عمان - علاقة وجدانية مع المكان ..
تطل الشاعرة الأردنية ” باسمة غنيم “ في مجموعتها الشعرية ”اقطفني مرتين“ الصادرة مؤخرا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان، من الزقاق، لتؤكد على علاقة وجدانية مع المكان، لا مجرد علاقة موضوعية. فالمدن لديها تتزين بضبابها، وفي الزقاق فقط تقبع أفئدة عبثت فيها أنفاس الطريق، وهناك تستريح الشمس على غصن النهار. يتحول الزقاق إلى صديق وحيد، يستقبل الشكوى، ويتبادلان الأدوار" وحده الزفاق في عمق وحدته من استظل بنا".
هذه العلاقة مع المكان تتكرر في أكثر من نص في المجموعة، ففي قصيدة ذاكرة، نجد أيضا هذه العلاقة الوجدانية مع المكان " تلك الأسرة تفرد دفئها للغرباء"، ويتبادلان الحالة " في مدينة ضائعة..." فالمدينة هذه لمرة هي الضائعة وليست الشاعرة. وفي قصيدة غرف، نجد" غرفنا... هي مفاتيح الرياح لأبواب تتوق الدفء، هي أمنا الحنون في غياب حضنها". وتكرر صور المكان وعلاقته بالدفء المفقود نتيجة فقدان الأحبة، والأم بشكل خاص:" المدن.. شرفات الإله لمن يستقي الدفء.." و" حدائقها قيامة المحبين". فالأماكن هي أنيسة الشاعرة، وهي واحات من لا وطن له. وكما العلاقة مع المكان علاقة وجدانية، هي أيضا مع الزمان، فهذه قصيدة صباح:
يَصحُو الصَّباحُ ثقيلاً
بِلا قدمَيْن
يَزحفُ نحوَ نَهارِهِ الطَّوِيل
بِصَمتٍ مُتعب
يأتي المَساءُ بَعدَ عَناء
يَرمِيهِ بطلقَةِ سَواد
تُردِيهِ قَتِيلاً
بِلا وَجَع
وتتكرر العلاقة في قصيدة ليل أيضًا، وفي قصيدة زوايا.
تشف العلاقة مع المكان، وحب السفر عن حالة وجدانية خاصة ذات صلة بالوحدة. فموضوع الوحدة منبثٌّ في معظم قصائد المجموعة، وهو سر ارتباطها وتعلقها بالأمكنة. فالأم تصبح قديسة تتنزل رؤاها المنيرة لتُذهب عنها كل وحشة، قصيدة" قديسة"، والصوت البشري يبعث الحياة ويشعل الدم في العروق،قصيدة " بحة"، والعيون من حولنا أحبة نشتهي وصالها، قصيدة" غرف"، حتى الأمنيات لديها بطعم الوحدة :" تعالَ نُنجّي أنفُسَنا من ذنْبٍ،أننا في لحظةٍ حمقاءَ تجافينا...، تعالَ نتجاوز عن خطايانا، بارتكابِ جُرمِ اللقاء ولو حِينا،... تعالَ..، وقل إنكَ لن تأتي، ولكن يا جدول الروح.. أنت.. أشتاقُ لمَراسِينا". الشعور بالوحدة يكاد يكون عامًّا، بسبب أن العالم كله يؤول إلى الخراب، قصيدة" سقوط"، والروح فيه وحشة طين تدفننا عميقا بلا رحمة. الأم هي من يظهر لنا بؤس وحدتنا: يا وشاحي الرؤوف.. الذي يقيني برد غربتي والبعد.
تزخر قصائد الديوان بالصور الشعرية المكثفة، التي يحتاج القارئ إلى تفكيكها مرارا وإعادة تركيبها حتى يتعرف على جمالياتها، ويتذوق قهوة اللغة:" أفئدة عبثت فيها أنفاس الطريق.. لُجمت ظلال الأسئلة.. ونبذر سحاب القلق في الطرقات.. رائحة الأيام غبار عقيم جاحد...".
كما تزخر نصوص الشاعرة باسمة غنيم بالتناصات مع القرآن الكريم، ما يعزز جماليات اللغة:" لأؤمن بنعمتك وأحدّث( ص 40)، واجعلني في قلبه سراجا وهّاجا(ص 43)، بودي لو أهزّ جذع قلبك ليتساقط منه صقيع النوى(ص 63)، فلا تقل لي أفّ ولا تنهرني، واخفظ لي جناحك العابث برائحتي(ص 65).
