عندما تطلب من المرء شهادة، فإنه في حقيقة الأمر، يكون بصدد اعتراف بشيء ما، بسر منطو على ذاته، مخفي في دهاليز الذاكرة،. هكذا أظن، فالمسألة مقرونة بالصدق والحقيقة في المقام الأول، وستعامل على أنها أقوال كاشفة تضئ مناطق مازالت مظلمة، بكماء، ترقد في الصمت والهدوء، بعيدا عن التداول وهى تؤانس وحدتها. السر الذي أضيفه إلى شهادات أدبية سابقة هو ببساطة : الهروب من السياسة، وعالمها المشحون بالأحداث اللاهثة، الأزمات التي لا تنتهي، الانشغال الكلى، تتبع كل ما يدور بقلق وتوتر، التعاطي السلبي، التلقي فقط كمواطن عربي مفروض عليه ألف قيد. أريد أن أبتعد مسافة قليلة حتى لا ينفطر قلبي، وأتساقط منهارا، مبددا تحت وطأة القهر. إذن، فليكن الأدب، وليكن السرد، ولتكن القصة القصيرة تحديدا في المقدمة، عالم أكثر اتساعا ورحابة، يستوعب أحوال البشر، وميكانيزمات الحياة اليومية وتعقيداتها. القصة القصيرة، هى الأكثر مظلومية كنوع أدبي، موهبة المتمردين، مدمني الخسارات، المدافعين عن القضايا العادلة، وهى الأكثر صعوبة، إنها عمل شاق، بالغ الدقة، لا يقبل التهاون أو الفشل، لديك هدف محدد، وطلقة واحدة، وغير مسموح لك بالخطأ، الأكثر إثارة، أن تكون الطلقة فى منتصف الهدف، هكذا حدد العظيم بورخيس قواعدها. نحن ننسى دائما أن معظم الروائيين الكبار، هم أيضا كتاب قصة رفيعي المستوى: كافكا، فوكنر، همنجواى، ماركيز، كورتاثار، لوكليزيو،ميرينيو، خوان مياس،…إنهم لا يكتبونها في أوقات فراغهم، أو بين رواية وأخرى، بل هي عمل متكامل، أشد رهبة، أشد حساسية، يقدسونها، ويبحرون بها إلى آفاق أكثر خصوبة، وأبعد خيالا… في السياسة لن تكون محمد حسنين هيكل، هنرى كيسنجر، بوب ودوورد، توماس فريدمان، إريك رولو، يفجينى بريماكوف، ألان جريش، فريد زكريا، فأنت لا تملك المعلومات، وليس لديك صداقات مع زعماء العالم، غير مقرب من دوائر الحكم، وصناع القرارات المرعبة، لن يتاح لك السفر لتغطية الأحداث المهمة….عالم آخر لا تملك أدواته… في السرد، تراقب الحياة، وتبتهل إلى الله كي يمنحك الخيال والبيان، ويضفى على نثرك فضيلتي الدهشة والتألق حين تحاول رصد أحوال هذا العالم، وتبحث عن معنى الحياة في الزمن والتاريخ،غير معنى بالخلود، نحن في عالم فوضوي بطبيعة الحال،لا يتوقف ليأخذ بيد أحد، و لا يفيد معه سوى التكثيف والتوتر والمعاناة، وإقامة تيار عميق من المعنى، والإشارات الإيحائية. أن تكون قاصا، هو أن تنظر إلى العالم في تأمل، تلتقط التفاصيل الصغيرة التي لا يراها أحد، وتنسج منها مواقف غنية ومؤثرة، تاركا للحكايات فرض واقعها الخاص، ربما جاء في نهاية الأمر مقنعا، على نحو ما، فالتقاط الذكرى تمثل البعد الأكثر عمقا، حتى لو كانت بلا إطار تاريخي، الأهم، استعادة الحدث،وصياغته بلغة فريدة وخاطفة لها شحنة تأثيرية بالغة. أن تكون قاصا في العالم العربي تحديدا، فأنت راهب متبتل، تحيا عزلة اختيارية، بمحض إرادتك، تبتعد عن الأضواء، ولا تطمع في شيء، قارئا نهما، يكتب على نحو متمهل، يتحرى الدقة في كل شيء. من قبل،كان الشعر، كانت الرواية، ربما لتوافر الرعاية، والدعاية، والمكافآت السخية، اليوم، تناضل القصة العربية دون مساندة، تحاول النهوض عبر مجموعة من الكتاب، اعتبروها قضيتهم الأساس، ينجزون أعمال تستحق القراءة، والتقدير، إنهم يقومون بإعادة بناء التجربة الإنسانية، ويؤسسون لملامح معمارية جديدة لشكل هذا النوع الأدبي الآسر، ربما يعوضون به سنوات النبذ الثقافي الماضية. قد لا أبالغ، إذا طرحت هذه المزحة !وقلت ساخرا: ماذا لو أعلنت جوائز فارهة للقصة القصيرة، بمبالغ مغرية، 100 ألف دولار مثلا؟، أعتقد أن كثيرين من كتاب الرواية سيقذفون بمشاريعهم جانبا، إلى ضباب التأجيل، والزمن السرمدي، وسيشرعون من الفور في كتابة القصص، معكرين صمت هؤلاء القديسين الذين يقبضون على لحظات مضاءة بنور القمر، ويغزلون برقة استثنائية ساحرة.