راكم الشاعر والرحالة العراقي المغامر باسم فرات في مسيرته الكتابية –غير الشعرية طبعا- خمسة كتب رحلية هامة، وهي على التوالي: "الحلم البوليفاري (رحلة كولومبيا الكبرى)"/ 2015، و"مسافر مقيم (عامان في الإكوادور)"/ 2017، و"لا عشبة عند ماهوتا (من منائر بابل إلى جنوب الجنوب)"/ 2017، و"طواف بوذا (رحلاتي إلى جنوب شرق آسيا)"/ 2019، و"لؤلؤة واحدة وألف تل (رحلات بلاد أعالي النيل)"/ 2019. فكيف جدد باسم فرات الرؤية إلى ما حوله في العالم باعتباره رحالة عربيا؟ وهل أمكنه، فعلا، تغيير أفق الكتابة الرحلية في كتابه الجديد موضوع هذه القراءة؟
إن من يطلع على كتاب "لؤلؤة واحدة وألف تل (رحلات بلاد أعالي النيل)" يكتشف أن الرحالة ينطلق من تصور جديد، ومن رؤية واعية، لدور الرحالة العربي المعاصر في ارتياد الآفاق واكتشاف البلاد الأخرى، وهي رؤية تنبع من وعي ثقافي يروم تصحيح رؤية الأنا العربي إلى الآخر في الثقافات الهامشية غير الأوربية، ويسعى إلى فهم طبيعتها الحضارية وتقديمها من زاوية نظر غير غربية. ولهذا يجد القارئ نفسه أمام كم من المعلومات عن رواندا وأوغندا وثقافتهما، وطبيعة الأحداث التي عرفها البَلَدان في التاريخ المعاصر منذ احتلالهما من طرف بعض القوى الاستعمارية الأوربية أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، مرورا بالصراعات على السلطة الناتجة عن خروج الاستعمار (شكليا)، ووقوفا عند التحولات التي عرفتها رواندا وأوغندا حتى الآن.
وبهذه الكيفية، كانت الرحلة غنية بمادتها التاريخية، دسمة بمعطياتها الجغرافية، وعطرة بما احتوته من حديث شيق عن البيئة الرواندية والأوغندية، بأشجارها وطيورها وحيواناتها وسهوبها البرية وجبالها، وبطبيعة الحدود الفاصلة والجامعة بين البلدين وبلدان أعالي النيل المتاخمة لهما. ولهذا يعتبر باسم فرات أن "أدب الرحلات جزء من سيرة المكان الذاتية" (لؤلؤة واحدة، ص. 5)، ومن ثم، فإنه يقدم، عبر كتابته الرحلية، سيرة ذاتية للمكان تترصد الخصوصية والتفرد، ولا تقف عند المشترك إلا على سبيل المقارنة الطريفة والغريبة التي تجنح في مدونة الكاتب إلى تأكيد التميز. ولذلك يؤكد أنه "لا خير في رحلة لا يتعامل فيها الكاتب مع المكان جماليا ومعرفيا وعليه أن يوازن وإلا لن يمكن عد كتابته "أدب رحلات". (لؤلؤة واحدة، ص. 9)
انطلاقا من هذه القولة نلاحظ أن الكتابة الرحلية لدى الكاتب تقتضي أن يتعامل الرحالة مع المكان الذي يزوره من زاويتين: جمالية ومعرفية، باعتبار أنه مبدع/ كاتب يصوغ نصا يندرج في مدونة "أدب الرحلة"، ومن هنا نرى أهمية الوعي بالجانبين. ولتحقيق ذلك يتبع باسم فرات استراتيجية مضبوطة في الكتابة الرحلية، ويتغيا مرامي سنبلورها فيما سيأتي.
