التقيتُه أول مرة في باريس، كان ذلك منتصف السبعينات، وكنتُ أزور باريس لمقابلة أستاذي المشرف على عملي في أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه. في مقهى “بريغرودين” في حيّ السان ميشيل التقينا، هو المنفي من وطنه بسبب فكره اليساري ومواقفه النضاليّة، وأنا الباحثة عن المعرفة التي لم أُمنَح إمكانيّة تحصيلها أكاديميّاً في وطني، بسبب خروجي على حكم الطوائف.
كان هذا المقهى الفرنسي ملتقى الطلاب والمثقفين القادمين من أكثر من بلد عربي، وبشكل خاصّ من لبنان طلباً للنجاة من الحرب، حرب إسرائيل على لبنان، وحرب الطوائف اللبنانيّة على بعضها البعض. أتذكر الحديث الذي دار بين بعض المثقفين العرب ومحمود أمين العالم، في ذاك المقهى الباريسي.
يسأل أحد الحضور: تقول إنك كنت، وما زلت، تحب عبد الناصر. كيف وقد تمَّ، مع قيام الثورة عام 1954، عزل 300 أستاذ جامعي وسجنهم وتعذيبهم مدة خمس سنوات، وكنتَ واحداً منهم؟
فيجيبه العالم: نعم، أحبُّ عبد الناصر رغم أنَّ آثار تعذيب زبانيّته لا تزال على جسمي. لقد تصالحتُ مع الثورة الناصريّة بعد خروجي من السجن، ووافقتُ على حلّ الحزب الشيوعي المصري، ففي حينه دخلتْ السياسةُ الناصريّة في خلاف مع السياسة الأمريكيّة، وفي تحالف مع السياسة السوفياتيّة التي أسهمتْ في بناء السد العالي … هكذا تمَّ اندماج الشيوعيين في الطليعة الاشتراكيّة، أي في التنظيم السرّي الذي هو في قلب الاتحاد الاشتراكي.
يسأل آخر: ما رأيك في قول الأديب والناقد المصري سيّد بحراوي بأنك “مثقف إشكالي”؟
فيقول العالم وكأنه يقول لذاته: علينا أن نعمل في ظلِّ الشروط القائمة، ونستفيد منها في ظلِّ الظرف المتاح.
أحد الحضور، وكان من النقاد العرب المعروفين بميوله البنيويّة، قال بلهجة التحدّي: أخبِرْنا د. محمود عن منهجك النقدي، أما زلتَ، شأن الماركسيّين، تعتقد أنَّ الأدب انعكاسٌ للواقع الاجتماعي؟
يبتسم العالم، ويقول بلهجة تتسم بالجديّة، وتعبّر عن رحابة صدر: لقد انقطعتُ عن كتابة النقد في مرحلتيْن. الأولى كانت بين عامي 1954 و1959، وذلك “بسبب غيبة داخل مصر” (غيبته في السجن)، والثانية “بسبب غربة خارج مصر” (نفيه وسفره إلى إنكلترا ثم إلى فرنسا). في هذه المرحلة الثانية “حاولتُ اكتشاف البنية الفنيّة والقيمة الجماليّة للإبداع الروائي في ارتباط حميم بالرؤية الدلاليّة الاجتماعيّة، هذه الرؤية التي كادت ممارستي النقديّة، في المرحلة الأولى، تقتصر عليها”.
أدهشتني يومها حيويّة هذا المفكر وهو يحاور ويناقش، ولفتتني ابتسامته، وكأنهَّا تعبِّر عن سعة صدره وترحيبه بالنقاش. تلك الابتسامة التي سأله محمود درويش عن سرها ذات يوم، فقال: “شاغبوا تصحّوا”. وتساءلت بيني وبين نفسي، هل هذا حقا هو محمود أمين العالم الذي، كما كنت أعرف، أمضى معظم سنوات حياته، قبل مجيئه إلى هنا، في سجون مصر! حيث فُرِض عليه، تحت التعذيب، أن يرتدي ملابس السجن، ويعمل ورفاقه في تفجير حجارة الجبل بالديناميت، ثم تقطيعها كي تصبح صالحة لرصف الشوارع.
كنت أعرف عنه هذا، ولا أعرفه، فقد كانت أخبار المناضلين في تلك الفترة، فترة الحكم الناصري، تصلنا إلى لبنان، وبينها كان خبر استشهاد شهدي عطية الشافعي تحت التعذيب.
