" بين الترابط و التناثر"
للأستاذ محمد رحمان
في غمرة هذا اللقاء البهيج، وفي لجة هذا المنتدى البديع الذي يجمعنا لأول مرة، يشرفني ويسعدني أن أشارك في تقديم مؤلف حديث في طبعته الثانية2011، لمؤلف زميل بدأ يطأ أرض الإبداع والنشر، قادما إليها من تخوم التفكير الصعب والمساءلة العميقة.
إنها مناسبة مناسِبة هذه التي تجمعنا اليوم ، والتي أبدأها بقولي: -<< سلام عليك أيها الواقف عند مدخل القلب...سلاما أيها القلب الراقص على جدران الحزن الراكض في اتجاه النافذة بحثا عن كوة فرح ملفوف بمرايا من ضوء عشتاروأنا شيد لوركا>>
و أختمها بقولي:<<إنها عشتار اليوم بيننا حية، نابضة، ولوركا يعلمنا النشيد الكوني الأبدي>>.
أيها الحضور الكريم، ليس في نيتي- في هذه المداخلة- أن أدخل في تفاصيل نقدية حول مؤلف "باب لقلب الريح" للأستاذ محمد آيت علو ، ليس في نيتي كذلك الخلوص إلى استنتاجات نهائية، فكل هذا متروك للقراءة المتأنية، ولكن بغيتي هي:ـ الوقوف على التعالق المفترض بين العنوان وغيره من عناوين مختزنة في الذاكرة.
ـ الوقوف على شساعة الدلالة التي يحملها التجنيس الغريب الذي وضع للمؤلف.
العنوان:
جاء عنوان المؤلف مضغوطا بخط بارز متكون من ثلاث لكسيمات لغوية:
الأول باب و هو إسم نكرة مفرد يحيل على الإنتماء إلى حيز الدخول والمدخل، الدواخل، المدخلات، أي إلى حيزما هو جواني/ مغلق.
و الثانية لقلب وهوإسم مفرد مجرور بلام الجر، ويدل على المشاعر والأحاسيس التي تؤثث نفسية الإنسان باعتبارها حيزا مغلقا، وقد يدل على التغييرالذي تفيده لفظة القلب.
و الثالثة الريح وهوإسم مفرد معرف بأل ومذكر تداوليا، ومؤنث لغويا.
ويقودنا هذا إلى الوقوف على شبكة التعالق المفترض بين هذا العنوان الجريء وغيره من العناوين، فتحضرنا في هذا الإطار العناوين التالية:
في الإبـداع العربي:
مسرحية "الباب" لغسان الكنفاني
رواية "سبعة أبواب" لعبد الكريم غلاب.
رواية "باب تازة" لعبد القادر الشاوي.
رواية "الأبواب الموصدة" لرفعت الخطيب.
مسرحية "افتحوا الأبواب" لمعين بسيسو.
قصيدة "الباب تقرعه الرياح" لبدر شاكر السياب.
و في الإبداع الغربي:
رواية "أبواب الخلود" لميلان كونديرا
رواية "القط الأسود وراء الباب" لفلاديميركرافشتكو.
رواية "أبواب القلعة الخامسة" لإزابيل ماريان.
مسرحية "باب المطر" لفرنسوا جيرار.
و كلها نصوص سردية و تمثيلية هاجسها المشترك هو الدعوة إلى التغيير وإعادة بناء الذات والحياة.
إن التعالق الموجود بين العنوان وغيره، تعالق نصي يكثف التجربة الإبداعية و يلخصها.
دلالة التجنيس:
ورد أسفل الغلاف تجنيس يبدو منذ الوهلة الأولى غريبا غيرمألوف، جاء فيه:"نصوص منفلتة ومسافات"غيرأن توغلنا في فهم مقصدية النص وتراكماته الدلالية يجعلنا نلمس كون هذه النصوص قد انفلتت من عقال التجنيس نفسه، وانفلتت كذلك مـن صـهـوة المقصـديـة الجمـاليـة، أقصـد أنها نصوص/ طبقـات تداخل فيهـا مـا هو نفسي واجتماعي و قصصي وسيري وشعري و إخباري...
أما لفظة المسافات، فهي تؤشرعلى حقيقة بادية، ولكنها غيرعادية، تتمثل في المسافات التي تفصل هذه النصوص من حيث الزمن(1993-97-98-99-2000ـ2011) مسافة زمنية استطاع الكاتب أن يكثف فيها تجربته الحياتية، وأن يصقل تجربته الإبداعية، ومن حيث المكان(من تزنيت جنوبا وصولا إلى طنجة شمالا، وألميريا، والشاون، بل إلى تخوم الشرق الصادع بالأنا والأنوية(تنغير-ورزازات مثلا) أماكن دافئة جعلت النصوص تمتلك دفقا شعوريا وإحالة على المسافـات.]لقد دخل المؤلف في سباق المسافـات الطويلة مع الزمـن والمكان وهذه طبيعة الأدب[.
