"مريود" هي الجزء الثاني من رواية " بندر شاه " للطيب صالح ، والجزء الثاني يرتبط بالجزء الأول نفس الارتباط الذي يكون بين الابن والأم ، فهما متصلان منفصلان ، ... متصلان عن طريق الدم المشترك الذي يجري في العروق ، ولكنهما بعد ميلاد الابن ينفصلان ويستقلان استقلال الكائن الحي عن غيره من الكائنات ، وهذا الانفصال أو الاستقلال هو الذي يتيح لنا قراءة " مريود " وحدها من غير أن نشعر بأنها عالم فني ناقص ، فهي – رغم ارتباطها ببندر شاه – رواية مستقلة لها عالمها الخاص وموسيقاها المتميزة .
نبع جديد
والمفتاح الاساسي الذي يساعدنا على فهم " مريود " وفهم أدب الطيب صالح كله هو أنه ليس كاتباً " واقعيا" بالمعنى التقليدي للواقعية ، وقد يفهم البعض من هذا النفي للواقعية في أديب الطيب صالح أنه – يبعده عن الواقعية – إنما يبتعد عن معالجة هموم الإنسان العربي التي يعانيها في مجتمعه وفي الحياة بوجـه عام ، والحقيقة ان ابتعاد الطيب صالح عن الواقعية لا يحمل هذا المعنى ، فالطيب صالح – كفنان صادق اصيل – غارق في الهموم الإنسانية لعصره وفي الهموم الاجتماعية لوطنه وبلاده ، ولكنه يعبر عن موضوعاته عن طريق تصوير الواقع المباشر أو رصد مشاكل فئة من الناس أو طبقة من طبقات المجتمع ... انه يعبر عن مشاكل الإنسان الداخلية العميقة ، يعبر عن روحه ووجدانه ونظرته إلى الحياة والمصير الإنساني كله ، والطيب صالح يترك العالم المنطقي الواقعي الذي وقفت الرواية العربية عند حدوده قبل ظهور الطيب صالح ، وكان الفتح الادبي والروحي الذي قدمه الطيب للرواية هو أنه لجأ إلى نبع جديد لم يشرب منه احد من قبل في مجال الادب الروائي العربي . لقد تجاوز الطيب العالم الروائي الواقعي إلى عالم آخر أسطوري أو كما يقول التعبير العلمي الدقيق : " عالم ميثيولوجي " . فقصص الطيب هي نوع من الاحلام ، ولكنها ليست أحلام فرد واحد ، وانما هي أحلام تراكمت في وجدان امتنا ومجتمعنا جيلاً بعد جيل ، وتجسدت هذه الأحلام في قصص غريبة وخرافات غير منطقية ، وانعدام المنطق في هذه الاحلام والقصص والاساطير يواجهنا إذا نظرنا إليها نظرة شكلية خارجية ، ولكننا إذا تجاوزنا هذه النظرة وحاولنا ان نفهم المغزى الكامن وراء التراث الاسطوري فاننا سوف نجد لهذا التراث منطقاً تنسجم فيه المقدمات مع النتائج ، والحق أن الطيب صالح هو رائد هذه المدرسة الروائية الجديدة في الادب العربي ، وهو مكتشف الطريق ، وأقصد هنا مدرسة الرواية التي تعتمد اعتماداً كبيراً على "الميثيولوجيا" أو " الأسطورة " شكلاً وموضوعاً ، وسوف نجد الترابط المنطقي الخارجي بين اجزاء رواية " مريود " مثلاً هو ترابط مفقود ، ذلك لأنها تشبه الحلم والتصورات الوهمية الحيالية والاسطورة ، أما الواقع الخارجي العادي فهو كامن في باطن الرواية وليس ظاهراً على السطح ، وهذا ما يفسر لنا تلك الابيات الثلاثة التي اختارها الطيب من ابي نواس ووضعها في صدر روايته وهي :
غيـر أني قائـل ما اتاني من ظنوني مكــذب للعيان
أخـذ نفسي بتأليـف شئ واحد في اللفظ ، شتى المعاني
قائم في الوهم حتى إذا ما رمته ، رمـت معمي المكان
فهذه الأبيات "النواسية " تمثل طريقة في رؤيـة الحياة والنظر إلى الواقع الإنساني ، هذه الطريقة هي الرؤية بعين الوهم أو الخيال ، وهي رؤية ما لا يرى بالعين المجردة ، وهي اعتبار الاشياء التي يراها الإنسان بخياله حقيقة كالحقيقة نفسها ، ، فليس صحيحاً أبداً أن الواقع المادي الظاهر هو " كل " العالم الإنساني ، فالعالم الإنساني اشمل من ذلك وأعمق وأكثر اتساعـاً ورحابة ، وعالم الباطن فيه مهم كعالم المرئيات الظاهرة ، بل هو عند بعض أصحاب الرؤى ، مثل الطيب صالح وابي نواس في أبياته السابقة ، أهم وأصدق وأعمق .
