تعريف الموشحات:
إذا قرأنا في الكتب التي تناولت الموشحات نبحث عن تعريف دقيق لفنها الجديد، فإننا سنجد في شرح مدلولها أقوالا مختلفة في تحديده وتخصيصه.
ففي (دار الطراز) (1)(إنها كلام منظوم على وزن مخصوص) وفي «تاريخ الفكر الأندلسي» (2)إنها (نظم تكون فيه القوافي اثنتين كما هو الحال في الوشاح) وفي «دائرة المعارف الإسلامية» (3) إنها (قصائد نظمن من أجل الغناء).
ولو صحت هذه التعريفات لأخرجنا كثيرا من الموشحات التي لا تسير على وزن خاص وإنما توافق الأوزان العربية القديمة، وكثيرا أيضا من الموشحات التي تتخذ فيها القافية أشكالا مختلفة، ولا دخلنا غير قليل من القصائد التي نظمت من أجل الغناء ولكنها ليست من التوشيح في شيء.
وقد تكون أقرب إلى الدقة والتحديد إذا قلنا أنها مصطلح على فن مستحدث من فنون الشعر لا يتقيد بالمنهج التقليدي الذي سارت عليه القصيدة العربية في وزنها وقافيتها، وإنما هو متحرر إلى حد بعيد من التزامه بتغير الوزن وتعدد القافية.
ولعل السر في اصطلاح الموشحات على هذا اللون من الشعر اشتقاقه من التوشيح بمعنى التنميق، أو من الوشاح أو الأوشاح وهو كما في القاموس «كرسان » من لؤلؤ وجوهر منظومان مخالف بينهما معطوف أحدهما على الأخر وأديم عريض يرضع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقها وكشحها».
وسواء كان السبب في تسميتها أنها موضوعة على شكل الوشاح أو أنها منمقة ومزينة، فالمعنى واحد في كلتا الحالتين هو التجميل والتصنيع.
الموشحات وقيود الشعر العربي:
ينقسم الموشح إلى أجزاء يمسى بعضها أقفالا ويسمى البعض الآخر أبياتا، فالإقفال «هي أجزاء مؤلفة مفردة أو مركبة يلزم كل بيت منها أن يكون متفقا مع بقية أبيات الموشح في وزنها وعدد أجزائها لا في قوافيها بل يحسن أن تكون قوافي كل بيت منها مخالفة لقوافي البيت الآخر» (4)ويسمى كل قسم في الأقفال والأبيات غصنا، ويطلق على البيت دور (5)وقد يشمله مع القفل الذي بعده (6).
والموشح أما تام وهو ما تكون من ستة أقفال وخمسة أبيات، وحينئذ يكون أوله قفلا يسمونه المذهب أو المطلع، لا تقل أغصانه عن أثنين قد تتفق قافيتها وقد تختلف، وأما أقرع وهو ما تكون من خمسة أقفال وخمسة أبيات وحينئذ يكون أوله بيتا.
وإذا كان القفل الأول من الموشح غير أساسي فيه حيث يوجد ولا يوجد فالقفل الأخير ويسمونه الخرجة من الأركان التي لا يتم بدونها، وهي كما عند أبن سناء الملك «أبزار الموشح وملحه وسكره ومسكه وعنبره»، واشترطوا في الخرجة أن تشتمل على شيء من الفكاهة والمجون والسخف وأن تكون ألفاظها ملحونة غير معربة إلا إذا كانت بيت شعر مضمنا أو كانت مستعارة من موشحة أخرى، وإلا إذا كانت ألفاظها غزلا جدا أو كان موضوعها مدحا وذكر فيها أسم الممدوح، واستحسنوا إلى جانب هذا أن تكون باللفظ العامي أو العجمي كما في بعض الخرجات الأندلسية التي وردت بالرومانية، وكما فعل أبن سناء الملك فقد جاءت بعض خرجاته بالفارسية وأن تكون قولا أو غناء يورده الوشاح على لسانه أو لسان غيره من الناس والحيوان يقدم له في الدور السابق على الخرجة بلفظ يتضمن معنى القول أو الغناء كقلت وغنت وغيرهما مما يمهد به، وربما جاء أغلب الخرجات محكيا على لسان فتاة تبدي حبها لصاحبها وتتغزل فيه.
أما من ناحية الوزن فمن الموشحات ما ورد على الأوزان القديمة كالرجز والمديد والخفيف والهزج والتسريع والمتقارب والبسيط والرمل في أغلب الأحيان، ولعلها في مرحلتها الأولى وقبل أن تتطور كانت تنظم على هذه الأوزان وغيرها من البحور التي تقاس بها القصيدة العربية.
ومنها ما ورد على أوزان جديدة ومع ذلك فهي كما لاحظ أبن سناء الملك مما «يدركه السمع ويعرفه الذوق كما يعرف أوزان الشعر ولا يحتاج فيها إلى وزنها يميزان العروض».
ومنها ما تنوعت أوزانه فجاءت بعض أجزائه على بحر قديم والأجزاء الأخرى على أوزان جديدة.
ومنها ما ورد على الأوزان المألوفة يعمد الوشاح إلى كسرها كان يلتزم حرفا على حركة معينة أو يقحم كلمة مما يخرج الوزن عما هو معروف، ومنها إلى جانب هذا ما لا يسير على البحور القديمة ولكنه «مضطرب الوزن مهلهل النسج مفكك النظم لا يحس الذوق صحته من سقمه ولا دخوله من خروجه.. وما كان من هذا النمط فما يعلم صالحه من فاسده إلا يميزان التلحين فإن منه ما يشهد الذوق بزحافه بل بكسرة فيجير التلحين كسره ويشفي سقمه ويرده صحيحا ما به قلبه وساكنا لا تضطرب فيه كلمة» (7).
وقد حاول الوشاح الأندلسي الشهير بأعمى طليطلة أن يحصر أوزان الموشحات فجمع منها مائة وستة وأربعين يمكن إرجاعها كلها إلى بحور الخليل (8) ولكنه لم يستطع استقصاء جميع الأوزان التي نظمت بها.