كنت أعرف أيضا أنَّ أنور السادات أعاده إلى السجن، بعد أن أفرج عنه عبد الناصر وقت حرب القنال وتقرُّبه من السوفيات.
لكن، كنت لا أعرف هذا الإنسان الذي أجلس معه في المقهى الباريسي. أتأمل ابتسامته الوديعة تغمر وجهه، وأصغي إلى صوته الواثق والباعث على الطمأنينة، وكنتُ أتساءل في سرّي: هل هذا هو حقا الإنسان الذي كان قد أمضى معظم سنوات حياته في سجون مصر يُعذَّب وينتظر في لباس الموتى، أن يُقادَ إلى إعدامه؟
نعم إنه هو… هو نفسه الذي سأله المحقق عن تهمة الخيانة العظمى التي يواجها، فقال له: أُكتب أنني اتهم الرئيس السادات بالخيانة. فارتعد المحقق وقال له: اكتب أنت بخط يدك. فكتب: “أنا اتهم السادات بالخيانة العظمى”.
أحاول أن أنتزع نفسي من أسر ذلك النقاش الثري، وتلك الشخصيّة الثقافيّة المدهشة، فقد كان عليَّ أن أهتم بشؤون عودتي إلى لبنان. هكذا، مرغمة، ودعتُ محمود أمين العالم ومثقفي المقهى الباريسي، بأمل اللقاء بهم عند عودتي إلى باريس.
أسير شبه شاردة في شارع سان ميشيل، أحاول أن أعود إلى ذاتي، وأستعيد بعض سعادتي بحصولي في ذلك اليوم على موافقة أستاذي على أطروحتي، وبالتالي على الإذن بطباعتها. فقد كنا في ذلك الزمن نكتب بقلم البيغ ونستعمل “كرّكتور” لمحو الأخطاء وإعادة كتابتها بعد تصحيحها. أما الطباعة فكانت على “الدكتلو” (الآلة الكاتبة)، وكنا نعتبر ذلك تقدماً نقلنا من الكتابة باليد إلى الكتابة بالآلة.
أسير على قدميَّ المتعبتين متأبطة أطروحتي، حلمي. أستعرض واجهات المحلات الزجاجيّة، أتأملُّ معروضاتها الجميلة. أدخل أكثر من محل، أختار الهدايا لزوجي وأولادي. تغمرني السعادة وأنا أفكر بعودتي إلى عائلتي حاملة هداياي، وخبرَ موافقة أستاذي على أطروحتي. ولكن، كمن استيقظ من حلم، أنتبه إلى أنَّ ملفَّ أطروحتي ليس بين ما أحمل!
يا إلهي! أين هي أطروحتي؟ هل سقطتْ في الشارع؟ هل نسيتها في واحد من المحلات التي دخلتُها؟ هكذا عدتُ أدراجي أبحث وأسأل من دون جدوى، وانتابني اليأس فأنا لا أملك نسخة عنها. تابعتُ طريقي تائهة، ومررتُ بكشك لبيع الصحف والمجلات، توقفت أنظر من دون أن أرى .. وسمعت صوت صاحبة الكشك يسألني بالفرنسيّة:
هل أضعتِ شيئاً يا سيدتي؟
نعم. أضعتُ ملفّاً فيه أوراقٌ تخصُّني.
هذا؟ سألتني وهي تحمل الملفَّ بيدها. لقد وجدتُه هنا فوق الصحف، خبأتُه وقلتُ سوف يعود صاحبُه لأخذه.
ما زلت حتى اليوم أشعر بأنّي مدينة بلحظة مصيريّة من حياتي لهده السيدة.
ولكن، بعد عودتي إلى لبنان كدتُ أن أفقد أطروحتي مرة ثانية. ذلك أنه لم يكن قد مضى على عودتي إلى بيتنا العائلي في ضاحية مدينة صيدا سوى بضعة أيام حتى غادرناه تحت وطأة الاجتياح السوري، وقصفه الجنوني لمدينة صيدا وضاحيتها. غادرنا من دون أن نفكر بشيء سوى النجاة بأرواحنا. هكذا عشت هذه المرة رعبيْن: رعب فقداننا الحياة ورعب فقداني أطروحتي لو نجونا.
