" يدُورْ.. يدُورْ.. ويَرجعْ لقلبْ الرَّحَى".. جَدَتي كانتْ دائمًا ما تُردِدُ هذا المثل الشَعبيّ بحَسرةٍ في صَوتِهَا. كَأنّهَا تَختَزِلُ حَيَاةَ حَفِيدَتِهَا الأَحَبّ إلى قَلْبِهَا في هَذهِ العِبَارَةِ المأساويةِ. كَانَتْ تَقُولُ إنّني أُُشبِهُ قَلبهَا، في حُبِّهِ الجيّاش و أُُشبِهُ رُوحَهَا في صَلابتِهَا وحُزنِهَا.
لمْ أسمعْ سوى جدّتي، المرأة البدويّة، تُوّصفُني ببلاغةٍ جَامحة فتهزُ كلِماتُها على بَسَاطَتِهَا قَلبي. تَقولُ إنّني جَميلةٌ غيرَ أنّ في جمالي تَعَبٌ وإنَّ صَوتي لَذيذٌ و نَقيّ بيد أنّ فيهِ بَحة حَزينةٌ غالبًا ما تَجعلُهُ يبتعدُ كثيرًا ويوغلُ في التيّهِ حتى يَضيع الإيقَاعْ. تَعمدُ إلى تكرارِ قولها هذا كلّما هَممتُ بغناءِ مَوَاوِيلها القديمة.
جدتي كانت أوّل من شكل نظرتي الأُولى إلى الحياة.
في أيّام الصيفِ، في أُولى ساعات الصُّبحِ، كنتُ أُرافقها إلى فناء بيتها الرّيفيّ وأظلّ أُراقبها من خلال تموجات الدُخان المصّاعدِ في الهواء وهي تُعدُ خُبزنا على موقدها التقليديّ. ترتفعُ النارُ في الفضاء أحيانًا فأخافُ وأركضُ نحوها أتشبثُ بطرفِ مليتها. بيد أنّها تضحكُ من خوفي وتواصلُ عملها. كانت عيناها حمراوين دامعتيّن غير أنّها تظلّ قابعة تجاه صنيعها، لمْ يكن الاستسلامُ يعرفُ إلى قلبها سبيلاً، ولمْ تكنْ هي مستعدة للتضحيّة بعالمها ذلك مهما كلفها من تعبٍ. جدي كان يقولُ لها:" هوّني عليك عليكِ قليلاً هذا التعب.. الحياةُ ليستْ حربًا دائمة" لكنها تتجاهلهُ وتواصلُ عملها..
جدتي كانتْ تُعرّي أحزانها للنيرانِ الملتهبة، تختلطُ دموعها بالدّخان الكثيف فلا يُبصرها أحد. أمّا أنا فتعودتُ أنْ أُعري أحزاني للكتابةِ. من تعودَ ألاّ يتعرّى سوى أمام الكتابةِ لنْ تسعهُ كلّ أحضان العالم.
كنتُ أعرفُ أنَّ مشاهد النيرانِ الّتي التصقتْ بذاكرتي الأُولى لنْ تخبُو أبدًا. ستظلّ الحرائقُ تضمرُ نارها في صدري بين الفينةِ والأخرى. وسأظلّ على مرّ السنين أتلّظى في لهيبِ عوالمٍ أحبّها وأبغضها.
"الحياةُ ليستْ حربًا دائمة.. هوني عليك قليلاً هذا التعب"، بتلك الجملةِ بتُ أنا أيضًا أُخففُ عن قلبي تعبهُ، إذا خسرنا معركةً فغدًا نربحُ أخرى وإذا غادرنا حبٌّ فغدًا يفتحُ القلبُ أبوابهُ لآخر وإذا هزمنا دربٌ ما ففي الحياة دروب كثيرة سَترومها أقدامنا.
"أمّا إذا خسرنا الشَغفَ فمن يُعيدهُ إلينا؟" منْ يُعيدُ إلى القلبِ توهجهُ ولهيبهُ؟ إذا خسرنا شغفنا بالكتابةِ فمن يُعزينا عن خسارتنا هذهِ؟ أنا نسيتُ كيف أكتب، نسيتُ كيف أتوَارى عن الوجودِ برمتهِ لأغمس أصابعي في الحبرِ وأكتب. تمنيتُ كثيرًا لوْ أنّني تعلمتُ البكاء بدل الكتابة، تمنيتُ لوْ أنّني لمْ أكنْ ابنة اللّغة، لوْ أنّهم دفنوا حبلي السرّيّ في بركةِ دموع بدل دفنهِ في تُرابِ كلّيّة الآداب..
