في شوكولاتة نيتشه ربما يأتي الاستهلال كاشفا عن ميزة أساسية في قصص المجموعة تبرر للقارئ سر الشعور بالألفة والحميمية مع معظمها، وهذه السمة تتميز في كون السارد الفعلي للنص محددا بمسافة عمرية زمنية من الطفولة إلى الصبا، أي مرحلة التعرف الأولى للحياة، وبداية نمو الإدراك بجزئيات العالم، بتناقضاته ومكوناته العجيبة والمدهشة والجميلة في آن.
وثمة شيء آخر يعدك به هذا الاستهلال يرتبط بالفن بحد ذاته بوصفه في النهاية رؤية كاشفة عن الدهشة والمغايرة، فأي فن عظيم لا يخلو من الدهشة، وإن لم يجدها في الحياة الفعلية فعليه أن يصطنعها من خلال المقاربة أو زاوية الرؤية، فالكاتب في الأساس يحاول أن يقدم لك الأشياء العادية، ويشعرك في الوقت ذاته أنها غير عادية، مستندا في ذلك السياق إلى عنصر المشابهة، بمعنى أن ما يقدمه في قصص هذه المجموعة التي يمكن أن تشكل متتالية راصدة لفترة زمنية محددة وثيق الصلة بكثيرين عاينوا مواقف شبيهة، يتجلى وكأنه يستند إلى مشترك إدراكي يلح لحظة القراءة ويكون فاعلا ومؤثرا.
ويستند أيضا في ذلك السياق إلى رؤية فيها شيء من البكارة والتهويم المشدودين حتما إلى الإدراك التهويمي النابع من الإطار الزمني للسارد الذي يتحرك في حدوده في تعرفه على الأمكنة والأنساق و الأنماط البشرية وتبايناتها المختلفة. فصورة العنزات التي يستخدم لبنها في العلاج والشفاء في قصة (العلاج بالماعز) صورة عاينها الكثيرون في مرحلة الطفولة، فالاستناد هنا على مشترك إدراكي يشير وفي قصص عديدة أخرى بالضرورة إلى رابط مهم وحيوي في تلقي المجموعة القصصية. ويمكن أن نجد المنحى ذاته في قصص عديدة مثل (برطمان زجاجي)، أو صورة النسوة اللواتي يقمن بالعديد في قصة (سرادق صغير) من خلال الكشف بين الظاهر الذي يحتمه العمل، والباطن الذي يفرضه الواقع، وطبيعة النفس البشرية.
كل قصص المجموعة تستند إلى حكايات تشكل منطلقا جمعيا لكثيرين، فهي أشبه بالنماذج العليا، فقد مر عدد كبير بمثل هذه الحكايات فاعلين أو مشاركين بالحضور أو مستمعين لهذه الحكايات في مرحلة الطفولة بأشكال مختلفة. وهذا قد يشدنا إلى آلية فاعلة في قصص المجموعة تتمثل في الإيهام باستخدام الراوي غير الناضج أو الذي تقف حدود سنه بين الطفولة والصبا وتتكشف تناقضاته في أحيان كثيرة من خلال جمل تكشف عن راو مكتمل النضج ذي تكوين معرفي خاص، فبعض الجمل تكشف عن الإحساس بظهور نزعات معرفية، ففي قصة (انتصارات) يطالعنا السارد في بداية القصة بقوله (الأمر هنا مختلف، وغير مجازي بالمرة، فثمة أحداث عديدة جرت بعيدا عن الصور البديلة، أو ما هو واقعي)، وهذا يجعلنا نشير إلى جزئية أساسية تتمثل في كون الكتابة الآنية تنطلق من مثير يتعلق بحواف الذاكرة أو النواة الصلبة للعمل، ولكنها لحظة الإنجاز لا تقيم وزنا للمرحلة العمرية التي حدثت بها، وإنما تتجاور أثناء ذلك مشاعر الطفولة البسيطة مع المقاربة الآنية التي تكشف عن مغايرة في تلقي الحادثة القديمة من جانب، ومن جانب آخر تكشف عن تجربة حياتية ممتدة تسهم بالضرورة في معاينة الحادثة القديمة والاقتراب منها، ورؤيتها بشكل مغاير من خلال الاستناد إلى مدى زمني ممتد، يؤثر بالضرورة في طبيعة النظر إليها.
ففي كثير من قصص المجموعة يتم اكتشاف الجهد المبذول، لكي يتم التجاور بين ما هو طفولي مشدود إلى حادثة قديمة تلح على ذهن الكاتب وما هو إنجاز كتابي، حتى يستطيع أن يشكل لها الإطار المناسب لحركتها الدائبة ووجودها اللاهب، ففي قصة (أمشير) المعروف بالرياح وبرودة الجو لدى قدماء المصريين لا يكتفي الكاتب بعرض القصة في نواتها المعروفة المشدودة إلى فكرة الفشل بفعل الزمن والشيخوخة، وإنما أضاف إليها بناء موازيا كاشفا عن الفاعلية في سياق القطط التي تتعالى أصواتها للكشف عن الحضور والفاعلية في مقابل ارتخاء مخذول كاشف عن الموت الذي يفضي إلى القضاء على الصولجان القديم حيث بنى البطل حدود مجده القديم. ما يقدمه الكاتب يرتبط بإعادة قراءة من منطلقات آنية لحادثة ذاهبة للتلاشي، وكأنه بالكتابة عنها وإعادة سردها وفق لحظة آنية يمارس فعل تثبيت الذاكرة للحفاظ على وجوده، بوصفها طبقة وعي معرفي ذات حضور وتأثير في الآني.