وأما من ناحية القافية فقد سبق أن قلنا أنها تختلف في الأبيات وتتفق في الإقفال التي هي كاللازمة تعيد على السمع نفس الإيقاع. وهذه موشحة لأعمى طليطلة نوردها نموذجا لهذا الفن قال:
غصن غصن
قفل: ضاحك عن جمان سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان وحواه صدري
(مذهب أو مطلع)
آه مما أحد / شفني مما أجد
بيت قام به وقعد / باطن متئد
كلما قلت قد / قال لي أبن قد
قفل: وانثني خوط بأن، ذا فن نضر
عابثته بدان للصبا والقطر
ليس لي منك بد / خذ فؤادي عن يد
بيت لم تدع لي جلـد / غير أني أجهــد
مكرع من شهد / واشتياقي يشهـد
قفل: ما لبنت الدنان، ولذاك الثغر
أبن محيا الزمان من حميا الخمر
بي هو مضمر / ليت جهدي وفقه
بيت كلما يظهـر / ففؤادي أفقــه
ذلك المنظـر / لا يداوي عشقه
قفل : بابي كيف كان، فلكن دري
راق حتى استبان، عذره وعذري
هل إليك سبيل / أو إلى أن أيأسا
بيت ذبت إلا قليل / عبرة أو نفسا
ما عسى أن أقول / ساء ظني فعسى
قفل: وانقضى كل شأن، وأنا استشري
خالعا من عنان، جزعي وصبري
ما على مـن يلوم / لو تناهي عني
بيت هل سوى حب ريم / دينه التجني
أنا فيه أهيــــم / وهو بي يغني
قفل: قد رايتك عيان، لي عليك ساتدري
سايطول الزمان وستنسى ذكري
خرجه
الموشحات وموضوعات الشعر العربي:
يبدوا أن الموضوعات التي عالجها الموشحون كانت في أول الأمر غنائية تعني بوصف المرأة والطبيعة والخمر وغير ذلك من مواطن الجمال ينطلق الموشح في أجوائها المنتشرة في رحاب الأندلس وقد بسط فيها الجمال بسطا سرعان ما يجذب النفوس إليه فتنفعل وتنفجر.
ولكنهم لم يلبثوا وخاصة في العهد المرابطي أن استغلوها في مدح الملوك والأمراء سعيا وراء الشهرة والعطاء يستهلونها بمقدمة غنائية ربما لجئوا إليها لأنها كانت تغني في حضرة الممدوح، فقد ذكر أبن خلدون أن أبن باجة ألقى على بعض قيناته موشحة يمدح بها أبن تيفلويت صاحب سرقسطة مطلعها.
جرر الذيل أيما جر وصل الشكر منا بالشكر
وما أن انتهت القينة من خرجتها التي تقول فيها
عقد الله راية النصر لا مير العلي أبي بكر
حتى صاح أبن تيلفويت (واضرباه) وشق ثيابه وقال: (ما أحسن ما بدأت وختمت)، وليس بعيدا أن يكون الموشحون قد لجأوا إلى هذه المقدمات ليعبروا عن شخصيتهم في حديث ذاتي يخلون فيه إلى أنفسهم قبل أن يجرفهم حديث الممدوح، شأنهم في ذلك كشأن الشعراء الذين يستهلون قصائدهم بمقدمات غزلية، لعلها كانت منوالا نسج الوشاحون عليه.
ومثل المدح موضوعات أخرى شديدة الصلة به كالمدائح النبوية التي لمع فيها نجم أبن الصباغ الجذامي، وكأدب المناسبات من تهاني ووصف القصور وغير ذلك مما نجد له أمثلة في (نفح الطيب) و (أزهار الرياض) كذلك كان التصوف من الموضوعات التي نظم بها الموشحون وخاصة محبي الدين بن عربي (10) وأبو الحسن الششتري (11) ضمنوها كثيرا من رموز الصوفية ومصطلحاتهم.
وأكثر من التصوف كان الزهد موضوعا عالجه الموشحون لم يبعدوا في مضمونه عما في زهديات الأدب العربي من ذم للدنيا ومتاعها وذكر للموت والدار الآخرة وغير ذلك مما نجده في موشحات شمس الدين الواسطي وأبن عبد ربه وأبن الصباغ الجذامي.
وعند ابن سناء الملك أن (ما كان منها في الزهد يقال له المكفر والرسم في المكفر خاصة أن لا يعمل إلا على وزن موشح معروف وقوافي أقفال، ويختم بخرجة ذلك الموشح ليدل على أنه مكفره ومستقبل ربه من شاعرة و مستغفره).
ويظهر أن هذا الذي ذكره أبن سناء الملك لا ينطق إلا على نوع خاص من موشحات الزهد كالتي يقول أبن الصباغ في أولها:
وربعهم ما أشكلا بكل رسم طاسم عنوان
رسوم ظاهر البلي منها لكل حازم تبيان
وفي خرجتها
أن جئت أرض سلا تلقاك بالمكارم فتيان
هم سطور العلا ويوسف بن القاسم عنوان
وهب خرجة لموشح أبن بقي في مدح يوسف بن القاسم قاضي سلا (12).
وكما عالجوا فن المدح عالجوا فن الهجاء فذكروا فيه المساوئ ويعددون العيوب لدرجة قد تصل أحيانا
إلى الفحش، وفي كتاب (المغرب) أورد أبن سعيد كثيرا من موشحات ابن مزمون في هذا الميدان كالتي يهجو فيها القسطلي والتي ذكر له منها قوله:
تخونك العينان يا أيها القاضي فتظلم
لا تعرف الإشهاد ولا الذي يسطر ويرقم
وإذا كان ابن مزمون قد برع في الهجاء لدرجة الإسفاف أحيانا فهو قد برع كذلك في الرثاء الذي لم يعجز الموشحون عن طرق موضوع، فقد أورد له كتاب (المغرب) (13) مرثية في أبي الحملات قائد الأعنة ببلنسية وقد قتله النصارى بقول في مطلعها:
يا عين بكي السراج إلا زهرا النيرا اللامع
وكان نعم الرتاج فكسرا كي تنشرا مدامع
وفي خرجتها:
يا قلبي المهتاج تصبرا زان الثرى مدافع
ابن أبي الحجاج فهل ترى لما جرى مدافع
وأذن فموضوعات القصيدة العربية ومعانيها هي نفس الموضوعات والمعاني التي عالجها أصحاب فن التوشيح، يقول ابن سناء الملك: (والموشحات يعمل فيها ما يعمل في أنواع الشعر من الغزل والمدح والرثاء والهجو والمجون والزهد)، وربما قصر الموشحون فنهم في العصور المتأخرة على موضوعات اللهو والمجون وكل ما يتصل بالهزل دون موضوعات الجد كالمدح والرثاء.