علاقة أسطورية كاملة
هذا هو المفتاح الأساسي لفهم أدب الطيب صالح وعالمه الروائي ، وبدون هذا المفتاح فاننا يمكن أن نفقد أنفسنا في عالم الطيب ويمكن أن نحس بالغربة والغرابة معاً ، وسأتوقف هنا أمام لحظة واحدة من لحظات رواية "مريود " ، هذه اللحظة هي علاقة " الطاهر ود الرواسي " بسمكة من سمكات النيل ، انها علاقة أسطورية كاملة يحكمها الخيال والعقل الباطن ، والتاريخ الاسطوري للنيل ، ولا يحكمها المنطق العادي والعقـل الواعي على الاطـلاق ... وهذه هي الصورة كما رسمها الطيب صالح ، وهي شريحة فنية ، تكشف امامنا بوضوح عن عالمه الفني والروحي ، وعن طريقته في استخدام الاسطورة والميثيولوجيا استخداماً فنياً رائعاً ... يقول الطيب صالح في مريود " ص 35 " :
" مال الطاهر ود الرواسي نحوي دون أن يحول وجهه عن النهر ، ولكن سؤالي ظل معلقاً في الهواء بين النهر والسماء ، كان وجهه واضح المعالم يلمع وسط ذلك الظلام ، كأن الضوء ينبع من داخله .
فجأة صرخ :
" بنت الكلب ، الليلة وقعت معاي " .
قلت له :
" وحتى في الحوت ، المره مره ، والراجل راجل " .
كنت أعمى في تلك العتمة ، ولكن الطاهر ود الرواسي كان يسمع ويرى . قال :
" أصلها عندها تاري معاي . قبل خمسين سنة ، واحدة من حبوباتها "جداتها" قلبت بي المركب . وقت وقعت في المويه بقت تجرني من سروالي لي تحت " .
" وأنت شن سويت ؟ " .
" خليت لها السروال ومرقت من المويه عريان جل " .
صوته في تلك الدجنه مفعم بالحياة والمرح كأن السمكة في الماء تتحدث إليه بلغة يفهمها :
" أكثر من ثلاث شهور وأنا وراها . مرة تقطع الخيط ومرة تاكل الطهم وتشرد . بنت الحرام تقول جنية من جنس العفاريت " .
كنت أصادفه في رحلاتي عند الفجر ، أحياناً في قاربه في عرض النهر ، وأحياناً في حقله ، وأحياناً على الشاطئ جالساً يرقب صنارته ، وكنت قد نسيت عذوبة صوته ، إلى أن سمعته يغني ذلك الصباح غناء كأنه غلالة من الحرير انتشرت بين الضفتين . ومرة لمحته من بعد ساهماً يحدق في الماء . ناديته فلم يجب . وبعد زمن أمام دكان سعيد سالته ضحك وقال :
" انت شفتني يومداك ؟ حكاية عجيبة والله . تقول صحيح الواحد وقت يكبر يصيبه الوسواس . عليك أمان الله خمسين سنة وأنا أصيد في النيل لا شفت ولا سمعت شى . ذاك الصباح بت الحرام قطعت الجبارة " السنارة " وغطست . شويتين شبت فوق وش المويه . عليك أمان الله زول بني آدم بت فتاة عريانة جل ... اني آمنت بالله . وسمع آداني دي قالت بي حسا واضح زي كلامي وكلامك : " يا ود الرواسي أخير لك تبعد مني " وقبل ما ألقى الكلام ال أرد به عليها غطست تاني جب في المويه . أنا أخوك يا محجوب . أنا اخو الرجال . قعدت ممتجن أعاين للمويه " .
