كانت مشكلة القيم تحتل المرتبة الأولى فى المعركة ، ولهذا كان من المرغوب فيه خلال السنوات الأخيرة ان تبقى فى سلام لفترة من الزمن . ولقد تعرضت – أى مشكلة القيم – الى هجوم من جميع الاطراف ، وزعم البعض بأنها قد قهرت . لكن يبدو انه مازالت لدينا بعض الحيوية – مع ذلك – فى الحقيقة – تدعو قدرتها على الاحتمال الى الاهتمام . ومن الواضح أن المشكلة الحيوية فى الفكر الحالى، والاحداث فى أوروبا قد أنعشتها بدلا من اخماد حيويتها .
لقد كانت مشكلة الخير والحسن احدى المشكلات القديمة للفلسفة ، ولكن حتى وقت قريب نسبيا لم يكن لدى علم النفس اهتماما بها . فيبدو أنه لم يكن يميل الى مصطلحى الخير والخيرات ، ربما بسبب الدلالات الميتافيزيقة واللاهوتية لهما ، وربما بسبب موضوعيتهما ، وهكذا اعتمدت القيم على – وكيفت – المصطلحات الأكثر ملاءمة لهذه الاهداف ، وهى " القيمة " و الجدارة " . وقد استخلص هذين المصطلحين مع الكثير من الاهتمام السيكولوجى بهما من الاقتصاديين خاصة من تلك المدرسة السيكولوجية الأ لما نية .
فالاقتصايون الألمان الذين اهتموا بتطوير العلاقات التى تدعى عناصر " ذاتية " للمشاكل الاقتصادية وجدوا مشكلة ونظرية القيمة وعلاقاتها بالسعر والسلع والفائدة حقلا خصبا للتأمل ، وقد تخلصت المشكلة فى وقت قريب من القيود الاقتصادية المفروضة عليها وكان تناولها من قبل علماء النفس مثا " اهيرنفلز Ehrenfels " و " مينونج " ملائما . وسرعان ما نطلقت – على أيدى علماء النفس – مفردات جديدة بشكل كامل ، فسمعنا عن : " التقدير ، والشعور بالمطلق ، والثمين ، ومحمول القيمة ، وحكم القيمة ، وخبرة القيمة Wertgefutehl," "Gefuehl des )
Wertvollen," "worth predicates." "value absolut judgments," "worth experience )
من ثم ، فمن الواضح أن مشكلة القيم نشأت بشكل مستقل عن النظرية الاخلاقية . ولم تكن النظرية الاخلاقية – فى الوقت نفسه – ضيفا على المناهج العلمية التى عمل علماء النفس على ادخالها ، فلم يحرص علماء النفس على أن يصبحوا متورطين فى النظرية الترانسندنتا لية وعلم الاخلاق الشكلى . واذا كان هناك على كلا الجانبين الميل الى السماح لكليها بالمضى كل بطريقته الخاصة . كان علماء النفس – على سبيل المثال – لا يرغبون فى الاختلاط بالاخلاق المعيارية ، واكتشفوا علم القيم .
بعد افتراق الطرق – لحسن الحظ أو لسوئه – واصلت المسارات فى التباعد . كان علم النفس وعلم الأخلاق متجهين الى نفس المكان ، وتقرير خصال الانسان ، ولكن كلا منهما ادعى أنه يعرف الطريق أفضل من الآخر وهكذا افترقا . لقد ظلا متباعدين حتى يومنا هذا ، وظلت مشكلة القيم فى معظم الحالات مشكلة مستقلة حتى المناقشات الأخيرة . ومع ذلك – توجد علامات للمصالحة اليوم .
فى الوقت نفسه طور علماء النفس عدة نظريات للقيمة جميعها أكثر أو اقل فى درجة ارتباطها لأنهم كانوا يعملون بنفس الأ سا ليب . كان " اهرنفيلز " و " مينونج " هما الرائدين فى ألمانيا ، وفى هذا البلد – أمريكا – كان البرفيسور " اربان " الذى كان كتايه يعد من أكثر الكتب المتاحة عن هذا المنهج . وقد هوجمت المشكلة بالأساليب المعتادة وبأهداف علم النفس البنيوى .
أول شىء تم القيام به كان العثور على أساس القيم . وكان واضحا أن الاساس يمكن ايجاده فى العنصر " المزاجى " – أو الميولى – وهو عنصر ذهنى مثل الشعور أو الرغبة . هذا العنصر الأساسى تم العثور عليه ، ولكن ظل لتحليل العناصر البنيوية لأحكام القيمة ، وعلاقة هذا بالموضوعات التى تشير اليها . باختصار كانت المشكلة احدى مشاكل تحليل العناصر البنيوية للوعى ، وارتباطاتها وعلاقاتها .
كان المتبع ، حتى فى أكثر المناهج تجريبية ، نهجا تقليديا . الميل والبغض والرضاوعدمالرضا قد اتخذت كعناصر مجردة من بيئتها الطبيعية ونوقشت فى تجريد ، ولكن ليس باعتبارها مجردات . وقد عانت التجارب المأوفة مع الأحكام ، خاصة الأحكام الجما لية من هذا التجريد ، وسوف يقال الكثير عن هذا فيما بعد .
على النقيض من هذا النهج جاء نهج آخر لدراسة هذه المشكلة مع حلقة مختلفة . كان هناك شىء ما عن مشكلة القيم ، بل وعن مصطلح القيمة فى حد ذاته ، الأمر الذى يجعل المرء يتناوله مع الرهبة والمهابة . هناك شىء ما دينى عنه ، والمرء يشعر كما لوكان فى حضرة شىء ذى أهمية قصوى . بالطبع كان يتضمن الحماس الذى حرك من خلال تعبيرات مثل "الخير الأسمى " و " النداء الباطنى للانسان " وعدم مساعدة المرء على الشعور، او على الأقل الرجفة ، بتعبيرات مثل " مصطلح القيمة المطلقة كمفهوم أساسى للفلسفة الأخلاقية " .
الا ان الحماس الاخلاقى ازداد من خلال الشعور الدينى بأهميته التى تحوم حول القيمة . ويتضح ذلك من خلال الاهتمام الشديد لطلاب الفلسفة وعلم النفس بالدين ، وقال البعض بأن الدين هو المحافظ على القيم بشكل اسا سى . علماء نفس الدين وجدوا مساعدة قيمة فى الاشارة الى أهمية القيمة لأفكاردينية محددة ، قيمتها تستخدم غالبا للاعتذار عن فظا ظة هذه الأفكار .
وسوف يصبح واضحا فيما بعد كيف كان الشعور الطبيعى بالأهمية بالنسبة لمشكلة القيم ، ولكن المهم هنا هو الموقف التقديرى تجاه مشكلة القيم منفصلا عن – ومتميزا من – وبمعنى ما معارضا لعلم النفس الوصفى ، والسعى الى مرافقة نظرية ا لمعرفة المثالية ، والميتافيزيقا المطلقة للاهوت .
علم النفس التحليلى بانشقاقه واعادة انشقاقه وتجريداته وانحرافاته سرعان ما سلب مفهوم القيمة بريقها . ولذلك فمن المتوقع تماما أن التقدير الأكثر للمشكلة قد تم ابعاده عن علم النفس ، ويجب السعى الى موئل مضياف . والمثال هلى هذا الموقف هو البروفيسور " مينستربيرج " فى ( فلسفة القيم Philosophie der Werte ) والمعروف باسم " القيم الأبدية " . انها قصة قديمة عن الزهور وعا لم النبا ت والفنان : فقد زعم عالم النبات أنه يعرف الزهرة حقا ، الأمر الذى نفاه الفنان على الفور ، ونسب المعرفة لنفسه . مع ذلك –اكثر البروفيسور " مينستربيرج " التنازل . فهو يدرك كلا النهجين بالنسبة لهذه المشكلة . ويقول بأن أحدهما يكمل الآخر ، موضحا انهما يمثلان جانبين أساسيين يمكن بموجبهما دراسة مشكلة القيم .
عمل البروفيسور " اربان " وضعى وعمل الآخر مثالى ؛ احدهما يتعامل مع الجا نب النسبى لقيمنا ، بينما يتعامل الآخر مع القيم باعتبارها حقا ئق مطلقة ؛ أحدهما سيكولوجى والاخر ابستمولوجى ، أحدهما يحلل ويفسر الحقا ئق ، بينما يهدف الآخر الى اقامة نظام غائى .
القاء نظرة على صفحة أو صفحتين للبروفيسور " مينستربيرج " : من" القيم الأبدية " تعطينا خلفية عن الكتاب . فهو يبدأ :
" هل يوجد شىء فى العالم له قيمة فى حد ذاته ؟ هذا هو سؤالنا . بالطبع هناك العديد من الأشياء التى لها قيمة بالنسبة لنا لاننا أنا وانت نميل اليها ، أو لأنها مفيدة لغرض معين ؛ و مفيدة لنا . الا أن هذه القيم تعتمد على وجهة نظرنا الخاصة . فقد يكون شىء ما مفيدا لى وغير مفيد لجارى ، وقد يكون مقبولا لفئتنا الاجتماعية ولكنه غير مستحب لأمم أخرى أو فى عصور أخرى . فحتى حقائق اليوم لم تكن حقائق بالأمس ، وقد لا تقوم باعتبارها حقائق غدا .
...يبدو كل شىء يعتمد على وجهة نظر فردية ، وبناءا على الرغبات الفردية . الحقيقة لا شىء لكن هذا الأمر يساعدنا على تحقيق اهدافنا ، فالجمال لا شىء سوى ماننشده متناغما مع حواسنا ، والأخلاق لاشىء غير وصفات مفيدة تؤمن الراحة لفئاتنا الاجتماعية الخاصة ؛ والدين لا شىء سوى الافتراضات التى تعطينا الأمل . باختصار، ما نسميه نحن قيمة يبدو مجرد وسيلة لاشباع نزوات شخصية تتغير من عصر الى عصر ، ومن شعب الى شعب ، ومن مجموعة الى مجموعة أخرى ، ومن انسان الى انسان .
بصراحة هذا هو الاعتقد الفلسفى للغالبية الساحقة من المفكرين اليوم . المؤمن المخلص – بالتأكيد- يشعر بأن الحقيقة دينية تجعله فى اتصال مع شىء ما ذى قيمة مطلقة . والانسان الأخلاقى الذى يضحى بحياته متابعا نداء الواجب ويعتقد من اعماق قلبه أن الفعل الاخلاقى قيمة مطلقة . والفنان الذى يبدع شيئا من الجمال يتخيل أن الها مه – ايضا – يفتح له عالم القيم المطلقة . والمصلح الاجتماعى ورجل الدولة والرائد ورئيس فريق الصناعة ، عندما يكافحون من أجل تقدم البشرية ، يشعرون بان التقدم اليشرى هو شىء له قيمة مطلقة . والقاضى عندما يعمل على المنصة يكون ممتلئا بالاعتقاد بأن سيادة العدل بين الناس قيمة مطلقة . والباحث عن الحقيقة فى خضم بحثه العلمى يرتقى حقا من خلال الاقتناع الى أن الحقيقة الكاملة بمثابة شىء له قيمة ابدية .
الا ان هذه القناعات والمعتقدات وهذا الايمان والالهام ، لابد ان يتلاشى على ما يبدو فى اى وقت يبدأ الفيلسوف فى دراسته . فقد رأى أنها لاشىء سوى أوهام خادعة سارة لسعى الانسان ، ففى الواقع لاوجود لقيم مطلقة . كل شىء نسبى ، وكل شىء يعتبر خيرا فحسب بالنسبة لغرض محدد ، وبالنسبة لفترة معينة ولمجموعة معينة ولفرد معين . الخير والجمال والتقدم والسلام والدين والحقيقة ذات قيم براجماتية فحسب . انها تساعدنا فى غاياتنا الشخصية . مثلنا وحياتنا ليست ذات قيمة فى حد ذاتها . الحلم بأبدية القيم يجب أن يوضح سيكولوجيا ببساطة كأوهام قصة خيالية . الشك الفلسفى والنسبية هما الكلمة الأخيرة ، وجوابهما ينسجم مع نزعات التشوش الألف فى عصرنا " ( ص ص 1&2 ) .
