الكثيرون على مر الأزمنة حاولوا وضع الضوابط الفاصلة بين الشعر والنثر، سواء بوضع التعريفات لكل منهما، أو بإلصاق الوصف على كل كلام جاء في شكل معين، أو به صفات معينة. وأظن أن لغة الشعر كانت هي الفيصل بين ما يمكن تصنيفه شعراً، وما يجب أن يوضع في خانة الأجناس الأدبية الأخرى. -فمثلاً- الشاعرية ليست من صفات النص الشعري دون غيره، وقد نلمسها في كتابات روائية، وربما من قرأ لحمور زيادة شوق الدرويش-مع اختلافي مع بعض مضمونها المعادي لمصر-، ولمنصورة عز الدين، أو واسيني الأعرج؛ سيجد أن الشاعرية ملازمة لكتاباتهم الروائية، وقد نلمسها في القصة القصيرة، ويحيى الطاهر عبد الله ليس عن القارئ ببعيد، بالرغم من ذلك ستظل هذه الأعمال تابعة لما تنتمي إليه من أجناس إبداعية، والحق أن الشاعرية إذا فقدتها أيّةُ كتابة فقد فقدت أهم جواهرها، ولم يصنف أحد ألفية ابن مالك على أنها شعراً رغم أنها تستوفي شروط الوزن والقافية، والكلام الدال على معنى على حسب تعريف "قدامة". كذالك الدراما، هي قاسم مشترك بين كل الفنون.. فالصراع محرك الإبداع. ولكن تظل اللغة الشعرية هي ميزة الشعر من قديمه حتى الآن. ولغة الشعر ليست لها "كتالوج" يوضح ماهيتها بالضبط، فهي قد تختلف من عصر إلى عصر، فترتكز على البلاغة الاستعارية في زمن ما، أو على التخييل الإيحائي في زمن آخر، أو على تشيؤ النص، وقد وصل أن استخدم بياض الصفحات فوزعت عليه الجمل بطريقة معينة مولدة للمعاني.. وغير ذلك مما درسه النقاد أو لم يأت زمنه بعد. لكن تظل هناك للشعر خصوصيته؛ حتى لو غير جلده وثيابه المعتمدة على الوزن والقافية، وكتب بالنثر.
وفي هذه الحالة تكون الحاجة للشعرة الدقيقة بين لغة الشعر ولغة غيره أمَسّ. وليس عيباً أو نقصاً أن يوصف كلام ما بأنه في جنس أدبي غير الشعر، فكل فن له جمالياته ووظائفه التي لو كفى حاجة الإنسانية غيره ما لجأت إليه. والواقع أن ما لفت نظري في ديوان "العيون التي غادرت سريعاً" للشاعرة إسراء النمر هو وعيها بالفرق بين لغة الشعر ولغة النثر، بعد هذا سوف يأتي أي شيء، خاصة إذا كان الشاعر/ة صغير/ة السن. ففي الديوان الأول قد تجد الصوت ممزوجاً بأصوات كثيرة، وقل أن تصادف ملامح محددة للإبداع موضوعاً وشكلاً، رغم هذا ففي ديوان الشاعرة الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2020، نستطيع تتبع تجربة تُعلن عن نفسها في وضوح.
الشاعرة تعتمد نوع الشعر بالنثر كشكل فني، تكتب فيه تجاربها، والحقيقة أني أميل إلى مصطلح الشعر بالنثر، عن مصطلح شعر النثر، أو قصيدة النثر، من باب تنظيم الدلالة اللغوية. والشاعرة تعطي اللوحة الكلية للنص طاقة التعبير عن معانيها، مستغلة كافة المفردات والجمل، دون اعتماد على الصور ذات الأشكال الاستعارية، كما أنها لا تعتمد على الصور الجزئية كثيراً في نصوصها وفي كل الأحوال تسرد :"كان أبي يبحث عن مسمارٍ/ ليُعلق عليه صورته/ ولأن نظره ضعيف/ ولأنني نحيفة/ وقصيرة للغاية/ مد يده وأخذني/ وصار يدق بعنفٍ/ على رأسي/ حتى أدخل في الحائط/ لكنني لم أدخل/ وانفلتُّ من بين أصابعه/ نفخ أبي وقال: أستغفر الله/ وراح يتحسس الأرض/ لكنه لم يجدني/ إذْ كنتُ منزويةً في الركن/ أبكي/كمسمارٍ.. اعوجَّ للتو".