مقاربة بعنوان:"لغة الموت و البياض"
للأستاذ المدني بورخيس
إن المسافات الإبداعية التي يرسمها الكاتب لأستاذ محمد آيت علو في نصوصه المنفلتة، تفتح أمام المتلقي بابا، بل أبوابا لقلب الريح، وتقحمه بشكل منفلت في مواجهة ريح الموت، حيث إن عليه أن يقطع هذه المسافات اللغوية، قصد الإمساك بخيط تلك النصوص ولن يتأتي له ذلك إلا بفك تلك الرموزالمكتوبة، وكشف الدلالات العميقة في سواد الكتابة، والدلالات المغيبة في بياضها،لأنها مسافات نصية، يتداخل فيها الشعري والصوفي، ويمتزج فيها الخيالي بالواقعي، وتتعرى فيها الذات من عقدها، وكبريائها لتفصح عن صراعاتها، ومشاعرها وانفعالاتها، إنها مسافات ملغومة حقا بتشكيلها، ولغتها وشرعيتها وواقعيتها وخيالها وصوفيتها. فما هي دلالات البياض في المؤلف؟ ولماذا تحضرتيمة الموت بشكل ملفت في هذه المسافات الإبداعية؟
لغة الموت:
و نحن نفتح باب المؤلف، ونقلب صفحاته، ونقرأ مسـافـاته اللغوية، مسـافـة مسـافـة، ونفتض بكارة الكلمات والأشياء، يثيرنا ذلك الحضورالمكثف للغة الموت، مجسدا في عـدة مظاهر:
أولها مظهرالموت ذاته، حيث يتحدث الكاتب عن "قاعة الموت"
تراه سافر إليها فمات؟...
تراه الحب ولج قاعة الموت الأبدي؟...
إن الحديث عن موت الليل، وموت الحب ، يجعلنا نتساءل عن دلالة هذا الموت؟
هل هو الموت المألوف(مفارقة الروح بالجسد) أم هو موت آخر؟ يبدو أن الموت يقصد به الموت المعنوي المجرد والفكري (دون إغفال حضور المعنى العادي) إنه موت الذات والإحساس/موت السلام و الهدوء، إنه موت الذات وذوبانها في زحمة الواقع. وهذا الموت ربما يكون أشد ألما وأفظع أثرا من غيره، وهذا ما يعززه موت الحلم، وموت العرافة صاحبة التفسير، فبموتها يموت الأمل و يعود التشاؤم واليأس ليملأ الذات ويسود مساحتها البيضاء.
و تحضر كلمة "القبور" بكثرة أيضا، والقبر مسكن الميت، فعندما يصبح الناس قبورا متنقلة وخائفة مثلما تماثيل منتصبة، دونما نبض أو حركة، فهذا تأكيد لتلك الدلالة المجردة للموت، موت الروح رغم حركية الجسد، موت الفكر والشعور، رغم حياة الذات الإنسانية، وعندما يصيرالموتى بلا عدد وسط ظلام المقبرة، تتحدث إحدى المسافات عن وجود قبرمضيء، ربما جسد دلالة الحب والتفاؤل والنور.
و تصل تجربة الموت ذروتها عند تصوير مشهد جنائزي، بما فيه من حمل النعش، ووضعه في القبر، وتلاوة القرآن والدعاء، والبكاء والتأبين...وهنا تتحدث المسافة عن الحياة في الموت:"لكنك لن تموت أبدا، ما دمت ستعيش للحب... قلبك النابض بالصدق والإشراق وحب الناس لن يتوقف وسيدق مع دقات كثيرة للأبد..."
و ثاني هذه المظاهر، هوالحلم، فهوموت أيضا أو مرتبط به، إذ أنه ابتعاد عن الواقع وتفكير في عالم آخر. والحلم في المؤلف، يجسد الفشل/يعمق اليأس، إنه حلم المعاناة:"والآن أيتها العرافة خبريني بما لم أستطع عليه صبرا، إني أرى في الحلم واليقظة وفي كل مرة، وأسمع رجع ذكرى، الصوت نفسه، رنة جرس كنائسي نحيب/ عويل.... وأراني مصلوبا تأكل الطيرمن فوق رأسي... وأرى عن يميني مجرى هائجا وأمواج كالصخر وأجسادا من بقايا طوفان نوح... وعن يساري رجالا ينتحون من الحجر قبورا، ويموتون...لكن العرافة ماتت بعدئذ ...".بين الحلم غيرالمتحقق، وبين موت العرافة، يصيرالإنسان بلا صدى، تجمد أفكاره، وتتحول تصوراته إلى هياكل بلا روح، ويتكررالحلم شظايا في عينه.
