طرف السلطة، بينما لقي العنت والاضطهاد والسخرية الجارحة من السجناء الذين اعتبروه خائنا كجده لا سجين رأي. (ص. 51-52)
وبهذه الكيفية نرى في الحكاية الأولى خيوطا شتى لعبثية تضرب أطنابها في جوهر ما يجري لشخصية بلقايد، وقد كانت لعبة الفانتاستيك وسيلة جوهرية لكشف مكامن الخلل في واقع المجتمع وفي اختلال القيم الاجتماعية واضطراب الأحوال إلى درجة المفارقة. وقد ركز التصوير الساخر في الرواية على تجسيد هذه الأحوال جميعا مشكلا بلاغة عبث توازي فظاظة ما تمر به شخصية بلقايد. ولعل المقطع الذي استشهدنا به خير ما يعبر عن مناحي فانتاستيكية دالة في النص، بحيث إن فعل الجد الساعي إلى وئد رجولة حفيده نجد له امتدادا في النص إذ ظلت الشخصية تشكو من ألم مزمن بين فخذيها، وجعلتها تشك في رجولتها. وبذلك نجد هذا التداخل بين الحلمي والواقعي يحول المتخيل إلى أفق عبثي تتحكم فيه عوامل غير منطقية، ومن ثم يسهم الفانتاستيك في تشخيص خلل الواقع والحياة. هذه الحياة التي تسعى الرواية إلى تجلية تفاهتها، وعدميتها عبر حكاية بلقايد من جهة، ومن خلال حكاية شخصيته المتخيلة/ الميتة من جهة أخرى. ولا يخفى على المتلقي ما تحمله شخصية الجد من حمولات رمزية ودلالية، إذ إنها تمثل امتداد سلطة المستعمِر وجبروتها من جهة، وترمز إلى الماضي المزري الذي يتحكم في الحاضر ويعمل على جعل المستقبل كالحا أسود، من جهة أخرى.
2-حكاية الشخصية الميتة،
تتبع سردية المنتحِر خطا كرونولوجيا متتابعا تبدأ من فترة استعداده للانتحار مرورا بفعل الانتحار وحضور الشرطة والطبيبة والانتقال إلى المشرحة ثم الجنازة إلى أن ينتهي الأمر إلى التصريح بالدفن.. وتُدخلنا هذه السردية إلى عالم فانتاستيكي من خلال محكي هذه الشخصية المعنية وقد استيقظت (طبعا بموتها) لتروي تجربتها الحياتية وتقف عند عبث ما عاشته في واقع مختل وظروف سريالية قاسية. ولعل هذه الشخصية هي الوجه الثاني لشخصية بلقايد الذي عرف حياة لا تقل عبثا عن حالة شخصيته السردية. وفي محكي هذه الشخصية يتجلى الفانتاستيك في أجلى صوره، وتتشكل بلاغة العبث استنادا إلى المفارقة والسخرية في صور دالة تعري الواقع، وتبين أن الواقع أغرب من الخيال ذاته. تقول الشخصية ساردة حكايتها مفلسفة رؤيتها لماضيها من عالم الماوراء (الموت):
".. وأنت منتحر تمتلك كل الحق في إعادة رسم خيوط حياتك كما تحب، فقط عليك أن تكون مقنعا، القدرة على الإقناع وحدها تجعل الآخر يصدق ما ستقوله، أن تقدم البرهان الكافي الدافع لما فعلت، أن تقنع الآخرين ضِعف ما أقنعت به نفسك قبل أن تستسلم لمشنقتك، خذ كل الوقت الذي يلزمك للسفر لماضيك، لتدرك الحقائق كما وقعت، أو كما خيل لك، فعندما نقرر أن نروي حكايتنا فليس بالضرورة أن ما سنقوله هو الحقيقة، قد تكون ما قد تصورناه كذلك فقط، من وجهة نظرنا على الأقل، وربما بأبعاد مختلفة، فقط افتح ملفك العمري واستعرض الحقائق كما تحب وحتى دون تجميلها، فهي حياتك وكفى". (ص.38)
هكذا ينص المقطع على أن الاستيقاظ من الحياة يُمكِّن الشخصية من الوقوف على ما عاشته، أو خُيل لها أنها عاشته. ولا يهم في النهاية أن تقول الحقيقة، وإنما ما تصورت أنه حقيقة، وربما أمكنها بذلك أن تنظر إليها بأبعادها المختلفة. بهذه الكيفية تجعل لَعبة الفانتاستيك من السرد وسيلة لعرض النسبي، واعتبار المتخيل في امتزاجه بالواقع، والحلم بالمعيش الفعلي، والمعقول باللامعقول، والجد بالعبث إمكانات لملامسة حقيقة زئبقية قد تكون هي حياة الشخصية. ومن ثم، فإن محكي هذه الشخصية يبدأ من لحظة خطفها من قريتها، وحضن أمها وجدتها لتعيش في حي هامشي بالمدينة لدى مختطفتها التي تطلق عليها (الغولة)، إلى فرارها من جحيم هذه المختطفة والتشرد في الشوارع والأزقة، ومكابدة شتى أشكال الاضطهاد والإقصاء، وحتى الانتحار والموت، ومن ثم حكي مسار الحياة من مشرحة المستشفى، وقد استيقظت من موت الحياة.