هذا المشهد السطوري الواقعي معاً والذي يقدمه الطيب صالح ، هو مشهد فريد في الأدب العربي كله ، لأنه يقدم الينا علاقة بين إنسان و " جنية" من " جنيات النهر " ، وهي علاقة لا يشك الطاهر بأنها حقيقية فالإنسان هنا لا يعيش في العالم المنطقي الذي نسلم به جميعاً . ولكنه يعيش – باقتناع كامل – في عالك أسطوري نابع من داخله ومن رؤاه الخاصة .. وهذا هو الجديد الرائع في عالم الطيب صالح . وهو الكشف الصوفي الكبير الذي يعي للعالم عند هذا الفنان بعداً جديداً لم يكن موجوداً من قبل في الأدب العربي إلا عند الصوفيين والعشاق الروحانيين واصحاب الطريق .
على أن هذه اللمسة الأسطورية الكشفية الصوفية التي تعطي اتساعاً للدنيا وتضيف قدرات جديدة للإنسان في عالم الطيب صالح الروائي تواجهنا في شئ آخر ، ذلك الشئ هو أن " المشاكل " في عالم الطيب صالح الروائي لها – دائماً – حل ، وذلك لأن ابطاله يتمتعون بالرؤية الداخلية الروحية الصادقة ، وعندما تظهر أمامهم مشكة لا ترى لها عيوننا الخارجية حلاً ، فان أبطاله – ربما باستثناء الراوي الذي يمثل المؤلف أو المراقب الخارجي للاحداث ... كل أبطال الطيب – باستثناء الراوي – يجدون الحل دائماً رغم أن الطريق يبدو أمام عيوننا وهو مسدود لا منفذ فيه ، والحل باستمرار قائم في قلب المشكلة ، وطريقـة العثور على حل في عالم الطيب صالح لها سبيلان : الأول هو الارادة الإنسانية " المصممة الخلاقة ، والتي هي عند الصوفية جزء من أرادة الله على هذه الأرض ، والنماذج التي تكشف عن دور الارادة الإنسانية في " مريود " كثيرة جداً ، منها أن " مريم " تريد ان تتعلم وتصر على ذلك ولكن مدرسة القرية لا تقدم التعليم إلا للاولاد ، فهل ينغلق الطريق أمام الارادة الإنسانية المتجسدة في مريم ؟ كلا . ان الارادة تبدع حلها وهو أن تلبس مريم ملابس الصبيان وتدخل المدرسـة على أنها ولد ! مثل آخر : حواء بنت العربي تحب " بلال " وتريد ان تتزوجه ، وبلال متصوف عزلته صوفيته عن أمور الدنيا ، ولكن حواء بنت العربي تستخدم ارادتها ببسالة وتصر على تحقيق ما تريد ، استجابة لنداء هواها العميق ، وفي آخر الامر تبتكر حلاً عجيباً ، وهو أن تضع الأمر كله بين يدي الشيـخ " نصر الله ود حبيب " شيخ بلال في الطريق ويطلب الشيخ نصر الله من بلال الزواج من حواء ، ويقدم له تفسير أهل الطريق ، فيرضى بلال ويستكين . يقول الشيخ نصر الله لبلال ما معناه أنه ربما كان في عشق حواء العنيف له سر من أسرار الله . وعلى الصوفي ان يستجيب للعشق والا حاد عن الطريق . ويتزوج بلال من حواء ليلة واحدة يفترقان بعدها ، وتثمر هذه الليلة الواحدة ولداً هو الطاهر ، تعطيه حواء حياتها كلها ولا تفكر في شئ آخر ، فالارادة الإنسانية هنا – مجسدة في حواء بنت العربي – قد وجدت حلاً للمشكلة التي واجهت حواء في عشقها العظيم .
الرضا .. طريق آخر
على أن الإرادة الإنسانية المبدعة ليست هي الطريق الوحيد لحل المشكلات في عالم الطيب صالح ، فهناك سبيل آخر للحل ، وذلك هو ما يمكن أن نسميه باسم "الرضا " ، ذلك الشعور العميق الذي يملأ بعطره عالم الطيب صالح ، وهو "رضا" جميل عفيف مترفع وليس " رضا " عاجزاً مخذولاً ينبع من الاستسلام لهزائم الروح أو هزائم الجسد ... الرضا بما تجري به الأقدار ، لأن ما تجري به الأقدار – ولابد – له سره المخبوء وأن لم يظهر هذا السر للعيون ، ونغمة الرضا تعزف في عالم الطيب صالح بعيداً عن المشاكل المغلقة التي لا حل لها ... وهل ينغلق الطريق أمام أهل الطريق والمتصوفين واصحاب الرؤية ؟ ان عالم الطيب منفتح وفسيح بلا أسوار ولا قيود .
