هل يكون كورونا طاعونَ العصر الجديد؟ ألن يتوقف هذا المرض اللعين عن قتلنا بالخوف والذعر قبل الإصابة بالعدوى؟ وهل علينا انتظار الحل من الأطباء والمختبرات العلمية التي تقف عاجزة إلى اليوم، أم أن مصير الإنسانية لا يقبل الانتظار، ما يفرض تدخل كل المعنيين بمصير العالم أجمع… وإذا كنا نريد البقاء على قيد الحياة، والاستمرار في المستقبل، فهل يمكن أن نلتمس في ماضي الإنسانية ما يحرضنا على الحياة؟ هذا ما نعثر عليه في مخطوط نادر لمتصوف مغربي، ألف كتابا خاصا بالأوبئة، ودعا إلى مواجهتها، بدل الخوف منها.
قبل مائتي عام، ألف صوفي مغربي شهير هو أحمد بن عجيبة، صاحب التفسير الصوفي الكبير “البحر المديد”، وشارح الحكم العطائية، كتابا يقترح وصفة متقدمة لمواجهة الوباء. وصفة تجعلنا نتسلح بالأمل، لأنها توقظ همم الإنسانية، حين تدعونا إلى مواجهة الوباء. أليس الشيخ أحمد بن عجيبة هو الذي اختار عنوان “إيقاظ الهمم” لكتابه الشهير حول شرح الحكم، والمقصود بها الحكم الصوفية لابن عطاء الله السكندري؟
أما هذا المخطوط فيبقى وثيقة نادرة، ونصا غميسا من النصوص التراثية العربية التي تصدت للأوبئة والأمراض الفتاكة والقاتلة، على غرار النص الشهير الذي ألفه لسان الدين بن الخطيب، والذي استفاد فيه من شيخه ابن هذيل، مؤلف كتاب “تكملة الأغراض في مزاولة الأمراض”. وهو مخطوط آخر يوجد في مكتبة خاصة بمدينة فاس المغربية. وابن هذيل التجيبي الغرناطي طبيب أندلسي متأخر، يعد بعبارة ابن الخطيب آخر علماء الأندلس، وهو يقصد العلماء الذين جمعوا بين علوم الشرع والعقل والطب، على غرار ابن رشد.
كتاب الشيخ أحمد بن عجيبة مخطوط نادر اشتغل عليه باحثون في التراث المغربي، وهو موجود في نسخ متعددة، في خزانة مؤرخ تطوان محمد داود، صاحب “تاريخ تطوان”، وونسخة في المكتبة العامة والمحفوظات بالمدينة، ونسخة في المكتبة الوطنية بالعاصمة الرباط.
الطاعون الكبير
جاء كتاب “سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر” للعالم والمتصوف المغربي أحمد بن عجيبة في أعقاب وباء الطاعون الذي أصاب المغرب خلال القرن الثامن عشر. ويعود تاريخ تأليف هذا الكتاب وتوقيعه إلى سنة 1799، يوم حل الطاعون بمدينة تطوان في أقصى شمال المغرب، حتى كاد يقضي على نحو 150 شخصا يوميا بهذه المدينة، في حدود شهر أبريل من تلك السنة، كما ينقل ذلك مؤرخ تطوان الأستاذ محمد داود عن المفضل أفيلال. وكما وصفه الطبيب الفرنسي رونو، الذي قدم إلى تطوان، ودرس سجلات هذا الوباء ووفياته. على أن طاعون تطوان لم يكن سوى جزء من الطاعون الكبير الذي ضرب المغرب في تلك الفترة، وقضى على ربع ساكنة البلاد، كما تورد بعض المصادر والمظان التاريخية المعتمدة. والغريب في الأمر أن هذا الطاعون قد ظهر في مدينة تطوان إبان شهر فبراير، في فصل الشتاء، كما حدث مع وباء “كورونا” اليوم، ولم يغادر الوباء تطوان إلا مع بداية فصل الربيع. ويحكي مؤرخ تطواني آخر هو أحمد بن محمد المرير، في ترجمته للشيخ أحمد بن عجيبة، أن سكان حاضرة تطوان قد تعلقوا بهذا الصوفي وتوجهوا إليه يلتمسون بركته وتدخله لما عم الطاعون أرجاء البلاد، فكان من ثمار ذلك تأليف هذا الكتاب. ويورد الرهوني أن سبب الطاعون الأساس في تلك الفترة هو الجفاف، حين “ضاق الناس ذرعا وفتنوا، وإذ اشتد الحال وشغل الناس، وعظم القحط، وكاد أن يحصل من النجاة الإياس، إذ هال الخطب وعم الهلاك”، بلغة المرير، وبمرارة تعبيره. وهو ما يربط الأوبئة بظروف مناخية وبيئية عصيبة. كما يعرف ابن عجيبة الوباء في سياق آخر من هذا الكتاب مرددا أن “الوباء عند الأطباء هو فساد الهواء”، ضمن وعي إيكولوجي متقدم أيضا.
