ميخائيل ارتسيباشيف (1878–1927) من انبغ أدباء روسيا ، وأحد الكتّاب الأكثر شعبية في العصر الفضي للادب الروسي ، ولكنه يكاد يكون مجهولاً اليوم في العالم العربي - ليس بين القراء فحسب ، بل حتى لدى اهل الاختصاص - كالعديد من الادباء الروس المعروفين ، الذين هاجروا من روسيا بعد ثورة اكتوبر 1917 . وكانت الهجرة في عرف البلاشفة تعني الحكم بالاعدام الأدبي على الكاتب – ان صح التعبير- اي حظر نشر وتداول اعماله ، وشطب اسمه اينما ورد في البحوث والدراسات ، واسقاطه من الأدب الروسي تماما.
بعد عقود من الحظر والتجاهل والصمت ، عاد ارتسيباشيف الى القاريء الروسي مع من عاد اليه من الكتّاب والشعراء الروس الكبار المضطهدين : نيكولاي غوميلوف ( زوج الشاعرة آنّا أخماتوفا )، اوسيب ماندلشتام ، اسحاق بابل ،بوريس بيلنياك ، مارينا تسفيتايفا ، آنّا أخماتوفا ، أندريه بلاتونوف وعشرات غيرهم من الأدباء المعدومين أو المضطهدين أو المحظورين في العهد السوفيتي .
الآن يمكننا ان نقرأ مؤلفات ارتسيباشيف ، التي تصدر في طبعات متلاحقة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وحتى اليوم. ونطلع على منجزه الابداعي ، وعالمه الروحي .
من هو ارتسيباشيف ؟ وهل الموضوعات التي عالجها، والافكار التي طرحها في مؤلفاته ما تزال تحتفظ بقيمتها الفكرية والفنية ؟. وهل هي قريبة منا ومن عصرنا الراهن ؟ وما هي اهم خصائص اعماله الادبية ، التي كانت مثار جدل صاخب داخل روسيا، وخارجها ، خلال الربع الأول من القرن العشرين؟
من هو ارتسيباشيف ؟
ولد ارتسيباشيف في 5 نوفمبرعام 1878 في بلدة (ارخيتر) التابعة لمحافظة خاركوف الاوكرانية ، في عائلة من صغار النبلاء ، و كان والده ضابطا في الجيش القيصري ، ووالدته ربة بيت بولندية الأصل .
كان ارتسيباشيف محظوظا بان يولد ويعيش طفولته ومراهقته في منطقة هادئة ، رائعة الجمال ، والتي وصفها في اعماله الادبية وصف عاشق متيّم بسحر الطبيعة الخلابة فيها ، حيث المساحات الخضراء والغابات ونهر (فورسكلا ) . درس ارتسيباشيف خمس سنوات في المدرسة الثانوية ( جمناسيوم ) في ارخيتر ، وفصلا دراسيا واحدا في مدرسة الفنون التشكيلية في خاركوف ( 1897 – 1898 ) ، وحاول الالتحاق باكاديمية الفنون في بطرسبورغ العاصمة ، ولكن تم رفض طلبه لعدم حصوله على الشهادة الثانوية .
في عام 1897، اقدم ارتسيباشيف على محاولة انتحار باطلاق النار على نفسه . وكان لهذا الحادث المأساوي تأثير كبير في كتاباته المستقبلية ، وفي ادراكه لهموم الجيل الجديد ، ولمعنى الحياة.
ويقول الفنان يفغيني اغافونوف في مذكراته عن صديقه وزميله في الدراسة ارتسيباشيف :" كانت محاولة الأنتحار بسبب دراما عائلية مؤلمة. وحالته حرجة ، وميئوس منها تقريبًا ، فقد تغلغل الضماد عميقا افي الجرح مما ادى الى التهابه . وكانت ثمة مخاوف من تسمم الدم ، ولكنه نجا من الموت بإعجوبة " .
ويضيف اغافونوف فائلاً : " تعرّفت على ارتسيباشيف شخصيا عام 1897 في مدرسة خاركوف للفنون التشكيلية . كان مظهر الطالب الجديد مميزاً : فتى ضعيف البنية ، شاحب الوجه ، محدودب الظهر ، طويل الشعر ، ذو لحية سوداء ، ويرتدي دائماً قميصا اسود . وكان أشبه بجثة متحركة ".
ومنذ ذلك الحين كان ارتسيباشيف مريضاً طوال حياته ، ولم يعد ذلك الشاب الحالم ، بل اصبح شخصا منطويا على ذاته . وفي ما بعد كتب في سيرته الذاتية يقول : " كنت في التاسعة عشر من عمري عندما يئست من الحياة ، وحاولت الانتحار باطلاق النارعلى نفسي ، ولكن جرحي التئم بعد ثلاثة اشهر .ونهضتُ وقررتُ ان لا اطلق النار على نفسي مرة اخرى مهما كان السبب .