و ثالث هذه المظاهرهو مظهرالتيه والنسيان:
يزرعنا التيه في غياهب النسيان.
من قال أن العيون تدري سرالبكاء؟من قال بأن تلك العيون سترسم بالتيه مستقبلا بلا قسمات مثل حاضرنا السكران...
هاأنـذا مفقود مولود ، مولود مفقود أبحث عن نفسي قليـلا، فلاأجدها إلا ناقصة مشوهة، مجزأة، أتلاشى في ظلام السواد، وفي شفاف البياض، وأضيع في غمرة الوحدة القاتلة....
تتعدد الصور، والموت واحد كما قال الشاعر، فلماذا هذا الحضورالمكثف لتيـمــة الموت؟
يجسد المؤلف، المقولة الشهيرة:الكتابة موت، تتشظى ذات الكاتب، وتتوزع سواد الكتابة في كل سطريكتبه المبدع، يحس معه بأن ذاته تذوب رويدا رويدا، وما إن ينتهي من كتابة نصوصه المنفلتة، حتى يموت(كما يقول رولان بارت).إضافة إلى ذلـك فـإن الذات هي دائما في صراع مع الواقع، ومع الآخر، تنفـعل وتـتفاعـل، تحـلـم، وتتصور، لكنها تصدم بتناقض العالم وقسوته، وأنانية الآخروسطوته، فتنعزل وتتوارى، فتصبح عزلتها موتا ونسيانا...
لغة البياض:
إن عملية الكتابة،ليست مجرد تنظيم كلمات على أسطرأفقية موازية، بل هي قبل كل شيء توزيع لبياض وسواد على مسند هو في عموم الحالات الورقة البيضاء.
وانطلاقا من هذا المعطى، فإن مؤلف "باب لقلب الريح" يوظف تشكيلا لغويا، يتمثل في تقنية البياض أو فراغات الكتابة، وإذا قد سكت عمدا عن مجموعة من الدلالات، وملأ مؤلفه بياضات عدة، فإن مهمة القارئ أن يملأها بما يراه مناسبا.
وبذلك يكون فاعلا في عملية الإبداع الأدبي، وإذا سكت هو الآخر، فإنه سيضيف بياض القراءة إلى بياض الكتابة، ومن ثم فإن السؤال الأكثر إلحاحا هو:ما دلالة هذا البياض؟ وما علاقته بالمساحات المكتوبة؟
أولا هي بياضات التحفيز/الإستفزاز، لأنها تدخل المتلقي في عوالم من التأويل والتفسيروالإفتراض، وتقلق ذاكرته / فكره، وتوقظ ذهنه من غفلة المعنى الجاهز و لدلالة القاطعة، إنها تستفزالقارئ وتحفزه على القراءة باهتمام وجدية.
ثانيا هي بياضات الموت، لأن السكوت عن الكلام المباح، يعد موتا معنويا للمؤلف، كما أنها تنم عن الحضورالطاغي لتيمة الموت في المساحات السوداء(المكتوبة)، لهذا فالبياض يشكل صورة ومظهرآخرين لهذه التيمة، إنه الإستسلام والعجزوالفشل في التعبيرعن الذات.
ثالثا هي بياضات الحلم، فالحلم يكون أبيض غالبا، جميلا يكون، لكنه في المؤلف أسود في أسود، فهل بياض الكتابة هوحلم ثان أو حلم مضاد أوحلم بديل، فالكاتب، وهو يتوقف عن الكتابة في هذه الفراغات، ينصرف عن الواقع إلى الخيال، ويعانق الحلم بعيدا عن الحقيقة:
"- و سيطول بي سهري و يعود بي إشراق فألي، أنحت الخطط على حجمي و مقاسي...أجل! سنبحرفي كلينا، نغوص، نغوص، نغوص........... "
رابعا هي بياضات الحياة، ومن ثم يكون بياض الكتابة نقيضا لسوادها، فالموت ينتهي بانتهاء الكلمات، لتبدأ الحياة، ويعود الأمل ويبقى التفاؤل حاضرا، رغم مأساوية الواقع، ومعاناة الذات.بياض النصوص، إذن رغبة في العودة إلى الحياة / الوجود، والإحتجاج على الموت، والفشل والنسيان.