يقول الكاتب في مقطع دال من رحلته: "... عبر تجربتي في الترحال، لاحظت أن السكان المحليين يستغربون من هوسي ببلدهم، ويُبحلقون بي حين أخبرهم بأنني زرت معظم مناطقه، بل بعضهم يُبدي استغرابا لأنني أبدد مالي على مناطق لا تستحق المشاهدة، لأنهم يعتقدون أن السفر يجب أن يكون للبلدان "المتقدمة"، والمدن الشهيرة مثل لندن وباريس وبرلين ونيويورك، بينما أرى الكنوز التي بين ظهرانيهم من آثار ونظم بيئية متعددة ومتنوعة وعادات وتقاليد وأزياء وموسيقى ورقص وغناء وطعام وغير ذلك.." (لؤلؤة واحدة، ص. 6)
هكذا يؤكد الكاتب اختلاف وجهة نظره عن نظر الرحالة الآخرين، وغالبية الناس، الذين يرون أن الرحلة ينبغي أن تتم إلى "البلدان المتقدمة"، بينما يصر الرحالة باسم فرات على الذهاب إلى أماكن غير مطروقة عربيا نظرا إلى ما تتوفر عليه من "كنوز" معرفية وآثار ونظم بيئية متعددة وعادات وتقاليد وموسيقى ورقص وغناء وطعام. وبهذه الكيفية تصير الرحلة أفقا لكتابة أنثروبولوجية مونوغرافية علمية من وجهة نظر غير غربية بالضرورة. وبهذه الشاكلة تمتزج فيها الرؤى الذاتية التي تؤكد على فعل الاكتشاف والدهشة كأساس لمعرفة البلاد الأخرى والثقافات الأخرى. يقول الشاعر الرحالة: ".. أنا متشبث بعادتي، وهي أن أذهب للمكان بلا قراءة لأقطف ثمار الدهشة قصيدة وفصلا في كتاب الرحلة". (لؤلؤة واحدة، ص. 6)
وبعد هذه المرحلة الهامة التي تدل على وعي بأهمية الاحتكاك بالآخر ومعرفته من خلال التجربة المباشرة والتفاعل الذاتي، ومعرفة الإنسان في عاداته وتقاليده، وفي أطماعه وتطلعاته، وفي كرمه وقبوله للضيف.. وفي كل حالاته الممكنة، يتمكن الرحالة من نقل صورة دقيقة عن الإنسان الإفريقي في رواندا وأوغندا، وفي البلاد الأخرى التي زارها. وفي هذا السياق يقول باسم فرات: "نلمس روح الشعوب بأيدينا ونشمها بأنوفنا، فللثقافات عبقها وللبلدان شذاها"، (لؤلؤة واحدة، ص. 61)
إن معرفة الإفريقي والأسيوي والأمريكي اللاتيني بالنسبة إلى العربي لا ينبغي أن تمر عبر ثقافة وسيطة، ومن هنا يؤكد باسم فرات على أهمية لمس روح الشعوب الأخرى القريبة منا أو البعيدة في الجغرافية العربية بأيدينا وبواسطة حواسنا، وأن نبحث عن عبق هذه الحضارات وشذى هذه البلدان التي قد لا يتمكن الغربي من نقل عبقها وشذاها نظرا إلى منظوره الخاص ورؤيته الذاتية الخاصة به وبثقافته وحضارته.
ويعلن باسم فرات بدون مواربة أن "لأدب الرحلات رسالة إنسانية تؤدي إلى نشر المحبة بين الشعوب وتقريب الثقافات عبر الكتابة عنها والتعريف بها، لأن الإنسان عدو ما يجهل، كما جاء في الأثر، والمعرفة سبيل من سبل المحبة". (لؤلؤة واحدة، ص. 8)
بهذا الإعلان يبين الكاتب دور الرحالة العربي في زمن العولمة، وفي العصر الحديث، إذ إن رسالته إنسانية، في الجوهر، تهدف إلى نشر المحبة بين الشعوب وتقريب الثقافات من خلال الكتابة الرحلية وباعتبار أن المعرفة بالآخر سبيل من سبل المحبة. وبهذه الكيفية تقف الكتابة الرحلية في وجه تغول منظور العولمة والرأسمالية المتوحشة وليدة الاستعمار الغربي وامتداده في راهننا البشع.
وفي ختام هذه القراءة في كتاب "لؤلؤة واحدة وألف تل (رحلات بلاد أعالي النيل)" لا يسعنا إلا أن ننوه بجمال الكتابة الرحلية لدى باسم فرات التي لا ترجع، فحسب، إلى غنى المعارف والمعطيات التي يحفل بها الكتاب؛ وإنما إلى صياغته السردية الشعرية العالية المستوى وإلى قدرتها على الانتقال بقارئه في سلاسة بين موضوعات ومعارف شتى حفل بها الكتاب. وننتظر من الكاتب الرحالة أعمالا أخرى آتية لا تقل فائدة ومتعة وقدرة على الإحاطة بثقافة الآخر وخصوصيته الحضارية وغناه الإنساني.