ومن نصوص المجموعة المختارة:
تَلاعُب
ما يُعجبُني في اللغة
أنها غاويةٌ في الحُب
تَتلاعبُ بنا!
تَردعُنا وتُثنِينا..!
وتلينُ حُروفُها حِينا..
مَدد
أمطِري
لتُغادر الأرض سَقَمها
ويكون الخَلاصُ كما الصَّهيل
يسأل العاشقينَ به مَددا!
خُرَافة
أحْببتُ فيكَ خُرافَتي الأزليَّة..
أنا سيِّدةُ الحَياة
أنهلُ منْ نَعيمكَ بِلا كَلل..
أنا الثَّمرُ الذي يَنضجُ بالآه
في نَاركَ..
لا يَحتضِر...!
قِطَاف
حَاورْ مِرآتكَ كثيراً قبلَ أن تُغادرَها
لا تُهادِنْ رَغبَتكَ معَ لَعنةِ النَّهار
ولا تُحاكِ حَدائقَهُ النَّاعسَة
دَعِ الصَّمتَ يُجارِي أشجارَهُ الوَارِفَة
بِلا حَذر..
بِلا دقائقَ تَرتعِدُ منْ مَاهيَّةِ الزَّمن..!
اقترِبْ واقطُفْنِي مَرتَيْن..
* دكتور باسم الزعبي
يذكر أن باسمة غنيم من مواليد مدينة عمّان، حاصلة على شهادة الدبلوم في التعليم الأساسي، عملت مدرّسة للمرحلة الأساسية، اهتمت منذ طفولتها بقراءة الشعر وكتابته. نشرت العديد من نصوصها الشعرية في مجلة "أفكار" وجريدة "الرأي"، وفي عدد من المواقع الثقافية الإلكترونية، وقد صدر لها مجموعة شعرية بعنوان "أقطع وتراً لأزرع كمنجة" سنة 201
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=4248546541837589&id=100000468563763
تطل الشاعرة الأردنية ” باسمة غنيم “ في مجموعتها الشعرية ”اقطفني مرتين“ الصادرة مؤخرا عن الآن ناشرون وموزعون في عمّان، من الزقاق، لتؤكد على علاقة وجدانية مع المكان، لا مجرد علاقة موضوعية. فالمدن لديها تتزين بضبابها، وفي الزقاق فقط تقبع أفئدة عبثت فيها أنفاس الطريق، وهناك تستريح الشمس على غصن النهار. يتحول الزقاق إلى صديق وحيد، يستقبل الشكوى، ويتبادلان الأدوار" وحده الزفاق في عمق وحدته من استظل بنا".
هذه العلاقة مع المكان تتكرر في أكثر من نص في المجموعة، ففي قصيدة ذاكرة، نجد أيضا هذه العلاقة الوجدانية مع المكان " تلك الأسرة تفرد دفئها للغرباء"، ويتبادلان الحالة " في مدينة ضائعة..." فالمدينة هذه لمرة هي الضائعة وليست الشاعرة. وفي قصيدة غرف، نجد" غرفنا... هي مفاتيح الرياح لأبواب تتوق الدفء، هي أمنا الحنون في غياب حضنها". وتكرر صور المكان وعلاقته بالدفء المفقود نتيجة فقدان الأحبة، والأم بشكل خاص:" المدن.. شرفات الإله لمن يستقي الدفء.." و" حدائقها قيامة المحبين". فالأماكن هي أنيسة الشاعرة، وهي واحات من لا وطن له. وكما العلاقة مع المكان علاقة وجدانية، هي أيضا مع الزمان، فهذه قصيدة صباح:
يَصحُو الصَّباحُ ثقيلاً
بِلا قدمَيْن
يَزحفُ نحوَ نَهارِهِ الطَّوِيل
بِصَمتٍ مُتعب
يأتي المَساءُ بَعدَ عَناء
يَرمِيهِ بطلقَةِ سَواد
تُردِيهِ قَتِيلاً
بِلا وَجَع
وتتكرر العلاقة في قصيدة ليل أيضًا، وفي قصيدة زوايا.