وأنا أركضُ وراء الجملة الأولى للنصّ، ولا أجدها أتمنى أنْ أنشب أظافري في جسدي وأبكي كثيرًا.
وديع كان يقولُ إنّ الجملة الأُولى من النصّ تُشبهُ اللّحظة الأولى الّتي يقذفُكَ فيها الرحمُ إلى الحياة، مغامرةٌ نحو المجهولِ. إمّا مغامرة جريئة مُدهشة وإمّا تجربة نمطيّة بائسة. حين أهمُ بالكتابةِ أخافُ وأترددُ، وأتذكرُ كلام وديع فأعضُ على شفتيّ ونادرًا ما أواصلُ كتابة النصّ. قدْ نستغرقُ أسابيعًا لنكتب نصًّا نُحبّه، ليس للبسٍ اعترى الفكرة وإنّما لأنّنا لمْ نعثر على الجملةِ الأولى بعدْ. وديع يكرهُ أنْ يُكتب النصّ على مراحلٍ. يقولُ إنّ النصّ المتين تنسابُ كلماتهُ انسيابًا مبهرًا، دفعة واحدة، تهمي العباراتُ كالمطرِ العنيف فتقرعُ القلب وتهزُ أوصالهُ وتربكُ الذاكرة وأسرارها.
في اللّيلِ أُصغي إلى جاك برال:
"Parce que je suis convaincu d’une chose: le talent, ça n’existe pas. Le talent c’est l’envie de faire quelque chose. Et je crois que l’envie de réaliser un rêve c’est le talent, et tout le restant c’est de la sueur, c’est de la transpiration, c’est de la discipline. Je suis sûr de ça. L’art, moi, je ne sais pas ce que c’est, les artistes je ne connais pas, mais je crois qu’il y a des gens qui travaillent à quelque chose, qui travaillent avec une grande énergie finalement. Et l’accident de la nature je n’y crois pas .. Pratiquement pas."
لقدْ نسيتُ منذُ زمن بعيدٍ كيف أبدُو فتاة منضبطة، نسيتُ كيف تبدُو الرغبة وكيف يبدو الشغف بالكتابةِ.
منذُ زمن غابر كنتُ أُشكل لنفسي جناحيّن لأطيرُ إلى عالمٍ عجائبيّ. كنتُ شغوفةً بالحياةِ وكان وجودي يطفحُ بالنشوةِ. أمّا الآن و قد بتُ فتاة أكاديميّة جدًا وإيماني الشاعريّ بات يتحولُ إلى مواقفٍ وقناعات صارمة.
والنارُ الّتي كانتْ تستعرُ في قلبي تُطفئ حرائقها. وأنا ماعدتُ أغمسُ أصابعي في الحبرِ لأتوارى عن العالمِ وضجيجهِ وأكتب، ماعدتُ أتركُ صدري عاريًا تلفحهُ الشمسُ ثم تغفو عليهِ. وأنا أُتركُ تمردي شيئًا فشيئًا، أتركُ شغفي بأغربِ القضايا وأخسرها في هذا الزّمن. وأنا أهربُ من صوت الطفلةِ المتوهجة فيّ، وينتابني حزنٌ ما، وأنا أتخلصُ منْ عقد المثاليةِ وأصيرُ فتاة رصينة جدًا ومتوازنة جدًا. وأنا ماعدتُ أمشي فأنساب انسيابًا مبهمًا بلا هدفٍ، ولُغتي أضحت أكاديمية جدًا فما عادتْ تتسعُ للمجازِ وللاستعارات الكثيفة الّتي كنتُ أحبذها، وأنا ماعدتُ أقفُ على قمةِ جبلٍ في مسكليانيّ فأهدرُ لنفسي بألفِ قولٍ، وأنا ماعدتُ أحبّ بلا منطقٍ وبلا عقلٍ وبلا تريث، وأنا ماعدتُ أعيشُ في وسطٍ يضطربُ بالحسِّ وبالشغفِ وبلذة التجاربِ الوجوديةِ والذهنيةِ، وأنا ماعدتُ نقية أبدًا، وأنا أبتعدُ عني رويدًا رويدًا يُراودني قولُ جدتي: "يدور.. يدور ويرجع لقلب الرّحى..".
