أحمد يعقوب - *" سحر الاخراج المسرحي"* *بين جمالية الطقوس وطقوسية الجمال للدكتور جاستن بيلي*

أعترف بأن هذه المقالة أو العرض أو سمّيها ما تشاء، هي محاولة لعدم الاشتباك مع الكتاب في قراءة ناقدة له؛ رغم أيماني بأن الاضافة الاساسية لأي كتاب يُعرض هي في اشتباكه مع افكاره وليس ( الاشتباك مع الكاتب)، مع اعترافي التام بان القراءة الناقدة هي أعلى مستويات القراءة وتشير الى تمكن القارئ ( الجيّد) من هضم أفكار الكتاب الى درجة تمكنه من التعليق على افكار الكتاب المعني بشكل معمق ومتجاوز لمستوى الفكر الظاهري. عليه ولكراهيتي للأنماط السائدة في طريقة عرض الكتب التي أحس بأنها تريد خلق نظام سلطوي يتبع فيـ ( كيفية عرض الكتب) وخلق قوالب جاهزة لكيفية القراءة ، فانني تجاوزت أشياء كثيرة في هذا العرض ومن ضمنها عدد الكلمات المقررة واشياء أخرى.
في كتابه الصادر في طبعته الاولى عن دار ( رفيقي للنشر) 2018 والذي يقع في 193 صفحة من القطع المتوسطة والموسوم بـ" سحر الإخراج المسرحي- بين جمالية الطقوس وطقوسية الجمال " يحاول الدكتور جاستن جون بيلي عميد كلية الفنون والموسيقى والدراما بجامعة جوبا والباحث في الثقافات الافريقية والذي نال دكتوراة الفلسفة في الاخراج المسرحي من جامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا في العام 2012، يحاول دراسة طقوس العلاج كظاهرة أدائية معتقدية عبر بها الانسان عن علاقته بالمقدس، انطلاقاً من فرضيات مفادها أن الدراما والطقوس تهدفان الى تحقيق مستوى متقدم من الوعي بالهوية، ويبحث الكاتب في دراسته عن الكيفية التي يمكن بها تأسيس هوية للصورة المسرحية في تجربة دراما المسرح في جنوب السودان، استناداً على تجربة معملية مركزية وهي طقوس الرقص الذي مارسه الجنوبسودانيون في العلاج وابطال مفعول السحر عبر الارواح المقدسة والطبول والابخرة، ويتخذ الكاتب فضاء حر يمتد على مساحة القرية حيث يلتقي الجميع بكامل حريتهم مصطحبين معهم كل الخبرات المعرفية والفكرية والثقافية والعقائدية والاجتماعية، وفي دراسته هذه؛ يطمح الكاتب للاجابة على عدة أسئلة من شاكلة، كيف تعمل طقوس العلاج على إثراء فضاء العرض المسرحي؟ وهل المسرح مكاناً لممارسة الهُويّة؟ وكيف يمكن للذاكرة كخبرة معرفية إيجاد البدائل الجمالية لتفعيل دينامية الصور؟.
تتكون مادة الكتاب في بنيتها الهيكلية من قسمين، ففي القسم الاول يعرضُ الكاتب لمفهوم الطقس مشيراً الى مدلوله الانثروبولوجي ومتناولا بالشرح درامية الطقوس، عارضاً لبعض النماذج مثل (طقوس الحرب، الغفران ، الطقس والطوطم،طقوس العبور، الطقس والمعتقد) محاولا الربط بين هذه المفاهيم المذكورة آنفاً بنشأة الدراما الاغريقية،وتناول ايضا بالشرح مفهوم الصّورة وديناميتها في التجربة الانسانية وعلاقاتها بالرموز العقائدية، منتقلا الى مبحثه الثالث في نفس القسم والذي ناقش فيه تجربة الاخراج في تاريخ المسرح، بدءاً من نشأته عند الاغريق مروراً بالرومان ثم العصر الاليزابيثي ورائده وليام شكسبير ومولير الى التجربة في العصر الحديث، عارضاً بالشرح، مهام المخرج وعناصر العرض المسرحي مثل العناصر المرئية والتي يمكن تلخيصها في( الديكور،الاضاءة، الازياء، الاكسسوارات، الممثل، العناصر المسموعة، الحوار، المؤثرات الصوتية والموسيقية) وقد ذكر بعض التجارب العالمية في الاخراج المسرحي ونظرياته.
