ممر...
إلى القارة السوداء
المرأة " آخر " يغري بالتماس معه على قاعدة الإنخطاف بالأنثوي، فهي محل الإنفعال، كما وصفها إبن عربي، ذات تولّه، بما هي ميراثه النبوي، وعشقه الإلهي، حسب تعبيره، فهكذا يعمل فعل الخيلولة البشري ليؤسس متكآته الطوباوية، حتى يستسلم إلى إستنتاج ذكوري شخصي، مرده خبرة حسية بالضرورة، ازاء كائن يهب الوجود بغامض حضوره، معنى شعريا قوامه الوعي والمتعة. ألم يقر نيتشة، بأن الحياة امرأة!؟
وبالتأكيد، لا يتفسر هذا " الآخر " المتمادي في تشظيه، عبر صيغة أحادية البعد، فالشاعرة كوجود، وليس كتصنيف حاد الحواف الجنوسية، لا تختصر مفهوم المرأة الخالصة، وبالتالي لن تكون منتهى ذلك " الآخر" . لكنها بالضرورة أحد الممرات السرية إلى تلك القارة السوداء، كما وصفها فرويد، ذات حيرة نفسية.
إذا، فالشاعرة مفتاح لذات تحضر بنص عميق الإنغراس في التاريخ، تريده مستقلا، أو خالص النوايا. وبإغوائه الأنثوي تقترح تصميما مضادا لعالم مغاير، بما هو حياتها المعاشة وليس الافتراضية، الأمر الذي يفرض على الدرس الألسني مهمة الكشف عن الأسس التاريخية والاجتماعية والنفسية لعملية إنتاج ذلك النص، للوصول إلى شكل الكائن الجديد، الماكث خلف تشكيلته الخطابية.
هذا النص الشعري الأنثوي هو خطاب متعدد الأبعاد، ينهض على بنية فكرية، وهو صادر بالضرورة عن ذات فكرت فيه وأنتجته ضمن بنية تفكير أنثوي، كما يتوضح من تماسه بتاريخ الأفكار، أي في الأوهام الإتصالية، وفي الصدى المنفلت من كل تحديد تاريخي، حسب تعبير فوكو، بمعنى البحث الاستنباطي وليس التقريري المباشر، عن افتراضات تشكله من وراء قصدية تلك الذات المتكلمة، والوقوف على نشاطها الواعي، وما كانت ترغب في قوله، ولم تتمكن ، ليستعاد ضمن بنية التجليات اللاشعورية.
ولا شك أن محايثة الأنثوي بالشعري، هو المدخل إلى فتنة هذا " الآخر " البشري من حيث علاقته بفتنة التعبير اللغوي، أي الإحتفال بالمتخيل الجسدي الفكري عبر جمالية الخطاب الشعري، بما يولّد كنص شعري من أنوثة مضاعفة، مدبرة في أصلها التكويني من مزيج الكتابة والجسد، ومؤكد لسلطته بسطوة الأنثوي، كحيلة عاطفية، أو استعارة هي مشروع الشاعرة الحضوري، أو أوتوبيوغرافيتها الفاقعة.
هكذا تتأهل الشاعرة لتمثيل ذلك " الآخر " ولكن ليس بزعم كلياني، ربما لأنها كائن ذاتوي النزعة، أي من أولئك الذين لا يهابون الألم الإنساني، ولا تغريهم المنافي الموضوعية ، إذ لا تجهل، ولا تريد أن تنفى من جسد تعيش فيه، فهي من الذوات الفردية التي تسكن المناطق الأكثر تعذرا على التجاوز، بتعبير جاك دريدا، وتعيش الحياة، كما تنم ملفوظاتها، كحركة معاكسة للحكاية، بما هي الصيغة الأفقية لحراك الكائن، حيث يتصعّد الجسد مكانا مضادا لمنفى النص.
إذا، هي تعين على فهم الكيفية التي تعمل بها تلك " العضلة الناعمة " في ديالكيتيك الإمحاء المتبادل بين المرأة والرجل، من حيث إلحاحها على ضالة إيروسية، قد تتناساها لحظة الإنفعال بمنفاها الحقوقي، ولكنها لا تتخلى عنها بحال عند تناصها بمطلق الديني واحتمائها بالصوفي، وحتى في التجادل الحسي بمخترعها المثلي الوسيط، أي ذلك الحيادي، الذي يتمرد على فعل التأنيث كرد على أسطورة الذكوري، لتجاوز الإعتيادي، ذهابا إلى العشق المحرم.