خاتمة
تجربة "باب لقلب الريح" إذن،هي تجربة تقوم على تخيل مسافة الحلم، لتسقط في نص الموت، وانفلات الحياة، وبياض الكتابة، إنها تجربة المأساة، والصراع النفسي بين الأمل واليأس، بين الحلم والحقيقة، بين الحياة والموت، بين السواد والبياض،...تجربة إنسان بلا صدى، يفكر فتبقى أفكاره جامدة، يتصور، يحلم، تصوراته، أحلامه هياكل بلا روح....
ترى هل استطاع الكاتب فعلا أن يفتح بابا لقلب الريح...؟ !!
"بين الإنفلات، ومسافة الإبداع"
المبدع:إبن الأثير عبده بن خالي .
...يرقص الجسد مترنحا بين جنبات الكرسي، لا يستقر له قرار في الجلوس طبيعيا، كأن المقعد جمرمن نار، النار تسري تدريجيا، متسربة حتى تصل إلى النخاع الشوكي...ثم تسير سيرتها الطبيعية، دون أدنى مقاومة إلى أن تصل إلى تلافيف الدماغ...إذ ذاك يبدأ التفكير/القلق وينطلق التساؤل، موجات كهربائية تلسع كل الجلد:- ما الذي يجري في الأعماق؟ - ما الذي يجري من حولنا؟...موغل في تعب الاستحالة و شقاء المعنى... مشرع بفوضى خالصة تقود نحو استدراج التفاصيل الصغيرة، واللغة إلى دمورها الأقصى... وحين نهب الحكاية تنظيم عثرتها، نكون قد انفلتنا مسافة، تسلم عنفوان الذات للريح....
إن الإنفلات في الأصل مسافة إبداعية..، احتراق من أجل تأسيس هوية الحداثة، ونشيد يعانق التحول والإستمرار، من خلال معانقة الإنسان بهدف الطموح إلى الإنخراط في لحظة الإندماج الحقيقية، ما دام كل انفلات مشروعا إبداعيا لممارسة يومية، لاتنفصل عن المشروع المجتمعي ككل، بل تخلق بينه و بين هاجس تحوله، مسافات تتمفصل أبعادها داخل ذات تنتمي للمكان الذي ولدت فيه، وعانقت من خلاله هموم و أحزان الزمان، الذي يفعل فيه بشكل حضاري، وما دامت المسافات من خلال تمفصل أبعادها، تمتلك إمكانية التأثير في الإنسان، في التاريخ والواقع ارتباطا بامتلاك إمكانية الفعل والتفعيل في اللحظة الراهنة...!
يتداخل هذا الإنفلات في تلك المسافات، لتصبح المسافات انفلاتا حداثيا للإبداع، وتمتد هذه المسافات في ذلك الإنفلات، ليصبح الإنفلات مسافات بين التداخل والإمتداد، رؤية في اتجاه أن نكون أو لا نكون...!
إنها الكلمة/الإبداع، والحكي عن الفرح الجامح، بصخب وتوهج، عبيرا ينتشرعبرالأمكنة/الأزمنة من ضوء يغذي جوع العتمات المندوبة جراحها فينا كالنزيف، ومساءات الرغبة المبحوحة في الإنفلات من ذاك العالم المسيج بالريح، واحتراق الكلمات الناضجة فينا،فتبقي المسافة بيننا طقوسا لانفلات لم نمارسه من قبل...!
فسلاما عليك أيها الواقف عند مدخل القلب، سلاما عليك أيها الجسد المنفلت فينا،حلما يراود الذات، ويسعى إلى تدميرالمألوف، سلاما أيها القلب، الراقص على جدار الحزن الراكض في اتجاه النافذة بحثا عن كوة فرح، ملفوف بمرايا عشتار وأناشيد لوركا... يدك الريح على كف الشمس وسط الظلام، ومشيئة الظل الذي هوظلك في ظلين...، الأول يحلق داخل متاهات الوجد وأزقة المدينة، يغازل الجرائد سيلا من رماد...، ويغطي الثاني رموزه بحدائق تحجرت نبوءاتها في دمه، ومن أجل لا شيء، هو المرمى هناك بين نوافذ الريح، بين الندى والبحر، يبقى الإشتهاء لديك في الإنفلات إلى شرفة مضيئة، مطرزة بليل السمارالموسوم بالحكي والشغب المبدع...!
من هنا تبدأ الحكاية/ الكتابة، والكلمات...، وحبك المشنوق بحبال المنع والردع والصفع، وحقيقة إنفجاراتك الداخلية، وكل التناقضات التي تجعل العالم يضيق أمام عينيك، حتى يصبح في حجم علبة الثقاب.