الكاتب يعيد هذه اللحظات التي فرت من النسيان طافية إلى ذهنه، للبحث لها عن إطار يجعلها قابلة للتفسير، مشيرا في ذلك السياق إلى خصوصية وعيه وتلقيه، وقدرته الواعية على أن يجعلها مشحونة بالدهشة. فهو في مطاردته لهذا الجمال يستحضره ويصفيه ويضعه في فصائل محددة. فالرجوع إلى هذه المنمنمات مشدود للتثبيت وللإشارة إلى حياة سابقة فقدت وجودها بفعل التغييرات التي تصيب كل ما يحيط بها بفعل الزمن، وكأنه في ذلك مشدود للحنين.
الكثير من قصص هذه المجموعة يتشكل وفق استراتيجية التأمل الموضوعية بعيدا عن الانحياز، فالسارد الذي يأتي غالبا ملتحما بالغياب يكتفي برصد المواقف والشخصيات دون أدنى محاولة في إضفاء سمات خارقة للمعهود، فالسرد مهموم بتقديمها على حالها كما هي، ولا يمارس نوعا من التوجيه، أو هوس إسدال العظمة على هذه الشخصيات لتغدو نماذج أو أنماطا فاعلة بتعبير جورج لوكاتش. فعلى النقيض من ذلك تكتسب هذه الشخصيات قيمتها من كونها عادية مشابهة لآخرين، كما يتجلى في قصة الطريق إلى الإستاد فتبدو المرحلة العمرية واضحة التأثير وكاشفة عن التوجه بالنسبة للسارد، فالغنيمة لا تتشكل عند حدود الحضور والمشاركة والمشاهدة، وإنما في التدليل على إثبات الحضور، للإشارة إلى نوع من التمايز والاختلاف عن أصدقائه.
ولكنه في كتابة القصة على هذا النحو الموضوعي المبني على التأمل، يقوم بمجهود بنائي في كل قصة للتخلص من الحشو ومن كل ما هو زائد، فصابر رشدي يمارس في كتابته للقصة القصيرة فعل التصفية، ويأتي اهتمامه مشدودا للجمال المصفى دون شوائب. وكتابته نظرا لذلك- وبفعل محاولة الإمساك بالمتفلت مشكلا من بنية جزئية محدودة من ناحية الكم- تأتي وكأنها محسوبة بدقة متناهية، لا مجال فيها للتزيد أو الإطناب البلاغي، هي كتابة شبيهة بالمرآة التي تعكس، ويلمح القارئ من خلالها الجمال الهادئ في لحظة فارقة دافقة بالحياة. هو يحسب بدقة طبيعة النفس الإنسانية وحاجتها الماسة إلى فعل التشويق والانتظار، وعدد المرات الكافية لاستيلاد هذا الفعل.
ففي (قصة النافذة) بعد أن يبرق النص القصصي في البداية إلى طبيعة المشكلة (الحركة غير المستوية للبطل) يبدأ في معاينة وتقديم السبب والتبرير لمخالفة النسق الطبيعي، ولكن في تقديمه لهذا السبب يبدو واعيا بطبيعة النفس الإنسانية وحرفية الكتابة القصصية وطريقة التوزيع والتقطير في سرد السبب والكشف عنه، من خلال تأمل البطل للبناية المقابلة لمحل عمله، ومشاهدته للرجل الذي يدخن سيجارة الحشيش. ومن خلال فعل التمني بالمشابهة بين المراقِب والمراقَب يبدأ فعل الإيهام، ولكنه لا يقدمه بشكل مباشر، بل بشكل متدرج عن طريق مراقبة ثانية وانقطاع نومي بفعل الإرهاق لا يكون كافيا لقطع التسلسل السابق، والبنيات الدلالية التي تكيف بالتدريج تشكيل القصة في ذهن القارئ، وكذلك في تشكيل البناء التصاعدي حتى يكون الفعل أو الحدث القادم الذي يقوم به البطل مبررا، ثم يضع القارئ وجها لوجه بعد عملية التأهيل التدريجي مع فعل المشاهدة الأخير الذي أفقده التنبه لأثر الجير والإسمنت على يديه، فيعيد المتلقي إلى المشكلة أو الحركة غير المستوية التي أبرق عنها في البداية.
تتسع الدائرة من خلال الراوي الموضوعي لتقديم حياة قائمة على تأمل جوانب من الحياة المنفلتة بزهوها لكي تظل حية وحاضرة، وهذه الجوانب تتوزع إلى اهتمامات مختلفة، منها ما يرتبط باللحظة الزمنية المشار إليها سالفا(فترة الطفولة إلى الصبا)، كما في قصة (الولد الذي...)، ومنها ما يرتبط بأفق سياسي في قصة (اشتباك)، لتنميط وتجذير الذات والمصاحبين لها في إطار أيديولوجي محدد، ومنها ما يستند إلى فاعلية الوهم والإيهام في (قرص مسكن)، أو التحرش بأنماطه واشكاله المختلفة في (جولات س.ع)، أو سيمياء المعرفة والنبوءة من خلال العبارات الملغزة في (ضاربة الودع).
تغادر بعض القصص ملامحها المادية، خاصة حين يرتبط الأمر ببطولة جماعية وليست فردية، فالبطولة في قصة (سيدة النهر) مشدودة للمجموع مشيرة إلى أن السيادة أو السيطرة أو الفاعلية مرتبطة بالمجموع، وكأن فعل النجاة من الغرق في هذه القصة التي قد تأخذ مدارات أوسع من دلالتها المادية لا يتم إلا بتكاتف المجموع، وتوحيد الهدف.