يتبع ..،
11
نبع جديد
والمفتاح الاساسي الذي يساعدنا على فهم " مريود " وفهم أدب الطيب صالح كله هو أنه ليس كاتباً " واقعيا" بالمعنى التقليدي للواقعية ، وقد يفهم البعض من هذا النفي للواقعية في أديب الطيب صالح أنه – يبعده عن الواقعية – إنما يبتعد عن معالجة هموم الإنسان العربي التي يعانيها في مجتمعه وفي الحياة بوجـه عام ، والحقيقة ان ابتعاد الطيب صالح عن الواقعية لا يحمل هذا المعنى ، فالطيب صالح – كفنان صادق اصيل – غارق في الهموم الإنسانية لعصره وفي الهموم الاجتماعية لوطنه وبلاده ، ولكنه يعبر عن موضوعاته عن طريق تصوير الواقع المباشر أو رصد مشاكل فئة من الناس أو طبقة من طبقات المجتمع ... انه يعبر عن مشاكل الإنسان الداخلية العميقة ، يعبر عن روحه ووجدانه ونظرته إلى الحياة والمصير الإنساني كله ، والطيب صالح يترك العالم المنطقي الواقعي الذي وقفت الرواية العربية عند حدوده قبل ظهور الطيب صالح ، وكان الفتح الادبي والروحي الذي قدمه الطيب للرواية هو أنه لجأ إلى نبع جديد لم يشرب منه احد من قبل في مجال الادب الروائي العربي . لقد تجاوز الطيب العالم الروائي الواقعي إلى عالم آخر أسطوري أو كما يقول التعبير العلمي الدقيق : " عالم ميثيولوجي " . فقصص الطيب هي نوع من الاحلام ، ولكنها ليست أحلام فرد واحد ، وانما هي أحلام تراكمت في وجدان امتنا ومجتمعنا جيلاً بعد جيل ، وتجسدت هذه الأحلام في قصص غريبة وخرافات غير منطقية ، وانعدام المنطق في هذه الاحلام والقصص والاساطير يواجهنا إذا نظرنا إليها نظرة شكلية خارجية ، ولكننا إذا تجاوزنا هذه النظرة وحاولنا ان نفهم المغزى الكامن وراء التراث الاسطوري فاننا سوف نجد لهذا التراث منطقاً تنسجم فيه المقدمات مع النتائج ، والحق أن الطيب صالح هو رائد هذه المدرسة الروائية الجديدة في الادب العربي ، وهو مكتشف الطريق ، وأقصد هنا مدرسة الرواية التي تعتمد اعتماداً كبيراً على "الميثيولوجيا" أو " الأسطورة " شكلاً وموضوعاً ، وسوف نجد الترابط المنطقي الخارجي بين اجزاء رواية " مريود " مثلاً هو ترابط مفقود ، ذلك لأنها تشبه الحلم والتصورات الوهمية الحيالية والاسطورة ، أما الواقع الخارجي العادي فهو كامن في باطن الرواية وليس ظاهراً على السطح ، وهذا ما يفسر لنا تلك الابيات الثلاثة التي اختارها الطيب من ابي نواس ووضعها في صدر روايته وهي :
غيـر أني قائـل ما اتاني من ظنوني مكــذب للعيان
أخـذ نفسي بتأليـف شئ واحد في اللفظ ، شتى المعاني
قائم في الوهم حتى إذا ما رمته ، رمـت معمي المكان
فهذه الأبيات "النواسية " تمثل طريقة في رؤيـة الحياة والنظر إلى الواقع الإنساني ، هذه الطريقة هي الرؤية بعين الوهم أو الخيال ، وهي رؤية ما لا يرى بالعين المجردة ، وهي اعتبار الاشياء التي يراها الإنسان بخياله حقيقة كالحقيقة نفسها ، ، فليس صحيحاً أبداً أن الواقع المادي الظاهر هو " كل " العالم الإنساني ، فالعالم الإنساني اشمل من ذلك وأعمق وأكثر اتساعـاً ورحابة ، وعالم الباطن فيه مهم كعالم المرئيات الظاهرة ، بل هو عند بعض أصحاب الرؤى ، مثل الطيب صالح وابي نواس في أبياته السابقة ، أهم وأصدق وأعمق .