ومن خلال اللعبة الفانتاستيكية والاشتغال بالمحتمل، نرى السخرية والمفارقة تحكم سردية هذه الشخصية كما تحكمت في محكي بلقايد، ومن خلالهما تنبني بلاغة العبث.
3-بلاغة العبث في الرواية،
لا شك أن اللعبة الفانتاستيكية التي تنبني عليها الرواية اتخذت من بلاغة العبث في تشغيلها للمفارقة والسخرية منطلقا لكشف معاناة الشخصيات الروائية وتجلية لا واقعية ما يجري لها ومن حولها في حياة لا ندرك حقيقتها إلا في سياق استيقاظ من بعد الموت، أو في حالة وعي حاد ووضع شقي يجعلنا ندرك مدى فداحة الواقع وتفاهة الحياة. وهكذا تتجلى في الرواية عبثية تعيشها شخصيتها المحورية الأولى بلقايد، وتمتد إلى الشخصية المتخيلة التي تحكي من بعد موتها في مخطوطة بلقايد الروائية. ولعل هذا ما جعل شخصية بلقايد تشعر بنوع من الزهو لأنها انتصرت على ضياعها وتشتتها، وتمكنت من المزاوجة بين الموت والحياة في كتابتها، وبأن تجعل من الموت قيمة ووسيلة تعري بها موت الحياة ودخولها سراديب العبث. يقول السارد:
"جلس بلقايد مزهوا بأن منح شخصيته هذا التزاوج بين الحياة والموت يكاد يغبط نفسه لأنه حقق لها هذه الرغبة، هذا شعور لا يتأتى لأي أحد. تساءل كثيرا كيف استطاع فكره أن يرسم هذا الانشطار؟ وكيف استطاع بنفسيته المرتبكة أن يرسم هذا التوازن الشفاف بهذه الدقة وأن يمنحها كل هذا الرضا وهو الذي كان حبيس التشتت والضياع؟
أطال النظر بأوراقه ملتحفا إحساسه الغريب حول شخصيته الممددة بعد أن تم تشريحها ومع ذلك ما زالت تحس وتفكر وتتفاعل. أحس للحظة أنه شطح كثيرا بفكره لأنه ألبسها رغبته في مداعبة أنثوية، فإذا كان قد أجاز لنفسه أن يمنحها بعض الحرية لتغادر سريرها ولتتلصص على عالم الأحياء وأن تحلم وأن تبني مجموعة حيوات فكيف له الآن أن يتخطى الحدود ليجعل جثة شخصيته تتفاعل مع أنامل تغرس أظافر من حديد لتبين سبب الوفاة، فتثير رجولته؟" (الرواية، ص.125)
هكذا نرى أن مدار الرغبة وتطلع شخصية بلقايد إلى إثبات رجولته ضدا على سلطة الجد وقهره، قد تمثلت في شخصيته الميتة المتخيلة بحيث إنها، وهي جثة في مشرحة، يحركها شبق ما ورغبة في مداعبة أنثوية حتى لو كانت تحمل مشرطا وأدوات حادة. وبهذه الكيفية يتخذ العبث آفاقا سردية تكشف عمق الشخصية وحدة معاناتها وإشكالها في الحياة. ولعل هذا المقطع لا يخلو من مفارقة وهو يجعل الموت تحقيقا لرغبات موؤودة في الحياة، ولا شك أن القارئ يدرك ما تكتنزه اللحظة من كوميديا سوداء تدين القهر والتسلط وكل أشكال القمع التي تحرم الكائن وتنفي عنه إنسانيته. وبذلك، فإن بلاغة العبث، وهي تُشكل العوالم الفانتاستيكية في رواية "رائحة الموت"، تتخذ من المفارقة والسخرية في تجلياتها المختلفة مكونات أساس في بناء الدلالة وتشكيل رمزية الرواية.
في ضوء ما سلف، ومن خلال الإشارات التي ألمعنا إليها في هذه القراءة، يمكن القول إن رواية "رائحة الموت" من الروايات المغربية القليلة التي شكلت عوالمها الفانتاستيكية استنادا إلى متخيل ضارب في الواقعية، لكنه ينزاح بها ليجعل منها عالما شديد الغرابة، يدين هذا الواقع ويكشف اضطرابه وخلله. وقد تمكنت الكاتبة من توظيف إمكانات السخرية والمفارقة والكوميديا السوداء لتجلية العبث المستشري من حولنا، والذي يحكم حياتنا. وقد عملنا ما أمكن لتجلية هذا الاشتغال الفني في الرواية وكشف بعض أبعاده الدلالية والرمزية.
ليلى مهيدرة، رائحة الموت، مؤسسة الرحاب الحديثة، بيروت، 2018.