قراءة القصة – سيدة النهر- وفق هذا التصور لتحريك الدلالة نحو أفق أوسع له ما يبرره، حيث أجابت المرأة التي نجت من الغرق بفعل تكاتف المجموع على سؤال الضابط( -أين أهلك؟، - إنهم يعيدونني إليه كلما لجأت إليهم.). ويؤيد ذلك التوجه اختيار النماذج الدالة ببراعة لافتة، فالشاب الصغير- يأتي وكأنه لا يقيم وزنا لحسابات الربح والخسارة والقوة والهيمنة- يلوم أخاه الأكبر قائلا( أنت السبب، كنت تظن أنك تصاهر أحد الملوك).
وتأتي المشروعية واضحة لهذا التفسير الذي يخرج القصة من بساطتها التعبيرية لتلتحم وتشكل دائرة من الرموز، حين يتأمل المتلقي الحضور الفاعل والمؤثر للزوج، ففي حضوره تغيب كل الأصوات بأنماطها المختلفة(اخترق الصالة مارد ضخم، توسط المكان من فوره، فران صمت عميق من ظهوره المفاجئ، سكن كل شيء على نحو أصابنا بالتوتر، كان رجلا طويلا ذا مظهر قمعي متغطرس).
لا تقدم قصص المجموعة نصوصا مكتملة بالمعنى التقليدي، بحيث تبدو نصوصا مغلقة بنهايات يرتاح إليها ذهن القارئ، وإنما تقدم هذه النصوص قطاعا أفقيا طوليا غير ممتد، وكأنه صورة في مرآة ثابتة، فالكاتب ليس مهموما بتفحص حالة الشخصيات تفحصا كاملا محللا ومؤولا، هو فقط يريد أن ينقل إليك لقطة بارقة غير مكتملة، نقطة ضوء في طريق لا تدرك ظلمته السابقة، أو آلية تمدده أو انحساره أو تجليه بعد ذلك.
نصوص هذه المجموعة لا نهاية لها، فهي مفتوحة لإضافة ما يراه القارئ بخياله، فالقصة تنتهي وأنت في قلب الحدث بعنفوانه وحدّته، فكتابته ليست معنية بالنهاية أو الحل بقدر ما هي معنية بتوجيه عينيك إلى جمال غير معهود، وتأمل النماذج المقدمة في إطار عاديتها من التشابه مع آخرين، مثل أم شكل في قصة (طابور)، و(حسن توتو) و(عصام نمرود) في قصة (أنامل).
وربما يأتي هذا النسق الخاص بكراهية الإغلاق واضحا في قصة (حالة) وكاشفا عن طبيعة الكتابة القصصية في تلك المجموعة، فالاتكاء على الراوي العليم المشدود للموضوعية دون أدني محاولة للتدخل أو التوجيه أو التقييم كشف عن رصد حالة شديدة الخصوصية، والنص يضع المتلقي وجها لوجه لتأملها. وفي ذلك السياق نجده ليس مهتما بتقديم أي إشارة تكشف عن تاريخ سابق للدكتورة (نعيمة) التي لا تحمل تصنيفا محددا، لأن لديها عضوين متباينين يجعلانها موزعة في التصنيف إلى قسيمين بشكل مربك غير محسوم، وليس معنيا باستكمال طبيعة الحكاية وتداعياتها النفسية عليها، وإنما يغلق القصة على تلك الصورة أو تلك الحالة المعروفة للجميع بوجودها وفاعليتها في توليد مواقف مضادة من النساء والرجال على حد سواء تلك المواقف الموزعة بين الامتعاض والغيرة والسخرية والثقة في قيمتها كطبيبة.
فعدم إغلاق النهاية في القصص، ووقوف الكتابة عند حدود النقطة البارقة والمشتعلة دون محاولة استكمال تجلياتها في جزء كبير منه وثيق الصلة بطبيعة الكاتب المعاصر، ومعرفته بالكون القصصي الذي يشيده، فمعرفته مهما بلغت درجتها تظل معرفة جزئية مرهونة بما يسمع أو يدرك أو يعاين، ومن ثم فهي في النهاية رؤية جانبية محدودة، وليست رؤية إجمالية ترتبط بالشمول واليقين، ولكنها من جانب آخر تحرك ذهن المتلقي من سباته، وتجعله يتعاظم على حالة الخمول التي يعيشها، لكي يطل فاعلا ليكمل الحكاية وفقا لمقدرته وخياله وثقافته.
ويتجاوب مع كراهية الإغلاق التي أشرنا إليها، وربما يكون جزءا أو سببا من أسباب استيلادها الإلحاح على التغييب المتعمد. ففي قصة (مخدرات الطفولة) هناك إلحاح على التغييب، فليس هناك راو فردي، وإنما هناك راو جمعي يستند إلى المجموع، فليس هناك ذكر لأسماء الأبطال، وتتكرر هذه الالية كثيرا في قصص المجموعة فالغياب العاري من تحديد اسم يطل فاعلا، وليس هناك- أيضا- استكمال لعناصر الحكاية أو القصة، أو الإشارة إلى نهايتها، لأن التركيز الأساسي مشدود إلى الحدث بوصفه يشكل خروجا عن المألوف في تلك السن التي ليست مشدودة للوصول إلى الهدف(الحصول على الحشيش)، وإنما مشدودة للمعرفة عن طريق التجريب أو المعاينة، وارتياد أماكن للتحقق من نسقها المشدود للإضافة الأسطورية فتنتج أبطالا يطلون بهالات خاصة. الكاتب هنا يمارس نوعا من التوجيه الفني، لتأمل الصورة الخاصة بهذه البطولة الجماعية دون أدنى محاولة لاستكمال ملامحها المستقبلية ودورها في تنميط حياتهم في المستقبل البعيد أو القريب، هو فقط يلمح إلى طبيعة خاصة من خلال السرد ترتبط بالمغايرة أو ممارسة التجريب التي تجلت في سن مبكرة، ويمكن للقارئ أن يتخيل أثر هذه السمة، ولكنه – أي المؤلف- لا يشير إلى ذلك بشكل مباشر، ويترك القارئ لمعاينة ذلك بنفسه والوصول إليه.