قضى ارتسيباشيف في مدرسة الفنون فصلا دراسياً واحداً ، أثبت خلاله أنه طالب موهوب ومتفوق . ومع ذلك ، كان وحيداً تماماً، وميالاً الى العزلة وصموتا، ربما بسبب الصمم ، الذي أصيب به منذ طفولته .
حياته الأدبية
بدأ أرتسيباشيف حياته الأدبية في عام 1894 بنشر مقالات في الصحف المحلية بمدينة خاركوف. وفي 27 يناير 1895 نشر قصته الاولى في صحيفة " يوزني كراي " عن انتحار تلميذ مدرسة ثانوية . وفي القصة ، وصف رهيب لمشاعر التلميذ بأدق تفاصيلها لحظة الانتحار . يقول ارتسيباشيف في سيرته الذاتية متهكماً على نفسه :
" في طفولتي كنت أريد أن أكون صيادًا ، لكني لم اكن أمانع أن أكون ضابطًا ، ثم حلمتُ ، لفترة طويلة جدًا أن أصبح فنانًا ، بيد انّي أصبحت كاتبا بشكل غير متوقع . حدث ذلك لأن إحدى الصحف في خاركوف دفعت لي ثمانية روبلات لقاء قصة قصيرة ، اشتريت بها اصباغًا للرسم ، ثمّ اردت الحصول على المزيد من المال ، فواصلت الكتابة ، وعند ذلك بدا لي الرسم مملاً، فتحولت الى الأدب .
انتقل ارتسيباشيف عام 1998 من خاركوف الى العاصمة بطرسبورغ . واخذ ينشر مقالات نقدية ، وملاحظات عن المعارض الفنية المقامة في العاصمة ، وقصصا مرحة ، ورسوما كاريكاتيرية في بعض المجلات الثقافية.
تزوج ارتسيباشيف في السنة ذاتها من فتاة طويلة القامة ، قصيرة الشعر، وصموت . كانت تبدو وكأنها تراقب زوجها طوال الوقت، وقد انجبا طفلا في عام 1899 سمّياه بوريس . ولكن هذا الزواج لم يدم سوى ثلاث سنوات حيث انفصلا عن بعضهما بسبب اختلاف شخصيتيهما ومنذ عام 1902 تفرغ ارتسيباشيف للأدب تماماً .
القصة الأولى (الجادة) التي اعتبرها آرتشيباشيف بداية لمسيرته الإبداعية هي "باشا تومانوف" . كتبها في عام 1901 وارسلها إلى إحدى المجلات الادبية المرموقة ، وهي مجلة "روسكي بوغاتستفا " ، ولكن الرقابة رفضت نشرها، ورأت النور بعد ذلك بعامين في مجلة أخرى هي ، "اوبرزفانيا". بحلول هذا الوقت ،كان الكاتب الشاب قد نشر العديد من القصص القصيرة ،منها " كوبريان " و " حامل الراية " و" الضحك " المنشورة عام 1902 وغيرها ، التي جمعها ونشرها في كتاب من مجلدين صدرا بين عامي 1904-1905 في بطرسبورغ . وقد لفتت هذه المجموعة نظرالأوساط الأدبية في روسيا ، ورحبت كبريات المجلات الادبية بظهور اسم جديد مثير للاهتمام في الأدب الروسي . كما اعتبرت روايته " موت لاندي " (1904) بمثابة حدث ادبي مهم . ومع ذلك ، كان عدد قليل من الناس يعرفون ان للكاتب مخطوطة رواية أخرى بعنوان " سانين" جاهزة للنشر منذ عام 1902 وستثير عند نشرها ضجة أدبية كبرى ..
رواية " سانين "
نشرت لأول مرة في مجلة "سوفريميني مير" بعددها الصادر في سبتمبر 1907. واقبل القرّاء الروس عليها اقبالا عظيما، واعتبرها معظم النقّاد ذروة اعمال الكاتب، في حين ندد بها عدد من النقاد والقراء المتزمتين الذين اتهموا الكاتب بالترويج للعدمية والاباحية . ولفتت الرواية انظار الأوساط الأدبية في العديد من بلدان العالم المتقدم ، وسرعان ما ترجمت الى عشرات اللغات الاجنبية بما فيها اليابانية .
