” ومضات” عنوان مجموعة قصصية للكاتب محمد فري، صدرت طبعتها الأولى عن مطبعة الأزهر/ مكناس سنة 2013، ينص كاتبُها في غلافها على أنها قصص قصيرة جدا، حاصرا بتنصيصه هذا انتمَاءَها الجنسي بشكل واضح وصريح، عكس ما نجده في كثير من المجاميع القصصية التي يعمد كُتابها عند التعيين الجنسي إلى اصطلاحات على غير قليل من الالتباس، وأحيانا تنطوي على تمويه مقصود، مثل: (مجموعة قصصية)، أو (قصص)، أو(نصوص سردية)، أو (سرد)، أو ما شابه.. وهذه الومضات، تقع في ثمانية وثمانين صفحة من القطع المتوسط، وتضم بين غلافيها تسعةً وثمانين نصا، هي جميعها نصوص قصيرة جدا، يشغل حجمها من مساحة الصفحة حيزا ضيقا. يؤكد قِصرَها الشديد، الوصف الإحصائي التالي لنصوص المجموعة: ـــ أطول نصوص المجموعة، ومضتان تقعان في أحدَ عشرَ سطرا. ـــ أشدها قصرا، ومضتان كل واحدة منهما في سطرين. أما باقي النصوص، والتي تَراوَحَ عددُ أسطرها بين ثلاثة أسطر وعشرة أسطر، فقد توزعت أحجامها على الشكل التالي: ــ من ثلاثة أسطر، خمسةُ نصوص ـــ من أربعة أسطر، ثلاثة عشر نصا ــ من خمسة أسطر، سبعة عشر نصا ــ من ستة أسطر، تسعة عشر نصا ــ من سبعة أسطر، ثلاثة عشر نصا ــ من ثمانية أسطر، ثمانية نصوص ــ من تسعة أسطر، ستة نصوص ــ من عشرة أسطر، أربعة نصوص. أول ما يُلاحظ من خلال هذا الوصف الإحصائي السريع، أن نصوص المجموعة تكاد تكون متناهية في القِصَر، فقد بلغ عدد التي تقع في سبعة أسطر وما دونها تسعة وسبعين نصا، وعشرة نصوص لم يزد حيزها في أطول الأحوال على أحدَ عشر سطرا، علما أن السطر السردي في ” ومضات”، يتراوح في معظمه بين كلمتين وست كلمات. وفي أحيان كثيرة يشمل كلمة واحدة لاغير. الشئ الذي يجعل الومضات أكثر قصرا مما يوحي به توزيعها على الصفحة. ومن هنا نُجزم بأن الكاتب محمد فري على وعي حاد بأهمية الحجم في السرد القصير جدا. فمسألة الحجم عنده لا تعني الجانب الشكلي فحسب، وإنما تعني تحديا حقيقيا يواجهه الكاتب أثناء عملية الكتابة، وهو يعي أنه يكتب في جنس القصة القصيرة جدا، وليس في جنس آخر. تحديا لا يقتصر على نقل الحدث المرصود وإنما يتجاوزه إلى الإيحاء بجميع أبعاده الممكنة، في أقل عدد ممكن من الكلمات، وفي بناء فني متين ومتكامل، يتحقق معه رهان النص، و تتحقق أدبيته بدرجة عالية من المتعة والجمال، ويلقي بالقارئ في صلب تشكيل الدلالة، وهو تحد لا يقوى عليه إلا الأكفاء من الكتاب المهرة المبدعين.. ولعل العنوان وحده يعكس هذا الوعي الحاد بمسألة الحجم عند الكاتب محمد فري. فهو قد تقصد أن يكون (ومضات)؛ جمعا لاسم المرة (ومضة). جذرها اللغوي: “ومض”، الذي يعني: لمع لمعانا خفيفا. ومنه: أومض يومض إيماضا؛ الشخص: أشار إشارة خفيفة. وفي ذلك تأشير واضح على الأهمية البالغة التي يوليها الكاتب لمسألة الحجم. فلكي يلمع النص وبخفة، ويتضمن إشارات وإيحاءات، تتجاوز إلقاء الخبر للقارئ إلى إشراك هذا القارئ في إنتاج الدلالة عبر إتاحة مساحة شاسعة من التأويل، فلا مندوحة له من أن يومض. أو بمعنى أدق من أن يُرسَل في برقية سردية سريعة تشغل أضيق حيز ممكن، حيز لا يتجاوز زمن الومض؛ زمن الإشارة الخفيفة والتلميحة الخاطفة، دون التضييق على تداعيات المعنى وامتدادات الدلالة.
