الخيط الثاني للقدر:
نعمة المسيري:
كان استقرار نعمة الجديد بمدينة طنجة. تشافت من إصابتها واسترجعت شكلها الجميل. ربما أفضل مما كانت عليه. بوادر السمنة التي زادتها وزنا في البداية، انمحت وانمحت معها آثار انتفاخ امعاء وجنبات بطن.
طنجة، بوابة بحر و بالوعة احتواء. حدة تناقضاتها تخلق أشكال تطرف بين أقصى أطرافها، بين تزمت وانحلال. لكنها قد تخلق مزيج هذه التناقضات في الشخصية الواحدة، فتجد اللباس التقليدي إلى أقصى درجات تعبيره عن التزمت، الإدمان المرافق لصاحبه أو صاحبته. قد تدخل حانة فتلاحظ مجيء امرأة بنقابها، تنزعه وتجلس لاحتساء كأس نبيذ بارد و سيجارة مالربورو أو وينستون. وقد تلاحظ شابا بتسريحة شعر غريبة و سروال منخفض وهو ساجد لأداء ركعات داخل مسجد. والفرد قد يكون مقيّدا بقانون الأسرة أو الحي حتى إذا كان خارج دائرتهما انقلب سلوكه مائة وثمانين درجة مائوية.
هذه طنجة بمنظومتها الأخلاقية و القيمية المركبة والمعقدة. لكنها لا تهم نعمة ولا تملأ فضاء تفكيرها. فترة نقاهتها وتعافيها وقد ساعدتها على اقتناء سكن اقتصادي صغير في مدخل المدينة من جهة طريق الرباط. أسعفتها بعض المدخرات وكذا ما قدمتْه أسرة فؤاد لها كتعويض مالي عن الحادث. معارف قديمة وقد تواصلت معها فكانت كالملاك الطاهر الذي سيزحف على ليالي طنجة ورحابة متعتها. هل هي الصدمة التي تولد الجديد؟ مصل الانفجار العظيم الذي خلق العالم الذي نعيش فيه؟ بعض من النظرية أو الفرضية حاضر هنا مع نعمة. تعيش شخصية جديدة غير تلك التي سادها الطيش والتهور. جمالها الذي تدللت به على زبائنها وعشاقها لم يسعفه عقلها في البداية أو خلال المرحلة الأولى قبل طنجة. فقد تتمرد على زبون متيم بها وينفق عليها آلاف الدراهم، فقط لإرضاء شيء من الكبرياء والعجرفة التي تعترش بها داخل انوثتها. وفي ذلك قد تهوى وتسقط من تصنيف خمس نجوم إلى الدرجة صفر، فتنهض مثل ذلك الفينيق الذي تجهله ولا تهتم لرمزيته. في ليلة تمرد على شرطي أهانته وباتصال هاتفي مع المسؤول الكبير عليه في إدارته، اطلق سراحها و تمّ توبيخ الشرطي الصغير. بقيت عبارتها وصمة عار وذل منقوشة على جبين ذاكرة وضمير الشرطي المسكين. قالت له: أنا التي تهين ولا تهان. فهمت؟
لكن هذا الانتقال الجديد خلق لها غربة داخلية جعلت حدّا لذلك الطيش و ذلك التهور. أخذت تدريجيا تعيشه حنينا حتى باتت راشدة و معقلِنة لخطواتها وتدبير مسار حياتها. وما يسعف السمكة التي تدربت على العوم في النهر إذا انتقلت بفعل قادر للعيش في يمّ البحر بأمواجه وشساعة أسراره؟
ـ الحيتان كبيرة هنا يا نعمة.
هكذا تأتيها كلمات الصديقة الجديدة رشيدة. استضافتها نعمة في شقتها ودعتها للإقامة معها. فرصة ساعدت الاثنتين على التقارب والتكامل في العيش الجديد. لكن نعمة تتنهد فيصّاعد نفَسُها غريبا تستنشق معه رذاذ الأمواج ورطوبتها التي يرسلها البحر المقابل بمقهى بانوراما. كلما رأت سفينة تخرج من الميناء، ارتبط بها اجتهاد المرفأ الإسباني الذي سترسو به. طريفة، الخزيرات او غيرهما. وحتى إسبانيا لم تعد ذلك الحلْم الفريد والوحيد الذي يستحوذ على مجموعة من الفتيان والفتيات. هناك إيطاليا، تركيا، لبنان وغيرها من الدول الجاذبة لهذه الأحلام. كما أن هناك المدن المغربية الآخرى التي يمكنها أن تجلب الحظ أكثر من غيرها.
تستفسر نعمة عن هذه الآفاق الجديدة، وكل مرة تضيف عنصرا جديدا في التحليل، يؤثث حلمها الجديد. ستكتمل مع كل هذا ثقافة جديدة وهوية جديدة تنتمي إلى المتوسط، وطنجة ابنة شرعية للبحر الأبيض المتوسط قبل أن تكون منارته المطلة على المحيط الأطلسي.
في ظرف سنتين امتلكت نعمة شخصيتها ونظمت علاقاتها وكان فيها وجود لزبائن مستقرين من أوربا والمغرب وبعض الدول العربية.
ـ كلهم زبائن؟ تستفسرها صديقتها رشيدة.
ـ نعم. مجرد زبائن، ما داموا لم يستطيعوا فطر فؤادي وامتلاك قلبي. تجيبها في حسرة ولحظة ضعف إنساني قبل أن يكون ضعفا أنثويا.