كانت حبكة الرواية وافكار المؤلف مثيرة الى درجة انها تسببت في رفع دعاوى قضائية ضد ناشر الترجمة قي المانيا ، وضد مترجم الرواية في المجر .وتمت مصادرة الطبعة الثانية من الرواية في روسيا . وفي نهاية المطاف تم الأفراج عن الكتاب وتبرئة المتهمين بالترويج للاباحية - وهذه التهمة تبدو اليوم مضحكة لو قارنا بعض المشاهد الايروتيكية لرواية " سانين " مع ما تصدر اليوم في الشرق والغرب من روايات جنسية فاضحة - وتجدر الاشارة الى ان الكاتب المصري الراحل ابراهيم عبدالقادر المازني قد ترجم رواية " سانين " الى العربية نقلا عن الانجليزية ونشرها تحت عنوان " سانين أوابن الطبيعة " عام 1922 ، ولكن البعض اتهم المازني بالإنتحال ، وانه كتب رواية " ابراهيم الكاتب " تقليدا لرواية " سانين ، حيث تجد صدى آراء " سانين " واضحة في " ابراهيم الكاتب ". وهذه مسألة تستحق وقفة طويلة ، لسنا بصددها الآن .
كانت رواية " سانين " تعبيرا عن آراء الكاتب وتجسيدا لشخصيته تجسيدا فنيا رفيعا . ويبدو ان " سانين " - وهو لقب البطل الرئيسي للرواية - قد حجب ارتسيباشيف ، وكأن ارتسيباشيف ليس هو الذي كتب سانين ، بل ان سانين هو الذي كتب ارتسيباشيف وخلقه على صورته ومثاله .
الفكرة الرئيسية للرواية هي ان كل انسان بحاجة الى تلبية احتياجاته ورغباته الطبيعية . ولا يمل بطل الرواية فلاديمير سانين من تكرار القول : " ان الرغبة هي كل شيء ، والانسان يموت عندما تموت الرغبة في اعماقه. ومن يقتل رغباته انما يقتل نفسه ". يثمن سانين الشخصية الانسانية حسب قدرتها على تنمية الفرح والمتعة ، ويرى إن من لا يعرف كيف يستمتع بالحياة ، ويسعد الآخرين لا قيمة له . .
انصار الكاتب قالوا ان سانين هو" بطل زمانه " حيث وجدوا فيه ملامح الفكر الحي وصدق تصوير الحياة ، واسسوا جمعيات حملت اسم " السانينيون".
عبّرت الرواية بقوة عما نضج في المجتمع الروسي في اوائل القرن العشرين من احتجاج على جميع انواع القيود الاخلاقية والسياسية، وعلى المعتقدات والاغلال التي كانت تحد من حرية الانسان . ووجهت ضربة مؤثرة الى المعايير التقليدية لتقييم الشخصية الانسانية ، والى الذين اعطوا الحق لانفسهم في اصدار احكام قطعية حول الخير والشر ، وعما هو رفيع او وضيع ، والى الأحكام المسبقة للنفاق الاجتماعي التي فرضت على الكتّاب والمفكرين على مدى قرون عديدة ، ما يجوز وما لا يجوز اظهاره من خبايا النفس البشرية . وكانت تلك الاحكام تتجاهل حقيقة ان الانسان ليس تجسيدا لما هو مقدس ونقيي وسام فقط ، بل انه في الوقت نفسه يحمل في اعماقه الشر والخطيئة ، حيث تتعايش الروح السامية مع الرغبات الجسدية .
ثم كتب ارتسيباشيف عدة روايات قصيرة لعل اهمها " بقعة دم " و" الموجة البشرية" و " العامل شيفروف " حيث يصوّر فيها الناس البسطاء الروس خلال التغيرات الاجتماعية والسياسية في البلاد .
وتناول الكاتب في اعماله اللاحقة موضوعا ساخنا في المجتمع الروسي ، له صلة بسيرته الذاتية . وهو موضوع الانتحار. وكان اهم هذه الاعمال ، رواية بعنوان " عند الخط الاخير"( 1912) ، التي تعكس اليأس والاحباط وخيبة امل الناس في الشعارات الثورية ، وتعطشهم للسلام ، والتنوير الروحي ، عقب الأحداث الدموية التي رافقت الثورة الروسية الأولى عام 1905 .
اما رواية " امرأة واقفة في الوسط " فقد اثارت ايضا جدلاً حامياً بين القراء عموما والنقّاد والكتّاب على وجه الخصوص. كانت الآراء كالعادة متباينة وأحياناً متناقضة . قال البعض انها رواية تفضح المرأة ، وقال آخرون انها عن دناءة الرجال وبؤسهم الروحي ، وملحمة محزنة عن ضعف النساء . وانهيار الافكار الرومانسية النبيلة عن الحب .