علاقة أسطورية كاملة
هذا هو المفتاح الأساسي لفهم أدب الطيب صالح وعالمه الروائي ، وبدون هذا المفتاح فاننا يمكن أن نفقد أنفسنا في عالم الطيب ويمكن أن نحس بالغربة والغرابة معاً ، وسأتوقف هنا أمام لحظة واحدة من لحظات رواية "مريود " ، هذه اللحظة هي علاقة " الطاهر ود الرواسي " بسمكة من سمكات النيل ، انها علاقة أسطورية كاملة يحكمها الخيال والعقل الباطن ، والتاريخ الاسطوري للنيل ، ولا يحكمها المنطق العادي والعقـل الواعي على الاطـلاق ... وهذه هي الصورة كما رسمها الطيب صالح ، وهي شريحة فنية ، تكشف امامنا بوضوح عن عالمه الفني والروحي ، وعن طريقته في استخدام الاسطورة والميثيولوجيا استخداماً فنياً رائعاً ... يقول الطيب صالح في مريود " ص 35 " :
" مال الطاهر ود الرواسي نحوي دون أن يحول وجهه عن النهر ، ولكن سؤالي ظل معلقاً في الهواء بين النهر والسماء ، كان وجهه واضح المعالم يلمع وسط ذلك الظلام ، كأن الضوء ينبع من داخله .
فجأة صرخ :
" بنت الكلب ، الليلة وقعت معاي " .
قلت له :
" وحتى في الحوت ، المره مره ، والراجل راجل " .
كنت أعمى في تلك العتمة ، ولكن الطاهر ود الرواسي كان يسمع ويرى . قال :
" أصلها عندها تاري معاي . قبل خمسين سنة ، واحدة من حبوباتها "جداتها" قلبت بي المركب . وقت وقعت في المويه بقت تجرني من سروالي لي تحت " .
" وأنت شن سويت ؟ " .
" خليت لها السروال ومرقت من المويه عريان جل " .
صوته في تلك الدجنه مفعم بالحياة والمرح كأن السمكة في الماء تتحدث إليه بلغة يفهمها :
" أكثر من ثلاث شهور وأنا وراها . مرة تقطع الخيط ومرة تاكل الطهم وتشرد . بنت الحرام تقول جنية من جنس العفاريت " .
كنت أصادفه في رحلاتي عند الفجر ، أحياناً في قاربه في عرض النهر ، وأحياناً في حقله ، وأحياناً على الشاطئ جالساً يرقب صنارته ، وكنت قد نسيت عذوبة صوته ، إلى أن سمعته يغني ذلك الصباح غناء كأنه غلالة من الحرير انتشرت بين الضفتين . ومرة لمحته من بعد ساهماً يحدق في الماء . ناديته فلم يجب . وبعد زمن أمام دكان سعيد سالته ضحك وقال :
" انت شفتني يومداك ؟ حكاية عجيبة والله . تقول صحيح الواحد وقت يكبر يصيبه الوسواس . عليك أمان الله خمسين سنة وأنا أصيد في النيل لا شفت ولا سمعت شى . ذاك الصباح بت الحرام قطعت الجبارة " السنارة " وغطست . شويتين شبت فوق وش المويه . عليك أمان الله زول بني آدم بت فتاة عريانة جل ... اني آمنت بالله . وسمع آداني دي قالت بي حسا واضح زي كلامي وكلامك : " يا ود الرواسي أخير لك تبعد مني " وقبل ما ألقى الكلام ال أرد به عليها غطست تاني جب في المويه . أنا أخوك يا محجوب . أنا اخو الرجال . قعدت ممتجن أعاين للمويه " .
هذا المشهد السطوري الواقعي معاً والذي يقدمه الطيب صالح ، هو مشهد فريد في الأدب العربي كله ، لأنه يقدم الينا علاقة بين إنسان و " جنية" من " جنيات النهر " ، وهي علاقة لا يشك الطاهر بأنها حقيقية فالإنسان هنا لا يعيش في العالم المنطقي الذي نسلم به جميعاً . ولكنه يعيش – باقتناع كامل – في عالك أسطوري نابع من داخله ومن رؤاه الخاصة .. وهذا هو الجديد الرائع في عالم الطيب صالح . وهو الكشف الصوفي الكبير الذي يعي للعالم عند هذا الفنان بعداً جديداً لم يكن موجوداً من قبل في الأدب العربي إلا عند الصوفيين والعشاق الروحانيين واصحاب الطريق .