وكما هو واضح الاعتماد على السرد والتكوين التراكمي للمشهد من جمل تكمل بعضها بعضاً، صانعة نسيجاً حسياً من الروابط ما يجعله واحداً، ولولا أن أباها مد يده ليأخذها باعتبارها المسمار، لما رجعنا إلى باقي المفردات والجمل؛ لنستعيد تكوينها شعرياً ودلالياً، واعتبرنا أننا أمام نثر فني، وهُنا يكمن وعي الشاعرة بالفرق الدقيق بين الشعر، باعتباره لغة مجازية، والنثر كمعبّر مباشر عن المعنى، ولهذا كان لابد أن نُعيد قراءة النص بطريقة دالة أكثر من قراءته كتواصل مباشر عن شيء واقعي، وإن عبّر عن علاقة حقيقية تختزلها اللوحة، ولأن العلاقة بين الأب والبنت كانت علاقة يراها كل منهما من منظور، حيث الأب يراها علاقة استعمال واستمرار له "مسمارٍ/ ليُعلق عليه صورته"، والبنت تراها علاقة قهر وإلغاء "كنتُ منزويةً في الركن /أبكي"، كان من الطبيعي أن تنعت نظر الأب بالضعف، ولكن الضعف هنا ضعف رؤيا من الأب لا ضعف نظر، حيث حول العلاقة بينه وبين كائن حي آخر إلى علاقة استعمال لا علاقة تعايش، وهنا تظهر سطوة النص في وهج قدرة الشاعرة على توظيف المفردات؛ لتعطي ما تريده من دلالات، ولو كانت هذه المفردات خارج نص الشاعرة، يمكن أن تدل على معاني أخرى.
لكن من أين تكتسب إسراء النمر لغتها الشعرية؟ هذا يتضح في الديوان من قراءة بعض النصوص التي تعتمد على المشهدية. فهي لا تنقل المشاهد بحيادية أبداً، هي كالنحلة التي تمتص شيئاً لتفرزه شيئا آخر! "كان الولد/ الذي يمشي على ركبتيه/يُشبه الكلب كثيراً/ كان حقاً مثل كلب/ يشمُّ قطعة الخبز/ التي أعطتها له امرأة/ ويحرك رأسه حركة عشوائية/ ويترك لعابه يسيل/ ورغم ذلك لم أر ذيله/ كان له جناحان". إن الزخم في المشهد يأتي من نقطتين والشاعرة ثالثتهما؛ النقطة الأولى في تشبيه الولد بالكلب، والكلب حيوان يجمع كل التناقضات في المخيلة المصرية تحديداً، فهو المنبوذ لأنه نجس كما يوصي بذلك الدين الذي يتبعه معظم المصريين، وهو الصديق الوفي والحارس الأمين كما تثبت تجاربهم الحياتية، وهو الذي له وضعه الجمالي والاستراتيجي عند بعض الطبقات العليا من المجتمع، لذا فهو المستأنس المحبوب والمتروك في الشوارع غالباً، والمدلل قليلاً!، النقطة الثانية تكمن في حسن الخاتمة والتي استبدلت جناحين بالذيل فتأتي المفارقة بين البداية المشاهدة بالعين "الذي يمشي على ركبتيه" وهذا زحف على الأرض، والخاتمة المتولدة من الرؤيا الشاعرة "لم أر ذيله/ كان له جناحان" وهذا الطيران في السماء، المشهد مؤلم وشيء إنساني يستحق التعاطف معه، لكن كما يُقال: "التعاطف وحده لا يكفي"، فماذا تملك الشاعرة غير الحلم لمن تعاطفت معه؟ لقد وهبته جناحين من الحلم في قصيدتها.
وإذا كانت إسراء النمر في النص السابق قد رصدت من خارج المشهد، فهي في نص آخر توحدت مع المرصود "البقال/ الذي رَشَّني بالماء/ هذا النهار/ لم يكن يقصد -للأمانة-/ أن يُبلِّلني/ ظنَّ أني شارعٌ/ وحتى لا أخيب ظنه ذبتُ تماماً في الوحل/ وحين مرت سيارة مسرعة من أمامه/ وجدني عالقة/ على شاربه/ وعلى ساعديه/ وبنطاله الساقط".