ومن نافلة القول، أن نصوص المجموعة كلها تومض، وتُرسِل لمعانا يضيئ ما تعتم فيها، ليتلقى القارئ ما يكفي من الإشارات والتلميحات ترسم له مسارات الدلالة، فلا يتيه عن رهان النص. ومعلوم أن هناك من النقاد من يفرق بين القصة القصيرة جدا، والقصة الومضة. وهناك من يطلق على القصة القصيرة جدا أسماء أخرى، مثل: (القصة البرقية)، و(القصة الذرية)، و(القصة الكبسولة)، و(الأقصوصة القصيرة)، و(القصة المكثفة)، وما إلى ذلك من الأسماء. والحال، أن القصة الومضة عند محمد فري، هي القصة القصيرة جدا. على ذلك يؤشر التعيين في الغلاف، وبذلك تشهد نصوص المجموعة. وبذلك ينهي محمد فري الخلاف القائم حول التسمية، ليتفرغ إلى كتابة نصوص سردية قصيرة جدا، تلتزم في المقام الأول بالحد الأدنى مما وقع عليه الإجماع من خصائص وحدود، تميز القصة القصيرة جدا، أو القصة الومضة، عن غيرها من الأجناس السردية. ويكفي أن نؤكد على أن نصوص (ومضات) كلها تحتفي بأربع خصائص متفق عليها، مع مراعاة تامة لعنصر الحجم، وأقصد بها التركيز والتكثيف، والإيحاء، والمفارقة التصويرية، و الخاتمة المدهشة.. ولأن المجال لا يسمح بالتطرق إلى تمظهرات كل هذه الخصائص في نصوص المجموعة، سأكتفي بمحاولة تلمس خاصية (التركيز والتكثيف) لعلاقتها القوية التي لا يمكن إغفالها، بموضوع هذه الورقة المشار إليه في العنوان: (ضيق الحيز، وانفتاح الدلالة في “ومضات”. وبدهي أن تحقيق النص لكليته الدلالية والشكلية، من غير أن تخل الدلالة بالشكل، ومن غير أن يجني الشكل على الدلالة، وفي حيز ضيق جدا، لا يمكن أن يتحقق إلا باعتماد التركيز والتكثيف. فالقصة القصيرة جدا الناجحة تستدعي أول ما تستدعيه، التركيز على خطها الحكائي من غير أن تنزاح إلى استطرادات جانبية. أو تتوسع في عرض الفكرة بشكل يقصي المتلقي من المشاركة في إنتاج الدلالة. كما أن التركيز يسمح للكاتب برصد الحالات الإنسانية والوقائع الاجتماعية وغير الاجتماعية، بمهارة عالية ورؤية نافذة. وغني عن البيان، أن التكثيف هو الوجه الآخرللتركيز. ذلك أن التركيز لا يتحقق إلا في لغة مُقتصَد فيها. لغة تكتفي بالضروري من الكلمات، وتتحاشى الزوائد والحشو. وتجتنب الاستطراد، وتبتعد عن الترهل والإخلال.. لذلك فهي لا تشتغل كثيرا بالحدث. وإنما همها الأول أن تؤدي غرضها الفني داخل المتن الحكائي، ويستقبلها المتلقي بمتعة واندهاش معا. ولعلني لا أبالغ بالمرة، إذا قلت: إن ” ومضات ” محمد فري قد تحققت فيها خاصية التركيز والتكثيف بمهارة مدهشة، وبفنية عالية. يقول الكاتب في نص (عقارب). ص 12: ” تأملت عقربَي الساعة الحادّتين أفزعني جريُهما عندما أمسكت بهما قصد إيقافهما شعرت بجرح غائر بجسمي ينضاف إلى جروح سابقة. ” فهذا النص بلغته الموغلة في الإيجاز. والذي ركز على الذات في علاقتها بالزمن. وهي علاقة متناقضة يؤطرها صراع درامي، بين سيرورة الزمن التي لا ترحم، ورغبة الذات الواقعة تحت طائل