ولقد نجونا، وذهبت إلى باريس بعد أن استعنتُ بمن كتب لي أطروحتي على “الدكتلو”، وأرسلتُ نسخاً منها إلى أستاذي الذي لم يتأخر في إبلاغي موعد المناقشة.
أتذكر: كنتُ أجلس في الصف الأمامي. مقابلي وعلى المنبر، اللجنة المؤلفة من أستاذي المشرف وأستاذيْن آخريْن. خلفي الحضور وبينهم ممن أذكر: الصديقة د. أمينة رشيد، والمفكر المناضل د. محمود أمين العالم، والمؤرخ الباحث د. مسعود ضاهر.
كنتُ متهيّبة، ولكن لم أكن خائفة، رغم توقعي لموقف مناهض للفكر المادي الذي اعتمدتُه في دراستي: “الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان”. كان هدفي قراءة أثر الواقع الاجتماعي في تشكّل البنية الفنيّة، بهدف تجاوز مفهوم الانعكاس الذي اعتمده النقاد الماركسيّون العرب، وأدّى بمعظمهم إلى الوقوع في ثنائيّة الشكل والمضمون.
هكذا، وبعد أن قدمتُ مداخلتي، وأوضحتُ موضوعها ومنهجها، والهدف منها، فوجئت بأحد الأستاذيْن يسألني: “هل أنت ماركسيّة؟” استفزّني السؤال ولهجة طرحه عليّ، فأجبتُ بنبرة لا تخلو من الحدّة: “لقد أفدتُ من الفلسفة الماديّة الماركسيّة، وهذا واضح في تقديمي للدراسة”. وسمعت صوت العالم الجالس خلفي يهمس لي: “اهدئي يا يمنى اهدئي …”
ولم أهدأ حتى نهاية النقاش والتقييم، فقد كنتُ أدافع عن عملي، وعن حريّة فكري الذي ليس من حقِّ أحد أن يحاسبني عليه.
أصرَّ محمود أمين العالم، ومعه بقية الأصدقاء الذين حضروا المناقشة، على الاحتفال بموقفي ونجاحي. فقصدنا مقهى “ليسكوليه” أحد مقاهي ساحة السوربون الخارجيّة.
كان الاحتفال بسيطاً، ولكنّه كان عامراً بالمحبّة والتقدير الصادقيْن.
أتذكر… وأبعث بسلامي إلى روح المناضل الكبير محمود أمين العالم، “مريض الأمل”. كم نحن بحاجة إلى أمثاله في هذه الأيام.
كان هذا المقهى الفرنسي ملتقى الطلاب والمثقفين القادمين من أكثر من بلد عربي، وبشكل خاصّ من لبنان طلباً للنجاة من الحرب، حرب إسرائيل على لبنان، وحرب الطوائف اللبنانيّة على بعضها البعض. أتذكر الحديث الذي دار بين بعض المثقفين العرب ومحمود أمين العالم، في ذاك المقهى الباريسي.
يسأل أحد الحضور: تقول إنك كنت، وما زلت، تحب عبد الناصر. كيف وقد تمَّ، مع قيام الثورة عام 1954، عزل 300 أستاذ جامعي وسجنهم وتعذيبهم مدة خمس سنوات، وكنتَ واحداً منهم؟
فيجيبه العالم: نعم، أحبُّ عبد الناصر رغم أنَّ آثار تعذيب زبانيّته لا تزال على جسمي. لقد تصالحتُ مع الثورة الناصريّة بعد خروجي من السجن، ووافقتُ على حلّ الحزب الشيوعي المصري، ففي حينه دخلتْ السياسةُ الناصريّة في خلاف مع السياسة الأمريكيّة، وفي تحالف مع السياسة السوفياتيّة التي أسهمتْ في بناء السد العالي … هكذا تمَّ اندماج الشيوعيين في الطليعة الاشتراكيّة، أي في التنظيم السرّي الذي هو في قلب الاتحاد الاشتراكي.
يسأل آخر: ما رأيك في قول الأديب والناقد المصري سيّد بحراوي بأنك “مثقف إشكالي”؟
فيقول العالم وكأنه يقول لذاته: علينا أن نعمل في ظلِّ الشروط القائمة، ونستفيد منها في ظلِّ الظرف المتاح.