الجملة المحورية في هذه المقطوعة "وحتى لا أخيب ظنه/ ذبتُ تماماً في الوحل" فقد توحدت السائرة مع الوحل الذي هو صناعة من في يده الماء، وفجرت طاقة اللغة بـ"ظن أني شارع" فكيف للعين الآدمية ألا تفرق بين طريق وإنسان؟! إنما ماذا تعني شارع هنا؟ ليس أمام المتلقي غير الدلالة التي يفجرها باقي الحدث، والتي يمكن أن تمنحنا إيحاءً يصلح للانفتاح على معان مشِيرة، وليست محددة. لكن الغاية المقصودة من النص دلالياً وصلت بطريقة ما، فرد الفعل على الفعل هو الفكرة العقلية التي حركت الحس الشعري فجاء النص دائري المعنى ترد خاتمته على بدايته.
قد نرى في النصوص نمواً درامياً، حيث ذلك الصراع في المقطوعة الأولى "مسمار أبي"، والذي عبرت عنه الأفعال المضارعة يبحث، يعلق، يدق، مقابل لم أدخل، انفلتُ، حتى أخر الصراع "منزويةً في الركن أبكي كمسمارٍ.. اعوجَّ للتو"، وقد تمنحنا رؤيا حسية مدمجة مع دراما في ظلال النص، ففي المقطوعة الثانية "ولد يمشي على ركبتيه" حيث اللجوء لتوليد أجواء خلف الكلمات بفعل الطاقة الحسية التي تحملها المفردات والجمل "يشم قطعة الخبز، يحرك رأسه، يترك لعابه"، وقد تنتج لنا نصوصاً تفاعلية يبدو فيها الحوار بالمشاعر مثلما في المقطوعة الثالثة "ظن أني شارع" حيث لكل فعل رد فعل، وطاقة حركية لا تنفد، لكن الفيصل بين النثر الخالص والشعر دائما كما أسلفنا كانت هي اللغة الشعرية القادرة على نقل العمل من المعاني المباشرة لمعان دلالية.
اعتمدت إسراء النمر على التكثيف، فرغم أن معظم القصائد تعكس تعاملاً مع الحياة في حضور آخرين، فقصائدها قصيرة، إذ يدور كل نص في محيط محدد، وإن كانت نصوص الديوان كلها تمثل مجموعة تدور في فلك واحد هو الشاعرة "أنا حوائطُ غرفتي/ كُلما حلّ الليل/ تبكي". هذا نص كامل، لكنه مَرْكَز دوران كل القصائد، والتي بطلتها الشاعرة؛ كما أن اهتمام الشاعرة بتفاصيل الذات الجسدية مثل اليد والقلب والصدر، والمحيط الملاصق مثل الأب والأم كل هذا يُعزز الغنائية، رغم أن الديوان بالنثر، الغنائية ممتدة من أول الديوان والذي بدأته بقولها " أنا نباح الكلابِ/ أنا مواء القططِ/ أنا صراخ الرُّضَّع بعد الواحدة/ أنا النوافذ التي تنطفئ واحدًة تلو واحدة"، فالإعلان عن الذات بالأنا هو تقديم غنائي يحتفل بانعكاسات الحياة على صفحة الشاعرة، وحتى آخر جمل الديوان، ورغم أنها بعنوان "لوركا" وهو الشاعر العالمي، فإن الخطاب كان على لسان الشاعرة والتي توحدت معه:"لن أوصي/ بأن تُفتح الشرفات حين أموت/ أو تُحرق قصائدي/ ولن أسمح لأحدٍ أن يقترب من جسدي/ لديّ من الطير ما يكفي/ ليأكلني".
والغنائية هُنا تحتفل بالذات في وجودها الإنساني المتفاعل مع محيطها فهي تتحاور مع الأب والأم والبيت والشعر العالمي والأصدقاء والأحداث والطريق؛"أريد أن يكون الطريق جسدي/ أريد أن يكون جسدي الطريق/ أن يودَّ الناسُ المشي عليّ/ ولا يصلون".