لقد نقلت بشىء من التفصيل ، لأنه يبدو لى أن هذه المقاطع تقدم ملخصا ليس لهذا الكتا ب فقط ، بل للكثير من النقاش الحالى بشكل عام . ونحن نجد النقيض ، لذا قدمت ما يلفت النظر هنا ، وما يبرز على نحو غير متوقع باستمرار ، ويبدو ان التنا قض الاسا سى لسيكولوجية حالة الوعى يعارض الأخلاق الميتافيزيقية .
العبارة الأكثر أهمية فى الاقتباس السا بق هى : الحقيقة لا شىء ولكن هذا الأمر يساعدنا على تحقيق اهدافنا . والقيم وسائل لاشباع نزواتنا الشخصية ، واخير والجمال والتقدم والسلام والدين والحقيقة ذات قيم براجماتية فحسب " . علم النفس والنظرية الامبريقية يحملان كراهية ل " فقط " و " لا شىء الا " .
والآن قد انتعشت هذه الكراهية كثيرا على أيدى مؤيدى الراى المطلق . وليس من المستغرب الآن ان نسمع " لا شىء سوى المطلق " و " الثابت فقط " و " الابدى فحسب " . هذا التحول – الى حد كبير – تم انجازه على ايدى علم النفس الوظيفى والبراجماتية ، فقد عنيا بالمضى معا مرة أخرى بالاخلاق وعلم النفس فى علاقتهما بمشكلة القيم . وقد عنيا كذلك بعمل جديد للخروج من المشكلة بمصطلحات ليست عناصر ذهنية مجردة ، ولا مصطلحات عاطفية مثالية ،بل بمصطلحات للنشاط باعتباره مشروطا بالبيئة الطبيعية والاجتماعية .
علم النفس الوظيفى منا قض من جهة لحالة الوعى السيكولوجى البنيوية ، ومن جهة أخر ، منا قض للنظرية الابدية المطلقة . مما يبين أن نهجى " مونتسبيرج " و " اربان " ليسا النهجين المعاصرين فحسب . من خلال رفضهما الفصل بين العا لم الداخلى والخارجى بجدار حجرى اضطرا الى التعا مل ليس مع الاشباع الشخصى المجرد ولا مع المطلقات الا بد ية .
المساهما ت فى هذا النهج الجديد لنظرية القيم هامة وبعيدة المدى . وسأحاول فى الصفحات التا لية ان أجمع عددا قليلا من اقتراحات ونتا ئج المناقشات التى جرت مؤخرا والتى تبدو مميزة للتقدم المقررفى نظرية القيم، والذى يعد بأن تكون مثمرة فى المستقبل .
اسمحوا لى بداية أن اقترح بان نفكر فى الصفة " قيم أو ذى قيمة " باعتبارها الأساس وليس الاسم " قيمة " . تظهر القيم فى الطبيعة كما يقول الكيميائى فى شكل الصفة " قيم " باعتبارها سما ت للموضوعات . والاسم مشتق من بشكل مباشر من الصفة يجب أن يكون " قيما " ، فعلى سبيل المثال يمكن تسمية الموضوعات التى تمتلك صفة "قيم " بأنها موضوعات ذات قيمة . ثم اننا قد نتحدث عن الصفة قيم بشكل مجرد ونستدعى الصفة " قيمة " تماما كما نشتق الصلابة من الصلب ، والبياض من أبيض . مصطلح قيمة بهذا المعنى باعتباره اسما مجردا " نفاسة valuableness " يدل على الصفة كما رآها " أرسطو" .
ولكن الاستخدام الحالى حددايضا مصطلح " القيم " بالأشياء القيمة الثمينة ؛ بحيث يمكن للمرء فى كثير من الأحيان أن يتكلم بالكاد عن عن معنيين تم استخدامهما ويؤديان الى خلط كبير . بل بالأحرى من الصعب أن نرى كيف يمكن للمرء الحديث عن القيم فى صيغة الجمع بمعنى " النفاسة valuableness " ؛اذا لم يكن المرء يتحدث عن نوع مختلف من صفة القيمة .
على العموم ، فيما اعتقد ، ان مصطلح القيمة عندما يستخدم بشكل ملموس ( قيمة وقيم ) وما الى ذلك ، يستخدم بمعنى أن شيئا له قيمة ، وموضوعا ذو قيمة . ولسوف أحاول الاحتفاظ بهذا التمييز وحيث أننى لن استبدل مصطلحى " اشياء ذات قيمة " أو " نفاسة " واننى آمل أن يوضح السياق ما اذا كان المصطلح يستخدم بشكل ملموس او بشكل تجريدى .
والسؤال التالى : كيف تصبح الموضوعات ذات قيمة ؟ أو لوضع السؤال فى صورة أقل خداعا ، كيف وصلت الموضوعات ذات القيمة الى هذه الحالة ؟ . نحن نتوقع وجود أبسط حالات القيم فى ابسط أشكال الطبيعة ، فى الطبيعة العضوية . وقد يمكننا – على سبيل المثال – الحديث عن الشمس باعتبارها ذات قيمة بالنسبة لتسخين حجر ، فمن منظور الحجر الساخن تعد الشمس ذات قيمة بقدر ما تستطيع تسخين الحجر . وبالمثل يمكننا الحديث عن اى دافع باعتباره ذا قيمة لانتاج الاثر الذى يمكن انتاجه تحت ظروف معينة .
لكننا نتكلم هنا عن القيمة بالمعنى المحتمل الواسع للغا ية . فأى شىء ذى قيمة فيما يتعلق بامكا نياته تحت الظروف المتغيرة . وعلى الأقل بوسعنا القول بأنه بدون قيمة التغير سيكون ذلك مستحيلا . ولكننى اعتقد أننا اذا درسنا الموقف عن كثب فاننا سنجد عنصرا آخر . فالموضوع يجب أن تكون له قيمة ليس بالنسبة لشىء ما فقط ، بل بشىء ما ، أو من الأفضل القول ، لكى يصبح الموضوع ذا قيمة بالنسبة لشى ما يجب أن يكون ذا قيمة بشىء ما .
ننتقل الى التوضيح ، ان لم يكن هناك الوضع الذى يوجد فيه الحجر باعتباره مسخنا فلا يمكن أن تكون هناك قيمة للشمس باعتبارها مسخنة للحجر . اذا كانت القيمة مسندة الى الشمس باعتبارها الموضوع المسخن للحجر ، فانها يجب أن تكون ذات قيمة لمثل هذا الوضع . والان يمكننا البحث فى الطبيعة غيرالعضوية وغير الحية العليا والدنيا ولن نجد مثل هذا الوضع . الحجر هو ببساطة – لا لشىء ما – فهو لم يكن أكثر حرارة مما هو عليه الى أن يتحطم ؛ وتبدو الطبيعة غير العضوية غير مبالية للقيم .فقط عندما نضع الحجر والشمس فى علاقة لنشاط ما يوظف الحجر فيه باعتباره شيئا يتم تسخينه وتصبح الشمس حائزة على القيمة .
عندما ننتقل الى الطبيعة العضوية والكا ئنات الحية نجد مثل هذا النشاط . نحن نجد كا ئنا ت مجمعة نفسها - اشارة الى – االنبا ت والحيوان باعتبارها ذات قيمة أو غير ذى قيمة لمزاولة بعض الأنشطة . يصبح ثانى اوكسيد الكربون ذا قيمة بالنسبة للنبات لاعداد الغذاء . والنبا ت بفضل كونه كائنا حيا يزاول النشا ط الانتقائى خلق وضعا تكون فيه الموضوعات ذات القيمة ذات صلة به ، وفقط بقدر ما هو طبيعى هو ذو صلة .
عندما ننتقل الى الطبيعة الانسانية يواجهنا نفس الموقف . فنجد هنا نشاطا انتقائيا أكثر تعقيدا . فنجد اهتمامات نشطة وميولا ورغبات وارادات وتكيفات ، سمها ماشئت ، وموجهة الى غايات محددة . ومن المعروف ان الأشياء تكتسب معنى باعتبارها تعزز أو تحبط هذه الاهتمامات ، وتكون النتيجة هى الخيرات والشرور والموضوعات القيمة وغير القيمة . لقد جعل علم النفس الوظيفى والمنطق البراجماتى لنا ألفة بهذا الموضوع ولا جدوى للخوض فى ذلك هنا . 1- موضوع له قيم .2- كائن حى او نشاط له قيمة ( أو يكون له قيمة ) . 3- الغا ية أو الهدف اللذين من أجلهما يشار الى ما له قيمة .
كل هذه العوامل الثلاثة تبدو ضرورية لوضع القيمة ، وعلى الرغم من ان تقد يم نبذة موجزة للنظرية الرائدة للقيمة تكشف حقيقة أنه جرت العادة على تجاهل واحد اوأكثر من هذه العوامل فى التعامل مع وضع القيمة ، وقد شوهت المناهج والنت ئج وفقا لذلك ولقد رأى علماء النفس المثاليين الذاتيين والاستبطانيين أن القيم هى منتجات الوعىومحددة بالرغبة الانسانية والشعور الانسا نى . والعوامل الأخرى تم تجاهلها بشكل مباشر وتمحور النقاش حول المحتوى الذهنى لحكم القيمة . وقد درس التقويم فى حد ذاته والموضوع المقوم ، والغا ية المحددة لما هو مقوم قد اعتبرت غير ذات صلة أو حتى معدومة . على الفور ارتفعت صرخة النسبية والذاتية من قبل أنصار المثا لية المطلقة والواقعية المطلقة .
يجب أن تكون لدينا قيما مستقلة . هذا يؤدى الى التركيز المفرط على الموضوعات ذات القيمة باعتبارها مستقلة عن الرغبات والاهتمامات الانسا نية . وبالتا لى كان النزاع على مدى موضوعية القيم مقابل ذاتيتها كان يقوم على نسخة مكررة من النزاع حول الصفات . بالطبع القيم الانسانية ذات صلة بالنشاط الانسانى ورغبات الانسان ولكن هذا ليس سببا لازدرائها باعتبارها ذاتية فحسب . هل انعدام الصلة – او لوضعها الاقوى قليلا – هل القيم عديمة الصلة هى الأفضل ؟ .
با لطبع ، القيم موضوعية ، سواء كانت متعلقة بالموضوعا ت ومتحكمة وموجهة لعوامل الخبرة الانسا نية ، ولكن لمذا يجب أن تقوم ، وبالتالى تكون صفة أبدية لموضوعات معينة مستقلة عن علاقات هذه الموضوعات بالمواقف العملية ؟ . ليست هناك حاجة للتعامل مع القيم بمصطلحات الذات والموضوع . اذا أخذت القيم فحسب باعتبار حدوثها طبيعيا - وبشكل خاص – وعمليا ، يمكن تجنب الكثير من المناقشة عديمة الجدوى .
بجانب علم النفس التجريبى كان هناك فشل مماثل لأخذ الموقف برمته . لأغراض التجريب تم اختيار عوامل معينة من موقف القيمة ونبذ العوامل الأخرى غير ذات الصلة ، وهكذا كانت نتائج التجارب خادعة وعلى الأقل ضبا بية . وقد كانت معظم التجارب على أ حكام التقويم للقيم الجمالية ، احكاما عن الميل والبغض والعذوبة وعدم العذوبة . وكان الموضوع مطلوبا من أجل الاستحقاق لعدد من الالوان والاشكال والاصوات وأى شىء .