موضوع المرأة لم يقتصر على هذه الرواية ، بل عالجه الكاتب في العديد من رواياته وقصصه القصيرة ، لعل اهمها " السعادة " و"المنتقم" و " قصة حب امرأة صغيرة " و" الغيرة ".
اثبت أرتسيباشيف في هذه الأعمال جدارته العالية ككاتب رفيع المستوى. وقال بعض النقاد أن ارتسيباشيف هو ( مونيه ) الأدب الروسي . ومونيه كما نعلم هو رائد المدرسة الانطباعية في الرسم .ثمة في اعمال ارتسيباشيف : الضؤ والهواء ، والورود والزهور، ونضارة الالوان ، و الشمس الساطعة ، خالقة الحياة ، الشمس التي تحوّل الطبيعة الى عالم من الالوان .
ارتسيباشيف كاتبا مسرحيا وسينمائيا
كتب ارتسيباشيف العديد من المسرحيات وسيناريوهات الافلام السينمائية . فقد حققت المسرحية الاولى التي كتبها عام 1913 وهي " الغيرة " نجاحا هائلا ، وفي العام التالي تم انتاج فيلم سينمائي مستوحاة من هذه المسرحية. وتوالت مسرحياته " الحرب " ( 1914) ، "قانون الوحشية " (1915) و" الاعداء " (1916) . و" الشيطان" (1925) ، التي بشجب فيها سفك الدماء . وكتب سيناريو فيلم " الروح " الذي شهد اقبالا واسعا ، الا ان الرقابة سرعان ما منعت الاستمرار في عرضه . ومن سيناريوهات الأفلام التي كتبها ارتسيباشيف ، " يوميات الاغواء" ، و " عار الفجور" ، و" المنتقم" ، و" الخط الأخير ".
ارتسيباشيف والبلاشفة
ما كان مقبولاً ورائجا من اعمال ارتسيباشيف في العهد القيصري، لم يعد كذلك بعد ثورة اكتوبر1917. فقد بدأت الأفكار الفلسفية لاعماله الأدبية تتناقض مع الخط الأيديولوجي والسياسي للبلاشفة ، الذين اتهموا الكاتب ببث روح التشاؤم والانحطاط في الأدب . ووصفوا اعماله بانها غير اخلاقية ، وان أفكار المؤلف تسبب أضراراً اجتماعية لا يمكن إصلاحها.
عارض آرتسيباشيف النظام البلشفي . ولم يقبل التكيّف مع الوضع السياسي والاجتماعي الجديد ، ورفض ان يكتب ما لا يشكل خطرا عليه . وسرعان ما تم حظر مؤلفاته داخل روسيا ، كالعديد من الكتاب المعروفين الذين رفضوا الخصوع لإملاءات البلاشفة . وبعد ست سنوات من حظر أعماله وتضييق الخناق عليه ، اضطر الى الهجرة الى بولندا وطن والدته . وكان معروفا على نطاق واسع لدى الجمهور البولندي من خلال أعماله الروائية والمسرحية المترجمة الى البولندية ، واصبح شخصية معروفة في الاوساط الثقافية البولندية وفي المجتمع المخملي في وارشو . وأصدر ارتسيباشيف فور استقراره في وارشو - بالتعاون مع كتّاب روس مهاجرين آخرين - صحيفة " من اجل الحرية ". وكانت لسلسلة مقالاته المناهضة للنظام البلشفي صداها الكبير لدى المهاجرين الروس في بولندا وفي البلدان الاوروبية عموما .
توفى ارتسيباشيف في الثالث من آذار عام 1927 بمرض السل المزمن الذي اصيب به منذ فترة طويلة . ولما كان الكاتب محظوراً في الاتحاد السوفيتي ، فقد نشرت مجلة " اغنيوك " - وكانت اوسع المجلات السوفيتية انتشاراً - خبر وفاته على النحو التالي : " مات في المهجر ميخائيل بتروفيتش ارتسيباشيف . ومن غير المرجح أن يحزن أي قاريء روسي لوفاة هذا الكاتب الروسي االمعروف في زمن ما ". ولكن الحقيقة هي ان الأوساط الأدبية الروسية تلقت خبر وفاة الكاتب بحزن بالغ ، وحتى الكتاّب الذين كانوا ينتقدون ارتسيباشيف قبل الثورة ، عبروا عن حزنهم العميق لرحيله ، وفي مقدمتهم مكسيم غوركي ، وأشادوا به ككاتب كبير وموهوب. ورغم الأجواء القمعية السائدة في البلاد ، اقام عدد من الأدباء الروس المعروفين حفلا تأبينيا للكاتب الراحل . وأصدرت احدى دور النشر الخاصة مختارات من أعماله الروائية والقصصية في ثلاثة مجلدات .