وبالنظر إلى تماسها بأعظم اختراع إنساني وهو اللغة ، يضاعف لها اللسان قدرة تمثيل المرأة بمنسوب قابل للتصعّد، لأن المنزع الإيروسي كإشباع ( روحي/جسدي ) يتحقق عبرها، ففي وجودها الأنطوقي، كما يتمثل نصا شعريا، تختزن أقصى طاقة ممكنة لإرادات المرأة الشعورية، وإعتقاداتها العاطفية، ومبتغياتها الحسية، فالنص الشعري الأنثوي يهب مقابله الذكوري شفرات معيارية هي بمثابة المفاهيم الحقوقية والنفسية والشعورية لذلك الكائن.
ولأنها لا تتحرك بمعزل عن الحب الذي تجهد لتوأمته بإغوائية الشعر، تحقق ضمن ذلك المعمل ( الشاعرة ) الكيمياء البشرية بكل معانيها، فالحب بالنسبة للمرأة/الشاعرة ليس فكرة افتراضية، أو مجرد خلفية يمكن أن تتسير الحياة على احتمال حدوثها، إنما هو الفاصل الطوباوي الأجمل من حياة واقعية مديدة، وشرط وجود، أو هو كل حياة المرأة، حسب مقولة مدام دي ستايل، بالنظر الى أن المرأة، حسب الخبرات الحسية للعاشقين، لا تبلغ كمالها الأنثوي، أو أقصى تطرفاتها الإنسانية إلا عندما تحب، وهنا سر الوله المودي بها إلى الرهبنة ، أو منع ذاتها من التداول، فهي كذات عشقية مغالية في النرجسية لا تهب نفسها إلا لذات تشبهها، تستحقها، أو تموت دون ذلك.
هذا ما تعتقده بوطيقيا الأنوثة، فالحب المصعّد إذن هو الذاكرة، وبالضرورة هو أوتبيوغرافيتها، ووثيقة حضورها، وتاريخها، وهو ماء الحياة وروحها، أو هذا ما يحاول النص الأنثوي التأكيد عليه بنبرة واحدة، ومن حناجر مختلفة تاريخا ومكانا وعرقا، فهنالك قبيلة أنثوية ممتدة تتوارث مكنوناتها عبر نظام شفرات إيروسية، ومتعاليات نصية، بمثابة البوطيقيا المدبرة من لهفة إيروسية أصيلة يراها جورج باتاي بمثابة الإقرار بالحياة حتى الموت.
إذا، هي لا تؤمن بنص خارج ذلك الإلحاح الإيروسي، مهما انتمت إلى قضايا وعناوين حقوقية، فالعالم بالنسبة لها مكان فائض الذكورة، وهو بحاجة إلى لمسة إستئناسية منبثة من شعرية الأنثوي، شخصية وعبر-جسدية بالضرورة، لأن جسدها هو عين صفاتها، فالمرأة التي تتقدم ناحية السرير متخففة من كل ملابسها عدا قلادة، كما تفعل البشتونيات مثلا، لا تقوم بفعل التعري الإغوائي بمجانية، بقدر ما تنجز فعلا شعريا بامتياز، على اعتبار أن القصيدة تفعل وتعاش، وقد تستحيل إلى نص مكتوب، يستحيل بفعل التراكم إلى خطاب لا تحدّه الألفاظ بل يتجاوز ذلك المؤطر العباراتي إلى دلالات فكريه، وفلسفة جمالية ليتأسس على مزيج من الصورة البصرية، والتمثلات الإيمائية، والتعبير الحركي.
هكذا هي المرأة شاعرة في كل حركة من حركاتها، إيروسية في كل سلوكياتها، في اتكاءتها، في طريقة لبس وخلع ملابسها، في تمايلها، في كلامها، بل حتى في شكل موتتها، والعكس، أي كل شاعرة هي بالضرورة مشروع إمرأة تنفني جسدا وروحا لتلتقي بشروط كمالها، إذا ما تجاوزت لغتها المختونة، وكفت عن تهريب ذاتها من النص.