والسؤال الذى يطرح نفسه هو : هل هو السار أم غير السار ؟ ما الذى يعد أكثر اشباعا ؟ هل ما تميل اليه هو الأفضل ؟ ولكن لنفترض أن الذات يجب أن تسأل :لماذا أفضل ؟ ماهو اكثر ارضاءاهل هو القرمزى أو وحيد اللون ؟ سار و مرض من أجل ماذا ؟ .بالنسبة للمنزل ،للملبس ، لوقت غروب الشمس ،أو لغرف النوم ؟ " لايهم " سوف يقول المجرب ليس ارضاء ا لأى شىء على وجه الخصوص ، انه ارضاء بشكل عام . ولكن هل الاشياء سارة أو غير سارة ، ومرضية أو غير مرضية ، ومحببة أم لا ، بشكل عام ؟
اليست هذه الاحكام فى الممارسة ذات صلة بمواقف معينة . فالتقويمات الحقيقية لاتتم أبدا بشكل عا م ،وتشير القيم دائما الى شىء محدد، فهى ذات قيمة بالنسبة لشىء ما محدد . ولذلك نسأل: ما الذى يعد أكثر قيمة من هذه ؟ دون القول لماذا له قيمة ، يعد أمرا محرجا على أقل تقدير . انه يجرد التقويم من كل أصالته . من الممكن جدولة نتائج هذه التجارب والحصول على بعض الارتباطا ت و الاتفاقات ، ولكن هل هذا يشير الى أى شىء مهم عن القيمة ؟
هذا التجريد للتقويم خاصية عملية لكل دراسة تجريبية لأحكام التقويم ويجعلها ذات أهمية ضئيلة بالنسبة لدراسة القيمة والتقويم كما تحدث فعلا . وقد تم تطبيق نفس الاسلوب لتحديد القيمة النسبية للأنواع المتبا ينة من القيم ، ولكن ما هو اكثر من ذلك يمكن قوله فيما بعد .
الضرورى الآن هو أن الدراسة السيكولوجية تتم باحكام ، فى مواقفها الطبيعية والخاصة . ولا يمكن دراستها على أنها تجريدية ، ولابد من دراستها فى علاقاتها الوظيفية ، وتنطوى هذه على دراسة لكل العوامل الثلاثة لموقف القيمة فى علاقاتها الملائمة والمحددة .
تبدو القيمة مع هذاالموضوع – حينئذ – أساسا على أنها صفة لموضوع بموجبها يصير وسيلة لتحقيق غاية. والآن الوسيلة والغاية مصطلحان نسبيان . فيمكن النظر للشىء نفسه على أنه وسيلة كما يمكن النظر اليه على أنه غا ية وهو يكون ذا قيمة بقد ر الحالة التى يكون عليها . تتضمن العلاقة بين الوسيلة والغاية نشاطا انتقائيا . فنحن نرى غايات فى الطبيعة غير العضوية والاشكال الدنيا للحياة ، اذا كنا دعوناهاهكذا ، أو أن الامكانات قد أدركت بدون واسطة . تنصهر الوسائل والغايات فى الامكانية ، ومن وجهة نظر الأمر الواقع ، باستخدام المصطلحات الأرسطية ، هذه الامكانيات يمكن أن تسمى قيما بالمعنى الواسع جدا ، كما رأينا فى السابق .
لكن فى أسمى صور الحياة – وبصفة خاصة – الانسان ، تصبح الوسائل والغايات أكثر وأكثر تميزا . يصبح النشاط قصديا أكثر وأكثر توسطا . لاتزيد الوسائل عدديا ، بل يكون الاجراء أكثر دقة وحذقا . هنا بوسعنا القول ، أنه يكمن فى التاريخ برمته وتقدم البشرية . هذه العملية برمتها بالاتساق المتزايد والهدف الدقيق للنشاط تعنى تكاثر وتشعب مواقف القيمة . ولأن تعقيد القيم لم ينتج من خلال تكاثر الغايات كما نتج من خلال تكا ثر الوسا ئل لتحقيق الغايات ، أو بالأحرى من خلال تحول الغايات الى وسائل .
تكشف الطبيعة البدا ئية عن العديد من الامكا نا ت المحققة ، ولكن يوجد االقليل من التنسيق بين هذه العمليات ، ولا توجد وسيلة تتم بها تحقيق الامكانات بشكل تراكمى . وانما فى النشاط الانسانى يوجد لدينا النشاط التراكمى من النوع المتقدم ، فاحدى الغا يات تخدم الغا ية الأخرى ، ويتم تنظيم القيم وجعلها تخدم الغرض المشترك . وبعبارة اخرى ، بالعبور من الطبيعة البدائية الى الطبيعة البشرية فان " ماله قيمة ب.. " و " ما له قيمة من اجل " ؛عناصر فى موقف القيمة تصبح منفصلة ومتميزة بشكل متزايد .
السؤل الذى يطرح نفسه هنا : اليست الغايات باعتبارها غايات ذات قيمة ؟ ألا يجب عالينا اسناد القيمة الى هذه الاشياء بعدما بذ لنا كل ما فى وسعنا لأن سعينا كان بعد هذه الأشياء ؟ أليست الغايات الانسانية خيرا فى ذاتها ؟ كثيرا مايحتفظ بها ويستمر الابقاء عليها على نطاق واسع ، وهذا هو بالضبط ما يشكل القيم والخير ، فهى خير فى ذاتها وقيمة فى حد ذاتها . وهذا هو – على سبيل المثال خلا ف " مونستربيرج " – كما نراه – " هل يوجد اى شىء فى العا لم له قيم فى حد ذاته ؟ وفقا لقائمته للقيم الأبد ية التى تشمل الاشياء والاشخا ص والتقويمات والطبيعة والتاريخ ، وما الى ذلك . يبدو هذا تعددا بعيد المدى بالنسبة لبعض العقول ، ويجب عليهم ايجاد القيم الأبدية ، على أية حال ، كان البحث عن الخير الأسمى هو المغامرة المفضلة لدى الفلاسفة منذ "أرسطو" .
يعرف "أرسطو " مايتحدث عنه – على ما يبدو . فهو يقول لنا بأن الخير هو ما نهدف اليه . فالصحة خير الطب والسفينة خير بناء السفن والرفاهية والرعاية وفقا لذلك هى خير الانسان ، كوجود اجتماعى ، وبما أن هذا يشمل كل ما يهدف الى الخير بالمعنى الأعم ، فقد رأى أنه – هو- الخير والشىء الذى يهدف الى الامتياز . حا ليا هذا واضح بشكل حاسم .
لكن عندما بدأ " الاكوينى " و" كانط " و " هيجل " الحديث عن " خير " و " الخير " كا نا – أى خير والخير – يعنيان شيئين مختلفين تما ما . وعندما حاولوا الخدعة نفسها – على ما يبدو – تلك التى قام بها أرسطو ، لم يستطيعوا تقديمها بشكل جيد . وكانت المشكلة التى يتحدثون عنها من نوع مختلف عن الخير . على سبيل المثال – النفعية خير ، والتى قد نقصر أنفسنا عليها من أجل هذا الغرض الحالى ، هى ليست " ذلك الشىء الذى تهدف الي " ، بل " هى الشىء المفيد " . الخير بهذا المعنى ، هو الشىء المفيد ، وما نسميها قيمة ، هى الأشياء الثمينة – او ذات القيمة .
والآن هذا النوع من أنواع الخير الذى يسأل الناس عنه : ما الخير الاسمى ؟ أو كم يقولون الآن ما هى اليقمة الأسمى ؟ دعنا نرى الآثار المترتبة على هذا المفهوم . نحن قد نتحدث امبريقيا عن القيمة الاسمى – اى – قد يكون من الممكن المقارنة نظريا بين كل ما لها قيمة وترتيبها تبعا للجدارة وفقا لقيمتها النسبية فى جميع أنواع الحالات ( المواقف ) ، وعدد الحالات التى كانت فيها ذات قيمة ، وما الى ذلك ، واحداها ( أحدى القيم ) اأس القا ئمة يمكن تسميتها بالقيمة الأسمى . ولكن لم يحاول أحد ابدا الوصول الى القيمة الأسمى من هذا النوع ، لعدم امكانية ذلك من الناحية العملية ، بل ولم يكن هناك الدافع لايجادها ، لأنه سوف يكون بلا معنى كونها مطلقة وأبدية ، لأنه مع الحالات المتغيرة تم ابطالها ، ولن تكون ذات قيمة بامتياز فى كل الحالات ، لانه فى أى حالة معينة قد يكون هناك موضع آخر أكثر قيمة .
القيمة الأسمى لن تكون الأسمى فى هذا المعنى ، انها أسمى لكونها ذات قيمة مطلقة وأبدية ومستقلة . بالنسبة لمفهومنا للقيم ، فان القيمة الأسمى يجب أن تكون حاصلة على أعظم قيمة لاى شىء ولأى شخص فى أى حالة . ما نوع الشىء الذى قد يستجيب لهذا الوصف ويكون مثيرا للاهتمام من اجل التامل ، الا أن مايهمنا هنا هو أنه اذا كان يجب أن يكون هناك مثل هذه القيمة الأسمى فان الادعاء بها يجب أن يرتكز على أساس امبريقى ، وهذا للوهلة الاولى مستحيل . لمن يحاول أن يحلل كل أو ما يقرب من جميع الحالات المحتملة التى تنشأ فيها القيم ، على امل العثور على قيمة شاملة أكبر من أى شىء آخر ؟ .
نفس الشىء يصدق على أى عدد من هذه القيم الأبدية . بالطبع الحب والسعادة والاخلاص والصواب ، قد تتم معالجتها بشكل ملموس . باعتبارها قيما ، ولكن ليست جيدة من الناحية السيكولوجية . هذه قد تكون ذات مغزى باعتبارها دوافع واهتمامات أو غايات ، ولكنها لهذا السبب ليست قيما أبدية ، وليست قيما على الاطلاق . ان من الصعب بالنسبة لى أن اتخيل فقط ماذا يعنى عندما يتم الحديث عن الغايات كغايات على انها قيم . انها لا تبدو لى مندرجة فى اطارمقولة القيمة .
مما يمكن تصوره أن ينظر الى الغايات الانسانية على أنها مفيدة وكوسيلة ، من خلال نوع آخر من الخبرة مثلها فى ذلك مثل المجهول او المطلق – على سبيل المثال – ولكن ضمن التجربة الانسا نية هى فحسب مثلما يتم النظر اليها وفقا لغاياتنا القادرة على قيادتنا الى شىء ما آخر . بعض الغايات الانسانية يمكن اسناد القيمة اليها . وهكذا فاننا قد نمنح ذلك رفاهية الخير الرئيسى ، والذى تهدف كل الأشياء اليه ، ولكن على هذا النحو ليس من الضرورى أن يكون ، أو حتى يكون قيمة. قد يكون عديم القيمة ، بل وليس ذا قيمة .
الاعتراض الكبير الكامن فى لب كل خصوم القيم النسبية هو أن النسبية لاتقدم معيارا للحكم بين التقويمات الحقيقية والزائفة . اذا كانت القيم ذات صلة بالرغبة الانسا نية ، فان أى موضوع مرغوب فيه يعد ذا قيمة ، وتسمى القيم الظاهرة قيما حقيقية ، ويكون الابيض أسود ، ويسمى الخير شرا ، وكل شىء فى هذا العا لم على مايرام . ومن هنا فالمجرد الذى يرتبط بالمصطلح النسبى ، لايدل فقط على الازدراء الفلسفى ، بل والسخط الاخلاقى من أجل التبرير – اذاكان ذلك ممكنا – فان شخصية صاحب الراى النسبى سوف يجيب على صاحب الرأى المطلق بطرح الأسئلة الآتية :
كيف يمكن اقامة تقويم حقيقى باستثناء ربطه بموقف معين والحكم على مدى كفاءته فى تحقيق وظيفته فى ذلك الشأ ن؟ . وبعبارة أخرى يمكن أن تكون القيمة جلية أو أصلية فحسب بالعلاقه بالخبرة وفى الخبرة ، وهذا بالضبط لأن صاحب الراى النسبى مهتم بوضع القيم للعمل . وبالتالى باختبارها ، لانه يرى أن القيم الانسانية نسبية وذات صلة بالخبرة الانسانية . لا تعنى النسبية تحديد المرغوب وما يمكن أن يكون مرغوبا فيه . اذا كان الموضوع المرغوب كقيمة قد اتضح بناءا على التأمل او الخبرة قد فشل فى ان يرقى الى الى مستوى الحالة ، فان التعرف على القيمة يكون على انها زائفة .