للأستاذ محمد رحمان
في غمرة هذا اللقاء البهيج، وفي لجة هذا المنتدى البديع الذي يجمعنا لأول مرة، يشرفني ويسعدني أن أشارك في تقديم مؤلف حديث في طبعته الثانية2011، لمؤلف زميل بدأ يطأ أرض الإبداع والنشر، قادما إليها من تخوم التفكير الصعب والمساءلة العميقة.
إنها مناسبة مناسِبة هذه التي تجمعنا اليوم ، والتي أبدأها بقولي: -<< سلام عليك أيها الواقف عند مدخل القلب...سلاما أيها القلب الراقص على جدران الحزن الراكض في اتجاه النافذة بحثا عن كوة فرح ملفوف بمرايا من ضوء عشتاروأنا شيد لوركا>>
و أختمها بقولي:<<إنها عشتار اليوم بيننا حية، نابضة، ولوركا يعلمنا النشيد الكوني الأبدي>>.
أيها الحضور الكريم، ليس في نيتي- في هذه المداخلة- أن أدخل في تفاصيل نقدية حول مؤلف "باب لقلب الريح" للأستاذ محمد آيت علو ، ليس في نيتي كذلك الخلوص إلى استنتاجات نهائية، فكل هذا متروك للقراءة المتأنية، ولكن بغيتي هي:ـ الوقوف على التعالق المفترض بين العنوان وغيره من عناوين مختزنة في الذاكرة.
ـ الوقوف على شساعة الدلالة التي يحملها التجنيس الغريب الذي وضع للمؤلف.
العنوان:
جاء عنوان المؤلف مضغوطا بخط بارز متكون من ثلاث لكسيمات لغوية:
الأول باب و هو إسم نكرة مفرد يحيل على الإنتماء إلى حيز الدخول والمدخل، الدواخل، المدخلات، أي إلى حيزما هو جواني/ مغلق.
و الثانية لقلب وهوإسم مفرد مجرور بلام الجر، ويدل على المشاعر والأحاسيس التي تؤثث نفسية الإنسان باعتبارها حيزا مغلقا، وقد يدل على التغييرالذي تفيده لفظة القلب.
و الثالثة الريح وهوإسم مفرد معرف بأل ومذكر تداوليا، ومؤنث لغويا.
ويقودنا هذا إلى الوقوف على شبكة التعالق المفترض بين هذا العنوان الجريء وغيره من العناوين، فتحضرنا في هذا الإطار العناوين التالية:
في الإبـداع العربي:
مسرحية "الباب" لغسان الكنفاني
رواية "سبعة أبواب" لعبد الكريم غلاب.
رواية "باب تازة" لعبد القادر الشاوي.
رواية "الأبواب الموصدة" لرفعت الخطيب.
مسرحية "افتحوا الأبواب" لمعين بسيسو.
قصيدة "الباب تقرعه الرياح" لبدر شاكر السياب.
و في الإبداع الغربي:
رواية "أبواب الخلود" لميلان كونديرا
رواية "القط الأسود وراء الباب" لفلاديميركرافشتكو.
رواية "أبواب القلعة الخامسة" لإزابيل ماريان.
مسرحية "باب المطر" لفرنسوا جيرار.
و كلها نصوص سردية و تمثيلية هاجسها المشترك هو الدعوة إلى التغيير وإعادة بناء الذات والحياة.
إن التعالق الموجود بين العنوان وغيره، تعالق نصي يكثف التجربة الإبداعية و يلخصها.
دلالة التجنيس:
ورد أسفل الغلاف تجنيس يبدو منذ الوهلة الأولى غريبا غيرمألوف، جاء فيه:"نصوص منفلتة ومسافات"غيرأن توغلنا في فهم مقصدية النص وتراكماته الدلالية يجعلنا نلمس كون هذه النصوص قد انفلتت من عقال التجنيس نفسه، وانفلتت كذلك مـن صـهـوة المقصـديـة الجمـاليـة، أقصـد أنها نصوص/ طبقـات تداخل فيهـا مـا هو نفسي واجتماعي و قصصي وسيري وشعري و إخباري...
أما لفظة المسافات، فهي تؤشرعلى حقيقة بادية، ولكنها غيرعادية، تتمثل في المسافات التي تفصل هذه النصوص من حيث الزمن(1993-97-98-99-2000ـ2011) مسافة زمنية استطاع الكاتب أن يكثف فيها تجربته الحياتية، وأن يصقل تجربته الإبداعية، ومن حيث المكان(من تزنيت جنوبا وصولا إلى طنجة شمالا، وألميريا، والشاون، بل إلى تخوم الشرق الصادع بالأنا والأنوية(تنغير-ورزازات مثلا) أماكن دافئة جعلت النصوص تمتلك دفقا شعوريا وإحالة على المسافـات.]لقد دخل المؤلف في سباق المسافـات الطويلة مع الزمـن والمكان وهذه طبيعة الأدب[.