تشف العلاقة مع المكان، وحب السفر عن حالة وجدانية خاصة ذات صلة بالوحدة. فموضوع الوحدة منبثٌّ في معظم قصائد المجموعة، وهو سر ارتباطها وتعلقها بالأمكنة. فالأم تصبح قديسة تتنزل رؤاها المنيرة لتُذهب عنها كل وحشة، قصيدة" قديسة"، والصوت البشري يبعث الحياة ويشعل الدم في العروق،قصيدة " بحة"، والعيون من حولنا أحبة نشتهي وصالها، قصيدة" غرف"، حتى الأمنيات لديها بطعم الوحدة :" تعالَ نُنجّي أنفُسَنا من ذنْبٍ،أننا في لحظةٍ حمقاءَ تجافينا...، تعالَ نتجاوز عن خطايانا، بارتكابِ جُرمِ اللقاء ولو حِينا،... تعالَ..، وقل إنكَ لن تأتي، ولكن يا جدول الروح.. أنت.. أشتاقُ لمَراسِينا". الشعور بالوحدة يكاد يكون عامًّا، بسبب أن العالم كله يؤول إلى الخراب، قصيدة" سقوط"، والروح فيه وحشة طين تدفننا عميقا بلا رحمة. الأم هي من يظهر لنا بؤس وحدتنا: يا وشاحي الرؤوف.. الذي يقيني برد غربتي والبعد.
تزخر قصائد الديوان بالصور الشعرية المكثفة، التي يحتاج القارئ إلى تفكيكها مرارا وإعادة تركيبها حتى يتعرف على جمالياتها، ويتذوق قهوة اللغة:" أفئدة عبثت فيها أنفاس الطريق.. لُجمت ظلال الأسئلة.. ونبذر سحاب القلق في الطرقات.. رائحة الأيام غبار عقيم جاحد...".
كما تزخر نصوص الشاعرة باسمة غنيم بالتناصات مع القرآن الكريم، ما يعزز جماليات اللغة:" لأؤمن بنعمتك وأحدّث( ص 40)، واجعلني في قلبه سراجا وهّاجا(ص 43)، بودي لو أهزّ جذع قلبك ليتساقط منه صقيع النوى(ص 63)، فلا تقل لي أفّ ولا تنهرني، واخفظ لي جناحك العابث برائحتي(ص 65).
ومن نصوص المجموعة المختارة:
تَلاعُب
ما يُعجبُني في اللغة
أنها غاويةٌ في الحُب
تَتلاعبُ بنا!
تَردعُنا وتُثنِينا..!
وتلينُ حُروفُها حِينا..
مَدد
أمطِري
لتُغادر الأرض سَقَمها
ويكون الخَلاصُ كما الصَّهيل
يسأل العاشقينَ به مَددا!
خُرَافة
أحْببتُ فيكَ خُرافَتي الأزليَّة..
أنا سيِّدةُ الحَياة
أنهلُ منْ نَعيمكَ بِلا كَلل..
أنا الثَّمرُ الذي يَنضجُ بالآه
في نَاركَ..
لا يَحتضِر...!
قِطَاف
حَاورْ مِرآتكَ كثيراً قبلَ أن تُغادرَها
لا تُهادِنْ رَغبَتكَ معَ لَعنةِ النَّهار
ولا تُحاكِ حَدائقَهُ النَّاعسَة
دَعِ الصَّمتَ يُجارِي أشجارَهُ الوَارِفَة
بِلا حَذر..
بِلا دقائقَ تَرتعِدُ منْ مَاهيَّةِ الزَّمن..!
اقترِبْ واقطُفْنِي مَرتَيْن..
* دكتور باسم الزعبي
يذكر أن باسمة غنيم من مواليد مدينة عمّان، حاصلة على شهادة الدبلوم في التعليم الأساسي، عملت مدرّسة للمرحلة الأساسية، اهتمت منذ طفولتها بقراءة الشعر وكتابته. نشرت العديد من نصوصها الشعرية في مجلة "أفكار" وجريدة "الرأي"، وفي عدد من المواقع الثقافية الإلكترونية، وقد صدر لها مجموعة شعرية بعنوان "أقطع وتراً لأزرع كمنجة" سنة 201
https://www.facebook.com/permalink.php?story_fbid=4248546541837589&id=100000468563763