محمد صفوت - غواية الرواية

ـ لا يخفى عن أعين المتابع هذا الكم الهائل من الروايات التى تصدرها دور النشر يومياً ، شخصياً أعتقد أن ما ينتجه الوطن العربى من روايات فى عام واحد حاليا ، يفوق ما كان ينتجه فى الماضى خلال عقد كامل ، طغيان الرواية على الأشكال الأدبية الأخرى واضح وملحوظ منذ فترة ، سجل لهذه الحالة د. جابر عصفور حين جعل العصر عصر الرواية ، وهو ما ذكره سابقا عميد الرواية العربية نجيب محفوظ عندما جعلها ديوان العصر الحديث ، ربما لأنها النمط الكتابي الأكثر انفتاحا على التجارب الإنسانية ، ربما لأنها تساعدنا على معرفة ذلك الجزء من حياتنا الذي لا يمكن الاطلاع عليه ، حيث المشاعر والعواطف الغامضة ، ربما لارتباطها بالمتخيل وبتراثنا الحكائى المفتون بالحكى والخيال منذ ألف ليلة ، ربما كل هذا صحيح ، وربما جذبت الرواية صنوفاً وشرائح مختلفة من القراء أغلبهم من الشباب ، وجدوا فى قراءة رواية لحظات من الهدوء والسكون تنقذهم من عالم آلى لاهث ومن واقع أخطبوطى يدهس أحلامهم ، المدهش أن هذا الشباب منذ سنوات قليلة مضت كان رهين الكتاب الدينى وشرائط بير السلم لوعاظ مغيبين ولكتب الجن وأهوال القيامة التى تفترش بها الأرصفة ، وربما هذا هو الجانب المُضىء فى المسألة برمتها ، لكنى هنا فقط اتحدث عن هذا الاستسهال الذى تُكتب به الروايات ، عن البعض الذين يقتحمون هذا الفن العظيم ويتم تدشينهم روائيين دون أن يتعمقوا فى قراءة الأدب العالمى ولا تاريخ الرواية ، ودون أن يمتلكوا ذائقة فنية ولا ثقافة ودراية بشتى الفنون والمعارف الأخرى كالموسيقى والمسرح والفن التشكيلى والفلسفة والتاريخ ، ولا عين نافذة قادرة على التحليل والانتباه إلى حركة المجتمع وحركة التاريخ من حولهم ، وقبل كل ذلك لا يتمتعون بلغة سليمة قبل أن تكون فنية وموحية .
كثيرون تجاسروا على الرواية ، فهل أصبحت الكتابة وجاهة اجتماعية ؟ هل يستثمرالبعض كتابة الرواية بديلا عن ( الهرى ) على صفحات التواصل الاجتماعى ؟
هل هذه المباشرة والركاكة التى يكتب بها البعض والتى وجدت سوقاً رائجا بين قـُراء مبتدئين يقبلون على كل ما هو سطحى وما يقدم لهم واجبات سريعة جاهزة تتناسب مع عقول لا تريد أن تفكر فتبتعد عن كل ما يثير تفكيرها أو يحفزها ويحرضها على الرفض ، فيكفيها غلاف أنيق وصورة لها مع الرواية بجوار فنجان من القهوة للتباهى على ( الفريندز ) بصفحة الفيس بوك .
قرأت لبعضهم حوارا مخجلا يتحدث مع أصحابه على صفحة الفيس بوك دون حياء بعد نشر روايته الأولى يقول "لم أكن أتوقع أن أكتب رواية ، ولم أقرأ رواية إلا منذ سنتين ، الموضوع سهل يا جماعة " لا أتصور أن روائيا يولد بهذه الطريقة ، الكاتب يولد كاتبا ، نزعة كتابة الرواية، بالأساس هي نزعة إنكار ورفض وتمرد، المتصالحون مع الذات ومع المجتمع لا يمكنهم إنجاز رواية جيدة ، كل هذا يحدث فى غفلة من حركة نقد قادرة على الفرز وعلى الردع وعلى التحجيم أو التنجيم ، تركت ذلك لشللية مواقع التواصل الاجتماعى ، شبكة من الكتاب ، يتناوبون الدعاية لبعضهم البعض ، ثم أراء انطباعية من القراء على شكل ريفيو ، ثم أرقام غالبة مـُزيفة عن عدد وهمي لطبعات متتالية من العمل الركيك ، ثم نبدأ فى كتابة عمل آخر.
خطورة ذلك كما قلت سابقا أن هذا يخلق ذائقة فاسدة لا يمكنها أن تتذوق أدبا حقيقيا ولا كتابة مغايرة ولا فناً يسعى إلى التجريب والبحث فى الطرق الوعرة ، ما هو إيجابى فى الظاهرة هو جذب شريحة من القراء إلى الرواية ، بعضهم سيرقى بالتدريج إلى كتابات آخرى حقيقة ، كما أن هذا السيل من الروايات والكتاب سيتبقى منه بالتأكيد بعد أن تهدأ العاصفة ويروق الجو كُتابٌ لهم أقدام صلبة وموهبة حقيقة يتعكزون عليها وسط ركام الزيف والوهم الخادع

تعليقات

ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...