وديعْ أيضًا كان يقولُ إنّني امرأة تقليديّة، رغم كلّ ما أبدو عليه من تحررٍّ، امرأة تُحبُّ رائحة البخور وتؤمنُ بأنّها تُطردُ الشرّ من البيوتِ. امرأةُ تؤمنُ بخرافات الجداتِ وتنبؤاتهن وأمثالهن القديمة..
لمْ أسمعْ سوى جدّتي، المرأة البدويّة، تُوّصفُني ببلاغةٍ جَامحة فتهزُ كلِماتُها على بَسَاطَتِهَا قَلبي. تَقولُ إنّني جَميلةٌ غيرَ أنّ في جمالي تَعَبٌ وإنَّ صَوتي لَذيذٌ و نَقيّ بيد أنّ فيهِ بَحة حَزينةٌ غالبًا ما تَجعلُهُ يبتعدُ كثيرًا ويوغلُ في التيّهِ حتى يَضيع الإيقَاعْ. تَعمدُ إلى تكرارِ قولها هذا كلّما هَممتُ بغناءِ مَوَاوِيلها القديمة.
جدتي كانت أوّل من شكل نظرتي الأُولى إلى الحياة.
في أيّام الصيفِ، في أُولى ساعات الصُّبحِ، كنتُ أُرافقها إلى فناء بيتها الرّيفيّ وأظلّ أُراقبها من خلال تموجات الدُخان المصّاعدِ في الهواء وهي تُعدُ خُبزنا على موقدها التقليديّ. ترتفعُ النارُ في الفضاء أحيانًا فأخافُ وأركضُ نحوها أتشبثُ بطرفِ مليتها. بيد أنّها تضحكُ من خوفي وتواصلُ عملها. كانت عيناها حمراوين دامعتيّن غير أنّها تظلّ قابعة تجاه صنيعها، لمْ يكن الاستسلامُ يعرفُ إلى قلبها سبيلاً، ولمْ تكنْ هي مستعدة للتضحيّة بعالمها ذلك مهما كلفها من تعبٍ. جدي كان يقولُ لها:" هوّني عليك عليكِ قليلاً هذا التعب.. الحياةُ ليستْ حربًا دائمة" لكنها تتجاهلهُ وتواصلُ عملها..
جدتي كانتْ تُعرّي أحزانها للنيرانِ الملتهبة، تختلطُ دموعها بالدّخان الكثيف فلا يُبصرها أحد. أمّا أنا فتعودتُ أنْ أُعري أحزاني للكتابةِ. من تعودَ ألاّ يتعرّى سوى أمام الكتابةِ لنْ تسعهُ كلّ أحضان العالم.
كنتُ أعرفُ أنَّ مشاهد النيرانِ الّتي التصقتْ بذاكرتي الأُولى لنْ تخبُو أبدًا. ستظلّ الحرائقُ تضمرُ نارها في صدري بين الفينةِ والأخرى. وسأظلّ على مرّ السنين أتلّظى في لهيبِ عوالمٍ أحبّها وأبغضها.
"الحياةُ ليستْ حربًا دائمة.. هوني عليك قليلاً هذا التعب"، بتلك الجملةِ بتُ أنا أيضًا أُخففُ عن قلبي تعبهُ، إذا خسرنا معركةً فغدًا نربحُ أخرى وإذا غادرنا حبٌّ فغدًا يفتحُ القلبُ أبوابهُ لآخر وإذا هزمنا دربٌ ما ففي الحياة دروب كثيرة سَترومها أقدامنا.
"أمّا إذا خسرنا الشَغفَ فمن يُعيدهُ إلينا؟" منْ يُعيدُ إلى القلبِ توهجهُ ولهيبهُ؟ إذا خسرنا شغفنا بالكتابةِ فمن يُعزينا عن خسارتنا هذهِ؟ أنا نسيتُ كيف أكتب، نسيتُ كيف أتوَارى عن الوجودِ برمتهِ لأغمس أصابعي في الحبرِ وأكتب. تمنيتُ كثيرًا لوْ أنّني تعلمتُ البكاء بدل الكتابة، تمنيتُ لوْ أنّني لمْ أكنْ ابنة اللّغة، لوْ أنّهم دفنوا حبلي السرّيّ في بركةِ دموع بدل دفنهِ في تُرابِ كلّيّة الآداب..
وأنا أركضُ وراء الجملة الأولى للنصّ، ولا أجدها أتمنى أنْ أنشب أظافري في جسدي وأبكي كثيرًا.