مقاربة بعنوان:"لغة الموت و البياض"
للأستاذ المدني بورخيس
إن المسافات الإبداعية التي يرسمها الكاتب لأستاذ محمد آيت علو في نصوصه المنفلتة، تفتح أمام المتلقي بابا، بل أبوابا لقلب الريح، وتقحمه بشكل منفلت في مواجهة ريح الموت، حيث إن عليه أن يقطع هذه المسافات اللغوية، قصد الإمساك بخيط تلك النصوص ولن يتأتي له ذلك إلا بفك تلك الرموزالمكتوبة، وكشف الدلالات العميقة في سواد الكتابة، والدلالات المغيبة في بياضها،لأنها مسافات نصية، يتداخل فيها الشعري والصوفي، ويمتزج فيها الخيالي بالواقعي، وتتعرى فيها الذات من عقدها، وكبريائها لتفصح عن صراعاتها، ومشاعرها وانفعالاتها، إنها مسافات ملغومة حقا بتشكيلها، ولغتها وشرعيتها وواقعيتها وخيالها وصوفيتها. فما هي دلالات البياض في المؤلف؟ ولماذا تحضرتيمة الموت بشكل ملفت في هذه المسافات الإبداعية؟
لغة الموت:
و نحن نفتح باب المؤلف، ونقلب صفحاته، ونقرأ مسـافـاته اللغوية، مسـافـة مسـافـة، ونفتض بكارة الكلمات والأشياء، يثيرنا ذلك الحضورالمكثف للغة الموت، مجسدا في عـدة مظاهر:
أولها مظهرالموت ذاته، حيث يتحدث الكاتب عن "قاعة الموت"
تراه سافر إليها فمات؟...
تراه الحب ولج قاعة الموت الأبدي؟...
إن الحديث عن موت الليل، وموت الحب ، يجعلنا نتساءل عن دلالة هذا الموت؟
هل هو الموت المألوف(مفارقة الروح بالجسد) أم هو موت آخر؟ يبدو أن الموت يقصد به الموت المعنوي المجرد والفكري (دون إغفال حضور المعنى العادي) إنه موت الذات والإحساس/موت السلام و الهدوء، إنه موت الذات وذوبانها في زحمة الواقع. وهذا الموت ربما يكون أشد ألما وأفظع أثرا من غيره، وهذا ما يعززه موت الحلم، وموت العرافة صاحبة التفسير، فبموتها يموت الأمل و يعود التشاؤم واليأس ليملأ الذات ويسود مساحتها البيضاء.
و تحضر كلمة "القبور" بكثرة أيضا، والقبر مسكن الميت، فعندما يصبح الناس قبورا متنقلة وخائفة مثلما تماثيل منتصبة، دونما نبض أو حركة، فهذا تأكيد لتلك الدلالة المجردة للموت، موت الروح رغم حركية الجسد، موت الفكر والشعور، رغم حياة الذات الإنسانية، وعندما يصيرالموتى بلا عدد وسط ظلام المقبرة، تتحدث إحدى المسافات عن وجود قبرمضيء، ربما جسد دلالة الحب والتفاؤل والنور.
و تصل تجربة الموت ذروتها عند تصوير مشهد جنائزي، بما فيه من حمل النعش، ووضعه في القبر، وتلاوة القرآن والدعاء، والبكاء والتأبين...وهنا تتحدث المسافة عن الحياة في الموت:"لكنك لن تموت أبدا، ما دمت ستعيش للحب... قلبك النابض بالصدق والإشراق وحب الناس لن يتوقف وسيدق مع دقات كثيرة للأبد..."
و ثاني هذه المظاهر، هوالحلم، فهوموت أيضا أو مرتبط به، إذ أنه ابتعاد عن الواقع وتفكير في عالم آخر. والحلم في المؤلف، يجسد الفشل/يعمق اليأس، إنه حلم المعاناة:"والآن أيتها العرافة خبريني بما لم أستطع عليه صبرا، إني أرى في الحلم واليقظة وفي كل مرة، وأسمع رجع ذكرى، الصوت نفسه، رنة جرس كنائسي نحيب/ عويل.... وأراني مصلوبا تأكل الطيرمن فوق رأسي... وأرى عن يميني مجرى هائجا وأمواج كالصخر وأجسادا من بقايا طوفان نوح... وعن يساري رجالا ينتحون من الحجر قبورا، ويموتون...لكن العرافة ماتت بعدئذ ...".بين الحلم غيرالمتحقق، وبين موت العرافة، يصيرالإنسان بلا صدى، تجمد أفكاره، وتتحول تصوراته إلى هياكل بلا روح، ويتكررالحلم شظايا في عينه.