يعبر ديوان "العيون التي غادرت سريعاً" عن تجربة إنسانية مفتوحة على الحياة رغم أنها تُدرك كم الصراع في وجودها، وربما كانت الدراما الحاضرة في جميع النصوص تعبر عن هذا الوعي:"الوحشة لم تصدق نفسها/ وهرولت بعيداً/ بينما بدأ الليل/ يا لدمي الهارب/ يزحف على بطنه/ باتجاهي". فلو اعتبرنا أن الدم في دورة دائمة ما إن تنتهي حتى تبدأ، فإن الوحشة لا عاصم لها من أن تظل، فكلما وصل الإنسان في الحياة إلى نقطة وظن أنه استقر؛ فاجأته الحياة بحاجته لخطوة أخرى؛ لكي يخطوها تحتويه الوحشة والحنين للوصول، وهكذا يستعيده الصراع أو يعود هو إليه رغم المعاناة التي تعبر عنها قائلة "حين أعود إلى البيت/ أستحم مباشرةً/ لأتخلص من هؤلاء/ الذين علقوا بجسدي"، إنه صراع حتى التلاحم المكروه مع "الذين دهسوا قلبي دون قصد"، أو التلاحم الذي يجلب التعاطف دون مقدرة على تقديم شيء مع "الذين بلا ذراعين/ أو ساقين/ الذين يضحكون/ بلا سبب/ والذين يبكون/ لأن رؤوسهم/ كلما مشوا/ تقع منهم".
ورغم انعكاسات المشهدية، فالديوان يخلوا من ذكر مشهديات مباشرة كما شاع في قصيدة النثر، إذ يرصد مشاهد مختزلة تمر على الشاعرة، وهذا الاختزال أعطاها حضوراً رمزياً لا نقلاً استعراضياً مثل أن يغلق الباب على أصابعها ولا تستطيع تخليصها فتُبتر، ويجدها شخص؛ "وحين لا يجد صاحباً لها/ يزرعها في تربة/ فتطرح شجرة من الأصابع/ يقطف منها/ كل من ينغلق الباب/ على أصابعه". إن الرغبة في الحضور الدائم لم تقف عند استشهاد أصابعها في محاولة فتح باب للحياة أو في الحياة، لكنها رغبة في الخلود عن طريق التناسخ المستمر ولو بعد الدفن "يزرعها في تربة"، وتربة لها مفهومان فهي تُفهم على أنها الحقل وتُفهم عند كثير من العامة على أنها مكان الدفن للموتى، والدفن عند المصريين هو الخلود، حتى أن المصري يقول لمن يحب "أموت فيك" دلالة على الخلود الأبدي في قلب المحبوب. واستخدام طاقة اللفظ الشائعة لا المعجمية تكمن أيضا في "يقطف"، فالقطاف دائما عند العامة للخير والجمال، مثل قطف العسل وقطف الزهرة، وهي دلالة على الرغبة في العطاء بجانب الحضور لكي يكون ليس مجرد تواجد ولكنه تفاعل إيجابي ومستمر، فالقطاف غالباً من الأشياء المتجددة، فنقول قطفة أولى وقطفة ثانية.. إلخ، مع استمرار مصدر العطاء الذي له قدرة على التجدد، في حين أن الحصاد هو نتيجة جمع عطاء لمرة واحدة كمكافأة مقابل عمل.
وأظن أن تداخل الشائع والمعجمي يدل على رغبتها الجامحة للحضور الحي، كما أن تمردها الواضح على أن تكون مجرد مسمار يحمل صورة الأب، أو مجرد متدربة عند الأم تحمل أفكارها دال على التجدد: "اليوم شهقت/ حين دخلتْ عليّ/ كانت كل شعرة/ تنبت رأساً"، كما أن الرغبة في معاركة الحياة والتجريب موجودة في ذكرها للنوافذ والأبواب، رغم هذا تتعامل مع ما يدخلها بحذرٍ، فهي تريد أن تكون نفسها، حتى لو استفادت من تجارب الآخرين "حتى صار صدري مُمتلئاً بالعابرين/ والشحاذين/ والتائهين/ والذين يعرفون أيضاً/ طريقهم/ ما يُخيفني/ ليس أن صدري/ لم يعد به مكان لمزيدٍ منهم/ ما يُخيفني/ هو أن يفكر أحدهم/ أن يطل برأسه/ ويباغتني".