نشأة الموشحات:
اتفق المؤرخون لفن التوشيح على أن نشأته كانت في أواخر القرن الثالث الهجري واختلفوا في تحديد لبيئة التي نشأ فيها فجعلها بعضهم بلاد المشرق وجعلها البعض الآخر بلاد الأندلس.
أما الذين يعزون نشأتها إلى المشرق وعلى رأسهم المرحوم كامل كيلاني فينسبونها إلى أبن المعتز معتمدين على ورود هذه الموشحة في ديوانه:
أيها الساقي إليك المشتكي
قد دعوناك وأن لم تسمع
ونديم همست في غرته
وشربت الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق إليه واتكا
وسقاني أربعا في أربع
ما لعيني شقيت بالنظر
أنكرت بعدك ضوء القمر
وإذا كا شئت فاسمع خبري
شقيت عيناي من طول البكا
وبكى بعضي على بعضي معي
غصن بان من حيث استوي
بات من يهواه من فرط الجوى
خافق الأحشاء من هون القوى
كلما فكر في البين بكى
ويحه يبكي لما لم يقع
ليس لي صبرا ولا لي جلد
وما لقومي عذلوا واجتهدوا
أنكروا شكواي مما أجد
مثل حالي حقها أن تشتكي
كد اليأس وذل الطمع
كبد حرى ودمع يكف
يعرف الذنب ولا يعترف
أيها المعرض عما أصف
قد نما حبك عندي وزكا
لا تقل في الحب أني مدعى
والواقع أنه ليس هذا الرأي ما يثبته، إذ ليس مجرد ورود هذه الموشحة، التي بقي غامضا أمر تسربها إلى ديوان أبن المعتز دليلا على أنها له في حين أنها لشاعر أندلسي هو الطبيب أبو بكر بن زهر الشهير بالحفيد نسبها له كل من ياقوت وأبن سعيد و أبن الخطيب وأبن دحية وأبن أبي أصبيعة وابن سناء الملك حيث وضعها ضمن الموشحات الأندلسية من غير أن ينسبها لابن زهر، وليس هذا ترددا منه في نسبتها له فطريقة أبن سناء أنه لا يذكر أسم أصحاب الموشحات، ولعل النظر في أسلوب هذه الموشحة ومقارنتها بغيرها من منظومات أبن زهر في هذا الفن يؤكد نسبتها إليه، ولو كان أبن المعتز صاحبها لوصلتنا منه نماذج أخرى غيرها ولقلده فيها غيره من شعراء المشرق، أكثر من هذا أن المؤرخين لهذا الفن سواء منهم المغاربة أو المشارقة أجمعوا على أنها من مبتكرة الأندلس، ففي (أزهار الرياض) (14) أن ابن خاتمة (15) قال في حديثه عن الموشحات: (وهذه الطريقة من مخترعات أهل الأندلس ومبتدعاتهم الآخذة بالأنفس، هم الذين نهجوا سبيلها ووضعوا محصولها)، وفي (المطرب) أنها (زبدة الشعر وخلاصة جوهره وصفوته، وهي من الفنون التي أغرب بها أهل المغرب على أهل المشرق وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق) وفي مقدمة أبن خلدون (16) أن هذا الفن (استحدثه المتأخرون من أهل الأندلس) وفي «دار الطراز» (17)(مما ترك الأول للأخر وسبق بها المتقدم المتأخر وأجلب بها أهل المغرب على أهل المشرق) وفي خلاصة الأثر والذخيرة ونفح الطيب كلام يشبه هذا الذي ذكرنا يعزو أصحابه للأندلس اختراع هذا الفن، وهذا هو الرأي الثاني في نشأة الموشحات، وقد أختلف القائلون به في أول من سبق إلى نظمها، هل هو مقدم بن معافي القبري أخذها عنه أبو عبد الله أبن عبد ربه كما عند المقري (18) وأبن خلدون (19)؟ أو هل هو بان عبد ربه كما عند أبن سعيد (20)؟ وإذا كان هل هو ابن عبد ربه صاحب العقد المكني بأبي عمرة أم أحد أحفاده؟ أو هل هو محمد بن حمود القبري الضرير كما عند أبن بسام الذي بقي مترددا بين نسبتها له أو لأبن عبد ربه؟
الحق أننا أمام هذه الخلافات لا نستطيع أن نبث في رأي خاصة وأننا لا نملك نماذج لا من موشحات مقدم ولا بان حمود الذي لا يعرف حتى عصره، الذي عاش فيه وأغلب الظن أن مقدما هو نفسه أبن حمود كما أننا نستبعد أن يكون أبو عبد الله محمد بن عبد ربه حفيد صاحب العقد هو أول من نظمها لسبب بسيط وهو أنه متأخر عن عصر نشأتها فقد ذكر المراكشي في (المعجب) أنه رحل إلى مصر ولقي فيها ابن سناء الملك، وكل ما يمكن أن نقول هو أن من أول البارعين في فن الموشحات أحمد بن عبد ربه ويوسف أبن هرون الرمادي وعبادة بن ماء السماء وأبن عبادة القزاز.
ولعل أهم من هذا كله معرفة الأسباب التي أدت إلى اختراع هذا الفن والأسس التي قام عليها في نشأته وتطروه، يقول بن خلدون: (وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا سموه الموشح) (21).
وينكر هذا القول الدكتور مصطفى عوض (22) ويرى أن الذين اخترعوا الموشحات ليسوا ممن يصح أن يطلق عليهم كلمة المتأخرين، فأبن عبد ربه ونظراؤه من قدامى شعراء الأندلس عاشوا بها قبل أن يبلغ الشعر الأندلسي درجة كبيرة من التنميق وتهذيب المناحي والفنون ويرى كذلك أن الشعر المشرقي قد بلغ درجة من التنميق لم يصلها الشعر الأندلسي في أي عصر من عصوره ومع ذلك فإن المشارقة لم يخترعوا الموشحات واعترفوا بعجزهم عن تقليدها.
وحاول المستشرق نيكل إرجاع الموشحات إلى أصل عربي فزعم أنها تقليد لمقطوعات أبي نواس وضعت أبياتها في ترتيب مغاير، وحاول مثله المستشرقان الألمانيان هارتمان وفرايتاخ فزعما أنها امتداد للمسمطات التي كان شعراء المشرق ينظمونها، وإلى هذا الرأي يذهب الدكتور شوقي ضيف حين يقول (23): (ونردها إلى تطور في المسمطات والمخمسات التي عرفت منذ عصر أبي نواس في القرن الثاني الهجري وإلى ما نزع إليه بعض الشعراء العباسيين من نظم الشعر على أوزان جديدة غير أوزان الخليل المتبعة على نحو ما نعرف عن أبي العتاهية ورزين العروضي معاصره).