وصفة ابن عجيبة
منذ أزيد من قرنين من الزمن، يقترح علينا المتصوف المغربي الشهير أحمد بن عجيبة مقاومة الوباء بدل الخوف والتراجع إلى الوراء. ويقدم المؤلف شهادته على عصره حين يقول: “فلقد رأيت كثيرا من العلماء زمن الوباء يأمرون بغلق أبواب المدينة، ويفرون من الدخول على المرضى خوفا من الموت. وهذا الذي حملني على تقييد هذا التأليف، فلا عبرة بعلم الأوراق إذا لم يؤيده الوجدان والأذواق. فالعلم النافع هو الذي ينكشف به عن القلب قناعة، ويبسط به في الصدر أنوار اليقين، وشعاعه، ويزول عن القلب الشك والاضطراب، وتحصل له الطمأنينة بشهود رب الأرباب. فمن لا يقين له ولا تحقيق فلا علم له ولا هداية ولا توفيق. فشاهد العلم هو العمل”.
وإذا كان المتصوف المغربي قد ربط الوباء بالقدر، إلا أنه يدعو إلى مواجهة الوباء، وعدم الاستكانة والخنوع، والهوان والخضوع. بينما يستحضر البيتين الشهيرين لأبي العلاء المعري: مشيناها خطى كتبت علينا/ ومن كتبت عليه خطى مشاها. ومن قسمت منيته بأرض/ فليس يموت في أرض سواها.
وابن عجيبة في هذا الكتاب ليس فقيها ومتصوفا فقط، يورد النصوص الشرعية حول القضاء والقدر، ولكنه شاهد على الوباء وزمانه ومكانه، حين يقول: “وقد رأيت كثيرا من أصحابنا تقدموا لغسل الموتى، ومباشرة المرضى من مدينة تطوان، وطنجة وسلا والرباط، ومداشر القبائل، لم يتقدم إلى ذلك غيرهم، فغسلوا وكفنوا، وباشروا المرضى، فلم يصبهم شيء، بل بعضهم باق على قيد الحياة، وقد رأيت بعضهم أعطي قشابة مات صاحبها بالوباء، فلبسها في الحين، فلم يصبه شيء، فعاش بعد الوباء زمنا طويلا”. حيث يدعو المتصوف إلى ما أسماه في هذا المخطوط “تعلم القوة والشجاعة” في مواجهة البلاء والوباء.
كما يقدم المؤلف نقدا صريحا لمن يواجه المرض بالأدعية، حين يرى أن “التحصن بالدعاء لا بأس به عبودية، مع أنه لا يزيد في العمر شيئا. وفائدته التأييد واللطف ونزول الصبر، والرضى عند أوقات الشدة”. كما يدعو المؤلف إلى ضرورة “اكتساب اليقين”، بوصفه مقاما صوفيا، كما يصفه.
من جانب آخر، يجد المؤلف في المرض وتداعياته فرصة لتوجيه نقد سياسي لعصره، حين يذهب إلى أن الوباء ما هو إلا نتيجة لفساد شامل، عم البلاد والعباد، “فما بقي إلا غزوة النصارى”… والحال أن مدينة تطوان سوف تتعرض بالفعل إلى أول احتلال أجنبي في العصر الحديث، نهاية 1959 وبداية 1960، في أعقاب حرب تطوان المعروفة مع إسبانيا، بسبب نزاع حول الحدود مع الجنود الإسبان عند مدينة سبتة التي لا تزال محتلة من لدن الإسبان إلى اليوم. أما احتلال مدينة تطوان سنة 1860، فهو وإن كان احتلالا مؤقتا فقد مهد لاستعمار المغرب من قبل فرنسا وإسبانيا، بعدما احتلت فرنسا الجزائر منذ 1930.