وكما يليق بشاعرة شابة في مرحلة اكتساب المعارف فهي تبحث دائماً عن زيادة معارفها والرغبة في اختبار المعارف: "لكن الباب هو الآخر/ لا يستقر على حالٍ/ أحياناً أجدهُ مكان السقف/ وأحياناً أجدهُ مكان الشرفة/ ومرةً وجدتُهُ مكان باب الثلاجة".
بوجه عام، ديوان "العيون التي غادرت سريعاً" فيه مبشرات كثيرة بشاعرة، ولا شك أنها مستقبلا ستخلص لغتها من التأثر الموضوعي ببعض النصوص الشائعة ذائعة الصيت، ومن اللغة التي اعتادها غيرها، مثل البداية بالجمل المنفية التي شاعت عند النثريين مثل "لم تكن النافذة تريد سوى"، ويكفي أنك لا تمل وأنت تقرأ قصائدها، فهي مزيج من البساطة والطاقة الشعرية، التي تعبر عن رغبة جامحة في الحضور.
https://www.facebook.com/aboabdo.sefo/posts/2856882854399345
وفي هذه الحالة تكون الحاجة للشعرة الدقيقة بين لغة الشعر ولغة غيره أمَسّ. وليس عيباً أو نقصاً أن يوصف كلام ما بأنه في جنس أدبي غير الشعر، فكل فن له جمالياته ووظائفه التي لو كفى حاجة الإنسانية غيره ما لجأت إليه. والواقع أن ما لفت نظري في ديوان "العيون التي غادرت سريعاً" للشاعرة إسراء النمر هو وعيها بالفرق بين لغة الشعر ولغة النثر، بعد هذا سوف يأتي أي شيء، خاصة إذا كان الشاعر/ة صغير/ة السن. ففي الديوان الأول قد تجد الصوت ممزوجاً بأصوات كثيرة، وقل أن تصادف ملامح محددة للإبداع موضوعاً وشكلاً، رغم هذا ففي ديوان الشاعرة الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب 2020، نستطيع تتبع تجربة تُعلن عن نفسها في وضوح.
الشاعرة تعتمد نوع الشعر بالنثر كشكل فني، تكتب فيه تجاربها، والحقيقة أني أميل إلى مصطلح الشعر بالنثر، عن مصطلح شعر النثر، أو قصيدة النثر، من باب تنظيم الدلالة اللغوية. والشاعرة تعطي اللوحة الكلية للنص طاقة التعبير عن معانيها، مستغلة كافة المفردات والجمل، دون اعتماد على الصور ذات الأشكال الاستعارية، كما أنها لا تعتمد على الصور الجزئية كثيراً في نصوصها وفي كل الأحوال تسرد :"كان أبي يبحث عن مسمارٍ/ ليُعلق عليه صورته/ ولأن نظره ضعيف/ ولأنني نحيفة/ وقصيرة للغاية/ مد يده وأخذني/ وصار يدق بعنفٍ/ على رأسي/ حتى أدخل في الحائط/ لكنني لم أدخل/ وانفلتُّ من بين أصابعه/ نفخ أبي وقال: أستغفر الله/ وراح يتحسس الأرض/ لكنه لم يجدني/ إذْ كنتُ منزويةً في الركن/ أبكي/كمسمارٍ.. اعوجَّ للتو".
وكما هو واضح الاعتماد على السرد والتكوين التراكمي للمشهد من جمل تكمل بعضها بعضاً، صانعة نسيجاً حسياً من الروابط ما يجعله واحداً، ولولا أن أباها مد يده ليأخذها باعتبارها المسمار، لما رجعنا إلى باقي المفردات والجمل؛ لنستعيد تكوينها شعرياً ودلالياً، واعتبرنا أننا أمام نثر فني، وهُنا يكمن وعي الشاعرة بالفرق الدقيق بين الشعر، باعتباره لغة مجازية، والنثر كمعبّر مباشر عن المعنى، ولهذا كان لابد أن نُعيد قراءة النص بطريقة دالة أكثر من قراءته كتواصل مباشر عن شيء واقعي، وإن عبّر عن علاقة حقيقية تختزلها اللوحة، ولأن العلاقة بين الأب والبنت كانت علاقة يراها كل منهما من منظور، حيث الأب يراها علاقة استعمال واستمرار له "مسمارٍ/ ليُعلق عليه صورته"، والبنت تراها علاقة قهر وإلغاء "كنتُ منزويةً في الركن /أبكي"، كان من الطبيعي أن تنعت نظر الأب بالضعف، ولكن الضعف هنا ضعف رؤيا من الأب لا ضعف نظر، حيث حول العلاقة بينه وبين كائن حي آخر إلى علاقة استعمال لا علاقة تعايش، وهنا تظهر سطوة النص في وهج قدرة الشاعرة على توظيف المفردات؛ لتعطي ما تريده من دلالات، ولو كانت هذه المفردات خارج نص الشاعرة، يمكن أن تدل على معاني أخرى.