أما القسم الثاني في دراسته، فقد تناول فيها فلسفة الكجور والعلاج الشعبي، ويعتبر السحر والعرافة ظاهرة إنسانية لم يخل أي مجتمع من المجتمعات البشرية منها باختلاف الحقب التاريخية والمعرفية والثقافية والفكرية، فهي ممارسة معرفية إجتماعية الوجود، إرتبطت في وجودها برغبة الوعي البشري في تطوير وتعميق العلاقة بينه وبين معطيات الحياة من حوله. مبتدءاً بدور العرافة في مجتمعات جنوب السودان التي هي بطبيعة الحال ليست معزولة عن هذه التجارب الانسانية في تواصلها مع عوالم الغيبيات وعلاقاتها مع الارواح لتسخيرها في مناحي الحياة المختلفة وقد تناول الكاتب بالتفصيل في دراسته دور السّحر والعرافة عند مجتمع ( الازاندي والشّولو" الشلو") دون أن يلج عميقاً الى دراسة تفاصيل هذه المجتمعات وتاريخها الثقافي والاجتماعي تاركاً الفضاء كما أشار الى أصحاب الشأن من دارسي الانثروبولوجيا، وفي مبحثه حول دورالسحر عند مجتمع ( الازاندي) أعتمد بشكل كبير على سرد قصة الكجور المشهور وشخصيته الرمزية في مجتمع الازاندي ( قاديا بانقا). حيث يمثل الكجور الاب الروحي لأفراد القبيلة ويقوم بتقديم القرابين إنابة عنها لارواح الاسلاف والاله ويكون له مزرعته الخاصة التي يقوم الاهالي باستزراعها ويكون الكجور هو المسؤول عن تحديد ايام الطقوس والمناسبات وفي الغالب يكون للكجور نبات أو حيوان قرين له يحرم على اتباع هذا الكجور الحاق الاذى به أو قتله أو حتى أكله،اي مايعرف بالطوطم(1) حسب تنظيرات سيجموند فرويد، ويشير الكاتب الى خوف الازاندي من القطط البرية التي يهابونها معتقدين في قوتها السحرية ويسمونها ( أنقوا والأبابأوا) معدداً في الان نفسه أنواع الكجور عند الازاندي أًولا: المانقو الذي هو العين الشريرة ويخشى الازاندي أن يتهم شخص بهذا النوع من الكجور حيث ينبذ من المجتمع . ثانياً الامبيسيمو، وهو روح الطوطم لدى انسان الازاندي، ثالثاً الأداندالا( القط البري) وهي من أهم مصادر خوف الازاندي من عالم الميتافيزيقا المتجسدة ويعتقدون وفقاً للمعتعقد الراكز في الوعي الجمعي أن القطة هي وليدة من أم بشرية وتكون هذه الولادة غالباً في شكل توأم وهي ناقلة القوة الشريرة. رابعاً الاقليسيا ( كجور عين الماء) وهو نوع من السحر الضّار الذي يقطن في منابع الانهارالصغيرة حيث الاشجار الكثيفة والازاندي يحذرون من ارتياد هذه الاماكن، وخاصة أوقات الغروب حيث يقل الضوء وفي الغالب يصاب به مرتادو الصيد الانفرادي ويتعرف الاهالي على الشخص المصاب عبر فقدان ذاكرته الفجائية. خامساً انقوا( عقار نباتي) وقد استخدمت مجتمعات الازاندي بعض الاعشاب لقيمتها السحرية وفق الاعتقاد السائد، واخيراً الكجور بينزي وهو الطبيب الذي يعالج بالرقص وايقاعات الطبول وهو على دراية ايضاً بالاعشاب ومتطلبات العلاج الشعبي.