المعنى الدقيق للقيم مثل الحقائق ، هو انها ليست صادقة ولا كاذبة ، انها ببساطة تقوم ماهو صادق وماهو زائف . نحن لانحتاج الى مناقشة تفاصيل التحقق من التقويمات هنا ، باعتبارها مؤكدة من قبل البراجماتية فى اتصالها بالنظرية العامة للحقيقة والفكر . انها تحتاج فقط الى الاشارة الى أن نقد التقويم هو عمل العقل مطبقا على نحو سليم . استطاع التقويم فقط بنمو الادراك والتمييز الذكى ان يصبح اكثر دقة وكفاءة . لا توجد وصفة جاهزة وشاملة ، ووسيل اختبار مسبقة يمكن تطبيقها للحكم على القيم ، ولا وجود لاختصار الحقيقة . فصدق التقويم يجب اكتشافه من خلال العمل العقلى المستمر .
كان ترسيخ انواع القيم وما يتعلق بها ، دائما هو أحد الجوانب الحيوية لمشكلة القيم . الانواع التقليدية هى : القيم الاقتصادية والاخلاقية والجما لية والدينية والمنطقية والبيولوجية ، وربما يكون هناك نوع واحد أوأكثر . ليس من السهل أن نجعل علم النفس يقوم بالتفريق بين القيم . يبدو ان هناك أثرا لسيكولوجية الملكة القديمة فى ذلك ؛ يمكن المرء القول بأن القيم الدينية هى موضوع الملكة الدينية ، والقيم الجما لية هى موضوع الملكة الجما لية ، وما الى ذلك .
من السهل للغا ية أن نرى كيف جاءت القيم الاقتصادية لتكون عبارة عن نوع متميز ، وبالنسبة للاقتصاديين كانوا من أول من اهتموا بمشكلة القيم . وقد جاءت القيمة لدى الاقتصاديين ليتم التعبير عنها بمصطلحا ت التبادل ،وبالتالى كانت مختلفة عن الاستخدامات الأخرى . أما بالنسبة للانواع الأخرى فيبدو انها قد نشأت من قبل كل فرع من فروع الدراسة الفلسفية ، علم الجمال وعلم الأخلاق ، وغير ذلك، مدعيا أن القيمة تخصه بمفرده . أيا كانت الطريقة التى تحققت بها هذه الأنواع ، من الواضح تماما أن علم النفس لم يكن فى أساس التصنيف .
وقد بذلت محاولات من المناهج التجريبية وغيرها ، لتقديم مقياس للقيم الانسانية . والمنهج التجريبى عادة يتكون فى سؤال عدد كبير من الأشخاص الذين يكونون بالأحرى مثل اللص والغبى والحقير جدا والكافر والمنعزل ( المتوحد ) والساذج والمتكبر . وتتم جدولة الاجابات ، وعلى المقياس الامبريقى للقيم تأتى النتا ئج .
هذه هى نفس الطريقة التى اتبعت باعتبار السار وغير السا ر ترتيبا لاسلوب الجدارة المذكور أعلاه ، وهو يستحق نفس الانتقاد . تستخلص القيم من محيطها الطبيعى ومن ثم ترتب باعتبارها مستوى من التجريد . لم يتم عمل تصنيف علمى وسيكولوجى للقيم وليست المحاولة هنا ممكنة . لكن التجاهل للانواع التقليدية فى الوقت الحاضر جعلنا نسلط بعض الضوء على المشكلة فى تحليلنا لوضع القيمة .
الآن سوف يكون بوسعنا تصنيف القيم من ثلاث وجها ت نظر مختلفة . أولا وقبل كل شىء فد نميز انواعا مختلفة من الموضوعات ذات القيمة – اى - انواع الموضوعات الحاصلة على صفة القيمة . من وجهة النظر هذه قد نصل الى تصنيف من هذا القبيل كم يلى : ( 1 ) الموضوعات المادية مثل : الادوا ت والمواد الغذائية والملابس والبيانو والمسبحا ت . (2 ) المفاهيم او العمليا ت العقلية مثل : نذكر اسم والاستماع الى سيمفونية والتفكير فى الوطن والأمل فى السماء . ( 3 ) الانشطة مثل : كسب المال وغناء أغنية والمشى . ويمكن تصنيف الثا نية تحت الثا لثة . ( 4 ) المؤسسات الاجتماعية مثل : الاسرة والحكومة والعرف . وقد نبقى على هذا ، ولكن أقصر طريق لقول كل هذا يجب ان يكون القول بأن أى نوع من الموضوعات أيا كان يمكن أن نتصور ان له قيمة فى حالة ما أو أخرى .
ثانيا ، نحن قد نصنف القيم وفقا للاشياء التى يشار اليها فيها . من وجهة النظر هذه يمكننا التمييز بين : ( 1 ) قيم النبا ت ، وأشياء ذات قيمة للنبا ت . ( 2 ) قيم الحيوان . وندرج تحت قيم الحيوان ( 3 ) قيم الانسان وهذه قد نميز فيها : ( أ ) القيم الفردية والموضوعات التى ينظر اليها باعتبارها ذات قيمة للفرد ، ( ب ) القيم الاجتماعية أو المؤسسية ، وهذه ذات قيمة للمجتمع أو للمؤسسة . عند هذه النقطة لاشك فى اضافة القيم المطلقة ، والموضوعات ذات القيمة للخبرة المطلقة ، وما الى ذلك . ولكن يجب ان نكون أكثر تواضعا ونقتصر على القيم الدنيوية .
ثم هناك وجهة النظر الثا لثة التى بوسعنا تصنيفت القيم من خلالها ، أى التى تختص بالهدف ،والغاية التى من أجلها يكون الموضوع ذا قيمة . ولكننا تأتى هنا الى التنوع الذى يستعصى عمليا على التصنيف . فالغايات التى للاشياء ذات القيمة غايات محددة . ولا معنى لمحاولة تصنيف غايات النشاط على أساس غير الأساس المحدد ، فا لغايات ليست موجودة على الاطلاق ueberhaupt .
الحديث عن غايات الانشطة بشكل عام عللى الاطلاق مع الاشارة الى القيم لامعنى له ،الا أن ذلك عادة ما يكون فى أساس التصنيفات التقليدية . لمحاولة تصنيف غيا ت الانشطة على وجه التحديد – وهى – اذا لم تكن غير عملية بشكل كلى على الاقل ، فهى خارج نطاق هذا المقال .
لاتزال هناك وجهة نظر اخرى يمكن اعتمادها للتمييز بين انواع القيمة ، وهذه هى – فيما اعتقد – وجهة نظر معتمدة من التصنيف التقليدى ، أو يعتقد انها تمثل ما يهدف اليه التصنيف التقليدى ، او يعتقد أنها تهدف الى القيام به . قد نحاول تصنيف القيم المجردة لا القيم الواقعية – أى – بدلا من تصنيف ما له قيمة ، نصنف أنوع صفات القيمة . من المفترض أن القيم الاقتصادية والقيم الدينية تصف أنواعا مختلفة من صفات القيمة .
فما وصف بأنه حالة قيمة ، يقولون لنا ، انه يمثل نوعا واحدا من القيمة ، القيمة النفعية . ويقولون هناك على سبيل المثال أن القيمة فى حد ذاتها ، هى موضوعات ذات قيمة بذاتها . هذا النوع المختلف من صفة القيمة ، موضوعاته ذات قيمة لا لأنها مفيدة ،بل لأنها ببساطة ذات قيمة . وهكذا – يقولون – ان من الممكن التمييز بين أنواع صفات القيمة ، مثل التمييز بين ألوان الطيف . اعتراضى على ذلك هو أن هناك اتجاها لسلب مصطلح القيمة بمعناه الحاسم ؛ معنى " القيمة " قد مد على نحو غير ملائم وصار يحتضن معان ليست ملازمة له . لم يتم الاحتفاظ بالتمييز الأصلى فى الذهن فاصبح المصطلح بلا معنى .
قد قيل ما يكفى من أجل التصنيف المؤقت للقيم لابراز نقطة واحدة ، وهذا الاهم بالنسبة لاغراضنا الحا لية ، وهى أن طريقة واحدة لتمييز أنواع القيم هى تمييز الوظائف فى حالات القيمة المحددة . أى شىء قد يكون نوعا من القيمة ، ويتوقف هذا على وظيفته فى حالة معينة . لايمكن تمييز انواع القيم بشكل مطلق وفى استقلال عن الظروف ، ولا يمكن أن يكون أى شىء قد حدد لنوع واحد من القيم يشكل عام . القيم بطبيعتها خاصة ولا يمكن أن تصنف بشكل تجريدى دون الاشارة الى الحالات الخاصة .
ينطبق نفس الانتقاد على أكثر التصنيف العا م للقيم على أنها أسمى وأدنى . القيم الد ينية والاخلاقية والجما لية تسمى قيما عليا عادة ، والقيم البيولوجية – على سبيل المثال – تسمى قيما دنيا . لكن هذه التسمية للقيم باعتبارها اسمى وأدنى مستحيلة وغير عملية مثل أى مقياس مطلق للقيم . المعنى الواضح الممكن الوحيد للقيم الأسمى والأدنى هو الموضوع الأكثر قيمة أو اقل قيمة – على الترتيب – فى حالة معينة . وهكذا اذا أردنا الحديث عن القيم العليا أو الأسمى ، يجب علينا أن نتاهل بالقول – نظرا لبعض الاحوال – بأن" الخبرة والتفكير تبين أن ( س ) أعلى قيمة من ( ص ) .
لبس بوسعنا ترك الموضوع دون الاشارة الى مشكلة القيم باعتبارها معايير وعوامل سيطرة على السلوك البشرى . تحكم القيم فى سلوكنا ليس مثالية أخلاقية بل حقيقة عملية . لكن من الواضح تماما أن التقويمات التى تحكم سلوكنا فى معظمها صنعت لأجلنا ، وليس بواسطتنا – أى بمعنى أنها عوامل فى بيئتنا الاجتماعية ، وليست مجرد منتجات لتميزنا الفكرى الفردى . والآن لأن التقويمات الاجتماعية عادة ماتكون نتيجة للصدفة والظروف وليست منتجات للتمييز الفكرى ، فيترتب على ذلك أن التقويما ت الاجتماعية ليست بالضرورة أفضل ما يمكن تحقيقه .
من ثم ، المشكلة الاخلاقية للقيم هى تطوير لدقة التقويم ، وتنظيم القيم من أجل تعزيز الفعالية ، لوضع القيم للعمل بقصد الاكتشاف والاستفادة من المعرفة وبالتالى اكتسابها . يجب أن تسعى التنظيمات والمنظم ت الاجتماعية للاستفادة بالقيم التى يكتشفها العقل ؛ ويجب أن تكون القيم متكيفة لتلبية الاهداف والاحتياجات الانسانية . هذا ، وقد راينا ، أن عمل الادراك باستمرار وبشكل ملموس مطبقا . وهذا يعيدنا الى المشكلة التعليمية ، وذلك للتطوير فى المهارة الفردية ودقة التمييز الفكرى .
التعليم يجب الا يكون مجرد ابهار وفرض على التقويمات الاجتماعية والفردية الجاهزة كمعايير ، يجب أن يسعى ليضع تقنية التقويم الصحيح ويجب أن لا يكون المجتمع متضمنا الحفاظ على القانون الحالى والنظام عن طريق التعليم ؛ ويجب أن يسعى لجعل ثمار التعليم وسيلة لتقدمه .
لقد رأينا كيف أن علم نفس القيم اظهر محاولة لتطوير نظرية علمية للخير الانسانى ضد أكثر من نظرية أخلاقية مطلقة . وقد رسمنا تقدمها ولاحظنا أهميتها الاجتماعية . ولقد خدمت قضية التقدم ، وأكدت على الحاجة الى اعادة تقويم واعادة تنظيم الانشطة الاجتماعية . ومن جهة أخرى راينا كيف أن علم نفس القيم قد ضغط لخدمة القيم لدعم الموضوع ليصل الى ما يشكل رد الفعل . بعض القيم رفعت وأعطيت أهمية مطلقة ، ونظر اليها باعتبارها اشياء ا مصونة .
ما ننشده هنا ينبغى على علم النفس ألا يتحول الى خائن للقضية بأن يصبح محافظا ووصيا على القيم . علم النفس العلمى يجب أن يدرك عندما يتم التعامل مع القيم عليه أن يتعامل مع القوى التقدمية . القيم أدوات للتقدم ، ودون تغيير فى اتجاه التقدم فانها تفقد وظيفتها ومعناها . القيمة ليست جزءا ثابتا مطلقا من الحقيقة ، بل خاصية مميزة للطبيعة عن طريق ما يجعل النشاط العضوى ممكنا ودفعه الى كما له .