و ثالث هذه المظاهرهو مظهرالتيه والنسيان:
يزرعنا التيه في غياهب النسيان.
من قال أن العيون تدري سرالبكاء؟من قال بأن تلك العيون سترسم بالتيه مستقبلا بلا قسمات مثل حاضرنا السكران...
هاأنـذا مفقود مولود ، مولود مفقود أبحث عن نفسي قليـلا، فلاأجدها إلا ناقصة مشوهة، مجزأة، أتلاشى في ظلام السواد، وفي شفاف البياض، وأضيع في غمرة الوحدة القاتلة....
تتعدد الصور، والموت واحد كما قال الشاعر، فلماذا هذا الحضورالمكثف لتيـمــة الموت؟
يجسد المؤلف، المقولة الشهيرة:الكتابة موت، تتشظى ذات الكاتب، وتتوزع سواد الكتابة في كل سطريكتبه المبدع، يحس معه بأن ذاته تذوب رويدا رويدا، وما إن ينتهي من كتابة نصوصه المنفلتة، حتى يموت(كما يقول رولان بارت).إضافة إلى ذلـك فـإن الذات هي دائما في صراع مع الواقع، ومع الآخر، تنفـعل وتـتفاعـل، تحـلـم، وتتصور، لكنها تصدم بتناقض العالم وقسوته، وأنانية الآخروسطوته، فتنعزل وتتوارى، فتصبح عزلتها موتا ونسيانا...
لغة البياض:
إن عملية الكتابة،ليست مجرد تنظيم كلمات على أسطرأفقية موازية، بل هي قبل كل شيء توزيع لبياض وسواد على مسند هو في عموم الحالات الورقة البيضاء.
وانطلاقا من هذا المعطى، فإن مؤلف "باب لقلب الريح" يوظف تشكيلا لغويا، يتمثل في تقنية البياض أو فراغات الكتابة، وإذا قد سكت عمدا عن مجموعة من الدلالات، وملأ مؤلفه بياضات عدة، فإن مهمة القارئ أن يملأها بما يراه مناسبا.
وبذلك يكون فاعلا في عملية الإبداع الأدبي، وإذا سكت هو الآخر، فإنه سيضيف بياض القراءة إلى بياض الكتابة، ومن ثم فإن السؤال الأكثر إلحاحا هو:ما دلالة هذا البياض؟ وما علاقته بالمساحات المكتوبة؟
أولا هي بياضات التحفيز/الإستفزاز، لأنها تدخل المتلقي في عوالم من التأويل والتفسيروالإفتراض، وتقلق ذاكرته / فكره، وتوقظ ذهنه من غفلة المعنى الجاهز و لدلالة القاطعة، إنها تستفزالقارئ وتحفزه على القراءة باهتمام وجدية.
ثانيا هي بياضات الموت، لأن السكوت عن الكلام المباح، يعد موتا معنويا للمؤلف، كما أنها تنم عن الحضورالطاغي لتيمة الموت في المساحات السوداء(المكتوبة)، لهذا فالبياض يشكل صورة ومظهرآخرين لهذه التيمة، إنه الإستسلام والعجزوالفشل في التعبيرعن الذات.
ثالثا هي بياضات الحلم، فالحلم يكون أبيض غالبا، جميلا يكون، لكنه في المؤلف أسود في أسود، فهل بياض الكتابة هوحلم ثان أو حلم مضاد أوحلم بديل، فالكاتب، وهو يتوقف عن الكتابة في هذه الفراغات، ينصرف عن الواقع إلى الخيال، ويعانق الحلم بعيدا عن الحقيقة:
"- و سيطول بي سهري و يعود بي إشراق فألي، أنحت الخطط على حجمي و مقاسي...أجل! سنبحرفي كلينا، نغوص، نغوص، نغوص........... "
رابعا هي بياضات الحياة، ومن ثم يكون بياض الكتابة نقيضا لسوادها، فالموت ينتهي بانتهاء الكلمات، لتبدأ الحياة، ويعود الأمل ويبقى التفاؤل حاضرا، رغم مأساوية الواقع، ومعاناة الذات.بياض النصوص، إذن رغبة في العودة إلى الحياة / الوجود، والإحتجاج على الموت، والفشل والنسيان.