في مبحثه الاخير، تناول السّحر والعرافة عند الشولو، وهو قديم قِدم المملكة أو ماقبل التأسيس والتي عنى بها مرحلة العبور من المنطقة الام في كينيا حسب الروايات التي تناولت أصل الشولو- ويشير الكاتب الى البدايات الاولى للسحر الذي مارسه الاب الروحي والاجتماعي والسياسي ومؤسس المملكة ( نيكانقو) فقد كان يحول أفراس النهر وبعض الحيوانات ليكونوا له أتباعاً وذلك حينما يدركه العجز في عدد اتباعه ورجاله، ويشير الى الدور الذي لعبه السحر والعرافة في مجتمع الشولو في كل مناحي الحياة فهو يشكل استبيان عسر الولادة لاستجلاء صحة النسب الحقيقي للطفل، ويلعب دوراً كبيراً في رحلات الصيد وقراءة الحظ فيها، وايضا في طقوس الحرب والغزوات التي يشنها مقاتلي الشولو، وكذا معرفة الامراض المتعسرة التي تصيب افراد القبيلة والبحث عن علاجها عبر الاعشاب وفي احيان اخرى عبر الطقوس والرقص الشعبي المقدس.ان دور العرافة والكجور عند الشولو هو الاتصال وتمكين السلطة الالهية ليتم توظيفها لخدمة الانسان، حيث تكون هناك أماكن مخصصة ذو قدسية فالشولو يعتبرون وفق أحد معتقداتهم في الاماكن المقدسة أن الضريح هو احدى هذه المواقع المقدسة"(2) ويشير الكاتب الى اعتقاد الشولو في نوعين من الكجور، أولا الكجور الخير ويمثله الكجور جوك الذي يعتبره الشولو الشخص الذي يمارس الكجور والسحر باسم الخالق جوك، وهي نفس الفلسفة التي يعتمد عليها الاختيار عند معظم قبائل افريقيا حيث لايختار الشخص نفسه ليكون كجوراً لجوك بل يتم اختيار هذا الشخص من قبل الاله نفسه ، وتحل فيه احدى الارواح الثلاثة لاوائل ملوك الشولو ( نيانقو، داك، بووك) أما الكجور الثاني فهو الكجور الشرير، وهو مصدر رهبة وقلق في مجتمع الشولو فهو الذي يستخدم السحر الاسود لالحاق الاذى بالاخرين، ثم تأتي لعنة (شين) وقد ارتبطت اللعنة عند الشولو بالقوة شين منزلة العقاب والقصاص الالهي على الانسان؛ جراء اقترافه الاعمال السيئة وهي لتحقيق العقاب الالهي الذي يختلف وفقا للخطيئة(3) وان الانسان محاسب في حياته ومماته ايضاً حسب الارادة الالهية(4) . ويختتم الكاتب بحثه بطقوس العلاج والرقص عند الازاندي والشولو.
وحيث أن هذا العرض لا يطمح لتقديم قراءة نقدية للكتاب كما ذكرت في المقدمة، فانني أود أن أشير إلى أن ممارسة الطقوس تخضع الى جملة من الشعائر والمراسم المعقّدة تترجمها رموز الجماعة القولية منها والحركية، وتتحقق من خلالها غايات التواصل وتشبع حاجات رمزية أساسية. وترتبط بالسلوك الطقسي جملة من الخاصيات تميّزه عن باقي الممارسات الجماعية، أهمّها انتظامه وفق تراتيب وضوابط لا يتّم التبادل الرمزيّ إلاّ بها وإلاّ فقد التواصل مضمونه الرمزي. ويجري كل طقس وفق سيناريوهات درامية متكررة تختلف باختلاف وضعيات التفاعل، والأنظمة الثقافية.
وثمة أسئلة جدلية كنت أود أن يجاوب عليها الكاتب في بحثه الجاد، من قبيل أليس الفعل الطقسي لصيقا بكل الأفعال الاجتماعية وأنّ الاحتفالات الطقسية مناسبات للتعبئة وتجييش الوعي الجمعي بطاقات من المعنى في مجتمعات تتغيّر بسرعة وتعيش أزمة كينونة؟ أفلا تنهض الممارسات الطقوسية بوظائف اجتماعية حاسمة فتشبع حاجات كامنة في حياة الجماعات وتدخل في مبادلاتهم المادية والرمزية؟ ألا تٌوظّف ممارسات الطقوس بوصفها وسائل رمزيّة لتأسيس السلطات والمراكز الاجتماعية وإضفاء الشرعية على السلطات وأشكال التمايز القائمة بين الأفراد والجماعات؟ ألا تندرج تلك الممارسات ضمن المساعي الفردية لتعزيز ملكية الثروات الرمزية في سوق الشرف و المحترمية بحسب تعبيرات بيار بورديو(5).