أحد الحضور، وكان من النقاد العرب المعروفين بميوله البنيويّة، قال بلهجة التحدّي: أخبِرْنا د. محمود عن منهجك النقدي، أما زلتَ، شأن الماركسيّين، تعتقد أنَّ الأدب انعكاسٌ للواقع الاجتماعي؟
يبتسم العالم، ويقول بلهجة تتسم بالجديّة، وتعبّر عن رحابة صدر: لقد انقطعتُ عن كتابة النقد في مرحلتيْن. الأولى كانت بين عامي 1954 و1959، وذلك “بسبب غيبة داخل مصر” (غيبته في السجن)، والثانية “بسبب غربة خارج مصر” (نفيه وسفره إلى إنكلترا ثم إلى فرنسا). في هذه المرحلة الثانية “حاولتُ اكتشاف البنية الفنيّة والقيمة الجماليّة للإبداع الروائي في ارتباط حميم بالرؤية الدلاليّة الاجتماعيّة، هذه الرؤية التي كادت ممارستي النقديّة، في المرحلة الأولى، تقتصر عليها”.
أدهشتني يومها حيويّة هذا المفكر وهو يحاور ويناقش، ولفتتني ابتسامته، وكأنهَّا تعبِّر عن سعة صدره وترحيبه بالنقاش. تلك الابتسامة التي سأله محمود درويش عن سرها ذات يوم، فقال: “شاغبوا تصحّوا”. وتساءلت بيني وبين نفسي، هل هذا حقا هو محمود أمين العالم الذي، كما كنت أعرف، أمضى معظم سنوات حياته، قبل مجيئه إلى هنا، في سجون مصر! حيث فُرِض عليه، تحت التعذيب، أن يرتدي ملابس السجن، ويعمل ورفاقه في تفجير حجارة الجبل بالديناميت، ثم تقطيعها كي تصبح صالحة لرصف الشوارع.
كنت أعرف عنه هذا، ولا أعرفه، فقد كانت أخبار المناضلين في تلك الفترة، فترة الحكم الناصري، تصلنا إلى لبنان، وبينها كان خبر استشهاد شهدي عطية الشافعي تحت التعذيب.
كنت أعرف أيضا أنَّ أنور السادات أعاده إلى السجن، بعد أن أفرج عنه عبد الناصر وقت حرب القنال وتقرُّبه من السوفيات.
لكن، كنت لا أعرف هذا الإنسان الذي أجلس معه في المقهى الباريسي. أتأمل ابتسامته الوديعة تغمر وجهه، وأصغي إلى صوته الواثق والباعث على الطمأنينة، وكنتُ أتساءل في سرّي: هل هذا هو حقا الإنسان الذي كان قد أمضى معظم سنوات حياته في سجون مصر يُعذَّب وينتظر في لباس الموتى، أن يُقادَ إلى إعدامه؟
نعم إنه هو… هو نفسه الذي سأله المحقق عن تهمة الخيانة العظمى التي يواجها، فقال له: أُكتب أنني اتهم الرئيس السادات بالخيانة. فارتعد المحقق وقال له: اكتب أنت بخط يدك. فكتب: “أنا اتهم السادات بالخيانة العظمى”.
أحاول أن أنتزع نفسي من أسر ذلك النقاش الثري، وتلك الشخصيّة الثقافيّة المدهشة، فقد كان عليَّ أن أهتم بشؤون عودتي إلى لبنان. هكذا، مرغمة، ودعتُ محمود أمين العالم ومثقفي المقهى الباريسي، بأمل اللقاء بهم عند عودتي إلى باريس.
أسير شبه شاردة في شارع سان ميشيل، أحاول أن أعود إلى ذاتي، وأستعيد بعض سعادتي بحصولي في ذلك اليوم على موافقة أستاذي على أطروحتي، وبالتالي على الإذن بطباعتها. فقد كنا في ذلك الزمن نكتب بقلم البيغ ونستعمل “كرّكتور” لمحو الأخطاء وإعادة كتابتها بعد تصحيحها. أما الطباعة فكانت على “الدكتلو” (الآلة الكاتبة)، وكنا نعتبر ذلك تقدماً نقلنا من الكتابة باليد إلى الكتابة بالآلة.
أسير على قدميَّ المتعبتين متأبطة أطروحتي، حلمي. أستعرض واجهات المحلات الزجاجيّة، أتأملُّ معروضاتها الجميلة. أدخل أكثر من محل، أختار الهدايا لزوجي وأولادي. تغمرني السعادة وأنا أفكر بعودتي إلى عائلتي حاملة هداياي، وخبرَ موافقة أستاذي على أطروحتي. ولكن، كمن استيقظ من حلم، أنتبه إلى أنَّ ملفَّ أطروحتي ليس بين ما أحمل!