ارتسيباشيف كاتب اجتاز امتحان الزمن . وهو يحتل اليوم مكانة رفيعة بين كتاب العصر الفضي في الأدب الروسي .
بعد عقود من الحظر والتجاهل والصمت ، عاد ارتسيباشيف الى القاريء الروسي مع من عاد اليه من الكتّاب والشعراء الروس الكبار المضطهدين : نيكولاي غوميلوف ( زوج الشاعرة آنّا أخماتوفا )، اوسيب ماندلشتام ، اسحاق بابل ،بوريس بيلنياك ، مارينا تسفيتايفا ، آنّا أخماتوفا ، أندريه بلاتونوف وعشرات غيرهم من الأدباء المعدومين أو المضطهدين أو المحظورين في العهد السوفيتي .
الآن يمكننا ان نقرأ مؤلفات ارتسيباشيف ، التي تصدر في طبعات متلاحقة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وحتى اليوم. ونطلع على منجزه الابداعي ، وعالمه الروحي .
من هو ارتسيباشيف ؟ وهل الموضوعات التي عالجها، والافكار التي طرحها في مؤلفاته ما تزال تحتفظ بقيمتها الفكرية والفنية ؟. وهل هي قريبة منا ومن عصرنا الراهن ؟ وما هي اهم خصائص اعماله الادبية ، التي كانت مثار جدل صاخب داخل روسيا، وخارجها ، خلال الربع الأول من القرن العشرين؟
من هو ارتسيباشيف ؟
ولد ارتسيباشيف في 5 نوفمبرعام 1878 في بلدة (ارخيتر) التابعة لمحافظة خاركوف الاوكرانية ، في عائلة من صغار النبلاء ، و كان والده ضابطا في الجيش القيصري ، ووالدته ربة بيت بولندية الأصل .
كان ارتسيباشيف محظوظا بان يولد ويعيش طفولته ومراهقته في منطقة هادئة ، رائعة الجمال ، والتي وصفها في اعماله الادبية وصف عاشق متيّم بسحر الطبيعة الخلابة فيها ، حيث المساحات الخضراء والغابات ونهر (فورسكلا ) . درس ارتسيباشيف خمس سنوات في المدرسة الثانوية ( جمناسيوم ) في ارخيتر ، وفصلا دراسيا واحدا في مدرسة الفنون التشكيلية في خاركوف ( 1897 – 1898 ) ، وحاول الالتحاق باكاديمية الفنون في بطرسبورغ العاصمة ، ولكن تم رفض طلبه لعدم حصوله على الشهادة الثانوية .
في عام 1897، اقدم ارتسيباشيف على محاولة انتحار باطلاق النار على نفسه . وكان لهذا الحادث المأساوي تأثير كبير في كتاباته المستقبلية ، وفي ادراكه لهموم الجيل الجديد ، ولمعنى الحياة.
ويقول الفنان يفغيني اغافونوف في مذكراته عن صديقه وزميله في الدراسة ارتسيباشيف :" كانت محاولة الأنتحار بسبب دراما عائلية مؤلمة. وحالته حرجة ، وميئوس منها تقريبًا ، فقد تغلغل الضماد عميقا افي الجرح مما ادى الى التهابه . وكانت ثمة مخاوف من تسمم الدم ، ولكنه نجا من الموت بإعجوبة " .
ويضيف اغافونوف فائلاً : " تعرّفت على ارتسيباشيف شخصيا عام 1897 في مدرسة خاركوف للفنون التشكيلية . كان مظهر الطالب الجديد مميزاً : فتى ضعيف البنية ، شاحب الوجه ، محدودب الظهر ، طويل الشعر ، ذو لحية سوداء ، ويرتدي دائماً قميصا اسود . وكان أشبه بجثة متحركة ".
ومنذ ذلك الحين كان ارتسيباشيف مريضاً طوال حياته ، ولم يعد ذلك الشاب الحالم ، بل اصبح شخصا منطويا على ذاته . وفي ما بعد كتب في سيرته الذاتية يقول : " كنت في التاسعة عشر من عمري عندما يئست من الحياة ، وحاولت الانتحار باطلاق النارعلى نفسي ، ولكن جرحي التئم بعد ثلاثة اشهر .ونهضتُ وقررتُ ان لا اطلق النار على نفسي مرة اخرى مهما كان السبب .