ولو صح هذا الرأي لكان المشارقة أولى بهذا التطوير ولسبقوا إليه ولفاقوا الأندلسيين في نظم الموشحات أو لسايروهم على الأقل في غير تكلف، ويزيد في ضعف هذا الرأي أنه لم يعرف عن شعراء الأندلس أنهم كانوا ينظمون المسمطات أو ما يشبهها، وحتى إذا كانوا قد مارسوا هذا اللون فإنه لم يصلنا منه شيء.
وعلى عكس هؤلاء فإن بطرس البستاني يرى إرجاعها إلى أصل فرنسي ويزعم أن العرب تأثروا بالمنشدين الفرنسيين المعروفين بالجونكلور Les jongleurs ثم بالطروبادور Les troubadours البروفانسيين الذين كانوا يتجولون في فرنسا في القرن العاشر فما بعده، وهذا رأي يخالف ما ذهب إليه أغلب الباحثين الأوربيين وخاصة المستشرق كليمان هوارت من أن عرب الأندلس كانوا أساتذة التروبدور في فن القوافي والأوزان الشعرية.
ويذهب المستشرق الإسباني ميلاس فلكروزا Millas Villicrosa المتخصص في الدراسات العبرية بالبزمون Pizmon والتسبيحات اللاتينية التي يرددها المصلون عقب كل فقرة من فقرات الترتيل الديني كانت الأصل الذي استوحاه مخترع الموشحات واستبعد الدكتور أحمد هيكل (24) أن يتأثر المسلمون الأندلسيون بشيء متصل بالدين لما عرف عنهم من تعصب شديد ونفرة واضحة مما يشوب العقيدة حتى لقد كانوا ينفرون من الفلسفة بل من المذاهب الفقهية المخالفة لمذهبهم فكيف يعقل أن يتأثروا ببعض الأناشيد اليهودية الدينية.
ويرى فؤاد رجائي (إن اختراع الموشحات كان أثرا من آثار زرياب) (25) وأن هناك شيئين جوهريين نقلهما زرياب من المشرق هما طريقة تطبيق الإيقاع الغنائي على الإيقاع الشعري، وطريقة الغناء على أصول النوبة الغنائية)، ويعتقد أن هاتين الطريقتين هما اللتان أوحتا إلى الشعراء والمغنيين الذين أتوا بعد زرياب باختراع الموشحات) (26).
ولو تأملنا هذا القول لوجدنا فيه ما يرد به عليه فهو يذهب إلى أن المصدر الذي استوحاه الشعراء في ابتكار الموشحات مستورد من المشرق حمله زرياب البغدادي معه، وإذن فلماذا لم يظهر هذا الفن في المشرق؟ ولماذا لم يسرع المشارقة إلى نظمه؟ ولماذا جاءت موشحاتهم متكلفة لم يستطيعوا بها مجاراة موشحات الأندلس؟ أما غير هؤلاء من الباحثين فيذهبون إلى القول بأن فن التوشيح إنما هو تقليد لشعر غنائي ولكنهم مختلفون في نوع هذا الشعر.
فالمستشرق الإسباني خليان ريبيرا يذهب إلى أنه شعر الأغنيات الرومانية (27) ولكنا لا نستطيع إقرار هذا الرأي أو تفنيده ما دام التاريخ لم يحتفظ لنا بنماذج من هذه الأغنيات وأن كنا لا ننكر أن المسلمين في الأندلس كانوا يستعملون اللهجة الرومانية في شؤونهم العادية وفي معاملاتهم مع الإسبان.
كذلك ذهب هذا المستشرق إلى افتراض آخر هو أن هذا الغناء الذي استوحاه الوشاحون جليقي وحجته أن النساء الجليقيات كن يعملن في البيوت الأندلسية مربيات للأطفال ومغنيات في الحفلات ولكنا لنفس السبب الذي استبعدنا به رأيه السابق نستبعد هذا الرأي كذلك، والراجع عندنا ما ذهب إليه الدكتور الأهواني (28) من أن الأصل في فن الموشحات هو الأغنية الشعبية التي ظهرت في البيئة الأندلسية منذ عهودها القديمة والتي لا شك أنها كانت تمتزج في نظمها لغة الأندلسيين العربية بلهجة الإسبان الرومانية.
(1) لأبن سناء الملك ص 25.
(2) للمستشرق الإسباني بالنثيا ص 142. 4)
(3) لدى مادة موشح.
(4) دار الطراز تحت عنوان: حد الموشح.
(5) كما عند الأشبيهي في المستطرف ج 2 ص 237.
(6) كما عند أبن سناء الملك.
(7) أبن سناء الملك.
(8) دائرة المعارف الإسلامية.
(9)توفي سنة 638هـ.
(10) توفي سنة 668هـ.
(11) كما في الجزء الثاني من النفح.
(12) ص 217 ج 2.
(13) ج 2 ص 123.
(14) صاحب كتاب (مزية المرية)
(15) ص 186.
(16) ص 583.
(17) ص 23.
(18) ج 2 ص 253 من أزهار الرياض.
(19) ص 265 مع تحريف في بعض الطبقات حيث ورد أسم مقدم بن معافر الضريري.
(20) في الغرب وقد نقل عنه السيوطي في وسائل مسامرة الاوائل.
(21) المقدمة ص 583.
(22) في كتاب (فن التوشيح) ص 99.
(23) في مقدمته لكتاب (فن التوشيح ص 8).
(24)في كتابه (أدب الأندلس ص 156).
(25)في كتابه (الموشحات الأندلسية) ص 47 سلسلة من كنوزنا.
(26) نفس المصدر السابق ص 98.
(27) الرومان De roman يطلق على مجموعة اللهجات المتفرعة عن اللاتينية والتي كان يتكلمها معظم سكان أروبا في العصر الوسيط.
(28) الزجل في الأندلس ص2.
دعوة الحق ع/ 44
[SIZE=18px] دعوة الحق - الموشحات -1- [/SIZE]
تعريف الموشحات: إذا قرأنا في الكتب التي تناولت الموشحات نبحث عن تعريف دقيق لفنها الجديد، فإننا سنجد في شرح مدلولها أقوالا مختلفة في تحديده وتخصيصه.فف...
www.habous.gov.ma
إذا قرأنا في الكتب التي تناولت الموشحات نبحث عن تعريف دقيق لفنها الجديد، فإننا سنجد في شرح مدلولها أقوالا مختلفة في تحديده وتخصيصه.