_ رواية زهرة النرجس - حسن إمامي - رواية - مطبعة وراقة بلال مكناس - ط1 - 2017
نعمة المسيري:
كان استقرار نعمة الجديد بمدينة طنجة. تشافت من إصابتها واسترجعت شكلها الجميل. ربما أفضل مما كانت عليه. بوادر السمنة التي زادتها وزنا في البداية، انمحت وانمحت معها آثار انتفاخ امعاء وجنبات بطن.
طنجة، بوابة بحر و بالوعة احتواء. حدة تناقضاتها تخلق أشكال تطرف بين أقصى أطرافها، بين تزمت وانحلال. لكنها قد تخلق مزيج هذه التناقضات في الشخصية الواحدة، فتجد اللباس التقليدي إلى أقصى درجات تعبيره عن التزمت، الإدمان المرافق لصاحبه أو صاحبته. قد تدخل حانة فتلاحظ مجيء امرأة بنقابها، تنزعه وتجلس لاحتساء كأس نبيذ بارد و سيجارة مالربورو أو وينستون. وقد تلاحظ شابا بتسريحة شعر غريبة و سروال منخفض وهو ساجد لأداء ركعات داخل مسجد. والفرد قد يكون مقيّدا بقانون الأسرة أو الحي حتى إذا كان خارج دائرتهما انقلب سلوكه مائة وثمانين درجة مائوية.
هذه طنجة بمنظومتها الأخلاقية و القيمية المركبة والمعقدة. لكنها لا تهم نعمة ولا تملأ فضاء تفكيرها. فترة نقاهتها وتعافيها وقد ساعدتها على اقتناء سكن اقتصادي صغير في مدخل المدينة من جهة طريق الرباط. أسعفتها بعض المدخرات وكذا ما قدمتْه أسرة فؤاد لها كتعويض مالي عن الحادث. معارف قديمة وقد تواصلت معها فكانت كالملاك الطاهر الذي سيزحف على ليالي طنجة ورحابة متعتها. هل هي الصدمة التي تولد الجديد؟ مصل الانفجار العظيم الذي خلق العالم الذي نعيش فيه؟ بعض من النظرية أو الفرضية حاضر هنا مع نعمة. تعيش شخصية جديدة غير تلك التي سادها الطيش والتهور. جمالها الذي تدللت به على زبائنها وعشاقها لم يسعفه عقلها في البداية أو خلال المرحلة الأولى قبل طنجة. فقد تتمرد على زبون متيم بها وينفق عليها آلاف الدراهم، فقط لإرضاء شيء من الكبرياء والعجرفة التي تعترش بها داخل انوثتها. وفي ذلك قد تهوى وتسقط من تصنيف خمس نجوم إلى الدرجة صفر، فتنهض مثل ذلك الفينيق الذي تجهله ولا تهتم لرمزيته. في ليلة تمرد على شرطي أهانته وباتصال هاتفي مع المسؤول الكبير عليه في إدارته، اطلق سراحها و تمّ توبيخ الشرطي الصغير. بقيت عبارتها وصمة عار وذل منقوشة على جبين ذاكرة وضمير الشرطي المسكين. قالت له: أنا التي تهين ولا تهان. فهمت؟
لكن هذا الانتقال الجديد خلق لها غربة داخلية جعلت حدّا لذلك الطيش و ذلك التهور. أخذت تدريجيا تعيشه حنينا حتى باتت راشدة و معقلِنة لخطواتها وتدبير مسار حياتها. وما يسعف السمكة التي تدربت على العوم في النهر إذا انتقلت بفعل قادر للعيش في يمّ البحر بأمواجه وشساعة أسراره؟
ـ الحيتان كبيرة هنا يا نعمة.
هكذا تأتيها كلمات الصديقة الجديدة رشيدة. استضافتها نعمة في شقتها ودعتها للإقامة معها. فرصة ساعدت الاثنتين على التقارب والتكامل في العيش الجديد. لكن نعمة تتنهد فيصّاعد نفَسُها غريبا تستنشق معه رذاذ الأمواج ورطوبتها التي يرسلها البحر المقابل بمقهى بانوراما. كلما رأت سفينة تخرج من الميناء، ارتبط بها اجتهاد المرفأ الإسباني الذي سترسو به. طريفة، الخزيرات او غيرهما. وحتى إسبانيا لم تعد ذلك الحلْم الفريد والوحيد الذي يستحوذ على مجموعة من الفتيان والفتيات. هناك إيطاليا، تركيا، لبنان وغيرها من الدول الجاذبة لهذه الأحلام. كما أن هناك المدن المغربية الآخرى التي يمكنها أن تجلب الحظ أكثر من غيرها.
تستفسر نعمة عن هذه الآفاق الجديدة، وكل مرة تضيف عنصرا جديدا في التحليل، يؤثث حلمها الجديد. ستكتمل مع كل هذا ثقافة جديدة وهوية جديدة تنتمي إلى المتوسط، وطنجة ابنة شرعية للبحر الأبيض المتوسط قبل أن تكون منارته المطلة على المحيط الأطلسي.
في ظرف سنتين امتلكت نعمة شخصيتها ونظمت علاقاتها وكان فيها وجود لزبائن مستقرين من أوربا والمغرب وبعض الدول العربية.
ـ كلهم زبائن؟ تستفسرها صديقتها رشيدة.
ـ نعم. مجرد زبائن، ما داموا لم يستطيعوا فطر فؤادي وامتلاك قلبي. تجيبها في حسرة ولحظة ضعف إنساني قبل أن يكون ضعفا أنثويا.
_ رواية زهرة النرجس - حسن إمامي - رواية - مطبعة وراقة بلال مكناس - ط1 - 2017