هنا يكمن سر مصادقتها لأنا مقهورة، مستدعاة على الدوام في النص الشعري الأنثوي تحت مظلة لغوية من الكآبة الكثيفة، لمنع ذاتها من التداول، وللتجابه الحاد مع أنوثة باهظة تسلمها على الدوام إلى حس مفرط للإنجراح، وإلى نزعة مازوخية متأصلة تراها هيلين دوتش ضرورة لتطور الأنوثة عند معشر النساء بوجه عام.
إذا، قد تختصر الشاعرة المرأة، أو تستعير مستوجباتها الإنسانية خصوصا عند النظر إلى المكانة التي تطالها اللغة في المجتمع، وورطة علاقتها بمفهومي السلطة والأيدلوجيا، في عالم متشكل أصلا بالممارسة الإجتماعية، وبما هي - أي اللغة - خطاب أيضا تتبناه المرأة كشكل حضور، وكممارسة تتحرك داخل جدل البنى والمؤسسات الإجتماعية، أي كصيرورة اجتماعية متحركة، مشروطة بمتطلبات لغوية وأخرى من وراء نظامها أو خبراتها اللغوية، بمعنى أن نشاطها اللغوي ليس مجرد انعكاس تلقائي للممارسة أو شكل التناظر المبسط ما بين اللغوي والاجتماعي، إنما يمثل أحاريك حيوية لا تنفصل عن تلك الصيرورة.
وبتحليل الصلة ما بين النص الشعري الأنثوي كنتاج وبين شروطه وسياقاته المتعددة يتحقق ذلك التقدم حتى خارج الحدود المتعينة والبنى المعرّفة، من خلال محاولاتها بالشعر لأنسنة اللغة كرد فعل على تذكيرها ، بما هي ضرب من " الفعل والحركة والفكر والتفكير والوعي واللاوعي والتجربة والعاطفة " بمفهوم جاك دريدا.
وهكذا يجد نصها حراكه في حيز الحرية، على اعتبار أن الكتابة مشتقة برأي رولان بارت من حركة دلالية تصدر عن الكاتب، وتلامس التاريخ بشكل محسوس، وإن لم يصحح نصها الشعري خطأ تاريخيا مفجعا، لكنه بالتأكيد يحفظ لتلك الذات الشاعرة حيوية الحضور، ويهبها شهوة الحياة، من خلال نص، أو فن يشتهي الحياة بتعبير نيتشة.
ويبدو أن لسان المرأة أو لغتها المرحّلة اليوم كنسق من العلامات إلى سياق الكتابة الشعرية، هي مهمة الشاعرة لإعادة المرأة إلى الكتابة،حضورا بها إلى قلب الحياة، ففي النص الشعري الأنثوي تتجلى تلك الرسالة عبر الدعاوى الحقوقية، والحضور العاطفي، حيث التصعيد الصاخب لذلك الهاجس والوصول به إلى مرقى القيمة، وهو ما يفسر مراوحة ذلك الكائن المقهور ما بين الإحساس بالدونية أو التواري في هامش الحياة عبر ميكانزم " عقلانية النفي " وما بين سعار البارانويا الصريحة في ذلك النص.
ومن هنا جاءت المحاولة لتمديد هذا الكائن على أرض الواقع بدل القذف به في متاهات التاريخ، أو هوس التدليل والشروحات، فمعيارية هذه المحاولة الإستكشافية، لا تعتمد المجادلة أو المفاضلة بأي اتجاه، فتاريخ المرأة الشعري هو تاريخ الإنسان، وعلى ذلك جاء الجهد توظيفيا لمركبات منهجية بخبرات شخصية، بعيدا في دلالاته الإنسانية والإبداعية، لوعي ذلك " الآخر " الذي لا يكف عن وصف مهمته بالشاقة بالنظر إلى كونه إمرأة، وأيضا للوقوف على الشكل الذي يبدو فيه الرجل كآخر مذكر في مرآة الأنوثة، فلا وعي للرجل بنفسه، كما يقرر بويتنديك، ما لم يدرك كم من ذلك الأنثوي فيه، أو كم يحتاج من ذلك الفيض ليكون رجلا طبيعيا.