لكن من أين تكتسب إسراء النمر لغتها الشعرية؟ هذا يتضح في الديوان من قراءة بعض النصوص التي تعتمد على المشهدية. فهي لا تنقل المشاهد بحيادية أبداً، هي كالنحلة التي تمتص شيئاً لتفرزه شيئا آخر! "كان الولد/ الذي يمشي على ركبتيه/يُشبه الكلب كثيراً/ كان حقاً مثل كلب/ يشمُّ قطعة الخبز/ التي أعطتها له امرأة/ ويحرك رأسه حركة عشوائية/ ويترك لعابه يسيل/ ورغم ذلك لم أر ذيله/ كان له جناحان". إن الزخم في المشهد يأتي من نقطتين والشاعرة ثالثتهما؛ النقطة الأولى في تشبيه الولد بالكلب، والكلب حيوان يجمع كل التناقضات في المخيلة المصرية تحديداً، فهو المنبوذ لأنه نجس كما يوصي بذلك الدين الذي يتبعه معظم المصريين، وهو الصديق الوفي والحارس الأمين كما تثبت تجاربهم الحياتية، وهو الذي له وضعه الجمالي والاستراتيجي عند بعض الطبقات العليا من المجتمع، لذا فهو المستأنس المحبوب والمتروك في الشوارع غالباً، والمدلل قليلاً!، النقطة الثانية تكمن في حسن الخاتمة والتي استبدلت جناحين بالذيل فتأتي المفارقة بين البداية المشاهدة بالعين "الذي يمشي على ركبتيه" وهذا زحف على الأرض، والخاتمة المتولدة من الرؤيا الشاعرة "لم أر ذيله/ كان له جناحان" وهذا الطيران في السماء، المشهد مؤلم وشيء إنساني يستحق التعاطف معه، لكن كما يُقال: "التعاطف وحده لا يكفي"، فماذا تملك الشاعرة غير الحلم لمن تعاطفت معه؟ لقد وهبته جناحين من الحلم في قصيدتها.
وإذا كانت إسراء النمر في النص السابق قد رصدت من خارج المشهد، فهي في نص آخر توحدت مع المرصود "البقال/ الذي رَشَّني بالماء/ هذا النهار/ لم يكن يقصد -للأمانة-/ أن يُبلِّلني/ ظنَّ أني شارعٌ/ وحتى لا أخيب ظنه ذبتُ تماماً في الوحل/ وحين مرت سيارة مسرعة من أمامه/ وجدني عالقة/ على شاربه/ وعلى ساعديه/ وبنطاله الساقط".
الجملة المحورية في هذه المقطوعة "وحتى لا أخيب ظنه/ ذبتُ تماماً في الوحل" فقد توحدت السائرة مع الوحل الذي هو صناعة من في يده الماء، وفجرت طاقة اللغة بـ"ظن أني شارع" فكيف للعين الآدمية ألا تفرق بين طريق وإنسان؟! إنما ماذا تعني شارع هنا؟ ليس أمام المتلقي غير الدلالة التي يفجرها باقي الحدث، والتي يمكن أن تمنحنا إيحاءً يصلح للانفتاح على معان مشِيرة، وليست محددة. لكن الغاية المقصودة من النص دلالياً وصلت بطريقة ما، فرد الفعل على الفعل هو الفكرة العقلية التي حركت الحس الشعري فجاء النص دائري المعنى ترد خاتمته على بدايته.