قضى ارتسيباشيف في مدرسة الفنون فصلا دراسياً واحداً ، أثبت خلاله أنه طالب موهوب ومتفوق . ومع ذلك ، كان وحيداً تماماً، وميالاً الى العزلة وصموتا، ربما بسبب الصمم ، الذي أصيب به منذ طفولته .
حياته الأدبية
بدأ أرتسيباشيف حياته الأدبية في عام 1894 بنشر مقالات في الصحف المحلية بمدينة خاركوف. وفي 27 يناير 1895 نشر قصته الاولى في صحيفة " يوزني كراي " عن انتحار تلميذ مدرسة ثانوية . وفي القصة ، وصف رهيب لمشاعر التلميذ بأدق تفاصيلها لحظة الانتحار . يقول ارتسيباشيف في سيرته الذاتية متهكماً على نفسه :
" في طفولتي كنت أريد أن أكون صيادًا ، لكني لم اكن أمانع أن أكون ضابطًا ، ثم حلمتُ ، لفترة طويلة جدًا أن أصبح فنانًا ، بيد انّي أصبحت كاتبا بشكل غير متوقع . حدث ذلك لأن إحدى الصحف في خاركوف دفعت لي ثمانية روبلات لقاء قصة قصيرة ، اشتريت بها اصباغًا للرسم ، ثمّ اردت الحصول على المزيد من المال ، فواصلت الكتابة ، وعند ذلك بدا لي الرسم مملاً، فتحولت الى الأدب .
انتقل ارتسيباشيف عام 1998 من خاركوف الى العاصمة بطرسبورغ . واخذ ينشر مقالات نقدية ، وملاحظات عن المعارض الفنية المقامة في العاصمة ، وقصصا مرحة ، ورسوما كاريكاتيرية في بعض المجلات الثقافية.
تزوج ارتسيباشيف في السنة ذاتها من فتاة طويلة القامة ، قصيرة الشعر، وصموت . كانت تبدو وكأنها تراقب زوجها طوال الوقت، وقد انجبا طفلا في عام 1899 سمّياه بوريس . ولكن هذا الزواج لم يدم سوى ثلاث سنوات حيث انفصلا عن بعضهما بسبب اختلاف شخصيتيهما ومنذ عام 1902 تفرغ ارتسيباشيف للأدب تماماً .
القصة الأولى (الجادة) التي اعتبرها آرتشيباشيف بداية لمسيرته الإبداعية هي "باشا تومانوف" . كتبها في عام 1901 وارسلها إلى إحدى المجلات الادبية المرموقة ، وهي مجلة "روسكي بوغاتستفا " ، ولكن الرقابة رفضت نشرها، ورأت النور بعد ذلك بعامين في مجلة أخرى هي ، "اوبرزفانيا". بحلول هذا الوقت ،كان الكاتب الشاب قد نشر العديد من القصص القصيرة ،منها " كوبريان " و " حامل الراية " و" الضحك " المنشورة عام 1902 وغيرها ، التي جمعها ونشرها في كتاب من مجلدين صدرا بين عامي 1904-1905 في بطرسبورغ . وقد لفتت هذه المجموعة نظرالأوساط الأدبية في روسيا ، ورحبت كبريات المجلات الادبية بظهور اسم جديد مثير للاهتمام في الأدب الروسي . كما اعتبرت روايته " موت لاندي " (1904) بمثابة حدث ادبي مهم . ومع ذلك ، كان عدد قليل من الناس يعرفون ان للكاتب مخطوطة رواية أخرى بعنوان " سانين" جاهزة للنشر منذ عام 1902 وستثير عند نشرها ضجة أدبية كبرى ..
رواية " سانين "
نشرت لأول مرة في مجلة "سوفريميني مير" بعددها الصادر في سبتمبر 1907. واقبل القرّاء الروس عليها اقبالا عظيما، واعتبرها معظم النقّاد ذروة اعمال الكاتب، في حين ندد بها عدد من النقاد والقراء المتزمتين الذين اتهموا الكاتب بالترويج للعدمية والاباحية . ولفتت الرواية انظار الأوساط الأدبية في العديد من بلدان العالم المتقدم ، وسرعان ما ترجمت الى عشرات اللغات الاجنبية بما فيها اليابانية .