خاتمة
تجربة "باب لقلب الريح" إذن،هي تجربة تقوم على تخيل مسافة الحلم، لتسقط في نص الموت، وانفلات الحياة، وبياض الكتابة، إنها تجربة المأساة، والصراع النفسي بين الأمل واليأس، بين الحلم والحقيقة، بين الحياة والموت، بين السواد والبياض،...تجربة إنسان بلا صدى، يفكر فتبقى أفكاره جامدة، يتصور، يحلم، تصوراته، أحلامه هياكل بلا روح....
ترى هل استطاع الكاتب فعلا أن يفتح بابا لقلب الريح...؟ !!
"بين الإنفلات، ومسافة الإبداع"
المبدع:إبن الأثير عبده بن خالي .
...يرقص الجسد مترنحا بين جنبات الكرسي، لا يستقر له قرار في الجلوس طبيعيا، كأن المقعد جمرمن نار، النار تسري تدريجيا، متسربة حتى تصل إلى النخاع الشوكي...ثم تسير سيرتها الطبيعية، دون أدنى مقاومة إلى أن تصل إلى تلافيف الدماغ...إذ ذاك يبدأ التفكير/القلق وينطلق التساؤل، موجات كهربائية تلسع كل الجلد:- ما الذي يجري في الأعماق؟ - ما الذي يجري من حولنا؟...موغل في تعب الاستحالة و شقاء المعنى... مشرع بفوضى خالصة تقود نحو استدراج التفاصيل الصغيرة، واللغة إلى دمورها الأقصى... وحين نهب الحكاية تنظيم عثرتها، نكون قد انفلتنا مسافة، تسلم عنفوان الذات للريح....
إن الإنفلات في الأصل مسافة إبداعية..، احتراق من أجل تأسيس هوية الحداثة، ونشيد يعانق التحول والإستمرار، من خلال معانقة الإنسان بهدف الطموح إلى الإنخراط في لحظة الإندماج الحقيقية، ما دام كل انفلات مشروعا إبداعيا لممارسة يومية، لاتنفصل عن المشروع المجتمعي ككل، بل تخلق بينه و بين هاجس تحوله، مسافات تتمفصل أبعادها داخل ذات تنتمي للمكان الذي ولدت فيه، وعانقت من خلاله هموم و أحزان الزمان، الذي يفعل فيه بشكل حضاري، وما دامت المسافات من خلال تمفصل أبعادها، تمتلك إمكانية التأثير في الإنسان، في التاريخ والواقع ارتباطا بامتلاك إمكانية الفعل والتفعيل في اللحظة الراهنة...!
يتداخل هذا الإنفلات في تلك المسافات، لتصبح المسافات انفلاتا حداثيا للإبداع، وتمتد هذه المسافات في ذلك الإنفلات، ليصبح الإنفلات مسافات بين التداخل والإمتداد، رؤية في اتجاه أن نكون أو لا نكون...!
إنها الكلمة/الإبداع، والحكي عن الفرح الجامح، بصخب وتوهج، عبيرا ينتشرعبرالأمكنة/الأزمنة من ضوء يغذي جوع العتمات المندوبة جراحها فينا كالنزيف، ومساءات الرغبة المبحوحة في الإنفلات من ذاك العالم المسيج بالريح، واحتراق الكلمات الناضجة فينا،فتبقي المسافة بيننا طقوسا لانفلات لم نمارسه من قبل...!
فسلاما عليك أيها الواقف عند مدخل القلب، سلاما عليك أيها الجسد المنفلت فينا،حلما يراود الذات، ويسعى إلى تدميرالمألوف، سلاما أيها القلب، الراقص على جدار الحزن الراكض في اتجاه النافذة بحثا عن كوة فرح، ملفوف بمرايا عشتار وأناشيد لوركا... يدك الريح على كف الشمس وسط الظلام، ومشيئة الظل الذي هوظلك في ظلين...، الأول يحلق داخل متاهات الوجد وأزقة المدينة، يغازل الجرائد سيلا من رماد...، ويغطي الثاني رموزه بحدائق تحجرت نبوءاتها في دمه، ومن أجل لا شيء، هو المرمى هناك بين نوافذ الريح، بين الندى والبحر، يبقى الإشتهاء لديك في الإنفلات إلى شرفة مضيئة، مطرزة بليل السمارالموسوم بالحكي والشغب المبدع...!
من هنا تبدأ الحكاية/ الكتابة، والكلمات...، وحبك المشنوق بحبال المنع والردع والصفع، وحقيقة إنفجاراتك الداخلية، وكل التناقضات التي تجعل العالم يضيق أمام عينيك، حتى يصبح في حجم علبة الثقاب.