قد نرى في النصوص نمواً درامياً، حيث ذلك الصراع في المقطوعة الأولى "مسمار أبي"، والذي عبرت عنه الأفعال المضارعة يبحث، يعلق، يدق، مقابل لم أدخل، انفلتُ، حتى أخر الصراع "منزويةً في الركن أبكي كمسمارٍ.. اعوجَّ للتو"، وقد تمنحنا رؤيا حسية مدمجة مع دراما في ظلال النص، ففي المقطوعة الثانية "ولد يمشي على ركبتيه" حيث اللجوء لتوليد أجواء خلف الكلمات بفعل الطاقة الحسية التي تحملها المفردات والجمل "يشم قطعة الخبز، يحرك رأسه، يترك لعابه"، وقد تنتج لنا نصوصاً تفاعلية يبدو فيها الحوار بالمشاعر مثلما في المقطوعة الثالثة "ظن أني شارع" حيث لكل فعل رد فعل، وطاقة حركية لا تنفد، لكن الفيصل بين النثر الخالص والشعر دائما كما أسلفنا كانت هي اللغة الشعرية القادرة على نقل العمل من المعاني المباشرة لمعان دلالية.
اعتمدت إسراء النمر على التكثيف، فرغم أن معظم القصائد تعكس تعاملاً مع الحياة في حضور آخرين، فقصائدها قصيرة، إذ يدور كل نص في محيط محدد، وإن كانت نصوص الديوان كلها تمثل مجموعة تدور في فلك واحد هو الشاعرة "أنا حوائطُ غرفتي/ كُلما حلّ الليل/ تبكي". هذا نص كامل، لكنه مَرْكَز دوران كل القصائد، والتي بطلتها الشاعرة؛ كما أن اهتمام الشاعرة بتفاصيل الذات الجسدية مثل اليد والقلب والصدر، والمحيط الملاصق مثل الأب والأم كل هذا يُعزز الغنائية، رغم أن الديوان بالنثر، الغنائية ممتدة من أول الديوان والذي بدأته بقولها " أنا نباح الكلابِ/ أنا مواء القططِ/ أنا صراخ الرُّضَّع بعد الواحدة/ أنا النوافذ التي تنطفئ واحدًة تلو واحدة"، فالإعلان عن الذات بالأنا هو تقديم غنائي يحتفل بانعكاسات الحياة على صفحة الشاعرة، وحتى آخر جمل الديوان، ورغم أنها بعنوان "لوركا" وهو الشاعر العالمي، فإن الخطاب كان على لسان الشاعرة والتي توحدت معه:"لن أوصي/ بأن تُفتح الشرفات حين أموت/ أو تُحرق قصائدي/ ولن أسمح لأحدٍ أن يقترب من جسدي/ لديّ من الطير ما يكفي/ ليأكلني".
والغنائية هُنا تحتفل بالذات في وجودها الإنساني المتفاعل مع محيطها فهي تتحاور مع الأب والأم والبيت والشعر العالمي والأصدقاء والأحداث والطريق؛"أريد أن يكون الطريق جسدي/ أريد أن يكون جسدي الطريق/ أن يودَّ الناسُ المشي عليّ/ ولا يصلون".
يعبر ديوان "العيون التي غادرت سريعاً" عن تجربة إنسانية مفتوحة على الحياة رغم أنها تُدرك كم الصراع في وجودها، وربما كانت الدراما الحاضرة في جميع النصوص تعبر عن هذا الوعي:"الوحشة لم تصدق نفسها/ وهرولت بعيداً/ بينما بدأ الليل/ يا لدمي الهارب/ يزحف على بطنه/ باتجاهي". فلو اعتبرنا أن الدم في دورة دائمة ما إن تنتهي حتى تبدأ، فإن الوحشة لا عاصم لها من أن تظل، فكلما وصل الإنسان في الحياة إلى نقطة وظن أنه استقر؛ فاجأته الحياة بحاجته لخطوة أخرى؛ لكي يخطوها تحتويه الوحشة والحنين للوصول، وهكذا يستعيده الصراع أو يعود هو إليه رغم المعاناة التي تعبر عنها قائلة "حين أعود إلى البيت/ أستحم مباشرةً/ لأتخلص من هؤلاء/ الذين علقوا بجسدي"، إنه صراع حتى التلاحم المكروه مع "الذين دهسوا قلبي دون قصد"، أو التلاحم الذي يجلب التعاطف دون مقدرة على تقديم شيء مع "الذين بلا ذراعين/ أو ساقين/ الذين يضحكون/ بلا سبب/ والذين يبكون/ لأن رؤوسهم/ كلما مشوا/ تقع منهم".