كانت حبكة الرواية وافكار المؤلف مثيرة الى درجة انها تسببت في رفع دعاوى قضائية ضد ناشر الترجمة قي المانيا ، وضد مترجم الرواية في المجر .وتمت مصادرة الطبعة الثانية من الرواية في روسيا . وفي نهاية المطاف تم الأفراج عن الكتاب وتبرئة المتهمين بالترويج للاباحية - وهذه التهمة تبدو اليوم مضحكة لو قارنا بعض المشاهد الايروتيكية لرواية " سانين " مع ما تصدر اليوم في الشرق والغرب من روايات جنسية فاضحة - وتجدر الاشارة الى ان الكاتب المصري الراحل ابراهيم عبدالقادر المازني قد ترجم رواية " سانين " الى العربية نقلا عن الانجليزية ونشرها تحت عنوان " سانين أوابن الطبيعة " عام 1922 ، ولكن البعض اتهم المازني بالإنتحال ، وانه كتب رواية " ابراهيم الكاتب " تقليدا لرواية " سانين ، حيث تجد صدى آراء " سانين " واضحة في " ابراهيم الكاتب ". وهذه مسألة تستحق وقفة طويلة ، لسنا بصددها الآن .
كانت رواية " سانين " تعبيرا عن آراء الكاتب وتجسيدا لشخصيته تجسيدا فنيا رفيعا . ويبدو ان " سانين " - وهو لقب البطل الرئيسي للرواية - قد حجب ارتسيباشيف ، وكأن ارتسيباشيف ليس هو الذي كتب سانين ، بل ان سانين هو الذي كتب ارتسيباشيف وخلقه على صورته ومثاله .
الفكرة الرئيسية للرواية هي ان كل انسان بحاجة الى تلبية احتياجاته ورغباته الطبيعية . ولا يمل بطل الرواية فلاديمير سانين من تكرار القول : " ان الرغبة هي كل شيء ، والانسان يموت عندما تموت الرغبة في اعماقه. ومن يقتل رغباته انما يقتل نفسه ". يثمن سانين الشخصية الانسانية حسب قدرتها على تنمية الفرح والمتعة ، ويرى إن من لا يعرف كيف يستمتع بالحياة ، ويسعد الآخرين لا قيمة له . .
انصار الكاتب قالوا ان سانين هو" بطل زمانه " حيث وجدوا فيه ملامح الفكر الحي وصدق تصوير الحياة ، واسسوا جمعيات حملت اسم " السانينيون".
عبّرت الرواية بقوة عما نضج في المجتمع الروسي في اوائل القرن العشرين من احتجاج على جميع انواع القيود الاخلاقية والسياسية، وعلى المعتقدات والاغلال التي كانت تحد من حرية الانسان . ووجهت ضربة مؤثرة الى المعايير التقليدية لتقييم الشخصية الانسانية ، والى الذين اعطوا الحق لانفسهم في اصدار احكام قطعية حول الخير والشر ، وعما هو رفيع او وضيع ، والى الأحكام المسبقة للنفاق الاجتماعي التي فرضت على الكتّاب والمفكرين على مدى قرون عديدة ، ما يجوز وما لا يجوز اظهاره من خبايا النفس البشرية . وكانت تلك الاحكام تتجاهل حقيقة ان الانسان ليس تجسيدا لما هو مقدس ونقيي وسام فقط ، بل انه في الوقت نفسه يحمل في اعماقه الشر والخطيئة ، حيث تتعايش الروح السامية مع الرغبات الجسدية .
ثم كتب ارتسيباشيف عدة روايات قصيرة لعل اهمها " بقعة دم " و" الموجة البشرية" و " العامل شيفروف " حيث يصوّر فيها الناس البسطاء الروس خلال التغيرات الاجتماعية والسياسية في البلاد .
وتناول الكاتب في اعماله اللاحقة موضوعا ساخنا في المجتمع الروسي ، له صلة بسيرته الذاتية . وهو موضوع الانتحار. وكان اهم هذه الاعمال ، رواية بعنوان " عند الخط الاخير"( 1912) ، التي تعكس اليأس والاحباط وخيبة امل الناس في الشعارات الثورية ، وتعطشهم للسلام ، والتنوير الروحي ، عقب الأحداث الدموية التي رافقت الثورة الروسية الأولى عام 1905 .
اما رواية " امرأة واقفة في الوسط " فقد اثارت ايضا جدلاً حامياً بين القراء عموما والنقّاد والكتّاب على وجه الخصوص. كانت الآراء كالعادة متباينة وأحياناً متناقضة . قال البعض انها رواية تفضح المرأة ، وقال آخرون انها عن دناءة الرجال وبؤسهم الروحي ، وملحمة محزنة عن ضعف النساء . وانهيار الافكار الرومانسية النبيلة عن الحب .
موضوع المرأة لم يقتصر على هذه الرواية ، بل عالجه الكاتب في العديد من رواياته وقصصه القصيرة ، لعل اهمها " السعادة " و"المنتقم" و " قصة حب امرأة صغيرة " و" الغيرة ".