ففي (دار الطراز) (1)(إنها كلام منظوم على وزن مخصوص) وفي «تاريخ الفكر الأندلسي» (2)إنها (نظم تكون فيه القوافي اثنتين كما هو الحال في الوشاح) وفي «دائرة المعارف الإسلامية» (3) إنها (قصائد نظمن من أجل الغناء).
ولو صحت هذه التعريفات لأخرجنا كثيرا من الموشحات التي لا تسير على وزن خاص وإنما توافق الأوزان العربية القديمة، وكثيرا أيضا من الموشحات التي تتخذ فيها القافية أشكالا مختلفة، ولا دخلنا غير قليل من القصائد التي نظمت من أجل الغناء ولكنها ليست من التوشيح في شيء.
وقد تكون أقرب إلى الدقة والتحديد إذا قلنا أنها مصطلح على فن مستحدث من فنون الشعر لا يتقيد بالمنهج التقليدي الذي سارت عليه القصيدة العربية في وزنها وقافيتها، وإنما هو متحرر إلى حد بعيد من التزامه بتغير الوزن وتعدد القافية.
ولعل السر في اصطلاح الموشحات على هذا اللون من الشعر اشتقاقه من التوشيح بمعنى التنميق، أو من الوشاح أو الأوشاح وهو كما في القاموس «كرسان » من لؤلؤ وجوهر منظومان مخالف بينهما معطوف أحدهما على الأخر وأديم عريض يرضع بالجوهر تشده المرأة بين عاتقها وكشحها».
وسواء كان السبب في تسميتها أنها موضوعة على شكل الوشاح أو أنها منمقة ومزينة، فالمعنى واحد في كلتا الحالتين هو التجميل والتصنيع.
الموشحات وقيود الشعر العربي:
ينقسم الموشح إلى أجزاء يمسى بعضها أقفالا ويسمى البعض الآخر أبياتا، فالإقفال «هي أجزاء مؤلفة مفردة أو مركبة يلزم كل بيت منها أن يكون متفقا مع بقية أبيات الموشح في وزنها وعدد أجزائها لا في قوافيها بل يحسن أن تكون قوافي كل بيت منها مخالفة لقوافي البيت الآخر» (4)ويسمى كل قسم في الأقفال والأبيات غصنا، ويطلق على البيت دور (5)وقد يشمله مع القفل الذي بعده (6).
والموشح أما تام وهو ما تكون من ستة أقفال وخمسة أبيات، وحينئذ يكون أوله قفلا يسمونه المذهب أو المطلع، لا تقل أغصانه عن أثنين قد تتفق قافيتها وقد تختلف، وأما أقرع وهو ما تكون من خمسة أقفال وخمسة أبيات وحينئذ يكون أوله بيتا.
وإذا كان القفل الأول من الموشح غير أساسي فيه حيث يوجد ولا يوجد فالقفل الأخير ويسمونه الخرجة من الأركان التي لا يتم بدونها، وهي كما عند أبن سناء الملك «أبزار الموشح وملحه وسكره ومسكه وعنبره»، واشترطوا في الخرجة أن تشتمل على شيء من الفكاهة والمجون والسخف وأن تكون ألفاظها ملحونة غير معربة إلا إذا كانت بيت شعر مضمنا أو كانت مستعارة من موشحة أخرى، وإلا إذا كانت ألفاظها غزلا جدا أو كان موضوعها مدحا وذكر فيها أسم الممدوح، واستحسنوا إلى جانب هذا أن تكون باللفظ العامي أو العجمي كما في بعض الخرجات الأندلسية التي وردت بالرومانية، وكما فعل أبن سناء الملك فقد جاءت بعض خرجاته بالفارسية وأن تكون قولا أو غناء يورده الوشاح على لسانه أو لسان غيره من الناس والحيوان يقدم له في الدور السابق على الخرجة بلفظ يتضمن معنى القول أو الغناء كقلت وغنت وغيرهما مما يمهد به، وربما جاء أغلب الخرجات محكيا على لسان فتاة تبدي حبها لصاحبها وتتغزل فيه.
أما من ناحية الوزن فمن الموشحات ما ورد على الأوزان القديمة كالرجز والمديد والخفيف والهزج والتسريع والمتقارب والبسيط والرمل في أغلب الأحيان، ولعلها في مرحلتها الأولى وقبل أن تتطور كانت تنظم على هذه الأوزان وغيرها من البحور التي تقاس بها القصيدة العربية.
ومنها ما ورد على أوزان جديدة ومع ذلك فهي كما لاحظ أبن سناء الملك مما «يدركه السمع ويعرفه الذوق كما يعرف أوزان الشعر ولا يحتاج فيها إلى وزنها يميزان العروض».
ومنها ما تنوعت أوزانه فجاءت بعض أجزائه على بحر قديم والأجزاء الأخرى على أوزان جديدة.
ومنها ما ورد على الأوزان المألوفة يعمد الوشاح إلى كسرها كان يلتزم حرفا على حركة معينة أو يقحم كلمة مما يخرج الوزن عما هو معروف، ومنها إلى جانب هذا ما لا يسير على البحور القديمة ولكنه «مضطرب الوزن مهلهل النسج مفكك النظم لا يحس الذوق صحته من سقمه ولا دخوله من خروجه.. وما كان من هذا النمط فما يعلم صالحه من فاسده إلا يميزان التلحين فإن منه ما يشهد الذوق بزحافه بل بكسرة فيجير التلحين كسره ويشفي سقمه ويرده صحيحا ما به قلبه وساكنا لا تضطرب فيه كلمة» (7).
وقد حاول الوشاح الأندلسي الشهير بأعمى طليطلة أن يحصر أوزان الموشحات فجمع منها مائة وستة وأربعين يمكن إرجاعها كلها إلى بحور الخليل (8) ولكنه لم يستطع استقصاء جميع الأوزان التي نظمت بها.