ورغم انعكاسات المشهدية، فالديوان يخلوا من ذكر مشهديات مباشرة كما شاع في قصيدة النثر، إذ يرصد مشاهد مختزلة تمر على الشاعرة، وهذا الاختزال أعطاها حضوراً رمزياً لا نقلاً استعراضياً مثل أن يغلق الباب على أصابعها ولا تستطيع تخليصها فتُبتر، ويجدها شخص؛ "وحين لا يجد صاحباً لها/ يزرعها في تربة/ فتطرح شجرة من الأصابع/ يقطف منها/ كل من ينغلق الباب/ على أصابعه". إن الرغبة في الحضور الدائم لم تقف عند استشهاد أصابعها في محاولة فتح باب للحياة أو في الحياة، لكنها رغبة في الخلود عن طريق التناسخ المستمر ولو بعد الدفن "يزرعها في تربة"، وتربة لها مفهومان فهي تُفهم على أنها الحقل وتُفهم عند كثير من العامة على أنها مكان الدفن للموتى، والدفن عند المصريين هو الخلود، حتى أن المصري يقول لمن يحب "أموت فيك" دلالة على الخلود الأبدي في قلب المحبوب. واستخدام طاقة اللفظ الشائعة لا المعجمية تكمن أيضا في "يقطف"، فالقطاف دائما عند العامة للخير والجمال، مثل قطف العسل وقطف الزهرة، وهي دلالة على الرغبة في العطاء بجانب الحضور لكي يكون ليس مجرد تواجد ولكنه تفاعل إيجابي ومستمر، فالقطاف غالباً من الأشياء المتجددة، فنقول قطفة أولى وقطفة ثانية.. إلخ، مع استمرار مصدر العطاء الذي له قدرة على التجدد، في حين أن الحصاد هو نتيجة جمع عطاء لمرة واحدة كمكافأة مقابل عمل.
وأظن أن تداخل الشائع والمعجمي يدل على رغبتها الجامحة للحضور الحي، كما أن تمردها الواضح على أن تكون مجرد مسمار يحمل صورة الأب، أو مجرد متدربة عند الأم تحمل أفكارها دال على التجدد: "اليوم شهقت/ حين دخلتْ عليّ/ كانت كل شعرة/ تنبت رأساً"، كما أن الرغبة في معاركة الحياة والتجريب موجودة في ذكرها للنوافذ والأبواب، رغم هذا تتعامل مع ما يدخلها بحذرٍ، فهي تريد أن تكون نفسها، حتى لو استفادت من تجارب الآخرين "حتى صار صدري مُمتلئاً بالعابرين/ والشحاذين/ والتائهين/ والذين يعرفون أيضاً/ طريقهم/ ما يُخيفني/ ليس أن صدري/ لم يعد به مكان لمزيدٍ منهم/ ما يُخيفني/ هو أن يفكر أحدهم/ أن يطل برأسه/ ويباغتني".
وكما يليق بشاعرة شابة في مرحلة اكتساب المعارف فهي تبحث دائماً عن زيادة معارفها والرغبة في اختبار المعارف: "لكن الباب هو الآخر/ لا يستقر على حالٍ/ أحياناً أجدهُ مكان السقف/ وأحياناً أجدهُ مكان الشرفة/ ومرةً وجدتُهُ مكان باب الثلاجة".
بوجه عام، ديوان "العيون التي غادرت سريعاً" فيه مبشرات كثيرة بشاعرة، ولا شك أنها مستقبلا ستخلص لغتها من التأثر الموضوعي ببعض النصوص الشائعة ذائعة الصيت، ومن اللغة التي اعتادها غيرها، مثل البداية بالجمل المنفية التي شاعت عند النثريين مثل "لم تكن النافذة تريد سوى"، ويكفي أنك لا تمل وأنت تقرأ قصائدها، فهي مزيج من البساطة والطاقة الشعرية، التي تعبر عن رغبة جامحة في الحضور.
https://www.facebook.com/aboabdo.sefo/posts/2856882854399345