***
هربرت و. شنايدر
ترجمة : د. رمضان الصباغ
لقد كانت مشكلة الخير والحسن احدى المشكلات القديمة للفلسفة ، ولكن حتى وقت قريب نسبيا لم يكن لدى علم النفس اهتماما بها . فيبدو أنه لم يكن يميل الى مصطلحى الخير والخيرات ، ربما بسبب الدلالات الميتافيزيقة واللاهوتية لهما ، وربما بسبب موضوعيتهما ، وهكذا اعتمدت القيم على – وكيفت – المصطلحات الأكثر ملاءمة لهذه الاهداف ، وهى " القيمة " و الجدارة " . وقد استخلص هذين المصطلحين مع الكثير من الاهتمام السيكولوجى بهما من الاقتصاديين خاصة من تلك المدرسة السيكولوجية الأ لما نية .
فالاقتصايون الألمان الذين اهتموا بتطوير العلاقات التى تدعى عناصر " ذاتية " للمشاكل الاقتصادية وجدوا مشكلة ونظرية القيمة وعلاقاتها بالسعر والسلع والفائدة حقلا خصبا للتأمل ، وقد تخلصت المشكلة فى وقت قريب من القيود الاقتصادية المفروضة عليها وكان تناولها من قبل علماء النفس مثا " اهيرنفلز Ehrenfels " و " مينونج " ملائما . وسرعان ما نطلقت – على أيدى علماء النفس – مفردات جديدة بشكل كامل ، فسمعنا عن : " التقدير ، والشعور بالمطلق ، والثمين ، ومحمول القيمة ، وحكم القيمة ، وخبرة القيمة Wertgefutehl," "Gefuehl des )
Wertvollen," "worth predicates." "value absolut judgments," "worth experience )
من ثم ، فمن الواضح أن مشكلة القيم نشأت بشكل مستقل عن النظرية الاخلاقية . ولم تكن النظرية الاخلاقية – فى الوقت نفسه – ضيفا على المناهج العلمية التى عمل علماء النفس على ادخالها ، فلم يحرص علماء النفس على أن يصبحوا متورطين فى النظرية الترانسندنتا لية وعلم الاخلاق الشكلى . واذا كان هناك على كلا الجانبين الميل الى السماح لكليها بالمضى كل بطريقته الخاصة . كان علماء النفس – على سبيل المثال – لا يرغبون فى الاختلاط بالاخلاق المعيارية ، واكتشفوا علم القيم .
بعد افتراق الطرق – لحسن الحظ أو لسوئه – واصلت المسارات فى التباعد . كان علم النفس وعلم الأخلاق متجهين الى نفس المكان ، وتقرير خصال الانسان ، ولكن كلا منهما ادعى أنه يعرف الطريق أفضل من الآخر وهكذا افترقا . لقد ظلا متباعدين حتى يومنا هذا ، وظلت مشكلة القيم فى معظم الحالات مشكلة مستقلة حتى المناقشات الأخيرة . ومع ذلك – توجد علامات للمصالحة اليوم .
فى الوقت نفسه طور علماء النفس عدة نظريات للقيمة جميعها أكثر أو اقل فى درجة ارتباطها لأنهم كانوا يعملون بنفس الأ سا ليب . كان " اهرنفيلز " و " مينونج " هما الرائدين فى ألمانيا ، وفى هذا البلد – أمريكا – كان البرفيسور " اربان " الذى كان كتايه يعد من أكثر الكتب المتاحة عن هذا المنهج . وقد هوجمت المشكلة بالأساليب المعتادة وبأهداف علم النفس البنيوى .
أول شىء تم القيام به كان العثور على أساس القيم . وكان واضحا أن الاساس يمكن ايجاده فى العنصر " المزاجى " – أو الميولى – وهو عنصر ذهنى مثل الشعور أو الرغبة . هذا العنصر الأساسى تم العثور عليه ، ولكن ظل لتحليل العناصر البنيوية لأحكام القيمة ، وعلاقة هذا بالموضوعات التى تشير اليها . باختصار كانت المشكلة احدى مشاكل تحليل العناصر البنيوية للوعى ، وارتباطاتها وعلاقاتها .
كان المتبع ، حتى فى أكثر المناهج تجريبية ، نهجا تقليديا . الميل والبغض والرضاوعدمالرضا قد اتخذت كعناصر مجردة من بيئتها الطبيعية ونوقشت فى تجريد ، ولكن ليس باعتبارها مجردات . وقد عانت التجارب المأوفة مع الأحكام ، خاصة الأحكام الجما لية من هذا التجريد ، وسوف يقال الكثير عن هذا فيما بعد .
على النقيض من هذا النهج جاء نهج آخر لدراسة هذه المشكلة مع حلقة مختلفة . كان هناك شىء ما عن مشكلة القيم ، بل وعن مصطلح القيمة فى حد ذاته ، الأمر الذى يجعل المرء يتناوله مع الرهبة والمهابة . هناك شىء ما دينى عنه ، والمرء يشعر كما لوكان فى حضرة شىء ذى أهمية قصوى . بالطبع كان يتضمن الحماس الذى حرك من خلال تعبيرات مثل "الخير الأسمى " و " النداء الباطنى للانسان " وعدم مساعدة المرء على الشعور، او على الأقل الرجفة ، بتعبيرات مثل " مصطلح القيمة المطلقة كمفهوم أساسى للفلسفة الأخلاقية " .
الا ان الحماس الاخلاقى ازداد من خلال الشعور الدينى بأهميته التى تحوم حول القيمة . ويتضح ذلك من خلال الاهتمام الشديد لطلاب الفلسفة وعلم النفس بالدين ، وقال البعض بأن الدين هو المحافظ على القيم بشكل اسا سى . علماء نفس الدين وجدوا مساعدة قيمة فى الاشارة الى أهمية القيمة لأفكاردينية محددة ، قيمتها تستخدم غالبا للاعتذار عن فظا ظة هذه الأفكار .
وسوف يصبح واضحا فيما بعد كيف كان الشعور الطبيعى بالأهمية بالنسبة لمشكلة القيم ، ولكن المهم هنا هو الموقف التقديرى تجاه مشكلة القيم منفصلا عن – ومتميزا من – وبمعنى ما معارضا لعلم النفس الوصفى ، والسعى الى مرافقة نظرية ا لمعرفة المثالية ، والميتافيزيقا المطلقة للاهوت .
علم النفس التحليلى بانشقاقه واعادة انشقاقه وتجريداته وانحرافاته سرعان ما سلب مفهوم القيمة بريقها . ولذلك فمن المتوقع تماما أن التقدير الأكثر للمشكلة قد تم ابعاده عن علم النفس ، ويجب السعى الى موئل مضياف . والمثال هلى هذا الموقف هو البروفيسور " مينستربيرج " فى ( فلسفة القيم Philosophie der Werte ) والمعروف باسم " القيم الأبدية " . انها قصة قديمة عن الزهور وعا لم النبا ت والفنان : فقد زعم عالم النبات أنه يعرف الزهرة حقا ، الأمر الذى نفاه الفنان على الفور ، ونسب المعرفة لنفسه . مع ذلك –اكثر البروفيسور " مينستربيرج " التنازل . فهو يدرك كلا النهجين بالنسبة لهذه المشكلة . ويقول بأن أحدهما يكمل الآخر ، موضحا انهما يمثلان جانبين أساسيين يمكن بموجبهما دراسة مشكلة القيم .
عمل البروفيسور " اربان " وضعى وعمل الآخر مثالى ؛ احدهما يتعامل مع الجا نب النسبى لقيمنا ، بينما يتعامل الآخر مع القيم باعتبارها حقا ئق مطلقة ؛ أحدهما سيكولوجى والاخر ابستمولوجى ، أحدهما يحلل ويفسر الحقا ئق ، بينما يهدف الآخر الى اقامة نظام غائى .
القاء نظرة على صفحة أو صفحتين للبروفيسور " مينستربيرج " : من" القيم الأبدية " تعطينا خلفية عن الكتاب . فهو يبدأ :
" هل يوجد شىء فى العالم له قيمة فى حد ذاته ؟ هذا هو سؤالنا . بالطبع هناك العديد من الأشياء التى لها قيمة بالنسبة لنا لاننا أنا وانت نميل اليها ، أو لأنها مفيدة لغرض معين ؛ و مفيدة لنا . الا أن هذه القيم تعتمد على وجهة نظرنا الخاصة . فقد يكون شىء ما مفيدا لى وغير مفيد لجارى ، وقد يكون مقبولا لفئتنا الاجتماعية ولكنه غير مستحب لأمم أخرى أو فى عصور أخرى . فحتى حقائق اليوم لم تكن حقائق بالأمس ، وقد لا تقوم باعتبارها حقائق غدا .
...يبدو كل شىء يعتمد على وجهة نظر فردية ، وبناءا على الرغبات الفردية . الحقيقة لا شىء لكن هذا الأمر يساعدنا على تحقيق اهدافنا ، فالجمال لا شىء سوى ماننشده متناغما مع حواسنا ، والأخلاق لاشىء غير وصفات مفيدة تؤمن الراحة لفئاتنا الاجتماعية الخاصة ؛ والدين لا شىء سوى الافتراضات التى تعطينا الأمل . باختصار، ما نسميه نحن قيمة يبدو مجرد وسيلة لاشباع نزوات شخصية تتغير من عصر الى عصر ، ومن شعب الى شعب ، ومن مجموعة الى مجموعة أخرى ، ومن انسان الى انسان .
بصراحة هذا هو الاعتقد الفلسفى للغالبية الساحقة من المفكرين اليوم . المؤمن المخلص – بالتأكيد- يشعر بأن الحقيقة دينية تجعله فى اتصال مع شىء ما ذى قيمة مطلقة . والانسان الأخلاقى الذى يضحى بحياته متابعا نداء الواجب ويعتقد من اعماق قلبه أن الفعل الاخلاقى قيمة مطلقة . والفنان الذى يبدع شيئا من الجمال يتخيل أن الها مه – ايضا – يفتح له عالم القيم المطلقة . والمصلح الاجتماعى ورجل الدولة والرائد ورئيس فريق الصناعة ، عندما يكافحون من أجل تقدم البشرية ، يشعرون بان التقدم اليشرى هو شىء له قيمة مطلقة . والقاضى عندما يعمل على المنصة يكون ممتلئا بالاعتقاد بأن سيادة العدل بين الناس قيمة مطلقة . والباحث عن الحقيقة فى خضم بحثه العلمى يرتقى حقا من خلال الاقتناع الى أن الحقيقة الكاملة بمثابة شىء له قيمة ابدية .
الا ان هذه القناعات والمعتقدات وهذا الايمان والالهام ، لابد ان يتلاشى على ما يبدو فى اى وقت يبدأ الفيلسوف فى دراسته . فقد رأى أنها لاشىء سوى أوهام خادعة سارة لسعى الانسان ، ففى الواقع لاوجود لقيم مطلقة . كل شىء نسبى ، وكل شىء يعتبر خيرا فحسب بالنسبة لغرض محدد ، وبالنسبة لفترة معينة ولمجموعة معينة ولفرد معين . الخير والجمال والتقدم والسلام والدين والحقيقة ذات قيم براجماتية فحسب . انها تساعدنا فى غاياتنا الشخصية . مثلنا وحياتنا ليست ذات قيمة فى حد ذاتها . الحلم بأبدية القيم يجب أن يوضح سيكولوجيا ببساطة كأوهام قصة خيالية . الشك الفلسفى والنسبية هما الكلمة الأخيرة ، وجوابهما ينسجم مع نزعات التشوش الألف فى عصرنا " ( ص ص 1&2 ) .
لقد نقلت بشىء من التفصيل ، لأنه يبدو لى أن هذه المقاطع تقدم ملخصا ليس لهذا الكتا ب فقط ، بل للكثير من النقاش الحالى بشكل عام . ونحن نجد النقيض ، لذا قدمت ما يلفت النظر هنا ، وما يبرز على نحو غير متوقع باستمرار ، ويبدو ان التنا قض الاسا سى لسيكولوجية حالة الوعى يعارض الأخلاق الميتافيزيقية .