.
إلى القارة السوداء
المرأة " آخر " يغري بالتماس معه على قاعدة الإنخطاف بالأنثوي، فهي محل الإنفعال، كما وصفها إبن عربي، ذات تولّه، بما هي ميراثه النبوي، وعشقه الإلهي، حسب تعبيره، فهكذا يعمل فعل الخيلولة البشري ليؤسس متكآته الطوباوية، حتى يستسلم إلى إستنتاج ذكوري شخصي، مرده خبرة حسية بالضرورة، ازاء كائن يهب الوجود بغامض حضوره، معنى شعريا قوامه الوعي والمتعة. ألم يقر نيتشة، بأن الحياة امرأة!؟
وبالتأكيد، لا يتفسر هذا " الآخر " المتمادي في تشظيه، عبر صيغة أحادية البعد، فالشاعرة كوجود، وليس كتصنيف حاد الحواف الجنوسية، لا تختصر مفهوم المرأة الخالصة، وبالتالي لن تكون منتهى ذلك " الآخر" . لكنها بالضرورة أحد الممرات السرية إلى تلك القارة السوداء، كما وصفها فرويد، ذات حيرة نفسية.
إذا، فالشاعرة مفتاح لذات تحضر بنص عميق الإنغراس في التاريخ، تريده مستقلا، أو خالص النوايا. وبإغوائه الأنثوي تقترح تصميما مضادا لعالم مغاير، بما هو حياتها المعاشة وليس الافتراضية، الأمر الذي يفرض على الدرس الألسني مهمة الكشف عن الأسس التاريخية والاجتماعية والنفسية لعملية إنتاج ذلك النص، للوصول إلى شكل الكائن الجديد، الماكث خلف تشكيلته الخطابية.
هذا النص الشعري الأنثوي هو خطاب متعدد الأبعاد، ينهض على بنية فكرية، وهو صادر بالضرورة عن ذات فكرت فيه وأنتجته ضمن بنية تفكير أنثوي، كما يتوضح من تماسه بتاريخ الأفكار، أي في الأوهام الإتصالية، وفي الصدى المنفلت من كل تحديد تاريخي، حسب تعبير فوكو، بمعنى البحث الاستنباطي وليس التقريري المباشر، عن افتراضات تشكله من وراء قصدية تلك الذات المتكلمة، والوقوف على نشاطها الواعي، وما كانت ترغب في قوله، ولم تتمكن ، ليستعاد ضمن بنية التجليات اللاشعورية.
ولا شك أن محايثة الأنثوي بالشعري، هو المدخل إلى فتنة هذا " الآخر " البشري من حيث علاقته بفتنة التعبير اللغوي، أي الإحتفال بالمتخيل الجسدي الفكري عبر جمالية الخطاب الشعري، بما يولّد كنص شعري من أنوثة مضاعفة، مدبرة في أصلها التكويني من مزيج الكتابة والجسد، ومؤكد لسلطته بسطوة الأنثوي، كحيلة عاطفية، أو استعارة هي مشروع الشاعرة الحضوري، أو أوتوبيوغرافيتها الفاقعة.
هكذا تتأهل الشاعرة لتمثيل ذلك " الآخر " ولكن ليس بزعم كلياني، ربما لأنها كائن ذاتوي النزعة، أي من أولئك الذين لا يهابون الألم الإنساني، ولا تغريهم المنافي الموضوعية ، إذ لا تجهل، ولا تريد أن تنفى من جسد تعيش فيه، فهي من الذوات الفردية التي تسكن المناطق الأكثر تعذرا على التجاوز، بتعبير جاك دريدا، وتعيش الحياة، كما تنم ملفوظاتها، كحركة معاكسة للحكاية، بما هي الصيغة الأفقية لحراك الكائن، حيث يتصعّد الجسد مكانا مضادا لمنفى النص.
إذا، هي تعين على فهم الكيفية التي تعمل بها تلك " العضلة الناعمة " في ديالكيتيك الإمحاء المتبادل بين المرأة والرجل، من حيث إلحاحها على ضالة إيروسية، قد تتناساها لحظة الإنفعال بمنفاها الحقوقي، ولكنها لا تتخلى عنها بحال عند تناصها بمطلق الديني واحتمائها بالصوفي، وحتى في التجادل الحسي بمخترعها المثلي الوسيط، أي ذلك الحيادي، الذي يتمرد على فعل التأنيث كرد على أسطورة الذكوري، لتجاوز الإعتيادي، ذهابا إلى العشق المحرم.