على أن هذه اللمسة الأسطورية الكشفية الصوفية التي تعطي اتساعاً للدنيا وتضيف قدرات جديدة للإنسان في عالم الطيب صالح الروائي تواجهنا في شئ آخر ، ذلك الشئ هو أن " المشاكل " في عالم الطيب صالح الروائي لها – دائماً – حل ، وذلك لأن ابطاله يتمتعون بالرؤية الداخلية الروحية الصادقة ، وعندما تظهر أمامهم مشكة لا ترى لها عيوننا الخارجية حلاً ، فان أبطاله – ربما باستثناء الراوي الذي يمثل المؤلف أو المراقب الخارجي للاحداث ... كل أبطال الطيب – باستثناء الراوي – يجدون الحل دائماً رغم أن الطريق يبدو أمام عيوننا وهو مسدود لا منفذ فيه ، والحل باستمرار قائم في قلب المشكلة ، وطريقـة العثور على حل في عالم الطيب صالح لها سبيلان : الأول هو الارادة الإنسانية " المصممة الخلاقة ، والتي هي عند الصوفية جزء من أرادة الله على هذه الأرض ، والنماذج التي تكشف عن دور الارادة الإنسانية في " مريود " كثيرة جداً ، منها أن " مريم " تريد ان تتعلم وتصر على ذلك ولكن مدرسة القرية لا تقدم التعليم إلا للاولاد ، فهل ينغلق الطريق أمام الارادة الإنسانية المتجسدة في مريم ؟ كلا . ان الارادة تبدع حلها وهو أن تلبس مريم ملابس الصبيان وتدخل المدرسـة على أنها ولد ! مثل آخر : حواء بنت العربي تحب " بلال " وتريد ان تتزوجه ، وبلال متصوف عزلته صوفيته عن أمور الدنيا ، ولكن حواء بنت العربي تستخدم ارادتها ببسالة وتصر على تحقيق ما تريد ، استجابة لنداء هواها العميق ، وفي آخر الامر تبتكر حلاً عجيباً ، وهو أن تضع الأمر كله بين يدي الشيـخ " نصر الله ود حبيب " شيخ بلال في الطريق ويطلب الشيخ نصر الله من بلال الزواج من حواء ، ويقدم له تفسير أهل الطريق ، فيرضى بلال ويستكين . يقول الشيخ نصر الله لبلال ما معناه أنه ربما كان في عشق حواء العنيف له سر من أسرار الله . وعلى الصوفي ان يستجيب للعشق والا حاد عن الطريق . ويتزوج بلال من حواء ليلة واحدة يفترقان بعدها ، وتثمر هذه الليلة الواحدة ولداً هو الطاهر ، تعطيه حواء حياتها كلها ولا تفكر في شئ آخر ، فالارادة الإنسانية هنا – مجسدة في حواء بنت العربي – قد وجدت حلاً للمشكلة التي واجهت حواء في عشقها العظيم .
الرضا .. طريق آخر
على أن الإرادة الإنسانية المبدعة ليست هي الطريق الوحيد لحل المشكلات في عالم الطيب صالح ، فهناك سبيل آخر للحل ، وذلك هو ما يمكن أن نسميه باسم "الرضا " ، ذلك الشعور العميق الذي يملأ بعطره عالم الطيب صالح ، وهو "رضا" جميل عفيف مترفع وليس " رضا " عاجزاً مخذولاً ينبع من الاستسلام لهزائم الروح أو هزائم الجسد ... الرضا بما تجري به الأقدار ، لأن ما تجري به الأقدار – ولابد – له سره المخبوء وأن لم يظهر هذا السر للعيون ، ونغمة الرضا تعزف في عالم الطيب صالح بعيداً عن المشاكل المغلقة التي لا حل لها ... وهل ينغلق الطريق أمام أهل الطريق والمتصوفين واصحاب الرؤية ؟ ان عالم الطيب منفتح وفسيح بلا أسوار ولا قيود .
يتبع ..،
11