هذه السيرورة في التخلص منها بلا جدوى. وبما أنه صراع بين طرفين نقيضين غير متكافئين، فإن النتيجة الحتمية لن تكون إلا تأزيمَ الذات أكثر مما هي مؤزمة بإضافة جرح غائر في الجسد على جروح سابقة.. إن هذا النص القصير جدا، الذي لا يصل عدد كلماته إلى عشرين كلمة، استطاع ــ على قصره ــ أن يفتح مصراعي المعنى على دلالات بأبعاد نفسية ووجودية وواقعية، يمكن للقارئ أن يتلمس ظلالها في النص، ومن غير أن تتنافر مع رهانه. وهذا الانفتاح الدلالي ما كان ليتسنى لهذا النص لولا اعتماده على لغة مجازية استعارية، قوية الإيحاء وشديدة التركيز والتكثيف. وتلك خاصية تشترك فيها كل نصوص المجموعة، بامتياز وتفوق. والملاحظة الأخرى التي لها علاقة ببراعة محمد فري في توظيف عنصري التركيز والتكثيف، ترتبط بما يمكن أن نسميه “محورية البطل”. ذلك أن الكاتب محمد فري على وعي تام بان تغييب البطل أو التقليل من دوره في بناء النص السردي وتفعيل ديناميته، من شأنه أن يبتعد بالنص من جنس السرد القصير جدا، ويقترب به من الخاطرة. وباستحضار هذا المعطى، فإن الكتابة السردية المركزة والمكثفة تبدو صعبة المنال إلا على من تمرس بهذه الكتابة النافرة والجامحة، ورفد تمرسه بكثرة القراءة وسعة الاطلاع. وإذا عدنا إلى “ومضات “، فإننا نجد مناط السرد في جميع نصوصها يتمحور على قوة فاعلة أساسية، مع الاقتصار على رصد حالة من حالاتها أو موقف معين، عبرهما يمرر الكاتب ما شاء من إيحاءات دلالية. وهذه القوة الفاعلة قد تكون بشرا، وذاك السائد في المجموعة. وقد تكون غيربشر كما هو الحال في نص (نُرَيْجسة)، ونص (برعم). والبطل المحوري في (ومضات) ليس دائما فردا. فقد يتجاذب البطولة في بعض نصوص المجموعة فردان على نفس المسافة من حيث أهميتهما في تحريك الصراع، كما في نص (مواجهة)، ونص (خصام). وقد يشترك في البطولة جماعة من الناس توحدوا في الموقف أو في المصير، كما في نص (اللوحة)، ونص (همهمات). إن البطل، كما يذهب إلى ذلك أحد الدارسين، هو “حاملٌ للحدث والفعل والكثيرِ من الأوصاف في القصة. وغيابه يعني تقليلا من قيمة القصة كفن. ويخطئ من يحاول الابتكار من خلال إلغائه البطولة… ومشكلة النماذج الجديدة أنها تغزل كثيرا على التكثيف حدّ الوقوع في إشكالية اللعب، وتجاوز القص إلى الافتعال. يأتي هذا من باب ابتداع الإيجاز كغاية، لا كوسيلة.”(*) وبكثير من الاطمئنان، نقول: إن محمد فري يعي جيدا هذه المسألة، ويعي معنى التكثيف في القصة الومضة، ووظيفته. لذلك فهو يتخذه وسيلة لا غاية. ولذلك يقوم التكثيف عنده على الإيحاء الذي يفتح مسارب الدلالة من غير أن يلغي البطولة، وليس على “التلغيز” الذي يقف حائلا دون الدلالة بعزفه على تنافر العلاقة بين الدوال والمدلولات، والذي يقلل من شأن البطولة في القصة، أو يلغيها. ومسألة أخرى، وليست أخيرة، جديرة بالاهتمام لكونها تؤشر منذ البدء على الانفتاح الدلالي، ومن خلال التكثيف. يتعلق الأمر بعناوين “ومضات”. أولا، لأن العناوين عتبات نصية لم توضع اعتباطا، وإنما هي نصوص موازية مبرمجة للقراءة. وثانيا لأن عناوين