وتجلي هذا النسق الخاص بكراهية الإغلاق والوصول إلى نهاية مرتجاة في الكتابة القصصية من خلال الراوي العليم يشير إلى التخلص من محاولات الانحياز أو شبهة التأويل والتفسير المشدودة إلى الذات، فيتحول الكاتب- والحال تلك- إلى ناقل للصورة بشكل حرفي للوصول إلى الموضوعية. يمكن للقارئ إدراك ذلك من خلال تأمل بعض قصص المجموعة كما في قصة (مزلقان)، أو قصة (خراط البنات). ففي القصة الأولى التي تهتم بتصوير ومقاربة لحظة ميتافيزيقية ينطلق الكاتب من إدراكه الواعي لفكرة الإضافات الشعبية الجاهزة بكل قصة تنحو هذا المنحى، فيجعل تلك الإضافات وثيقة الصلة بالسماع وليس بالمعاينة، وحين ترتبط القصة بالسماع - وخاصة حين تكون مشدودة بأفعال خارقة للنسق المقرر والمتعارف عليه- فإن الموضوعية تحتم العرض دون أدنى محاولة للتفسير والتأويل المنطلق من الذات.
تتبقى جزئية مهمة وأخيرة تتعلق بمحاولات الكاتب البحث عن خصوصية إبداعية، فالمجموعة القصصية شكولاتة نتشه تلح من خلال الفعل الكتابي، ومن خلال الالتحام بموضوعات محفورة في تراث الشخصية المصرية ومعتقداتها وأسئلتها الوجودية ومحاولات الإجابة عنها على هذه الخصوصية المنفتحة على الآخر، ومحاولة الإفادة من منجزه، ولكن وفق سياق حضاري لا يلغي وجوده الفاعل. وربما كانت القصة التي تحمل عنوان المجموعة(شكولاتة نتشة) كاشفة عن هذا المنحى، لأن الكاتب فيما أعتقد حاول أن يخرج بها عن إطار الرصد الموضوعي ذلك النسق الفاعل في كل قصص المجموعة، للدخول بها إلى مناح فكرية ترتبط في الأساس بالقراءة الضالة أو الخاطئة للأعمال الأدبية من ثقافات مختلفة.
فالكاتب استند إلى حكاية بسيطة تتردد كثيرا بتكوينات مختلفة وتشكلات وثيمات مغايرة من بيئة إلى بيئة أخرى، ولكنه لم يتوقف عند حدود تلك الحكاية التي تتكرر كثيرا في المناطق الشعبية أو في الريف المصري، ولكنه أراد أن يجعل منها نواة لمقاربة موضوع مهم على نحو كبير من الأهمية، يتمثل في طريقة انتقال الأفكار والرؤى والإبداع والأجناس الأدبية من سياق ثقافة إلى سياق ثقافة أخرى، أو نقل اتجاه إبداعي من سياقه الحضاري إلى سياق مغاير، ومن ثم تأتي النهاية على هذا النحو الذي رأيناه في نهاية القصة من خلال الوليد المشوه الذي لا ينتمي إلى السياق المنقول عنه، ولا إلى سياق المنقول إليه.
يؤيد ذلك الفهم أن البطل في القصة الذي تمددت أطره وتشكلت من خلال ضمير الغياب بوصفه ضميرا ساردا حين اختار اسم المنتج الجديد(شكولاتة نتشة) وجد فيه تسمية جاذبة ذات رنين مؤتلق)، وأضاف في الفقرة التالية( ربما كانت لديه فكرة غائمة عن صاحب الاسم مطمورة في اللاوعي، لمحة بسيطة مشوشة، قد يكون مؤلفا موسيقيا، رساما عالميا، أو ربما يكون هذا الرجل صاحب المقولة الشهيرة(أكون أو لا أكون) ثمة شخص مشهور على أية حال).
وربما تكون الفقرة السابقة مهمة، ولها دلالتها في تشكيل طبيعة التلقي للقصة في إطارها العام، لأن عدم المعرفة - الذي تجلى فاعلا في اختيار اسم المنتج- جزء أساسي في كل محاولات تقليد الآخر دون أن يكون هناك ما يبرر هذا النقل من الناحية الحضارية، في نزوعاته الفنية الجديدة ذات الرنين، ومن ثم تكون النتيجة ماثلة ومرتبطة بهذا الوجود المشوه في نهاية القصة.
إن الكتابة القصصية عند صابر رشدي في هذه المجموعة كتابة تؤسس حضورها الخاص من خلال الاستناد إلى المعرفة الهادئة المتأملة، ومن خلال الاستناد إلى جماليات خاصة تتوسل بالبسيط بعيدا عن رطانة زائفة وجماليات زاعقة، ذلك البسيط الذي يعطي مدى دلاليا واسعا حين يتم تأمله، وفق قراءة واعية لا تحرف سلطانه، ولا تنفي شرعية وجوده وارتباطه بحياة دافقة، لها تأثيرها الحيوي والمستمر.