يا إلهي! أين هي أطروحتي؟ هل سقطتْ في الشارع؟ هل نسيتها في واحد من المحلات التي دخلتُها؟ هكذا عدتُ أدراجي أبحث وأسأل من دون جدوى، وانتابني اليأس فأنا لا أملك نسخة عنها. تابعتُ طريقي تائهة، ومررتُ بكشك لبيع الصحف والمجلات، توقفت أنظر من دون أن أرى .. وسمعت صوت صاحبة الكشك يسألني بالفرنسيّة:
هل أضعتِ شيئاً يا سيدتي؟
نعم. أضعتُ ملفّاً فيه أوراقٌ تخصُّني.
هذا؟ سألتني وهي تحمل الملفَّ بيدها. لقد وجدتُه هنا فوق الصحف، خبأتُه وقلتُ سوف يعود صاحبُه لأخذه.
ما زلت حتى اليوم أشعر بأنّي مدينة بلحظة مصيريّة من حياتي لهده السيدة.
ولكن، بعد عودتي إلى لبنان كدتُ أن أفقد أطروحتي مرة ثانية. ذلك أنه لم يكن قد مضى على عودتي إلى بيتنا العائلي في ضاحية مدينة صيدا سوى بضعة أيام حتى غادرناه تحت وطأة الاجتياح السوري، وقصفه الجنوني لمدينة صيدا وضاحيتها. غادرنا من دون أن نفكر بشيء سوى النجاة بأرواحنا. هكذا عشت هذه المرة رعبيْن: رعب فقداننا الحياة ورعب فقداني أطروحتي لو نجونا.
ولقد نجونا، وذهبت إلى باريس بعد أن استعنتُ بمن كتب لي أطروحتي على “الدكتلو”، وأرسلتُ نسخاً منها إلى أستاذي الذي لم يتأخر في إبلاغي موعد المناقشة.
أتذكر: كنتُ أجلس في الصف الأمامي. مقابلي وعلى المنبر، اللجنة المؤلفة من أستاذي المشرف وأستاذيْن آخريْن. خلفي الحضور وبينهم ممن أذكر: الصديقة د. أمينة رشيد، والمفكر المناضل د. محمود أمين العالم، والمؤرخ الباحث د. مسعود ضاهر.
كنتُ متهيّبة، ولكن لم أكن خائفة، رغم توقعي لموقف مناهض للفكر المادي الذي اعتمدتُه في دراستي: “الدلالة الاجتماعية لحركة الأدب الرومنطيقي في لبنان”. كان هدفي قراءة أثر الواقع الاجتماعي في تشكّل البنية الفنيّة، بهدف تجاوز مفهوم الانعكاس الذي اعتمده النقاد الماركسيّون العرب، وأدّى بمعظمهم إلى الوقوع في ثنائيّة الشكل والمضمون.
هكذا، وبعد أن قدمتُ مداخلتي، وأوضحتُ موضوعها ومنهجها، والهدف منها، فوجئت بأحد الأستاذيْن يسألني: “هل أنت ماركسيّة؟” استفزّني السؤال ولهجة طرحه عليّ، فأجبتُ بنبرة لا تخلو من الحدّة: “لقد أفدتُ من الفلسفة الماديّة الماركسيّة، وهذا واضح في تقديمي للدراسة”. وسمعت صوت العالم الجالس خلفي يهمس لي: “اهدئي يا يمنى اهدئي …”
ولم أهدأ حتى نهاية النقاش والتقييم، فقد كنتُ أدافع عن عملي، وعن حريّة فكري الذي ليس من حقِّ أحد أن يحاسبني عليه.
أصرَّ محمود أمين العالم، ومعه بقية الأصدقاء الذين حضروا المناقشة، على الاحتفال بموقفي ونجاحي. فقصدنا مقهى “ليسكوليه” أحد مقاهي ساحة السوربون الخارجيّة.
كان الاحتفال بسيطاً، ولكنّه كان عامراً بالمحبّة والتقدير الصادقيْن.
أتذكر… وأبعث بسلامي إلى روح المناضل الكبير محمود أمين العالم، “مريض الأمل”. كم نحن بحاجة إلى أمثاله في هذه الأيام.