وأما من ناحية القافية فقد سبق أن قلنا أنها تختلف في الأبيات وتتفق في الإقفال التي هي كاللازمة تعيد على السمع نفس الإيقاع. وهذه موشحة لأعمى طليطلة نوردها نموذجا لهذا الفن قال:
غصن غصن
قفل: ضاحك عن جمان سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان وحواه صدري
(مذهب أو مطلع)
آه مما أحد / شفني مما أجد
بيت قام به وقعد / باطن متئد
كلما قلت قد / قال لي أبن قد
قفل: وانثني خوط بأن، ذا فن نضر
عابثته بدان للصبا والقطر
ليس لي منك بد / خذ فؤادي عن يد
بيت لم تدع لي جلـد / غير أني أجهــد
مكرع من شهد / واشتياقي يشهـد
قفل: ما لبنت الدنان، ولذاك الثغر
أبن محيا الزمان من حميا الخمر
بي هو مضمر / ليت جهدي وفقه
بيت كلما يظهـر / ففؤادي أفقــه
ذلك المنظـر / لا يداوي عشقه
قفل : بابي كيف كان، فلكن دري
راق حتى استبان، عذره وعذري
هل إليك سبيل / أو إلى أن أيأسا
بيت ذبت إلا قليل / عبرة أو نفسا
ما عسى أن أقول / ساء ظني فعسى
قفل: وانقضى كل شأن، وأنا استشري
خالعا من عنان، جزعي وصبري
ما على مـن يلوم / لو تناهي عني
بيت هل سوى حب ريم / دينه التجني
أنا فيه أهيــــم / وهو بي يغني
قفل: قد رايتك عيان، لي عليك ساتدري
سايطول الزمان وستنسى ذكري
خرجه
الموشحات وموضوعات الشعر العربي:
يبدوا أن الموضوعات التي عالجها الموشحون كانت في أول الأمر غنائية تعني بوصف المرأة والطبيعة والخمر وغير ذلك من مواطن الجمال ينطلق الموشح في أجوائها المنتشرة في رحاب الأندلس وقد بسط فيها الجمال بسطا سرعان ما يجذب النفوس إليه فتنفعل وتنفجر.
ولكنهم لم يلبثوا وخاصة في العهد المرابطي أن استغلوها في مدح الملوك والأمراء سعيا وراء الشهرة والعطاء يستهلونها بمقدمة غنائية ربما لجئوا إليها لأنها كانت تغني في حضرة الممدوح، فقد ذكر أبن خلدون أن أبن باجة ألقى على بعض قيناته موشحة يمدح بها أبن تيفلويت صاحب سرقسطة مطلعها.
جرر الذيل أيما جر وصل الشكر منا بالشكر
وما أن انتهت القينة من خرجتها التي تقول فيها
عقد الله راية النصر لا مير العلي أبي بكر
حتى صاح أبن تيلفويت (واضرباه) وشق ثيابه وقال: (ما أحسن ما بدأت وختمت)، وليس بعيدا أن يكون الموشحون قد لجأوا إلى هذه المقدمات ليعبروا عن شخصيتهم في حديث ذاتي يخلون فيه إلى أنفسهم قبل أن يجرفهم حديث الممدوح، شأنهم في ذلك كشأن الشعراء الذين يستهلون قصائدهم بمقدمات غزلية، لعلها كانت منوالا نسج الوشاحون عليه.
ومثل المدح موضوعات أخرى شديدة الصلة به كالمدائح النبوية التي لمع فيها نجم أبن الصباغ الجذامي، وكأدب المناسبات من تهاني ووصف القصور وغير ذلك مما نجد له أمثلة في (نفح الطيب) و (أزهار الرياض) كذلك كان التصوف من الموضوعات التي نظم بها الموشحون وخاصة محبي الدين بن عربي (10) وأبو الحسن الششتري (11) ضمنوها كثيرا من رموز الصوفية ومصطلحاتهم.
وأكثر من التصوف كان الزهد موضوعا عالجه الموشحون لم يبعدوا في مضمونه عما في زهديات الأدب العربي من ذم للدنيا ومتاعها وذكر للموت والدار الآخرة وغير ذلك مما نجده في موشحات شمس الدين الواسطي وأبن عبد ربه وأبن الصباغ الجذامي.
وعند ابن سناء الملك أن (ما كان منها في الزهد يقال له المكفر والرسم في المكفر خاصة أن لا يعمل إلا على وزن موشح معروف وقوافي أقفال، ويختم بخرجة ذلك الموشح ليدل على أنه مكفره ومستقبل ربه من شاعرة و مستغفره).
ويظهر أن هذا الذي ذكره أبن سناء الملك لا ينطق إلا على نوع خاص من موشحات الزهد كالتي يقول أبن الصباغ في أولها:
وربعهم ما أشكلا بكل رسم طاسم عنوان
رسوم ظاهر البلي منها لكل حازم تبيان
وفي خرجتها
أن جئت أرض سلا تلقاك بالمكارم فتيان
هم سطور العلا ويوسف بن القاسم عنوان
وهب خرجة لموشح أبن بقي في مدح يوسف بن القاسم قاضي سلا (12).
وكما عالجوا فن المدح عالجوا فن الهجاء فذكروا فيه المساوئ ويعددون العيوب لدرجة قد تصل أحيانا
إلى الفحش، وفي كتاب (المغرب) أورد أبن سعيد كثيرا من موشحات ابن مزمون في هذا الميدان كالتي يهجو فيها القسطلي والتي ذكر له منها قوله:
تخونك العينان يا أيها القاضي فتظلم
لا تعرف الإشهاد ولا الذي يسطر ويرقم
وإذا كان ابن مزمون قد برع في الهجاء لدرجة الإسفاف أحيانا فهو قد برع كذلك في الرثاء الذي لم يعجز الموشحون عن طرق موضوع، فقد أورد له كتاب (المغرب) (13) مرثية في أبي الحملات قائد الأعنة ببلنسية وقد قتله النصارى بقول في مطلعها:
يا عين بكي السراج إلا زهرا النيرا اللامع
وكان نعم الرتاج فكسرا كي تنشرا مدامع
وفي خرجتها:
يا قلبي المهتاج تصبرا زان الثرى مدافع
ابن أبي الحجاج فهل ترى لما جرى مدافع
وأذن فموضوعات القصيدة العربية ومعانيها هي نفس الموضوعات والمعاني التي عالجها أصحاب فن التوشيح، يقول ابن سناء الملك: (والموشحات يعمل فيها ما يعمل في أنواع الشعر من الغزل والمدح والرثاء والهجو والمجون والزهد)، وربما قصر الموشحون فنهم في العصور المتأخرة على موضوعات اللهو والمجون وكل ما يتصل بالهزل دون موضوعات الجد كالمدح والرثاء.
نشأة الموشحات:
اتفق المؤرخون لفن التوشيح على أن نشأته كانت في أواخر القرن الثالث الهجري واختلفوا في تحديد لبيئة التي نشأ فيها فجعلها بعضهم بلاد المشرق وجعلها البعض الآخر بلاد الأندلس.