53مؤمن سمير, ياسر جمعة et 51 autres personnes
30
وثمة شيء آخر يعدك به هذا الاستهلال يرتبط بالفن بحد ذاته بوصفه في النهاية رؤية كاشفة عن الدهشة والمغايرة، فأي فن عظيم لا يخلو من الدهشة، وإن لم يجدها في الحياة الفعلية فعليه أن يصطنعها من خلال المقاربة أو زاوية الرؤية، فالكاتب في الأساس يحاول أن يقدم لك الأشياء العادية، ويشعرك في الوقت ذاته أنها غير عادية، مستندا في ذلك السياق إلى عنصر المشابهة، بمعنى أن ما يقدمه في قصص هذه المجموعة التي يمكن أن تشكل متتالية راصدة لفترة زمنية محددة وثيق الصلة بكثيرين عاينوا مواقف شبيهة، يتجلى وكأنه يستند إلى مشترك إدراكي يلح لحظة القراءة ويكون فاعلا ومؤثرا.
ويستند أيضا في ذلك السياق إلى رؤية فيها شيء من البكارة والتهويم المشدودين حتما إلى الإدراك التهويمي النابع من الإطار الزمني للسارد الذي يتحرك في حدوده في تعرفه على الأمكنة والأنساق و الأنماط البشرية وتبايناتها المختلفة. فصورة العنزات التي يستخدم لبنها في العلاج والشفاء في قصة (العلاج بالماعز) صورة عاينها الكثيرون في مرحلة الطفولة، فالاستناد هنا على مشترك إدراكي يشير وفي قصص عديدة أخرى بالضرورة إلى رابط مهم وحيوي في تلقي المجموعة القصصية. ويمكن أن نجد المنحى ذاته في قصص عديدة مثل (برطمان زجاجي)، أو صورة النسوة اللواتي يقمن بالعديد في قصة (سرادق صغير) من خلال الكشف بين الظاهر الذي يحتمه العمل، والباطن الذي يفرضه الواقع، وطبيعة النفس البشرية.
كل قصص المجموعة تستند إلى حكايات تشكل منطلقا جمعيا لكثيرين، فهي أشبه بالنماذج العليا، فقد مر عدد كبير بمثل هذه الحكايات فاعلين أو مشاركين بالحضور أو مستمعين لهذه الحكايات في مرحلة الطفولة بأشكال مختلفة. وهذا قد يشدنا إلى آلية فاعلة في قصص المجموعة تتمثل في الإيهام باستخدام الراوي غير الناضج أو الذي تقف حدود سنه بين الطفولة والصبا وتتكشف تناقضاته في أحيان كثيرة من خلال جمل تكشف عن راو مكتمل النضج ذي تكوين معرفي خاص، فبعض الجمل تكشف عن الإحساس بظهور نزعات معرفية، ففي قصة (انتصارات) يطالعنا السارد في بداية القصة بقوله (الأمر هنا مختلف، وغير مجازي بالمرة، فثمة أحداث عديدة جرت بعيدا عن الصور البديلة، أو ما هو واقعي)، وهذا يجعلنا نشير إلى جزئية أساسية تتمثل في كون الكتابة الآنية تنطلق من مثير يتعلق بحواف الذاكرة أو النواة الصلبة للعمل، ولكنها لحظة الإنجاز لا تقيم وزنا للمرحلة العمرية التي حدثت بها، وإنما تتجاور أثناء ذلك مشاعر الطفولة البسيطة مع المقاربة الآنية التي تكشف عن مغايرة في تلقي الحادثة القديمة من جانب، ومن جانب آخر تكشف عن تجربة حياتية ممتدة تسهم بالضرورة في معاينة الحادثة القديمة والاقتراب منها، ورؤيتها بشكل مغاير من خلال الاستناد إلى مدى زمني ممتد، يؤثر بالضرورة في طبيعة النظر إليها.
ففي كثير من قصص المجموعة يتم اكتشاف الجهد المبذول، لكي يتم التجاور بين ما هو طفولي مشدود إلى حادثة قديمة تلح على ذهن الكاتب وما هو إنجاز كتابي، حتى يستطيع أن يشكل لها الإطار المناسب لحركتها الدائبة ووجودها اللاهب، ففي قصة (أمشير) المعروف بالرياح وبرودة الجو لدى قدماء المصريين لا يكتفي الكاتب بعرض القصة في نواتها المعروفة المشدودة إلى فكرة الفشل بفعل الزمن والشيخوخة، وإنما أضاف إليها بناء موازيا كاشفا عن الفاعلية في سياق القطط التي تتعالى أصواتها للكشف عن الحضور والفاعلية في مقابل ارتخاء مخذول كاشف عن الموت الذي يفضي إلى القضاء على الصولجان القديم حيث بنى البطل حدود مجده القديم. ما يقدمه الكاتب يرتبط بإعادة قراءة من منطلقات آنية لحادثة ذاهبة للتلاشي، وكأنه بالكتابة عنها وإعادة سردها وفق لحظة آنية يمارس فعل تثبيت الذاكرة للحفاظ على وجوده، بوصفها طبقة وعي معرفي ذات حضور وتأثير في الآني.