العبارة الأكثر أهمية فى الاقتباس السا بق هى : الحقيقة لا شىء ولكن هذا الأمر يساعدنا على تحقيق اهدافنا . والقيم وسائل لاشباع نزواتنا الشخصية ، واخير والجمال والتقدم والسلام والدين والحقيقة ذات قيم براجماتية فحسب " . علم النفس والنظرية الامبريقية يحملان كراهية ل " فقط " و " لا شىء الا " .
والآن قد انتعشت هذه الكراهية كثيرا على أيدى مؤيدى الراى المطلق . وليس من المستغرب الآن ان نسمع " لا شىء سوى المطلق " و " الثابت فقط " و " الابدى فحسب " . هذا التحول – الى حد كبير – تم انجازه على ايدى علم النفس الوظيفى والبراجماتية ، فقد عنيا بالمضى معا مرة أخرى بالاخلاق وعلم النفس فى علاقتهما بمشكلة القيم . وقد عنيا كذلك بعمل جديد للخروج من المشكلة بمصطلحات ليست عناصر ذهنية مجردة ، ولا مصطلحات عاطفية مثالية ،بل بمصطلحات للنشاط باعتباره مشروطا بالبيئة الطبيعية والاجتماعية .
علم النفس الوظيفى منا قض من جهة لحالة الوعى السيكولوجى البنيوية ، ومن جهة أخر ، منا قض للنظرية الابدية المطلقة . مما يبين أن نهجى " مونتسبيرج " و " اربان " ليسا النهجين المعاصرين فحسب . من خلال رفضهما الفصل بين العا لم الداخلى والخارجى بجدار حجرى اضطرا الى التعا مل ليس مع الاشباع الشخصى المجرد ولا مع المطلقات الا بد ية .
المساهما ت فى هذا النهج الجديد لنظرية القيم هامة وبعيدة المدى . وسأحاول فى الصفحات التا لية ان أجمع عددا قليلا من اقتراحات ونتا ئج المناقشات التى جرت مؤخرا والتى تبدو مميزة للتقدم المقررفى نظرية القيم، والذى يعد بأن تكون مثمرة فى المستقبل .
اسمحوا لى بداية أن اقترح بان نفكر فى الصفة " قيم أو ذى قيمة " باعتبارها الأساس وليس الاسم " قيمة " . تظهر القيم فى الطبيعة كما يقول الكيميائى فى شكل الصفة " قيم " باعتبارها سما ت للموضوعات . والاسم مشتق من بشكل مباشر من الصفة يجب أن يكون " قيما " ، فعلى سبيل المثال يمكن تسمية الموضوعات التى تمتلك صفة "قيم " بأنها موضوعات ذات قيمة . ثم اننا قد نتحدث عن الصفة قيم بشكل مجرد ونستدعى الصفة " قيمة " تماما كما نشتق الصلابة من الصلب ، والبياض من أبيض . مصطلح قيمة بهذا المعنى باعتباره اسما مجردا " نفاسة valuableness " يدل على الصفة كما رآها " أرسطو" .
ولكن الاستخدام الحالى حددايضا مصطلح " القيم " بالأشياء القيمة الثمينة ؛ بحيث يمكن للمرء فى كثير من الأحيان أن يتكلم بالكاد عن عن معنيين تم استخدامهما ويؤديان الى خلط كبير . بل بالأحرى من الصعب أن نرى كيف يمكن للمرء الحديث عن القيم فى صيغة الجمع بمعنى " النفاسة valuableness " ؛اذا لم يكن المرء يتحدث عن نوع مختلف من صفة القيمة .
على العموم ، فيما اعتقد ، ان مصطلح القيمة عندما يستخدم بشكل ملموس ( قيمة وقيم ) وما الى ذلك ، يستخدم بمعنى أن شيئا له قيمة ، وموضوعا ذو قيمة . ولسوف أحاول الاحتفاظ بهذا التمييز وحيث أننى لن استبدل مصطلحى " اشياء ذات قيمة " أو " نفاسة " واننى آمل أن يوضح السياق ما اذا كان المصطلح يستخدم بشكل ملموس او بشكل تجريدى .
والسؤال التالى : كيف تصبح الموضوعات ذات قيمة ؟ أو لوضع السؤال فى صورة أقل خداعا ، كيف وصلت الموضوعات ذات القيمة الى هذه الحالة ؟ . نحن نتوقع وجود أبسط حالات القيم فى ابسط أشكال الطبيعة ، فى الطبيعة العضوية . وقد يمكننا – على سبيل المثال – الحديث عن الشمس باعتبارها ذات قيمة بالنسبة لتسخين حجر ، فمن منظور الحجر الساخن تعد الشمس ذات قيمة بقدر ما تستطيع تسخين الحجر . وبالمثل يمكننا الحديث عن اى دافع باعتباره ذا قيمة لانتاج الاثر الذى يمكن انتاجه تحت ظروف معينة .
لكننا نتكلم هنا عن القيمة بالمعنى المحتمل الواسع للغا ية . فأى شىء ذى قيمة فيما يتعلق بامكا نياته تحت الظروف المتغيرة . وعلى الأقل بوسعنا القول بأنه بدون قيمة التغير سيكون ذلك مستحيلا . ولكننى اعتقد أننا اذا درسنا الموقف عن كثب فاننا سنجد عنصرا آخر . فالموضوع يجب أن تكون له قيمة ليس بالنسبة لشىء ما فقط ، بل بشىء ما ، أو من الأفضل القول ، لكى يصبح الموضوع ذا قيمة بالنسبة لشى ما يجب أن يكون ذا قيمة بشىء ما .
ننتقل الى التوضيح ، ان لم يكن هناك الوضع الذى يوجد فيه الحجر باعتباره مسخنا فلا يمكن أن تكون هناك قيمة للشمس باعتبارها مسخنة للحجر . اذا كانت القيمة مسندة الى الشمس باعتبارها الموضوع المسخن للحجر ، فانها يجب أن تكون ذات قيمة لمثل هذا الوضع . والان يمكننا البحث فى الطبيعة غيرالعضوية وغير الحية العليا والدنيا ولن نجد مثل هذا الوضع . الحجر هو ببساطة – لا لشىء ما – فهو لم يكن أكثر حرارة مما هو عليه الى أن يتحطم ؛ وتبدو الطبيعة غير العضوية غير مبالية للقيم .فقط عندما نضع الحجر والشمس فى علاقة لنشاط ما يوظف الحجر فيه باعتباره شيئا يتم تسخينه وتصبح الشمس حائزة على القيمة .
عندما ننتقل الى الطبيعة العضوية والكا ئنات الحية نجد مثل هذا النشاط . نحن نجد كا ئنا ت مجمعة نفسها - اشارة الى – االنبا ت والحيوان باعتبارها ذات قيمة أو غير ذى قيمة لمزاولة بعض الأنشطة . يصبح ثانى اوكسيد الكربون ذا قيمة بالنسبة للنبات لاعداد الغذاء . والنبا ت بفضل كونه كائنا حيا يزاول النشا ط الانتقائى خلق وضعا تكون فيه الموضوعات ذات القيمة ذات صلة به ، وفقط بقدر ما هو طبيعى هو ذو صلة .
عندما ننتقل الى الطبيعة الانسانية يواجهنا نفس الموقف . فنجد هنا نشاطا انتقائيا أكثر تعقيدا . فنجد اهتمامات نشطة وميولا ورغبات وارادات وتكيفات ، سمها ماشئت ، وموجهة الى غايات محددة . ومن المعروف ان الأشياء تكتسب معنى باعتبارها تعزز أو تحبط هذه الاهتمامات ، وتكون النتيجة هى الخيرات والشرور والموضوعات القيمة وغير القيمة . لقد جعل علم النفس الوظيفى والمنطق البراجماتى لنا ألفة بهذا الموضوع ولا جدوى للخوض فى ذلك هنا . 1- موضوع له قيم .2- كائن حى او نشاط له قيمة ( أو يكون له قيمة ) . 3- الغا ية أو الهدف اللذين من أجلهما يشار الى ما له قيمة .
كل هذه العوامل الثلاثة تبدو ضرورية لوضع القيمة ، وعلى الرغم من ان تقد يم نبذة موجزة للنظرية الرائدة للقيمة تكشف حقيقة أنه جرت العادة على تجاهل واحد اوأكثر من هذه العوامل فى التعامل مع وضع القيمة ، وقد شوهت المناهج والنت ئج وفقا لذلك ولقد رأى علماء النفس المثاليين الذاتيين والاستبطانيين أن القيم هى منتجات الوعىومحددة بالرغبة الانسانية والشعور الانسا نى . والعوامل الأخرى تم تجاهلها بشكل مباشر وتمحور النقاش حول المحتوى الذهنى لحكم القيمة . وقد درس التقويم فى حد ذاته والموضوع المقوم ، والغا ية المحددة لما هو مقوم قد اعتبرت غير ذات صلة أو حتى معدومة . على الفور ارتفعت صرخة النسبية والذاتية من قبل أنصار المثا لية المطلقة والواقعية المطلقة .
يجب أن تكون لدينا قيما مستقلة . هذا يؤدى الى التركيز المفرط على الموضوعات ذات القيمة باعتبارها مستقلة عن الرغبات والاهتمامات الانسا نية . وبالتا لى كان النزاع على مدى موضوعية القيم مقابل ذاتيتها كان يقوم على نسخة مكررة من النزاع حول الصفات . بالطبع القيم الانسانية ذات صلة بالنشاط الانسانى ورغبات الانسان ولكن هذا ليس سببا لازدرائها باعتبارها ذاتية فحسب . هل انعدام الصلة – او لوضعها الاقوى قليلا – هل القيم عديمة الصلة هى الأفضل ؟ .
با لطبع ، القيم موضوعية ، سواء كانت متعلقة بالموضوعا ت ومتحكمة وموجهة لعوامل الخبرة الانسا نية ، ولكن لمذا يجب أن تقوم ، وبالتالى تكون صفة أبدية لموضوعات معينة مستقلة عن علاقات هذه الموضوعات بالمواقف العملية ؟ . ليست هناك حاجة للتعامل مع القيم بمصطلحات الذات والموضوع . اذا أخذت القيم فحسب باعتبار حدوثها طبيعيا - وبشكل خاص – وعمليا ، يمكن تجنب الكثير من المناقشة عديمة الجدوى .
بجانب علم النفس التجريبى كان هناك فشل مماثل لأخذ الموقف برمته . لأغراض التجريب تم اختيار عوامل معينة من موقف القيمة ونبذ العوامل الأخرى غير ذات الصلة ، وهكذا كانت نتائج التجارب خادعة وعلى الأقل ضبا بية . وقد كانت معظم التجارب على أ حكام التقويم للقيم الجمالية ، احكاما عن الميل والبغض والعذوبة وعدم العذوبة . وكان الموضوع مطلوبا من أجل الاستحقاق لعدد من الالوان والاشكال والاصوات وأى شىء .
والسؤال الذى يطرح نفسه هو : هل هو السار أم غير السار ؟ ما الذى يعد أكثر اشباعا ؟ هل ما تميل اليه هو الأفضل ؟ ولكن لنفترض أن الذات يجب أن تسأل :لماذا أفضل ؟ ماهو اكثر ارضاءاهل هو القرمزى أو وحيد اللون ؟ سار و مرض من أجل ماذا ؟ .بالنسبة للمنزل ،للملبس ، لوقت غروب الشمس ،أو لغرف النوم ؟ " لايهم " سوف يقول المجرب ليس ارضاء ا لأى شىء على وجه الخصوص ، انه ارضاء بشكل عام . ولكن هل الاشياء سارة أو غير سارة ، ومرضية أو غير مرضية ، ومحببة أم لا ، بشكل عام ؟
اليست هذه الاحكام فى الممارسة ذات صلة بمواقف معينة . فالتقويمات الحقيقية لاتتم أبدا بشكل عا م ،وتشير القيم دائما الى شىء محدد، فهى ذات قيمة بالنسبة لشىء ما محدد . ولذلك نسأل: ما الذى يعد أكثر قيمة من هذه ؟ دون القول لماذا له قيمة ، يعد أمرا محرجا على أقل تقدير . انه يجرد التقويم من كل أصالته . من الممكن جدولة نتائج هذه التجارب والحصول على بعض الارتباطا ت و الاتفاقات ، ولكن هل هذا يشير الى أى شىء مهم عن القيمة ؟
هذا التجريد للتقويم خاصية عملية لكل دراسة تجريبية لأحكام التقويم ويجعلها ذات أهمية ضئيلة بالنسبة لدراسة القيمة والتقويم كما تحدث فعلا . وقد تم تطبيق نفس الاسلوب لتحديد القيمة النسبية للأنواع المتبا ينة من القيم ، ولكن ما هو اكثر من ذلك يمكن قوله فيما بعد .