الومضات أول ما يثير القارئ ويشد انتباهه إلى احتمالات انفتاح الدلالة. فكل العناوين في “ومضات” جاءت في كلمة واحدة، باستثناء ستة عناوين. وباستثناء تسعة عناوين من هذه العناوين المضغوطة والمكثفة في كلمة واحدة، جاءت معرفة بــ (ال)، فإن باقي العناوين، وعددها خمسة وسبعون عنوانا، جاءت كلها نكرة: (عوز، أصوات، غباء، إصرار، قناعة، متاهة، أحلام، اغتيال، صيد، أجرة، مواجهة، برنامج، متاهة، مقابلة، خشب، تمثال… الخ)، الشئ الذي يوحي بالاستغراق في أبعاد الدلالة، بدل الاكتفاء بالنقل والإخبار. عناوين لنصوص قصصية مدهشة بمعمارها الفني الشديد التكثيف. نصوص تلمح ولا تصرح، توحي ولا تخبر، تشير إلى ما تضمرمن خلال تراكيب لغوية قصيرة سمتها الأناقة والتماسك، ووظيفتها إحداث حركية دلالية وتخييلة، تنفتح على احتمالات قرائية متعددة من غير أن تبتعد عن رهان الحكي المؤطر لمفارقات كثيرة (سياسية، اقتصادية، نفسية، ثقافية، اجتماعية…) وفي مراعاة كاملة للمنحى الجمالي. ولا أخال اني أجانب الصواب إذا قلت أن “ومضات” محمد فري بمواصفاتها السردية تستحق أن تكون نصوصا معيارية ومرجعية في السرد القصير جدا. وليس غريبا على أديب مبدع اجتمع فيه الشاعر والتشكيلي والكاتب أن يأتي بمثل هذا العمل. أديب مبدع مشهود له بتعدد المشارب والاهتمامات الثقافية، وبسعة المعرفة والاطلاع، وبعشقه الشديد للسرد القصير، والقصير جدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) طلعت سقيرس ــ البطل والقصة القصيرة جدا ــ مجلة الموقف الأدبي، ع 968، موقع اتحاد الكتاب العرب على شبكة الأنترنت.
ومن نافلة القول، أن نصوص المجموعة كلها تومض، وتُرسِل لمعانا يضيئ ما تعتم فيها، ليتلقى القارئ ما يكفي من الإشارات والتلميحات ترسم له مسارات الدلالة، فلا يتيه عن رهان النص. ومعلوم أن هناك من النقاد من يفرق بين القصة القصيرة جدا، والقصة الومضة. وهناك من يطلق على القصة القصيرة جدا أسماء أخرى، مثل: (القصة البرقية)، و(القصة الذرية)، و(القصة الكبسولة)، و(الأقصوصة القصيرة)، و(القصة المكثفة)، وما إلى ذلك من الأسماء. والحال، أن القصة الومضة عند محمد فري، هي القصة القصيرة جدا. على ذلك يؤشر التعيين في الغلاف، وبذلك تشهد نصوص المجموعة. وبذلك ينهي محمد فري الخلاف القائم حول التسمية، ليتفرغ إلى كتابة نصوص سردية قصيرة جدا، تلتزم في المقام الأول بالحد الأدنى مما وقع عليه الإجماع من خصائص وحدود، تميز القصة القصيرة جدا، أو القصة الومضة، عن غيرها من الأجناس السردية. ويكفي أن نؤكد على أن نصوص (ومضات) كلها تحتفي بأربع خصائص متفق عليها، مع مراعاة تامة لعنصر الحجم، وأقصد بها التركيز والتكثيف، والإيحاء، والمفارقة التصويرية، و الخاتمة المدهشة.. ولأن المجال لا يسمح بالتطرق إلى تمظهرات كل هذه الخصائص في نصوص المجموعة، سأكتفي بمحاولة تلمس خاصية (التركيز والتكثيف) لعلاقتها القوية التي لا يمكن إغفالها، بموضوع هذه الورقة المشار إليه في العنوان: (ضيق الحيز، وانفتاح الدلالة في “ومضات”. وبدهي أن تحقيق النص لكليته الدلالية