الكاتب يعيد هذه اللحظات التي فرت من النسيان طافية إلى ذهنه، للبحث لها عن إطار يجعلها قابلة للتفسير، مشيرا في ذلك السياق إلى خصوصية وعيه وتلقيه، وقدرته الواعية على أن يجعلها مشحونة بالدهشة. فهو في مطاردته لهذا الجمال يستحضره ويصفيه ويضعه في فصائل محددة. فالرجوع إلى هذه المنمنمات مشدود للتثبيت وللإشارة إلى حياة سابقة فقدت وجودها بفعل التغييرات التي تصيب كل ما يحيط بها بفعل الزمن، وكأنه في ذلك مشدود للحنين.
الكثير من قصص هذه المجموعة يتشكل وفق استراتيجية التأمل الموضوعية بعيدا عن الانحياز، فالسارد الذي يأتي غالبا ملتحما بالغياب يكتفي برصد المواقف والشخصيات دون أدنى محاولة في إضفاء سمات خارقة للمعهود، فالسرد مهموم بتقديمها على حالها كما هي، ولا يمارس نوعا من التوجيه، أو هوس إسدال العظمة على هذه الشخصيات لتغدو نماذج أو أنماطا فاعلة بتعبير جورج لوكاتش. فعلى النقيض من ذلك تكتسب هذه الشخصيات قيمتها من كونها عادية مشابهة لآخرين، كما يتجلى في قصة الطريق إلى الإستاد فتبدو المرحلة العمرية واضحة التأثير وكاشفة عن التوجه بالنسبة للسارد، فالغنيمة لا تتشكل عند حدود الحضور والمشاركة والمشاهدة، وإنما في التدليل على إثبات الحضور، للإشارة إلى نوع من التمايز والاختلاف عن أصدقائه.
ولكنه في كتابة القصة على هذا النحو الموضوعي المبني على التأمل، يقوم بمجهود بنائي في كل قصة للتخلص من الحشو ومن كل ما هو زائد، فصابر رشدي يمارس في كتابته للقصة القصيرة فعل التصفية، ويأتي اهتمامه مشدودا للجمال المصفى دون شوائب. وكتابته نظرا لذلك- وبفعل محاولة الإمساك بالمتفلت مشكلا من بنية جزئية محدودة من ناحية الكم- تأتي وكأنها محسوبة بدقة متناهية، لا مجال فيها للتزيد أو الإطناب البلاغي، هي كتابة شبيهة بالمرآة التي تعكس، ويلمح القارئ من خلالها الجمال الهادئ في لحظة فارقة دافقة بالحياة. هو يحسب بدقة طبيعة النفس الإنسانية وحاجتها الماسة إلى فعل التشويق والانتظار، وعدد المرات الكافية لاستيلاد هذا الفعل.
ففي (قصة النافذة) بعد أن يبرق النص القصصي في البداية إلى طبيعة المشكلة (الحركة غير المستوية للبطل) يبدأ في معاينة وتقديم السبب والتبرير لمخالفة النسق الطبيعي، ولكن في تقديمه لهذا السبب يبدو واعيا بطبيعة النفس الإنسانية وحرفية الكتابة القصصية وطريقة التوزيع والتقطير في سرد السبب والكشف عنه، من خلال تأمل البطل للبناية المقابلة لمحل عمله، ومشاهدته للرجل الذي يدخن سيجارة الحشيش. ومن خلال فعل التمني بالمشابهة بين المراقِب والمراقَب يبدأ فعل الإيهام، ولكنه لا يقدمه بشكل مباشر، بل بشكل متدرج عن طريق مراقبة ثانية وانقطاع نومي بفعل الإرهاق لا يكون كافيا لقطع التسلسل السابق، والبنيات الدلالية التي تكيف بالتدريج تشكيل القصة في ذهن القارئ، وكذلك في تشكيل البناء التصاعدي حتى يكون الفعل أو الحدث القادم الذي يقوم به البطل مبررا، ثم يضع القارئ وجها لوجه بعد عملية التأهيل التدريجي مع فعل المشاهدة الأخير الذي أفقده التنبه لأثر الجير والإسمنت على يديه، فيعيد المتلقي إلى المشكلة أو الحركة غير المستوية التي أبرق عنها في البداية.
تتسع الدائرة من خلال الراوي الموضوعي لتقديم حياة قائمة على تأمل جوانب من الحياة المنفلتة بزهوها لكي تظل حية وحاضرة، وهذه الجوانب تتوزع إلى اهتمامات مختلفة، منها ما يرتبط باللحظة الزمنية المشار إليها سالفا(فترة الطفولة إلى الصبا)، كما في قصة (الولد الذي...)، ومنها ما يرتبط بأفق سياسي في قصة (اشتباك)، لتنميط وتجذير الذات والمصاحبين لها في إطار أيديولوجي محدد، ومنها ما يستند إلى فاعلية الوهم والإيهام في (قرص مسكن)، أو التحرش بأنماطه واشكاله المختلفة في (جولات س.ع)، أو سيمياء المعرفة والنبوءة من خلال العبارات الملغزة في (ضاربة الودع).
تغادر بعض القصص ملامحها المادية، خاصة حين يرتبط الأمر ببطولة جماعية وليست فردية، فالبطولة في قصة (سيدة النهر) مشدودة للمجموع مشيرة إلى أن السيادة أو السيطرة أو الفاعلية مرتبطة بالمجموع، وكأن فعل النجاة من الغرق في هذه القصة التي قد تأخذ مدارات أوسع من دلالتها المادية لا يتم إلا بتكاتف المجموع، وتوحيد الهدف.