أما الذين يعزون نشأتها إلى المشرق وعلى رأسهم المرحوم كامل كيلاني فينسبونها إلى أبن المعتز معتمدين على ورود هذه الموشحة في ديوانه:
أيها الساقي إليك المشتكي
قد دعوناك وأن لم تسمع
ونديم همست في غرته
وشربت الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق إليه واتكا
وسقاني أربعا في أربع
ما لعيني شقيت بالنظر
أنكرت بعدك ضوء القمر
وإذا كا شئت فاسمع خبري
شقيت عيناي من طول البكا
وبكى بعضي على بعضي معي
غصن بان من حيث استوي
بات من يهواه من فرط الجوى
خافق الأحشاء من هون القوى
كلما فكر في البين بكى
ويحه يبكي لما لم يقع
ليس لي صبرا ولا لي جلد
وما لقومي عذلوا واجتهدوا
أنكروا شكواي مما أجد
مثل حالي حقها أن تشتكي
كد اليأس وذل الطمع
كبد حرى ودمع يكف
يعرف الذنب ولا يعترف
أيها المعرض عما أصف
قد نما حبك عندي وزكا
لا تقل في الحب أني مدعى
والواقع أنه ليس هذا الرأي ما يثبته، إذ ليس مجرد ورود هذه الموشحة، التي بقي غامضا أمر تسربها إلى ديوان أبن المعتز دليلا على أنها له في حين أنها لشاعر أندلسي هو الطبيب أبو بكر بن زهر الشهير بالحفيد نسبها له كل من ياقوت وأبن سعيد و أبن الخطيب وأبن دحية وأبن أبي أصبيعة وابن سناء الملك حيث وضعها ضمن الموشحات الأندلسية من غير أن ينسبها لابن زهر، وليس هذا ترددا منه في نسبتها له فطريقة أبن سناء أنه لا يذكر أسم أصحاب الموشحات، ولعل النظر في أسلوب هذه الموشحة ومقارنتها بغيرها من منظومات أبن زهر في هذا الفن يؤكد نسبتها إليه، ولو كان أبن المعتز صاحبها لوصلتنا منه نماذج أخرى غيرها ولقلده فيها غيره من شعراء المشرق، أكثر من هذا أن المؤرخين لهذا الفن سواء منهم المغاربة أو المشارقة أجمعوا على أنها من مبتكرة الأندلس، ففي (أزهار الرياض) (14) أن ابن خاتمة (15) قال في حديثه عن الموشحات: (وهذه الطريقة من مخترعات أهل الأندلس ومبتدعاتهم الآخذة بالأنفس، هم الذين نهجوا سبيلها ووضعوا محصولها)، وفي (المطرب) أنها (زبدة الشعر وخلاصة جوهره وصفوته، وهي من الفنون التي أغرب بها أهل المغرب على أهل المشرق وظهروا فيها كالشمس الطالعة والضياء المشرق) وفي مقدمة أبن خلدون (16) أن هذا الفن (استحدثه المتأخرون من أهل الأندلس) وفي «دار الطراز» (17)(مما ترك الأول للأخر وسبق بها المتقدم المتأخر وأجلب بها أهل المغرب على أهل المشرق) وفي خلاصة الأثر والذخيرة ونفح الطيب كلام يشبه هذا الذي ذكرنا يعزو أصحابه للأندلس اختراع هذا الفن، وهذا هو الرأي الثاني في نشأة الموشحات، وقد أختلف القائلون به في أول من سبق إلى نظمها، هل هو مقدم بن معافي القبري أخذها عنه أبو عبد الله أبن عبد ربه كما عند المقري (18) وأبن خلدون (19)؟ أو هل هو بان عبد ربه كما عند أبن سعيد (20)؟ وإذا كان هل هو ابن عبد ربه صاحب العقد المكني بأبي عمرة أم أحد أحفاده؟ أو هل هو محمد بن حمود القبري الضرير كما عند أبن بسام الذي بقي مترددا بين نسبتها له أو لأبن عبد ربه؟
الحق أننا أمام هذه الخلافات لا نستطيع أن نبث في رأي خاصة وأننا لا نملك نماذج لا من موشحات مقدم ولا بان حمود الذي لا يعرف حتى عصره، الذي عاش فيه وأغلب الظن أن مقدما هو نفسه أبن حمود كما أننا نستبعد أن يكون أبو عبد الله محمد بن عبد ربه حفيد صاحب العقد هو أول من نظمها لسبب بسيط وهو أنه متأخر عن عصر نشأتها فقد ذكر المراكشي في (المعجب) أنه رحل إلى مصر ولقي فيها ابن سناء الملك، وكل ما يمكن أن نقول هو أن من أول البارعين في فن الموشحات أحمد بن عبد ربه ويوسف أبن هرون الرمادي وعبادة بن ماء السماء وأبن عبادة القزاز.
ولعل أهم من هذا كله معرفة الأسباب التي أدت إلى اختراع هذا الفن والأسس التي قام عليها في نشأته وتطروه، يقول بن خلدون: (وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم وتهذبت مناحيه وفنونه وبلغ التنميق فيه الغاية استحدث المتأخرون منهم فنا سموه الموشح) (21).
وينكر هذا القول الدكتور مصطفى عوض (22) ويرى أن الذين اخترعوا الموشحات ليسوا ممن يصح أن يطلق عليهم كلمة المتأخرين، فأبن عبد ربه ونظراؤه من قدامى شعراء الأندلس عاشوا بها قبل أن يبلغ الشعر الأندلسي درجة كبيرة من التنميق وتهذيب المناحي والفنون ويرى كذلك أن الشعر المشرقي قد بلغ درجة من التنميق لم يصلها الشعر الأندلسي في أي عصر من عصوره ومع ذلك فإن المشارقة لم يخترعوا الموشحات واعترفوا بعجزهم عن تقليدها.
وحاول المستشرق نيكل إرجاع الموشحات إلى أصل عربي فزعم أنها تقليد لمقطوعات أبي نواس وضعت أبياتها في ترتيب مغاير، وحاول مثله المستشرقان الألمانيان هارتمان وفرايتاخ فزعما أنها امتداد للمسمطات التي كان شعراء المشرق ينظمونها، وإلى هذا الرأي يذهب الدكتور شوقي ضيف حين يقول (23): (ونردها إلى تطور في المسمطات والمخمسات التي عرفت منذ عصر أبي نواس في القرن الثاني الهجري وإلى ما نزع إليه بعض الشعراء العباسيين من نظم الشعر على أوزان جديدة غير أوزان الخليل المتبعة على نحو ما نعرف عن أبي العتاهية ورزين العروضي معاصره).