وبالنظر إلى تماسها بأعظم اختراع إنساني وهو اللغة ، يضاعف لها اللسان قدرة تمثيل المرأة بمنسوب قابل للتصعّد، لأن المنزع الإيروسي كإشباع ( روحي/جسدي ) يتحقق عبرها، ففي وجودها الأنطوقي، كما يتمثل نصا شعريا، تختزن أقصى طاقة ممكنة لإرادات المرأة الشعورية، وإعتقاداتها العاطفية، ومبتغياتها الحسية، فالنص الشعري الأنثوي يهب مقابله الذكوري شفرات معيارية هي بمثابة المفاهيم الحقوقية والنفسية والشعورية لذلك الكائن.
ولأنها لا تتحرك بمعزل عن الحب الذي تجهد لتوأمته بإغوائية الشعر، تحقق ضمن ذلك المعمل ( الشاعرة ) الكيمياء البشرية بكل معانيها، فالحب بالنسبة للمرأة/الشاعرة ليس فكرة افتراضية، أو مجرد خلفية يمكن أن تتسير الحياة على احتمال حدوثها، إنما هو الفاصل الطوباوي الأجمل من حياة واقعية مديدة، وشرط وجود، أو هو كل حياة المرأة، حسب مقولة مدام دي ستايل، بالنظر الى أن المرأة، حسب الخبرات الحسية للعاشقين، لا تبلغ كمالها الأنثوي، أو أقصى تطرفاتها الإنسانية إلا عندما تحب، وهنا سر الوله المودي بها إلى الرهبنة ، أو منع ذاتها من التداول، فهي كذات عشقية مغالية في النرجسية لا تهب نفسها إلا لذات تشبهها، تستحقها، أو تموت دون ذلك.
هذا ما تعتقده بوطيقيا الأنوثة، فالحب المصعّد إذن هو الذاكرة، وبالضرورة هو أوتبيوغرافيتها، ووثيقة حضورها، وتاريخها، وهو ماء الحياة وروحها، أو هذا ما يحاول النص الأنثوي التأكيد عليه بنبرة واحدة، ومن حناجر مختلفة تاريخا ومكانا وعرقا، فهنالك قبيلة أنثوية ممتدة تتوارث مكنوناتها عبر نظام شفرات إيروسية، ومتعاليات نصية، بمثابة البوطيقيا المدبرة من لهفة إيروسية أصيلة يراها جورج باتاي بمثابة الإقرار بالحياة حتى الموت.
إذا، هي لا تؤمن بنص خارج ذلك الإلحاح الإيروسي، مهما انتمت إلى قضايا وعناوين حقوقية، فالعالم بالنسبة لها مكان فائض الذكورة، وهو بحاجة إلى لمسة إستئناسية منبثة من شعرية الأنثوي، شخصية وعبر-جسدية بالضرورة، لأن جسدها هو عين صفاتها، فالمرأة التي تتقدم ناحية السرير متخففة من كل ملابسها عدا قلادة، كما تفعل البشتونيات مثلا، لا تقوم بفعل التعري الإغوائي بمجانية، بقدر ما تنجز فعلا شعريا بامتياز، على اعتبار أن القصيدة تفعل وتعاش، وقد تستحيل إلى نص مكتوب، يستحيل بفعل التراكم إلى خطاب لا تحدّه الألفاظ بل يتجاوز ذلك المؤطر العباراتي إلى دلالات فكريه، وفلسفة جمالية ليتأسس على مزيج من الصورة البصرية، والتمثلات الإيمائية، والتعبير الحركي.
هكذا هي المرأة شاعرة في كل حركة من حركاتها، إيروسية في كل سلوكياتها، في اتكاءتها، في طريقة لبس وخلع ملابسها، في تمايلها، في كلامها، بل حتى في شكل موتتها، والعكس، أي كل شاعرة هي بالضرورة مشروع إمرأة تنفني جسدا وروحا لتلتقي بشروط كمالها، إذا ما تجاوزت لغتها المختونة، وكفت عن تهريب ذاتها من النص.