قراءة القصة – سيدة النهر- وفق هذا التصور لتحريك الدلالة نحو أفق أوسع له ما يبرره، حيث أجابت المرأة التي نجت من الغرق بفعل تكاتف المجموع على سؤال الضابط( -أين أهلك؟، - إنهم يعيدونني إليه كلما لجأت إليهم.). ويؤيد ذلك التوجه اختيار النماذج الدالة ببراعة لافتة، فالشاب الصغير- يأتي وكأنه لا يقيم وزنا لحسابات الربح والخسارة والقوة والهيمنة- يلوم أخاه الأكبر قائلا( أنت السبب، كنت تظن أنك تصاهر أحد الملوك).
وتأتي المشروعية واضحة لهذا التفسير الذي يخرج القصة من بساطتها التعبيرية لتلتحم وتشكل دائرة من الرموز، حين يتأمل المتلقي الحضور الفاعل والمؤثر للزوج، ففي حضوره تغيب كل الأصوات بأنماطها المختلفة(اخترق الصالة مارد ضخم، توسط المكان من فوره، فران صمت عميق من ظهوره المفاجئ، سكن كل شيء على نحو أصابنا بالتوتر، كان رجلا طويلا ذا مظهر قمعي متغطرس).
لا تقدم قصص المجموعة نصوصا مكتملة بالمعنى التقليدي، بحيث تبدو نصوصا مغلقة بنهايات يرتاح إليها ذهن القارئ، وإنما تقدم هذه النصوص قطاعا أفقيا طوليا غير ممتد، وكأنه صورة في مرآة ثابتة، فالكاتب ليس مهموما بتفحص حالة الشخصيات تفحصا كاملا محللا ومؤولا، هو فقط يريد أن ينقل إليك لقطة بارقة غير مكتملة، نقطة ضوء في طريق لا تدرك ظلمته السابقة، أو آلية تمدده أو انحساره أو تجليه بعد ذلك.
نصوص هذه المجموعة لا نهاية لها، فهي مفتوحة لإضافة ما يراه القارئ بخياله، فالقصة تنتهي وأنت في قلب الحدث بعنفوانه وحدّته، فكتابته ليست معنية بالنهاية أو الحل بقدر ما هي معنية بتوجيه عينيك إلى جمال غير معهود، وتأمل النماذج المقدمة في إطار عاديتها من التشابه مع آخرين، مثل أم شكل في قصة (طابور)، و(حسن توتو) و(عصام نمرود) في قصة (أنامل).
وربما يأتي هذا النسق الخاص بكراهية الإغلاق واضحا في قصة (حالة) وكاشفا عن طبيعة الكتابة القصصية في تلك المجموعة، فالاتكاء على الراوي العليم المشدود للموضوعية دون أدني محاولة للتدخل أو التوجيه أو التقييم كشف عن رصد حالة شديدة الخصوصية، والنص يضع المتلقي وجها لوجه لتأملها. وفي ذلك السياق نجده ليس مهتما بتقديم أي إشارة تكشف عن تاريخ سابق للدكتورة (نعيمة) التي لا تحمل تصنيفا محددا، لأن لديها عضوين متباينين يجعلانها موزعة في التصنيف إلى قسيمين بشكل مربك غير محسوم، وليس معنيا باستكمال طبيعة الحكاية وتداعياتها النفسية عليها، وإنما يغلق القصة على تلك الصورة أو تلك الحالة المعروفة للجميع بوجودها وفاعليتها في توليد مواقف مضادة من النساء والرجال على حد سواء تلك المواقف الموزعة بين الامتعاض والغيرة والسخرية والثقة في قيمتها كطبيبة.
فعدم إغلاق النهاية في القصص، ووقوف الكتابة عند حدود النقطة البارقة والمشتعلة دون محاولة استكمال تجلياتها في جزء كبير منه وثيق الصلة بطبيعة الكاتب المعاصر، ومعرفته بالكون القصصي الذي يشيده، فمعرفته مهما بلغت درجتها تظل معرفة جزئية مرهونة بما يسمع أو يدرك أو يعاين، ومن ثم فهي في النهاية رؤية جانبية محدودة، وليست رؤية إجمالية ترتبط بالشمول واليقين، ولكنها من جانب آخر تحرك ذهن المتلقي من سباته، وتجعله يتعاظم على حالة الخمول التي يعيشها، لكي يطل فاعلا ليكمل الحكاية وفقا لمقدرته وخياله وثقافته.
ويتجاوب مع كراهية الإغلاق التي أشرنا إليها، وربما يكون جزءا أو سببا من أسباب استيلادها الإلحاح على التغييب المتعمد. ففي قصة (مخدرات الطفولة) هناك إلحاح على التغييب، فليس هناك راو فردي، وإنما هناك راو جمعي يستند إلى المجموع، فليس هناك ذكر لأسماء الأبطال، وتتكرر هذه الالية كثيرا في قصص المجموعة فالغياب العاري من تحديد اسم يطل فاعلا، وليس هناك- أيضا- استكمال لعناصر الحكاية أو القصة، أو الإشارة إلى نهايتها، لأن التركيز الأساسي مشدود إلى الحدث بوصفه يشكل خروجا عن المألوف في تلك السن التي ليست مشدودة للوصول إلى الهدف(الحصول على الحشيش)، وإنما مشدودة للمعرفة عن طريق التجريب أو المعاينة، وارتياد أماكن للتحقق من نسقها المشدود للإضافة الأسطورية فتنتج أبطالا يطلون بهالات خاصة. الكاتب هنا يمارس نوعا من التوجيه الفني، لتأمل الصورة الخاصة بهذه البطولة الجماعية دون أدنى محاولة لاستكمال ملامحها المستقبلية ودورها في تنميط حياتهم في المستقبل البعيد أو القريب، هو فقط يلمح إلى طبيعة خاصة من خلال السرد ترتبط بالمغايرة أو ممارسة التجريب التي تجلت في سن مبكرة، ويمكن للقارئ أن يتخيل أثر هذه السمة، ولكنه – أي المؤلف- لا يشير إلى ذلك بشكل مباشر، ويترك القارئ لمعاينة ذلك بنفسه والوصول إليه.