باسم فرات، لؤلؤة واحدة وألف تل (رحلات بلاد أعالي النيل)، دار الأدهم للنشر والتوزيع، القاهرة، 2019.
إن من يطلع على كتاب "لؤلؤة واحدة وألف تل (رحلات بلاد أعالي النيل)" يكتشف أن الرحالة ينطلق من تصور جديد، ومن رؤية واعية، لدور الرحالة العربي المعاصر في ارتياد الآفاق واكتشاف البلاد الأخرى، وهي رؤية تنبع من وعي ثقافي يروم تصحيح رؤية الأنا العربي إلى الآخر في الثقافات الهامشية غير الأوربية، ويسعى إلى فهم طبيعتها الحضارية وتقديمها من زاوية نظر غير غربية. ولهذا يجد القارئ نفسه أمام كم من المعلومات عن رواندا وأوغندا وثقافتهما، وطبيعة الأحداث التي عرفها البَلَدان في التاريخ المعاصر منذ احتلالهما من طرف بعض القوى الاستعمارية الأوربية أواخر القرن التاسع عشر الميلادي، مرورا بالصراعات على السلطة الناتجة عن خروج الاستعمار (شكليا)، ووقوفا عند التحولات التي عرفتها رواندا وأوغندا حتى الآن.
وبهذه الكيفية، كانت الرحلة غنية بمادتها التاريخية، دسمة بمعطياتها الجغرافية، وعطرة بما احتوته من حديث شيق عن البيئة الرواندية والأوغندية، بأشجارها وطيورها وحيواناتها وسهوبها البرية وجبالها، وبطبيعة الحدود الفاصلة والجامعة بين البلدين وبلدان أعالي النيل المتاخمة لهما. ولهذا يعتبر باسم فرات أن "أدب الرحلات جزء من سيرة المكان الذاتية" (لؤلؤة واحدة، ص. 5)، ومن ثم، فإنه يقدم، عبر كتابته الرحلية، سيرة ذاتية للمكان تترصد الخصوصية والتفرد، ولا تقف عند المشترك إلا على سبيل المقارنة الطريفة والغريبة التي تجنح في مدونة الكاتب إلى تأكيد التميز. ولذلك يؤكد أنه "لا خير في رحلة لا يتعامل فيها الكاتب مع المكان جماليا ومعرفيا وعليه أن يوازن وإلا لن يمكن عد كتابته "أدب رحلات". (لؤلؤة واحدة، ص. 9)
انطلاقا من هذه القولة نلاحظ أن الكتابة الرحلية لدى الكاتب تقتضي أن يتعامل الرحالة مع المكان الذي يزوره من زاويتين: جمالية ومعرفية، باعتبار أنه مبدع/ كاتب يصوغ نصا يندرج في مدونة "أدب الرحلة"، ومن هنا نرى أهمية الوعي بالجانبين. ولتحقيق ذلك يتبع باسم فرات استراتيجية مضبوطة في الكتابة الرحلية، ويتغيا مرامي سنبلورها فيما سيأتي.