الضرورى الآن هو أن الدراسة السيكولوجية تتم باحكام ، فى مواقفها الطبيعية والخاصة . ولا يمكن دراستها على أنها تجريدية ، ولابد من دراستها فى علاقاتها الوظيفية ، وتنطوى هذه على دراسة لكل العوامل الثلاثة لموقف القيمة فى علاقاتها الملائمة والمحددة .
تبدو القيمة مع هذاالموضوع – حينئذ – أساسا على أنها صفة لموضوع بموجبها يصير وسيلة لتحقيق غاية. والآن الوسيلة والغاية مصطلحان نسبيان . فيمكن النظر للشىء نفسه على أنه وسيلة كما يمكن النظر اليه على أنه غا ية وهو يكون ذا قيمة بقد ر الحالة التى يكون عليها . تتضمن العلاقة بين الوسيلة والغاية نشاطا انتقائيا . فنحن نرى غايات فى الطبيعة غير العضوية والاشكال الدنيا للحياة ، اذا كنا دعوناهاهكذا ، أو أن الامكانات قد أدركت بدون واسطة . تنصهر الوسائل والغايات فى الامكانية ، ومن وجهة نظر الأمر الواقع ، باستخدام المصطلحات الأرسطية ، هذه الامكانيات يمكن أن تسمى قيما بالمعنى الواسع جدا ، كما رأينا فى السابق .
لكن فى أسمى صور الحياة – وبصفة خاصة – الانسان ، تصبح الوسائل والغايات أكثر وأكثر تميزا . يصبح النشاط قصديا أكثر وأكثر توسطا . لاتزيد الوسائل عدديا ، بل يكون الاجراء أكثر دقة وحذقا . هنا بوسعنا القول ، أنه يكمن فى التاريخ برمته وتقدم البشرية . هذه العملية برمتها بالاتساق المتزايد والهدف الدقيق للنشاط تعنى تكاثر وتشعب مواقف القيمة . ولأن تعقيد القيم لم ينتج من خلال تكاثر الغايات كما نتج من خلال تكا ثر الوسا ئل لتحقيق الغايات ، أو بالأحرى من خلال تحول الغايات الى وسائل .
تكشف الطبيعة البدا ئية عن العديد من الامكا نا ت المحققة ، ولكن يوجد االقليل من التنسيق بين هذه العمليات ، ولا توجد وسيلة تتم بها تحقيق الامكانات بشكل تراكمى . وانما فى النشاط الانسانى يوجد لدينا النشاط التراكمى من النوع المتقدم ، فاحدى الغا يات تخدم الغا ية الأخرى ، ويتم تنظيم القيم وجعلها تخدم الغرض المشترك . وبعبارة اخرى ، بالعبور من الطبيعة البدائية الى الطبيعة البشرية فان " ماله قيمة ب.. " و " ما له قيمة من اجل " ؛عناصر فى موقف القيمة تصبح منفصلة ومتميزة بشكل متزايد .
السؤل الذى يطرح نفسه هنا : اليست الغايات باعتبارها غايات ذات قيمة ؟ ألا يجب عالينا اسناد القيمة الى هذه الاشياء بعدما بذ لنا كل ما فى وسعنا لأن سعينا كان بعد هذه الأشياء ؟ أليست الغايات الانسانية خيرا فى ذاتها ؟ كثيرا مايحتفظ بها ويستمر الابقاء عليها على نطاق واسع ، وهذا هو بالضبط ما يشكل القيم والخير ، فهى خير فى ذاتها وقيمة فى حد ذاتها . وهذا هو – على سبيل المثال خلا ف " مونستربيرج " – كما نراه – " هل يوجد اى شىء فى العا لم له قيم فى حد ذاته ؟ وفقا لقائمته للقيم الأبد ية التى تشمل الاشياء والاشخا ص والتقويمات والطبيعة والتاريخ ، وما الى ذلك . يبدو هذا تعددا بعيد المدى بالنسبة لبعض العقول ، ويجب عليهم ايجاد القيم الأبدية ، على أية حال ، كان البحث عن الخير الأسمى هو المغامرة المفضلة لدى الفلاسفة منذ "أرسطو" .
يعرف "أرسطو " مايتحدث عنه – على ما يبدو . فهو يقول لنا بأن الخير هو ما نهدف اليه . فالصحة خير الطب والسفينة خير بناء السفن والرفاهية والرعاية وفقا لذلك هى خير الانسان ، كوجود اجتماعى ، وبما أن هذا يشمل كل ما يهدف الى الخير بالمعنى الأعم ، فقد رأى أنه – هو- الخير والشىء الذى يهدف الى الامتياز . حا ليا هذا واضح بشكل حاسم .
لكن عندما بدأ " الاكوينى " و" كانط " و " هيجل " الحديث عن " خير " و " الخير " كا نا – أى خير والخير – يعنيان شيئين مختلفين تما ما . وعندما حاولوا الخدعة نفسها – على ما يبدو – تلك التى قام بها أرسطو ، لم يستطيعوا تقديمها بشكل جيد . وكانت المشكلة التى يتحدثون عنها من نوع مختلف عن الخير . على سبيل المثال – النفعية خير ، والتى قد نقصر أنفسنا عليها من أجل هذا الغرض الحالى ، هى ليست " ذلك الشىء الذى تهدف الي " ، بل " هى الشىء المفيد " . الخير بهذا المعنى ، هو الشىء المفيد ، وما نسميها قيمة ، هى الأشياء الثمينة – او ذات القيمة .
والآن هذا النوع من أنواع الخير الذى يسأل الناس عنه : ما الخير الاسمى ؟ أو كم يقولون الآن ما هى اليقمة الأسمى ؟ دعنا نرى الآثار المترتبة على هذا المفهوم . نحن قد نتحدث امبريقيا عن القيمة الاسمى – اى – قد يكون من الممكن المقارنة نظريا بين كل ما لها قيمة وترتيبها تبعا للجدارة وفقا لقيمتها النسبية فى جميع أنواع الحالات ( المواقف ) ، وعدد الحالات التى كانت فيها ذات قيمة ، وما الى ذلك ، واحداها ( أحدى القيم ) اأس القا ئمة يمكن تسميتها بالقيمة الأسمى . ولكن لم يحاول أحد ابدا الوصول الى القيمة الأسمى من هذا النوع ، لعدم امكانية ذلك من الناحية العملية ، بل ولم يكن هناك الدافع لايجادها ، لأنه سوف يكون بلا معنى كونها مطلقة وأبدية ، لأنه مع الحالات المتغيرة تم ابطالها ، ولن تكون ذات قيمة بامتياز فى كل الحالات ، لانه فى أى حالة معينة قد يكون هناك موضع آخر أكثر قيمة .
القيمة الأسمى لن تكون الأسمى فى هذا المعنى ، انها أسمى لكونها ذات قيمة مطلقة وأبدية ومستقلة . بالنسبة لمفهومنا للقيم ، فان القيمة الأسمى يجب أن تكون حاصلة على أعظم قيمة لاى شىء ولأى شخص فى أى حالة . ما نوع الشىء الذى قد يستجيب لهذا الوصف ويكون مثيرا للاهتمام من اجل التامل ، الا أن مايهمنا هنا هو أنه اذا كان يجب أن يكون هناك مثل هذه القيمة الأسمى فان الادعاء بها يجب أن يرتكز على أساس امبريقى ، وهذا للوهلة الاولى مستحيل . لمن يحاول أن يحلل كل أو ما يقرب من جميع الحالات المحتملة التى تنشأ فيها القيم ، على امل العثور على قيمة شاملة أكبر من أى شىء آخر ؟ .
نفس الشىء يصدق على أى عدد من هذه القيم الأبدية . بالطبع الحب والسعادة والاخلاص والصواب ، قد تتم معالجتها بشكل ملموس . باعتبارها قيما ، ولكن ليست جيدة من الناحية السيكولوجية . هذه قد تكون ذات مغزى باعتبارها دوافع واهتمامات أو غايات ، ولكنها لهذا السبب ليست قيما أبدية ، وليست قيما على الاطلاق . ان من الصعب بالنسبة لى أن اتخيل فقط ماذا يعنى عندما يتم الحديث عن الغايات كغايات على انها قيم . انها لا تبدو لى مندرجة فى اطارمقولة القيمة .
مما يمكن تصوره أن ينظر الى الغايات الانسانية على أنها مفيدة وكوسيلة ، من خلال نوع آخر من الخبرة مثلها فى ذلك مثل المجهول او المطلق – على سبيل المثال – ولكن ضمن التجربة الانسا نية هى فحسب مثلما يتم النظر اليها وفقا لغاياتنا القادرة على قيادتنا الى شىء ما آخر . بعض الغايات الانسانية يمكن اسناد القيمة اليها . وهكذا فاننا قد نمنح ذلك رفاهية الخير الرئيسى ، والذى تهدف كل الأشياء اليه ، ولكن على هذا النحو ليس من الضرورى أن يكون ، أو حتى يكون قيمة. قد يكون عديم القيمة ، بل وليس ذا قيمة .
الاعتراض الكبير الكامن فى لب كل خصوم القيم النسبية هو أن النسبية لاتقدم معيارا للحكم بين التقويمات الحقيقية والزائفة . اذا كانت القيم ذات صلة بالرغبة الانسا نية ، فان أى موضوع مرغوب فيه يعد ذا قيمة ، وتسمى القيم الظاهرة قيما حقيقية ، ويكون الابيض أسود ، ويسمى الخير شرا ، وكل شىء فى هذا العا لم على مايرام . ومن هنا فالمجرد الذى يرتبط بالمصطلح النسبى ، لايدل فقط على الازدراء الفلسفى ، بل والسخط الاخلاقى من أجل التبرير – اذاكان ذلك ممكنا – فان شخصية صاحب الراى النسبى سوف يجيب على صاحب الرأى المطلق بطرح الأسئلة الآتية :
كيف يمكن اقامة تقويم حقيقى باستثناء ربطه بموقف معين والحكم على مدى كفاءته فى تحقيق وظيفته فى ذلك الشأ ن؟ . وبعبارة أخرى يمكن أن تكون القيمة جلية أو أصلية فحسب بالعلاقه بالخبرة وفى الخبرة ، وهذا بالضبط لأن صاحب الراى النسبى مهتم بوضع القيم للعمل . وبالتالى باختبارها ، لانه يرى أن القيم الانسانية نسبية وذات صلة بالخبرة الانسانية . لا تعنى النسبية تحديد المرغوب وما يمكن أن يكون مرغوبا فيه . اذا كان الموضوع المرغوب كقيمة قد اتضح بناءا على التأمل او الخبرة قد فشل فى ان يرقى الى الى مستوى الحالة ، فان التعرف على القيمة يكون على انها زائفة .
المعنى الدقيق للقيم مثل الحقائق ، هو انها ليست صادقة ولا كاذبة ، انها ببساطة تقوم ماهو صادق وماهو زائف . نحن لانحتاج الى مناقشة تفاصيل التحقق من التقويمات هنا ، باعتبارها مؤكدة من قبل البراجماتية فى اتصالها بالنظرية العامة للحقيقة والفكر . انها تحتاج فقط الى الاشارة الى أن نقد التقويم هو عمل العقل مطبقا على نحو سليم . استطاع التقويم فقط بنمو الادراك والتمييز الذكى ان يصبح اكثر دقة وكفاءة . لا توجد وصفة جاهزة وشاملة ، ووسيل اختبار مسبقة يمكن تطبيقها للحكم على القيم ، ولا وجود لاختصار الحقيقة . فصدق التقويم يجب اكتشافه من خلال العمل العقلى المستمر .