هنا يكمن سر مصادقتها لأنا مقهورة، مستدعاة على الدوام في النص الشعري الأنثوي تحت مظلة لغوية من الكآبة الكثيفة، لمنع ذاتها من التداول، وللتجابه الحاد مع أنوثة باهظة تسلمها على الدوام إلى حس مفرط للإنجراح، وإلى نزعة مازوخية متأصلة تراها هيلين دوتش ضرورة لتطور الأنوثة عند معشر النساء بوجه عام.
إذا، قد تختصر الشاعرة المرأة، أو تستعير مستوجباتها الإنسانية خصوصا عند النظر إلى المكانة التي تطالها اللغة في المجتمع، وورطة علاقتها بمفهومي السلطة والأيدلوجيا، في عالم متشكل أصلا بالممارسة الإجتماعية، وبما هي - أي اللغة - خطاب أيضا تتبناه المرأة كشكل حضور، وكممارسة تتحرك داخل جدل البنى والمؤسسات الإجتماعية، أي كصيرورة اجتماعية متحركة، مشروطة بمتطلبات لغوية وأخرى من وراء نظامها أو خبراتها اللغوية، بمعنى أن نشاطها اللغوي ليس مجرد انعكاس تلقائي للممارسة أو شكل التناظر المبسط ما بين اللغوي والاجتماعي، إنما يمثل أحاريك حيوية لا تنفصل عن تلك الصيرورة.
وبتحليل الصلة ما بين النص الشعري الأنثوي كنتاج وبين شروطه وسياقاته المتعددة يتحقق ذلك التقدم حتى خارج الحدود المتعينة والبنى المعرّفة، من خلال محاولاتها بالشعر لأنسنة اللغة كرد فعل على تذكيرها ، بما هي ضرب من " الفعل والحركة والفكر والتفكير والوعي واللاوعي والتجربة والعاطفة " بمفهوم جاك دريدا.
وهكذا يجد نصها حراكه في حيز الحرية، على اعتبار أن الكتابة مشتقة برأي رولان بارت من حركة دلالية تصدر عن الكاتب، وتلامس التاريخ بشكل محسوس، وإن لم يصحح نصها الشعري خطأ تاريخيا مفجعا، لكنه بالتأكيد يحفظ لتلك الذات الشاعرة حيوية الحضور، ويهبها شهوة الحياة، من خلال نص، أو فن يشتهي الحياة بتعبير نيتشة.
ويبدو أن لسان المرأة أو لغتها المرحّلة اليوم كنسق من العلامات إلى سياق الكتابة الشعرية، هي مهمة الشاعرة لإعادة المرأة إلى الكتابة،حضورا بها إلى قلب الحياة، ففي النص الشعري الأنثوي تتجلى تلك الرسالة عبر الدعاوى الحقوقية، والحضور العاطفي، حيث التصعيد الصاخب لذلك الهاجس والوصول به إلى مرقى القيمة، وهو ما يفسر مراوحة ذلك الكائن المقهور ما بين الإحساس بالدونية أو التواري في هامش الحياة عبر ميكانزم " عقلانية النفي " وما بين سعار البارانويا الصريحة في ذلك النص.
ومن هنا جاءت المحاولة لتمديد هذا الكائن على أرض الواقع بدل القذف به في متاهات التاريخ، أو هوس التدليل والشروحات، فمعيارية هذه المحاولة الإستكشافية، لا تعتمد المجادلة أو المفاضلة بأي اتجاه، فتاريخ المرأة الشعري هو تاريخ الإنسان، وعلى ذلك جاء الجهد توظيفيا لمركبات منهجية بخبرات شخصية، بعيدا في دلالاته الإنسانية والإبداعية، لوعي ذلك " الآخر " الذي لا يكف عن وصف مهمته بالشاقة بالنظر إلى كونه إمرأة، وأيضا للوقوف على الشكل الذي يبدو فيه الرجل كآخر مذكر في مرآة الأنوثة، فلا وعي للرجل بنفسه، كما يقرر بويتنديك، ما لم يدرك كم من ذلك الأنثوي فيه، أو كم يحتاج من ذلك الفيض ليكون رجلا طبيعيا.
.