مخطوط الصوفي المغربي أحمد بن عجيبة، نص عجيب يؤكد لنا أن الوباء له تاريخ، وهو يعود من جديد ليطارد الإنسانية، مثلما يعيد التاريخ نفسه، بينما يهدد الوباء مستقبل البشرية.
قبل مائتي عام، ألف صوفي مغربي شهير هو أحمد بن عجيبة، صاحب التفسير الصوفي الكبير “البحر المديد”، وشارح الحكم العطائية، كتابا يقترح وصفة متقدمة لمواجهة الوباء. وصفة تجعلنا نتسلح بالأمل، لأنها توقظ همم الإنسانية، حين تدعونا إلى مواجهة الوباء. أليس الشيخ أحمد بن عجيبة هو الذي اختار عنوان “إيقاظ الهمم” لكتابه الشهير حول شرح الحكم، والمقصود بها الحكم الصوفية لابن عطاء الله السكندري؟
أما هذا المخطوط فيبقى وثيقة نادرة، ونصا غميسا من النصوص التراثية العربية التي تصدت للأوبئة والأمراض الفتاكة والقاتلة، على غرار النص الشهير الذي ألفه لسان الدين بن الخطيب، والذي استفاد فيه من شيخه ابن هذيل، مؤلف كتاب “تكملة الأغراض في مزاولة الأمراض”. وهو مخطوط آخر يوجد في مكتبة خاصة بمدينة فاس المغربية. وابن هذيل التجيبي الغرناطي طبيب أندلسي متأخر، يعد بعبارة ابن الخطيب آخر علماء الأندلس، وهو يقصد العلماء الذين جمعوا بين علوم الشرع والعقل والطب، على غرار ابن رشد.
كتاب الشيخ أحمد بن عجيبة مخطوط نادر اشتغل عليه باحثون في التراث المغربي، وهو موجود في نسخ متعددة، في خزانة مؤرخ تطوان محمد داود، صاحب “تاريخ تطوان”، وونسخة في المكتبة العامة والمحفوظات بالمدينة، ونسخة في المكتبة الوطنية بالعاصمة الرباط.
الطاعون الكبير
جاء كتاب “سلك الدرر في ذكر القضاء والقدر” للعالم والمتصوف المغربي أحمد بن عجيبة في أعقاب وباء الطاعون الذي أصاب المغرب خلال القرن الثامن عشر. ويعود تاريخ تأليف هذا الكتاب وتوقيعه إلى سنة 1799، يوم حل الطاعون بمدينة تطوان في أقصى شمال المغرب، حتى كاد يقضي على نحو 150 شخصا يوميا بهذه المدينة، في حدود شهر أبريل من تلك السنة، كما ينقل ذلك مؤرخ تطوان الأستاذ محمد داود عن المفضل أفيلال. وكما وصفه الطبيب الفرنسي رونو، الذي قدم إلى تطوان، ودرس سجلات هذا الوباء ووفياته. على أن طاعون تطوان لم يكن سوى جزء من الطاعون الكبير الذي ضرب المغرب في تلك الفترة، وقضى على ربع ساكنة البلاد، كما تورد بعض المصادر والمظان التاريخية المعتمدة. والغريب في الأمر أن هذا الطاعون قد ظهر في مدينة تطوان إبان شهر فبراير، في فصل الشتاء، كما حدث مع وباء “كورونا” اليوم، ولم يغادر الوباء تطوان إلا مع بداية فصل الربيع. ويحكي مؤرخ تطواني آخر هو أحمد بن محمد المرير، في ترجمته للشيخ أحمد بن عجيبة، أن سكان حاضرة تطوان قد تعلقوا بهذا الصوفي وتوجهوا إليه يلتمسون بركته وتدخله لما عم الطاعون أرجاء البلاد، فكان من ثمار ذلك تأليف هذا الكتاب. ويورد الرهوني أن سبب الطاعون الأساس في تلك الفترة هو الجفاف، حين “ضاق الناس ذرعا وفتنوا، وإذ اشتد الحال وشغل الناس، وعظم القحط، وكاد أن يحصل من النجاة الإياس، إذ هال الخطب وعم الهلاك”، بلغة المرير، وبمرارة تعبيره. وهو ما يربط الأوبئة بظروف مناخية وبيئية عصيبة. كما يعرف ابن عجيبة الوباء في سياق آخر من هذا الكتاب مرددا أن “الوباء عند الأطباء هو فساد الهواء”، ضمن وعي إيكولوجي متقدم أيضا.