كان ترسيخ انواع القيم وما يتعلق بها ، دائما هو أحد الجوانب الحيوية لمشكلة القيم . الانواع التقليدية هى : القيم الاقتصادية والاخلاقية والجما لية والدينية والمنطقية والبيولوجية ، وربما يكون هناك نوع واحد أوأكثر . ليس من السهل أن نجعل علم النفس يقوم بالتفريق بين القيم . يبدو ان هناك أثرا لسيكولوجية الملكة القديمة فى ذلك ؛ يمكن المرء القول بأن القيم الدينية هى موضوع الملكة الدينية ، والقيم الجما لية هى موضوع الملكة الجما لية ، وما الى ذلك .
من السهل للغا ية أن نرى كيف جاءت القيم الاقتصادية لتكون عبارة عن نوع متميز ، وبالنسبة للاقتصاديين كانوا من أول من اهتموا بمشكلة القيم . وقد جاءت القيمة لدى الاقتصاديين ليتم التعبير عنها بمصطلحا ت التبادل ،وبالتالى كانت مختلفة عن الاستخدامات الأخرى . أما بالنسبة للانواع الأخرى فيبدو انها قد نشأت من قبل كل فرع من فروع الدراسة الفلسفية ، علم الجمال وعلم الأخلاق ، وغير ذلك، مدعيا أن القيمة تخصه بمفرده . أيا كانت الطريقة التى تحققت بها هذه الأنواع ، من الواضح تماما أن علم النفس لم يكن فى أساس التصنيف .
وقد بذلت محاولات من المناهج التجريبية وغيرها ، لتقديم مقياس للقيم الانسانية . والمنهج التجريبى عادة يتكون فى سؤال عدد كبير من الأشخاص الذين يكونون بالأحرى مثل اللص والغبى والحقير جدا والكافر والمنعزل ( المتوحد ) والساذج والمتكبر . وتتم جدولة الاجابات ، وعلى المقياس الامبريقى للقيم تأتى النتا ئج .
هذه هى نفس الطريقة التى اتبعت باعتبار السار وغير السا ر ترتيبا لاسلوب الجدارة المذكور أعلاه ، وهو يستحق نفس الانتقاد . تستخلص القيم من محيطها الطبيعى ومن ثم ترتب باعتبارها مستوى من التجريد . لم يتم عمل تصنيف علمى وسيكولوجى للقيم وليست المحاولة هنا ممكنة . لكن التجاهل للانواع التقليدية فى الوقت الحاضر جعلنا نسلط بعض الضوء على المشكلة فى تحليلنا لوضع القيمة .
الآن سوف يكون بوسعنا تصنيف القيم من ثلاث وجها ت نظر مختلفة . أولا وقبل كل شىء فد نميز انواعا مختلفة من الموضوعات ذات القيمة – اى - انواع الموضوعات الحاصلة على صفة القيمة . من وجهة النظر هذه قد نصل الى تصنيف من هذا القبيل كم يلى : ( 1 ) الموضوعات المادية مثل : الادوا ت والمواد الغذائية والملابس والبيانو والمسبحا ت . (2 ) المفاهيم او العمليا ت العقلية مثل : نذكر اسم والاستماع الى سيمفونية والتفكير فى الوطن والأمل فى السماء . ( 3 ) الانشطة مثل : كسب المال وغناء أغنية والمشى . ويمكن تصنيف الثا نية تحت الثا لثة . ( 4 ) المؤسسات الاجتماعية مثل : الاسرة والحكومة والعرف . وقد نبقى على هذا ، ولكن أقصر طريق لقول كل هذا يجب ان يكون القول بأن أى نوع من الموضوعات أيا كان يمكن أن نتصور ان له قيمة فى حالة ما أو أخرى .
ثانيا ، نحن قد نصنف القيم وفقا للاشياء التى يشار اليها فيها . من وجهة النظر هذه يمكننا التمييز بين : ( 1 ) قيم النبا ت ، وأشياء ذات قيمة للنبا ت . ( 2 ) قيم الحيوان . وندرج تحت قيم الحيوان ( 3 ) قيم الانسان وهذه قد نميز فيها : ( أ ) القيم الفردية والموضوعات التى ينظر اليها باعتبارها ذات قيمة للفرد ، ( ب ) القيم الاجتماعية أو المؤسسية ، وهذه ذات قيمة للمجتمع أو للمؤسسة . عند هذه النقطة لاشك فى اضافة القيم المطلقة ، والموضوعات ذات القيمة للخبرة المطلقة ، وما الى ذلك . ولكن يجب ان نكون أكثر تواضعا ونقتصر على القيم الدنيوية .
ثم هناك وجهة النظر الثا لثة التى بوسعنا تصنيفت القيم من خلالها ، أى التى تختص بالهدف ،والغاية التى من أجلها يكون الموضوع ذا قيمة . ولكننا تأتى هنا الى التنوع الذى يستعصى عمليا على التصنيف . فالغايات التى للاشياء ذات القيمة غايات محددة . ولا معنى لمحاولة تصنيف غايات النشاط على أساس غير الأساس المحدد ، فا لغايات ليست موجودة على الاطلاق ueberhaupt .
الحديث عن غايات الانشطة بشكل عام عللى الاطلاق مع الاشارة الى القيم لامعنى له ،الا أن ذلك عادة ما يكون فى أساس التصنيفات التقليدية . لمحاولة تصنيف غيا ت الانشطة على وجه التحديد – وهى – اذا لم تكن غير عملية بشكل كلى على الاقل ، فهى خارج نطاق هذا المقال .
لاتزال هناك وجهة نظر اخرى يمكن اعتمادها للتمييز بين انواع القيمة ، وهذه هى – فيما اعتقد – وجهة نظر معتمدة من التصنيف التقليدى ، أو يعتقد انها تمثل ما يهدف اليه التصنيف التقليدى ، او يعتقد أنها تهدف الى القيام به . قد نحاول تصنيف القيم المجردة لا القيم الواقعية – أى – بدلا من تصنيف ما له قيمة ، نصنف أنوع صفات القيمة . من المفترض أن القيم الاقتصادية والقيم الدينية تصف أنواعا مختلفة من صفات القيمة .
فما وصف بأنه حالة قيمة ، يقولون لنا ، انه يمثل نوعا واحدا من القيمة ، القيمة النفعية . ويقولون هناك على سبيل المثال أن القيمة فى حد ذاتها ، هى موضوعات ذات قيمة بذاتها . هذا النوع المختلف من صفة القيمة ، موضوعاته ذات قيمة لا لأنها مفيدة ،بل لأنها ببساطة ذات قيمة . وهكذا – يقولون – ان من الممكن التمييز بين أنواع صفات القيمة ، مثل التمييز بين ألوان الطيف . اعتراضى على ذلك هو أن هناك اتجاها لسلب مصطلح القيمة بمعناه الحاسم ؛ معنى " القيمة " قد مد على نحو غير ملائم وصار يحتضن معان ليست ملازمة له . لم يتم الاحتفاظ بالتمييز الأصلى فى الذهن فاصبح المصطلح بلا معنى .
قد قيل ما يكفى من أجل التصنيف المؤقت للقيم لابراز نقطة واحدة ، وهذا الاهم بالنسبة لاغراضنا الحا لية ، وهى أن طريقة واحدة لتمييز أنواع القيم هى تمييز الوظائف فى حالات القيمة المحددة . أى شىء قد يكون نوعا من القيمة ، ويتوقف هذا على وظيفته فى حالة معينة . لايمكن تمييز انواع القيم بشكل مطلق وفى استقلال عن الظروف ، ولا يمكن أن يكون أى شىء قد حدد لنوع واحد من القيم يشكل عام . القيم بطبيعتها خاصة ولا يمكن أن تصنف بشكل تجريدى دون الاشارة الى الحالات الخاصة .
ينطبق نفس الانتقاد على أكثر التصنيف العا م للقيم على أنها أسمى وأدنى . القيم الد ينية والاخلاقية والجما لية تسمى قيما عليا عادة ، والقيم البيولوجية – على سبيل المثال – تسمى قيما دنيا . لكن هذه التسمية للقيم باعتبارها اسمى وأدنى مستحيلة وغير عملية مثل أى مقياس مطلق للقيم . المعنى الواضح الممكن الوحيد للقيم الأسمى والأدنى هو الموضوع الأكثر قيمة أو اقل قيمة – على الترتيب – فى حالة معينة . وهكذا اذا أردنا الحديث عن القيم العليا أو الأسمى ، يجب علينا أن نتاهل بالقول – نظرا لبعض الاحوال – بأن" الخبرة والتفكير تبين أن ( س ) أعلى قيمة من ( ص ) .
لبس بوسعنا ترك الموضوع دون الاشارة الى مشكلة القيم باعتبارها معايير وعوامل سيطرة على السلوك البشرى . تحكم القيم فى سلوكنا ليس مثالية أخلاقية بل حقيقة عملية . لكن من الواضح تماما أن التقويمات التى تحكم سلوكنا فى معظمها صنعت لأجلنا ، وليس بواسطتنا – أى بمعنى أنها عوامل فى بيئتنا الاجتماعية ، وليست مجرد منتجات لتميزنا الفكرى الفردى . والآن لأن التقويمات الاجتماعية عادة ماتكون نتيجة للصدفة والظروف وليست منتجات للتمييز الفكرى ، فيترتب على ذلك أن التقويما ت الاجتماعية ليست بالضرورة أفضل ما يمكن تحقيقه .
من ثم ، المشكلة الاخلاقية للقيم هى تطوير لدقة التقويم ، وتنظيم القيم من أجل تعزيز الفعالية ، لوضع القيم للعمل بقصد الاكتشاف والاستفادة من المعرفة وبالتالى اكتسابها . يجب أن تسعى التنظيمات والمنظم ت الاجتماعية للاستفادة بالقيم التى يكتشفها العقل ؛ ويجب أن تكون القيم متكيفة لتلبية الاهداف والاحتياجات الانسانية . هذا ، وقد راينا ، أن عمل الادراك باستمرار وبشكل ملموس مطبقا . وهذا يعيدنا الى المشكلة التعليمية ، وذلك للتطوير فى المهارة الفردية ودقة التمييز الفكرى .
التعليم يجب الا يكون مجرد ابهار وفرض على التقويمات الاجتماعية والفردية الجاهزة كمعايير ، يجب أن يسعى ليضع تقنية التقويم الصحيح ويجب أن لا يكون المجتمع متضمنا الحفاظ على القانون الحالى والنظام عن طريق التعليم ؛ ويجب أن يسعى لجعل ثمار التعليم وسيلة لتقدمه .
لقد رأينا كيف أن علم نفس القيم اظهر محاولة لتطوير نظرية علمية للخير الانسانى ضد أكثر من نظرية أخلاقية مطلقة . وقد رسمنا تقدمها ولاحظنا أهميتها الاجتماعية . ولقد خدمت قضية التقدم ، وأكدت على الحاجة الى اعادة تقويم واعادة تنظيم الانشطة الاجتماعية . ومن جهة أخرى راينا كيف أن علم نفس القيم قد ضغط لخدمة القيم لدعم الموضوع ليصل الى ما يشكل رد الفعل . بعض القيم رفعت وأعطيت أهمية مطلقة ، ونظر اليها باعتبارها اشياء ا مصونة .
ما ننشده هنا ينبغى على علم النفس ألا يتحول الى خائن للقضية بأن يصبح محافظا ووصيا على القيم . علم النفس العلمى يجب أن يدرك عندما يتم التعامل مع القيم عليه أن يتعامل مع القوى التقدمية . القيم أدوات للتقدم ، ودون تغيير فى اتجاه التقدم فانها تفقد وظيفتها ومعناها . القيمة ليست جزءا ثابتا مطلقا من الحقيقة ، بل خاصية مميزة للطبيعة عن طريق ما يجعل النشاط العضوى ممكنا ودفعه الى كما له .
***
هربرت و. شنايدر
ترجمة : د. رمضان الصباغ