والشكلية، من غير أن تخل الدلالة بالشكل، ومن غير أن يجني الشكل على الدلالة، وفي حيز ضيق جدا، لا يمكن أن يتحقق إلا باعتماد التركيز والتكثيف. فالقصة القصيرة جدا الناجحة تستدعي أول ما تستدعيه، التركيز على خطها الحكائي من غير أن تنزاح إلى استطرادات جانبية. أو تتوسع في عرض الفكرة بشكل يقصي المتلقي من المشاركة في إنتاج الدلالة. كما أن التركيز يسمح للكاتب برصد الحالات الإنسانية والوقائع الاجتماعية وغير الاجتماعية، بمهارة عالية ورؤية نافذة. وغني عن البيان، أن التكثيف هو الوجه الآخرللتركيز. ذلك أن التركيز لا يتحقق إلا في لغة مُقتصَد فيها. لغة تكتفي بالضروري من الكلمات، وتتحاشى الزوائد والحشو. وتجتنب الاستطراد، وتبتعد عن الترهل والإخلال.. لذلك فهي لا تشتغل كثيرا بالحدث. وإنما همها الأول أن تؤدي غرضها الفني داخل المتن الحكائي، ويستقبلها المتلقي بمتعة واندهاش معا. ولعلني لا أبالغ بالمرة، إذا قلت: إن ” ومضات ” محمد فري قد تحققت فيها خاصية التركيز والتكثيف بمهارة مدهشة، وبفنية عالية. يقول الكاتب في نص (عقارب). ص 12: ” تأملت عقربَي الساعة الحادّتين أفزعني جريُهما عندما أمسكت بهما قصد إيقافهما شعرت بجرح غائر بجسمي ينضاف إلى جروح سابقة. ” فهذا النص بلغته الموغلة في الإيجاز. والذي ركز على الذات في علاقتها بالزمن. وهي علاقة متناقضة يؤطرها صراع درامي، بين سيرورة الزمن التي لا ترحم، ورغبة الذات الواقعة تحت طائل هذه السيرورة في التخلص منها بلا جدوى. وبما أنه صراع بين طرفين نقيضين غير متكافئين، فإن النتيجة الحتمية لن تكون إلا تأزيمَ الذات أكثر مما هي مؤزمة بإضافة جرح غائر في الجسد على جروح سابقة.. إن هذا النص القصير جدا، الذي لا يصل عدد كلماته إلى عشرين كلمة، استطاع ــ على قصره ــ أن يفتح مصراعي المعنى على دلالات بأبعاد نفسية ووجودية وواقعية، يمكن للقارئ أن يتلمس ظلالها في النص، ومن غير أن تتنافر مع رهانه. وهذا الانفتاح الدلالي ما كان ليتسنى لهذا النص لولا اعتماده على لغة مجازية استعارية، قوية الإيحاء وشديدة التركيز والتكثيف. وتلك خاصية تشترك فيها كل نصوص المجموعة، بامتياز وتفوق. والملاحظة الأخرى التي لها علاقة ببراعة محمد فري في توظيف عنصري التركيز والتكثيف، ترتبط بما يمكن أن نسميه “محورية البطل”. ذلك أن الكاتب محمد فري على وعي تام بان تغييب البطل أو التقليل من دوره في بناء النص السردي وتفعيل ديناميته، من شأنه أن يبتعد بالنص من جنس السرد القصير جدا، ويقترب به من الخاطرة. وباستحضار هذا المعطى، فإن الكتابة السردية المركزة والمكثفة تبدو صعبة المنال إلا على من تمرس بهذه الكتابة النافرة والجامحة، ورفد تمرسه بكثرة القراءة وسعة الاطلاع. وإذا عدنا إلى “ومضات “، فإننا نجد مناط السرد في جميع نصوصها يتمحور على قوة فاعلة أساسية، مع الاقتصار على رصد حالة من حالاتها أو موقف معين، عبرهما يمرر الكاتب ما شاء من إيحاءات دلالية. وهذه القوة الفاعلة قد تكون بشرا، وذاك السائد في المجموعة. وقد تكون غيربشر كما هو الحال في نص (نُرَيْجسة)، ونص (برعم). والبطل المحوري في (ومضات) ليس دائما فردا. فقد يتجاذب البطولة في بعض نصوص المجموعة فردان على نفس المسافة من حيث أهميتهما في تحريك الصراع، كما في نص (مواجهة)، ونص (خصام). وقد يشترك في البطولة جماعة من الناس توحدوا في الموقف أو في المصير، كما في نص (اللوحة)، ونص (همهمات). إن البطل، كما يذهب إلى ذلك أحد الدارسين، هو “حاملٌ للحدث والفعل والكثيرِ من الأوصاف في القصة. وغيابه يعني تقليلا من قيمة القصة كفن. ويخطئ من يحاول الابتكار من خلال إلغائه البطولة… ومشكلة النماذج الجديدة أنها تغزل كثيرا على التكثيف حدّ الوقوع في إشكالية اللعب، وتجاوز القص إلى الافتعال. يأتي هذا من باب ابتداع الإيجاز كغاية، لا كوسيلة.”(*) وبكثير من الاطمئنان، نقول: إن محمد فري يعي جيدا هذه المسألة، ويعي معنى التكثيف في القصة الومضة، ووظيفته. لذلك فهو يتخذه وسيلة لا غاية. ولذلك يقوم التكثيف عنده على الإيحاء الذي يفتح مسارب الدلالة من غير أن يلغي البطولة، وليس على “التلغيز” الذي يقف حائلا دون الدلالة بعزفه على تنافر العلاقة بين الدوال والمدلولات، والذي يقلل من شأن البطولة في القصة، أو يلغيها. ومسألة أخرى، وليست أخيرة، جديرة بالاهتمام لكونها تؤشر منذ البدء على الانفتاح الدلالي، ومن خلال التكثيف. يتعلق الأمر بعناوين “ومضات”. أولا، لأن العناوين عتبات نصية لم توضع اعتباطا، وإنما هي نصوص موازية مبرمجة للقراءة. وثانيا لأن عناوين الومضات أول ما يثير القارئ ويشد انتباهه إلى احتمالات انفتاح الدلالة. فكل العناوين في “ومضات” جاءت في كلمة واحدة، باستثناء ستة عناوين. وباستثناء تسعة عناوين من هذه العناوين المضغوطة والمكثفة في كلمة واحدة، جاءت معرفة بــ (ال)، فإن باقي العناوين، وعددها خمسة وسبعون عنوانا، جاءت كلها نكرة: (عوز، أصوات، غباء، إصرار، قناعة، متاهة، أحلام، اغتيال، صيد، أجرة، مواجهة، برنامج، متاهة، مقابلة، خشب، تمثال… الخ)، الشئ الذي يوحي بالاستغراق في أبعاد الدلالة، بدل الاكتفاء بالنقل والإخبار. عناوين لنصوص قصصية مدهشة بمعمارها الفني الشديد التكثيف. نصوص تلمح ولا تصرح، توحي ولا تخبر، تشير إلى ما تضمرمن خلال تراكيب لغوية قصيرة سمتها الأناقة والتماسك، ووظيفتها إحداث حركية دلالية وتخييلة، تنفتح على احتمالات قرائية متعددة من غير أن تبتعد عن رهان الحكي المؤطر لمفارقات كثيرة (سياسية، اقتصادية، نفسية، ثقافية، اجتماعية…) وفي مراعاة كاملة للمنحى الجمالي. ولا أخال اني أجانب الصواب إذا قلت أن “ومضات” محمد فري بمواصفاتها السردية تستحق أن تكون نصوصا معيارية ومرجعية في السرد القصير جدا. وليس غريبا على أديب مبدع اجتمع فيه الشاعر والتشكيلي والكاتب أن يأتي بمثل هذا العمل. أديب مبدع مشهود له بتعدد المشارب والاهتمامات الثقافية، وبسعة المعرفة والاطلاع، وبعشقه الشديد للسرد القصير، والقصير جدا.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) طلعت سقيرس ــ البطل والقصة القصيرة جدا ــ مجلة الموقف الأدبي، ع 968، موقع اتحاد الكتاب العرب على شبكة الأنترنت.