وصفة ابن عجيبة
منذ أزيد من قرنين من الزمن، يقترح علينا المتصوف المغربي الشهير أحمد بن عجيبة مقاومة الوباء بدل الخوف والتراجع إلى الوراء. ويقدم المؤلف شهادته على عصره حين يقول: “فلقد رأيت كثيرا من العلماء زمن الوباء يأمرون بغلق أبواب المدينة، ويفرون من الدخول على المرضى خوفا من الموت. وهذا الذي حملني على تقييد هذا التأليف، فلا عبرة بعلم الأوراق إذا لم يؤيده الوجدان والأذواق. فالعلم النافع هو الذي ينكشف به عن القلب قناعة، ويبسط به في الصدر أنوار اليقين، وشعاعه، ويزول عن القلب الشك والاضطراب، وتحصل له الطمأنينة بشهود رب الأرباب. فمن لا يقين له ولا تحقيق فلا علم له ولا هداية ولا توفيق. فشاهد العلم هو العمل”.
وإذا كان المتصوف المغربي قد ربط الوباء بالقدر، إلا أنه يدعو إلى مواجهة الوباء، وعدم الاستكانة والخنوع، والهوان والخضوع. بينما يستحضر البيتين الشهيرين لأبي العلاء المعري: مشيناها خطى كتبت علينا/ ومن كتبت عليه خطى مشاها. ومن قسمت منيته بأرض/ فليس يموت في أرض سواها.
وابن عجيبة في هذا الكتاب ليس فقيها ومتصوفا فقط، يورد النصوص الشرعية حول القضاء والقدر، ولكنه شاهد على الوباء وزمانه ومكانه، حين يقول: “وقد رأيت كثيرا من أصحابنا تقدموا لغسل الموتى، ومباشرة المرضى من مدينة تطوان، وطنجة وسلا والرباط، ومداشر القبائل، لم يتقدم إلى ذلك غيرهم، فغسلوا وكفنوا، وباشروا المرضى، فلم يصبهم شيء، بل بعضهم باق على قيد الحياة، وقد رأيت بعضهم أعطي قشابة مات صاحبها بالوباء، فلبسها في الحين، فلم يصبه شيء، فعاش بعد الوباء زمنا طويلا”. حيث يدعو المتصوف إلى ما أسماه في هذا المخطوط “تعلم القوة والشجاعة” في مواجهة البلاء والوباء.
كما يقدم المؤلف نقدا صريحا لمن يواجه المرض بالأدعية، حين يرى أن “التحصن بالدعاء لا بأس به عبودية، مع أنه لا يزيد في العمر شيئا. وفائدته التأييد واللطف ونزول الصبر، والرضى عند أوقات الشدة”. كما يدعو المؤلف إلى ضرورة “اكتساب اليقين”، بوصفه مقاما صوفيا، كما يصفه.
من جانب آخر، يجد المؤلف في المرض وتداعياته فرصة لتوجيه نقد سياسي لعصره، حين يذهب إلى أن الوباء ما هو إلا نتيجة لفساد شامل، عم البلاد والعباد، “فما بقي إلا غزوة النصارى”… والحال أن مدينة تطوان سوف تتعرض بالفعل إلى أول احتلال أجنبي في العصر الحديث، نهاية 1959 وبداية 1960، في أعقاب حرب تطوان المعروفة مع إسبانيا، بسبب نزاع حول الحدود مع الجنود الإسبان عند مدينة سبتة التي لا تزال محتلة من لدن الإسبان إلى اليوم. أما احتلال مدينة تطوان سنة 1860، فهو وإن كان احتلالا مؤقتا فقد مهد لاستعمار المغرب من قبل فرنسا وإسبانيا، بعدما احتلت فرنسا الجزائر منذ 1930.
مخطوط الصوفي المغربي أحمد بن عجيبة، نص عجيب يؤكد لنا أن الوباء له تاريخ، وهو يعود من جديد ليطارد الإنسانية، مثلما يعيد التاريخ نفسه، بينما يهدد الوباء مستقبل البشرية.