وديع كان يقولُ إنّ الجملة الأُولى من النصّ تُشبهُ اللّحظة الأولى الّتي يقذفُكَ فيها الرحمُ إلى الحياة، مغامرةٌ نحو المجهولِ. إمّا مغامرة جريئة مُدهشة وإمّا تجربة نمطيّة بائسة. حين أهمُ بالكتابةِ أخافُ وأترددُ، وأتذكرُ كلام وديع فأعضُ على شفتيّ ونادرًا ما أواصلُ كتابة النصّ. قدْ نستغرقُ أسابيعًا لنكتب نصًّا نُحبّه، ليس للبسٍ اعترى الفكرة وإنّما لأنّنا لمْ نعثر على الجملةِ الأولى بعدْ. وديع يكرهُ أنْ يُكتب النصّ على مراحلٍ. يقولُ إنّ النصّ المتين تنسابُ كلماتهُ انسيابًا مبهرًا، دفعة واحدة، تهمي العباراتُ كالمطرِ العنيف فتقرعُ القلب وتهزُ أوصالهُ وتربكُ الذاكرة وأسرارها.
في اللّيلِ أُصغي إلى جاك برال:
"Parce que je suis convaincu d’une chose: le talent, ça n’existe pas. Le talent c’est l’envie de faire quelque chose. Et je crois que l’envie de réaliser un rêve c’est le talent, et tout le restant c’est de la sueur, c’est de la transpiration, c’est de la discipline. Je suis sûr de ça. L’art, moi, je ne sais pas ce que c’est, les artistes je ne connais pas, mais je crois qu’il y a des gens qui travaillent à quelque chose, qui travaillent avec une grande énergie finalement. Et l’accident de la nature je n’y crois pas .. Pratiquement pas."
لقدْ نسيتُ منذُ زمن بعيدٍ كيف أبدُو فتاة منضبطة، نسيتُ كيف تبدُو الرغبة وكيف يبدو الشغف بالكتابةِ.
منذُ زمن غابر كنتُ أُشكل لنفسي جناحيّن لأطيرُ إلى عالمٍ عجائبيّ. كنتُ شغوفةً بالحياةِ وكان وجودي يطفحُ بالنشوةِ. أمّا الآن و قد بتُ فتاة أكاديميّة جدًا وإيماني الشاعريّ بات يتحولُ إلى مواقفٍ وقناعات صارمة.
والنارُ الّتي كانتْ تستعرُ في قلبي تُطفئ حرائقها. وأنا ماعدتُ أغمسُ أصابعي في الحبرِ لأتوارى عن العالمِ وضجيجهِ وأكتب، ماعدتُ أتركُ صدري عاريًا تلفحهُ الشمسُ ثم تغفو عليهِ. وأنا أُتركُ تمردي شيئًا فشيئًا، أتركُ شغفي بأغربِ القضايا وأخسرها في هذا الزّمن. وأنا أهربُ من صوت الطفلةِ المتوهجة فيّ، وينتابني حزنٌ ما، وأنا أتخلصُ منْ عقد المثاليةِ وأصيرُ فتاة رصينة جدًا ومتوازنة جدًا. وأنا ماعدتُ أمشي فأنساب انسيابًا مبهمًا بلا هدفٍ، ولُغتي أضحت أكاديمية جدًا فما عادتْ تتسعُ للمجازِ وللاستعارات الكثيفة الّتي كنتُ أحبذها، وأنا ماعدتُ أقفُ على قمةِ جبلٍ في مسكليانيّ فأهدرُ لنفسي بألفِ قولٍ، وأنا ماعدتُ أحبّ بلا منطقٍ وبلا عقلٍ وبلا تريث، وأنا ماعدتُ أعيشُ في وسطٍ يضطربُ بالحسِّ وبالشغفِ وبلذة التجاربِ الوجوديةِ والذهنيةِ، وأنا ماعدتُ نقية أبدًا، وأنا أبتعدُ عني رويدًا رويدًا يُراودني قولُ جدتي: "يدور.. يدور ويرجع لقلب الرّحى..".
وديعْ أيضًا كان يقولُ إنّني امرأة تقليديّة، رغم كلّ ما أبدو عليه من تحررٍّ، امرأة تُحبُّ رائحة البخور وتؤمنُ بأنّها تُطردُ الشرّ من البيوتِ. امرأةُ تؤمنُ بخرافات الجداتِ وتنبؤاتهن وأمثالهن القديمة..