وتجلي هذا النسق الخاص بكراهية الإغلاق والوصول إلى نهاية مرتجاة في الكتابة القصصية من خلال الراوي العليم يشير إلى التخلص من محاولات الانحياز أو شبهة التأويل والتفسير المشدودة إلى الذات، فيتحول الكاتب- والحال تلك- إلى ناقل للصورة بشكل حرفي للوصول إلى الموضوعية. يمكن للقارئ إدراك ذلك من خلال تأمل بعض قصص المجموعة كما في قصة (مزلقان)، أو قصة (خراط البنات). ففي القصة الأولى التي تهتم بتصوير ومقاربة لحظة ميتافيزيقية ينطلق الكاتب من إدراكه الواعي لفكرة الإضافات الشعبية الجاهزة بكل قصة تنحو هذا المنحى، فيجعل تلك الإضافات وثيقة الصلة بالسماع وليس بالمعاينة، وحين ترتبط القصة بالسماع - وخاصة حين تكون مشدودة بأفعال خارقة للنسق المقرر والمتعارف عليه- فإن الموضوعية تحتم العرض دون أدنى محاولة للتفسير والتأويل المنطلق من الذات.
تتبقى جزئية مهمة وأخيرة تتعلق بمحاولات الكاتب البحث عن خصوصية إبداعية، فالمجموعة القصصية شكولاتة نتشه تلح من خلال الفعل الكتابي، ومن خلال الالتحام بموضوعات محفورة في تراث الشخصية المصرية ومعتقداتها وأسئلتها الوجودية ومحاولات الإجابة عنها على هذه الخصوصية المنفتحة على الآخر، ومحاولة الإفادة من منجزه، ولكن وفق سياق حضاري لا يلغي وجوده الفاعل. وربما كانت القصة التي تحمل عنوان المجموعة(شكولاتة نتشة) كاشفة عن هذا المنحى، لأن الكاتب فيما أعتقد حاول أن يخرج بها عن إطار الرصد الموضوعي ذلك النسق الفاعل في كل قصص المجموعة، للدخول بها إلى مناح فكرية ترتبط في الأساس بالقراءة الضالة أو الخاطئة للأعمال الأدبية من ثقافات مختلفة.
فالكاتب استند إلى حكاية بسيطة تتردد كثيرا بتكوينات مختلفة وتشكلات وثيمات مغايرة من بيئة إلى بيئة أخرى، ولكنه لم يتوقف عند حدود تلك الحكاية التي تتكرر كثيرا في المناطق الشعبية أو في الريف المصري، ولكنه أراد أن يجعل منها نواة لمقاربة موضوع مهم على نحو كبير من الأهمية، يتمثل في طريقة انتقال الأفكار والرؤى والإبداع والأجناس الأدبية من سياق ثقافة إلى سياق ثقافة أخرى، أو نقل اتجاه إبداعي من سياقه الحضاري إلى سياق مغاير، ومن ثم تأتي النهاية على هذا النحو الذي رأيناه في نهاية القصة من خلال الوليد المشوه الذي لا ينتمي إلى السياق المنقول عنه، ولا إلى سياق المنقول إليه.
يؤيد ذلك الفهم أن البطل في القصة الذي تمددت أطره وتشكلت من خلال ضمير الغياب بوصفه ضميرا ساردا حين اختار اسم المنتج الجديد(شكولاتة نتشة) وجد فيه تسمية جاذبة ذات رنين مؤتلق)، وأضاف في الفقرة التالية( ربما كانت لديه فكرة غائمة عن صاحب الاسم مطمورة في اللاوعي، لمحة بسيطة مشوشة، قد يكون مؤلفا موسيقيا، رساما عالميا، أو ربما يكون هذا الرجل صاحب المقولة الشهيرة(أكون أو لا أكون) ثمة شخص مشهور على أية حال).
وربما تكون الفقرة السابقة مهمة، ولها دلالتها في تشكيل طبيعة التلقي للقصة في إطارها العام، لأن عدم المعرفة - الذي تجلى فاعلا في اختيار اسم المنتج- جزء أساسي في كل محاولات تقليد الآخر دون أن يكون هناك ما يبرر هذا النقل من الناحية الحضارية، في نزوعاته الفنية الجديدة ذات الرنين، ومن ثم تكون النتيجة ماثلة ومرتبطة بهذا الوجود المشوه في نهاية القصة.
إن الكتابة القصصية عند صابر رشدي في هذه المجموعة كتابة تؤسس حضورها الخاص من خلال الاستناد إلى المعرفة الهادئة المتأملة، ومن خلال الاستناد إلى جماليات خاصة تتوسل بالبسيط بعيدا عن رطانة زائفة وجماليات زاعقة، ذلك البسيط الذي يعطي مدى دلاليا واسعا حين يتم تأمله، وفق قراءة واعية لا تحرف سلطانه، ولا تنفي شرعية وجوده وارتباطه بحياة دافقة، لها تأثيرها الحيوي والمستمر.
53مؤمن سمير, ياسر جمعة et 51 autres personnes
30