يقول الكاتب في مقطع دال من رحلته: "... عبر تجربتي في الترحال، لاحظت أن السكان المحليين يستغربون من هوسي ببلدهم، ويُبحلقون بي حين أخبرهم بأنني زرت معظم مناطقه، بل بعضهم يُبدي استغرابا لأنني أبدد مالي على مناطق لا تستحق المشاهدة، لأنهم يعتقدون أن السفر يجب أن يكون للبلدان "المتقدمة"، والمدن الشهيرة مثل لندن وباريس وبرلين ونيويورك، بينما أرى الكنوز التي بين ظهرانيهم من آثار ونظم بيئية متعددة ومتنوعة وعادات وتقاليد وأزياء وموسيقى ورقص وغناء وطعام وغير ذلك.." (لؤلؤة واحدة، ص. 6)
هكذا يؤكد الكاتب اختلاف وجهة نظره عن نظر الرحالة الآخرين، وغالبية الناس، الذين يرون أن الرحلة ينبغي أن تتم إلى "البلدان المتقدمة"، بينما يصر الرحالة باسم فرات على الذهاب إلى أماكن غير مطروقة عربيا نظرا إلى ما تتوفر عليه من "كنوز" معرفية وآثار ونظم بيئية متعددة وعادات وتقاليد وموسيقى ورقص وغناء وطعام. وبهذه الكيفية تصير الرحلة أفقا لكتابة أنثروبولوجية مونوغرافية علمية من وجهة نظر غير غربية بالضرورة. وبهذه الشاكلة تمتزج فيها الرؤى الذاتية التي تؤكد على فعل الاكتشاف والدهشة كأساس لمعرفة البلاد الأخرى والثقافات الأخرى. يقول الشاعر الرحالة: ".. أنا متشبث بعادتي، وهي أن أذهب للمكان بلا قراءة لأقطف ثمار الدهشة قصيدة وفصلا في كتاب الرحلة". (لؤلؤة واحدة، ص. 6)
وبعد هذه المرحلة الهامة التي تدل على وعي بأهمية الاحتكاك بالآخر ومعرفته من خلال التجربة المباشرة والتفاعل الذاتي، ومعرفة الإنسان في عاداته وتقاليده، وفي أطماعه وتطلعاته، وفي كرمه وقبوله للضيف.. وفي كل حالاته الممكنة، يتمكن الرحالة من نقل صورة دقيقة عن الإنسان الإفريقي في رواندا وأوغندا، وفي البلاد الأخرى التي زارها. وفي هذا السياق يقول باسم فرات: "نلمس روح الشعوب بأيدينا ونشمها بأنوفنا، فللثقافات عبقها وللبلدان شذاها"، (لؤلؤة واحدة، ص. 61)
إن معرفة الإفريقي والأسيوي والأمريكي اللاتيني بالنسبة إلى العربي لا ينبغي أن تمر عبر ثقافة وسيطة، ومن هنا يؤكد باسم فرات على أهمية لمس روح الشعوب الأخرى القريبة منا أو البعيدة في الجغرافية العربية بأيدينا وبواسطة حواسنا، وأن نبحث عن عبق هذه الحضارات وشذى هذه البلدان التي قد لا يتمكن الغربي من نقل عبقها وشذاها نظرا إلى منظوره الخاص ورؤيته الذاتية الخاصة به وبثقافته وحضارته.
ويعلن باسم فرات بدون مواربة أن "لأدب الرحلات رسالة إنسانية تؤدي إلى نشر المحبة بين الشعوب وتقريب الثقافات عبر الكتابة عنها والتعريف بها، لأن الإنسان عدو ما يجهل، كما جاء في الأثر، والمعرفة سبيل من سبل المحبة". (لؤلؤة واحدة، ص. 8)
بهذا الإعلان يبين الكاتب دور الرحالة العربي في زمن العولمة، وفي العصر الحديث، إذ إن رسالته إنسانية، في الجوهر، تهدف إلى نشر المحبة بين الشعوب وتقريب الثقافات من خلال الكتابة الرحلية وباعتبار أن المعرفة بالآخر سبيل من سبل المحبة. وبهذه الكيفية تقف الكتابة الرحلية في وجه تغول منظور العولمة والرأسمالية المتوحشة وليدة الاستعمار الغربي وامتداده في راهننا البشع.
وفي ختام هذه القراءة في كتاب "لؤلؤة واحدة وألف تل (رحلات بلاد أعالي النيل)" لا يسعنا إلا أن ننوه بجمال الكتابة الرحلية لدى باسم فرات التي لا ترجع، فحسب، إلى غنى المعارف والمعطيات التي يحفل بها الكتاب؛ وإنما إلى صياغته السردية الشعرية العالية المستوى وإلى قدرتها على الانتقال بقارئه في سلاسة بين موضوعات ومعارف شتى حفل بها الكتاب. وننتظر من الكاتب الرحالة أعمالا أخرى آتية لا تقل فائدة ومتعة وقدرة على الإحاطة بثقافة الآخر وخصوصيته الحضارية وغناه الإنساني.
باسم فرات، لؤلؤة واحدة وألف تل (رحلات بلاد أعالي النيل)، دار الأدهم للنشر والتوزيع، القاهرة، 2019.