سوف لن أبالغ عندما أدرج الاحتفالات الرياضية الجماهيرية في الملاعب والساحات الكبرى اليوم ضمن هذه الممارسات المجلّلة بالقداسة والرّمز والطقوس. فملاعب كرة القدم اليوم أصبحت ساحات للاحتفال الطقوسي بكل امتياز، والمقابلة الرياضية هي بشكل ما مختصر درامي، والجماهير تعيش في ملاعب الكرة تجربة "خلاقة"، حيث يتخمّر المشجّعون ويهتزّون على وقائع المباراة ويرقصون في حالات من الجيشان والغليان، لا للنصر أو للغلبة فقط، ولكن لما يصاحب اللعبة من حالات غليان جماعي. وتتحوّل أجساد اللاعبين والمشجعين معا إلى نصوص / أجساد مجللة بالرموز: ألوان وأشكال و أوشام وأهازيج جماعية وأنواع من الألبسة وحلاقات خاصّة للشعر. ثمّة بالتأكيد بين الاحتفال الرياضي بطقوسه، والاحتفال الديني تشابه كبير. أفلا يحضر السحرة ببخورهم هنا وهناك؟ أفلا يتقاسم المنتصرون التهاني في آخر اللقاء ويتبادلون رفع الكأس الواحد تلو الواحد كما يفعل المحتفلون في الطقس الديني حيث يشربون من الكأس واحدا واحدا؟ لقد أثبت "كريستيان برومبارجي" التماثل الكبير الذي ينهض بين الحفل الرياضي والحفل الديني وبيّن كيف يمكن للمشاعر والعواطف الجياشة التي تهز الملاعب أن تصنع احتفالا جماعيا مُمَسرحا في فضاء شبيه بفضاء المعبد، يتوزّع فيه الجمهور بنفس توزّع جماعات المؤمنين(6). في الحقيقة كان "دوركايم" (7) على حقّ عندما أشار بشيء من التنبّؤ إلى دور الممارسات الاحتفالية الجماعية في المجتمعات الحديثة قائلا: "سيأتي يوم تعرف فيه مجتمعاتنا لحظات من الفوران الخلاّقة، تنبثق من خلالها أفكار جديدة وتتبلور صيغ صالحة -خلال الزمن- لتكون موجّها للإنسانية".
أخيراً : فان الكاتب قد استطاع في بحثه هذا ان يلقي الضوء على مواضيع مهمة ونظّر لها بشكل منهجي خاصة في مبحثه الاول مستخدماً منهجاً استقرائيا سوسيولوجياً وتحليلياً تارة ووصفياً تارة أخرى وهي دراسة مهمة ومفيدة لأرخنة مجتمعاتنا الافريقية ، خاصة وان هناك شبه غياب تام لمثل هذه الدراسات، وقد اندهشت لغياب منظرين أساسين في علم الانسان والذي قد يفيد الباحث في دراسته وكذا اثراء الموضوع محل الدراسة امثال ( كلود ليفي شتراوس، اميل دوركايم ، بياربورديو، ايفان بريتشارد، روث بندكت، ماكريت ميد، رادكليف براون) وباحثين مهمين في مجال الرموز الدينية كـ( مرتشيا اليادة، فراس السواح ، جيمس فريزر) ومع ذلك فالدراسة تفتح ابواباً على مصاريعها لدراسات أخرى.

---------------
* هوامش ومراجع:*
(1) للمزيد حول مفهوم الطوطم – أقرأ سيجموند فرويد- الطوطم والتابو- ترجمة بو علي ياسين، دار الحوار للنشر والتوزيع- سوريا اللاذقية، الطبعة الاولى 1983*
(2) Daniel Thabo Navibong- The History of Collo People of the Sudan.*
(3) شول دينق- شين وقين وارتباطهما بسلوك الفرد في مجتمع الشلك- مجلة وازا العدد 11 يناير 1996- الهيئة القومية للثقافة والفنون- 75*
(4) شول دينق – معتقدات، لعنة شين- صحيفة أجراس الحرية، العدد 947 – 2011.*
(5) بيار بورديو عالم اجتماع فرنسي توفي في العام 2002 أهم أعماله ( الورثة ، اعادة الانتاج،العنف الرمزي، التلفزيون واليات التلاعب بالعقول).*
(6) الطقوس وجبروت الرموز: قراءة في الوظائف والدلالات ضمن مجتمع متحوّل – منصف المحواشي، المجلة الجزائرية في الانثربولوجيا والعلوم الاجتماعية 2010*
(7) اميل دوركايم فيلسوف وعالم اجتماع فرنسي توفى في العام 1917 أهم أعماله ( قواعد المنهج في علم الاجتماع، الاشكال الاولية للحياة الدينية)*

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...