اثبت أرتسيباشيف في هذه الأعمال جدارته العالية ككاتب رفيع المستوى. وقال بعض النقاد أن ارتسيباشيف هو ( مونيه ) الأدب الروسي . ومونيه كما نعلم هو رائد المدرسة الانطباعية في الرسم .ثمة في اعمال ارتسيباشيف : الضؤ والهواء ، والورود والزهور، ونضارة الالوان ، و الشمس الساطعة ، خالقة الحياة ، الشمس التي تحوّل الطبيعة الى عالم من الالوان .
ارتسيباشيف كاتبا مسرحيا وسينمائيا
كتب ارتسيباشيف العديد من المسرحيات وسيناريوهات الافلام السينمائية . فقد حققت المسرحية الاولى التي كتبها عام 1913 وهي " الغيرة " نجاحا هائلا ، وفي العام التالي تم انتاج فيلم سينمائي مستوحاة من هذه المسرحية. وتوالت مسرحياته " الحرب " ( 1914) ، "قانون الوحشية " (1915) و" الاعداء " (1916) . و" الشيطان" (1925) ، التي بشجب فيها سفك الدماء . وكتب سيناريو فيلم " الروح " الذي شهد اقبالا واسعا ، الا ان الرقابة سرعان ما منعت الاستمرار في عرضه . ومن سيناريوهات الأفلام التي كتبها ارتسيباشيف ، " يوميات الاغواء" ، و " عار الفجور" ، و" المنتقم" ، و" الخط الأخير ".
ارتسيباشيف والبلاشفة
ما كان مقبولاً ورائجا من اعمال ارتسيباشيف في العهد القيصري، لم يعد كذلك بعد ثورة اكتوبر1917. فقد بدأت الأفكار الفلسفية لاعماله الأدبية تتناقض مع الخط الأيديولوجي والسياسي للبلاشفة ، الذين اتهموا الكاتب ببث روح التشاؤم والانحطاط في الأدب . ووصفوا اعماله بانها غير اخلاقية ، وان أفكار المؤلف تسبب أضراراً اجتماعية لا يمكن إصلاحها.
عارض آرتسيباشيف النظام البلشفي . ولم يقبل التكيّف مع الوضع السياسي والاجتماعي الجديد ، ورفض ان يكتب ما لا يشكل خطرا عليه . وسرعان ما تم حظر مؤلفاته داخل روسيا ، كالعديد من الكتاب المعروفين الذين رفضوا الخصوع لإملاءات البلاشفة . وبعد ست سنوات من حظر أعماله وتضييق الخناق عليه ، اضطر الى الهجرة الى بولندا وطن والدته . وكان معروفا على نطاق واسع لدى الجمهور البولندي من خلال أعماله الروائية والمسرحية المترجمة الى البولندية ، واصبح شخصية معروفة في الاوساط الثقافية البولندية وفي المجتمع المخملي في وارشو . وأصدر ارتسيباشيف فور استقراره في وارشو - بالتعاون مع كتّاب روس مهاجرين آخرين - صحيفة " من اجل الحرية ". وكانت لسلسلة مقالاته المناهضة للنظام البلشفي صداها الكبير لدى المهاجرين الروس في بولندا وفي البلدان الاوروبية عموما .
توفى ارتسيباشيف في الثالث من آذار عام 1927 بمرض السل المزمن الذي اصيب به منذ فترة طويلة . ولما كان الكاتب محظوراً في الاتحاد السوفيتي ، فقد نشرت مجلة " اغنيوك " - وكانت اوسع المجلات السوفيتية انتشاراً - خبر وفاته على النحو التالي : " مات في المهجر ميخائيل بتروفيتش ارتسيباشيف . ومن غير المرجح أن يحزن أي قاريء روسي لوفاة هذا الكاتب الروسي االمعروف في زمن ما ". ولكن الحقيقة هي ان الأوساط الأدبية الروسية تلقت خبر وفاة الكاتب بحزن بالغ ، وحتى الكتاّب الذين كانوا ينتقدون ارتسيباشيف قبل الثورة ، عبروا عن حزنهم العميق لرحيله ، وفي مقدمتهم مكسيم غوركي ، وأشادوا به ككاتب كبير وموهوب. ورغم الأجواء القمعية السائدة في البلاد ، اقام عدد من الأدباء الروس المعروفين حفلا تأبينيا للكاتب الراحل . وأصدرت احدى دور النشر الخاصة مختارات من أعماله الروائية والقصصية في ثلاثة مجلدات .
ارتسيباشيف كاتب اجتاز امتحان الزمن . وهو يحتل اليوم مكانة رفيعة بين كتاب العصر الفضي في الأدب الروسي .