ولو صح هذا الرأي لكان المشارقة أولى بهذا التطوير ولسبقوا إليه ولفاقوا الأندلسيين في نظم الموشحات أو لسايروهم على الأقل في غير تكلف، ويزيد في ضعف هذا الرأي أنه لم يعرف عن شعراء الأندلس أنهم كانوا ينظمون المسمطات أو ما يشبهها، وحتى إذا كانوا قد مارسوا هذا اللون فإنه لم يصلنا منه شيء.
وعلى عكس هؤلاء فإن بطرس البستاني يرى إرجاعها إلى أصل فرنسي ويزعم أن العرب تأثروا بالمنشدين الفرنسيين المعروفين بالجونكلور Les jongleurs ثم بالطروبادور Les troubadours البروفانسيين الذين كانوا يتجولون في فرنسا في القرن العاشر فما بعده، وهذا رأي يخالف ما ذهب إليه أغلب الباحثين الأوربيين وخاصة المستشرق كليمان هوارت من أن عرب الأندلس كانوا أساتذة التروبدور في فن القوافي والأوزان الشعرية.
ويذهب المستشرق الإسباني ميلاس فلكروزا Millas Villicrosa المتخصص في الدراسات العبرية بالبزمون Pizmon والتسبيحات اللاتينية التي يرددها المصلون عقب كل فقرة من فقرات الترتيل الديني كانت الأصل الذي استوحاه مخترع الموشحات واستبعد الدكتور أحمد هيكل (24) أن يتأثر المسلمون الأندلسيون بشيء متصل بالدين لما عرف عنهم من تعصب شديد ونفرة واضحة مما يشوب العقيدة حتى لقد كانوا ينفرون من الفلسفة بل من المذاهب الفقهية المخالفة لمذهبهم فكيف يعقل أن يتأثروا ببعض الأناشيد اليهودية الدينية.
ويرى فؤاد رجائي (إن اختراع الموشحات كان أثرا من آثار زرياب) (25) وأن هناك شيئين جوهريين نقلهما زرياب من المشرق هما طريقة تطبيق الإيقاع الغنائي على الإيقاع الشعري، وطريقة الغناء على أصول النوبة الغنائية)، ويعتقد أن هاتين الطريقتين هما اللتان أوحتا إلى الشعراء والمغنيين الذين أتوا بعد زرياب باختراع الموشحات) (26).
ولو تأملنا هذا القول لوجدنا فيه ما يرد به عليه فهو يذهب إلى أن المصدر الذي استوحاه الشعراء في ابتكار الموشحات مستورد من المشرق حمله زرياب البغدادي معه، وإذن فلماذا لم يظهر هذا الفن في المشرق؟ ولماذا لم يسرع المشارقة إلى نظمه؟ ولماذا جاءت موشحاتهم متكلفة لم يستطيعوا بها مجاراة موشحات الأندلس؟ أما غير هؤلاء من الباحثين فيذهبون إلى القول بأن فن التوشيح إنما هو تقليد لشعر غنائي ولكنهم مختلفون في نوع هذا الشعر.
فالمستشرق الإسباني خليان ريبيرا يذهب إلى أنه شعر الأغنيات الرومانية (27) ولكنا لا نستطيع إقرار هذا الرأي أو تفنيده ما دام التاريخ لم يحتفظ لنا بنماذج من هذه الأغنيات وأن كنا لا ننكر أن المسلمين في الأندلس كانوا يستعملون اللهجة الرومانية في شؤونهم العادية وفي معاملاتهم مع الإسبان.
كذلك ذهب هذا المستشرق إلى افتراض آخر هو أن هذا الغناء الذي استوحاه الوشاحون جليقي وحجته أن النساء الجليقيات كن يعملن في البيوت الأندلسية مربيات للأطفال ومغنيات في الحفلات ولكنا لنفس السبب الذي استبعدنا به رأيه السابق نستبعد هذا الرأي كذلك، والراجع عندنا ما ذهب إليه الدكتور الأهواني (28) من أن الأصل في فن الموشحات هو الأغنية الشعبية التي ظهرت في البيئة الأندلسية منذ عهودها القديمة والتي لا شك أنها كانت تمتزج في نظمها لغة الأندلسيين العربية بلهجة الإسبان الرومانية.
(1) لأبن سناء الملك ص 25.
(2) للمستشرق الإسباني بالنثيا ص 142. 4)
(3) لدى مادة موشح.
(4) دار الطراز تحت عنوان: حد الموشح.
(5) كما عند الأشبيهي في المستطرف ج 2 ص 237.
(6) كما عند أبن سناء الملك.
(7) أبن سناء الملك.
(8) دائرة المعارف الإسلامية.
(9)توفي سنة 638هـ.
(10) توفي سنة 668هـ.
(11) كما في الجزء الثاني من النفح.
(12) ص 217 ج 2.
(13) ج 2 ص 123.
(14) صاحب كتاب (مزية المرية)
(15) ص 186.
(16) ص 583.
(17) ص 23.
(18) ج 2 ص 253 من أزهار الرياض.
(19) ص 265 مع تحريف في بعض الطبقات حيث ورد أسم مقدم بن معافر الضريري.
(20) في الغرب وقد نقل عنه السيوطي في وسائل مسامرة الاوائل.
(21) المقدمة ص 583.
(22) في كتاب (فن التوشيح) ص 99.
(23) في مقدمته لكتاب (فن التوشيح ص 8).
(24)في كتابه (أدب الأندلس ص 156).
(25)في كتابه (الموشحات الأندلسية) ص 47 سلسلة من كنوزنا.
(26) نفس المصدر السابق ص 98.
(27) الرومان De roman يطلق على مجموعة اللهجات المتفرعة عن اللاتينية والتي كان يتكلمها معظم سكان أروبا في العصر الوسيط.
(28) الزجل في الأندلس ص2.
دعوة الحق ع/ 44
[SIZE=18px] دعوة الحق - الموشحات -1- [/SIZE]
تعريف الموشحات: إذا قرأنا في الكتب التي تناولت الموشحات نبحث عن تعريف دقيق لفنها الجديد، فإننا سنجد في شرح مدلولها أقوالا مختلفة في تحديده وتخصيصه.فف...