"الحديقة الحمراء" لصاحبها محمد آيت حنا، وهو كاتب ومترجم مغربي مهتم بالفلسفة والآدب والجماليات، يُدرس بالمركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بالدار البيضاء، من بين مؤلفاته: الرغبة والفلسفة، مدخل الى قراءة دولوز وغوتاري (2010)، عندما يطير الفلاسفة (قصص، 2007)، أما بالنسبة للكتب التي ترجمها، نذكر: حصة الغريب، شعرية الترجمة وترجمة الشعر عند العرب للكاتب كاظم جهاد (2011)، وترجمة رواية الغريب لالبير كامو (2013).
اسمه "الغربي"، اسم يحمل بين طياته العديد من الدلالات، لكنني أقول أن حكاياته كاسمه تماما، هكذا هي هذه الرواية، غريبة أولا لكونها انتقلت من موضوع لآخر دون أن تعرف _في كثير من الأحيان_ الرابط بين الآنف والحالي والآتي، لكن تجد نفسك تتابع بدقة وتركيز لا متناهيين، وذلك نظرا لأهمية المواضيع وغرابتها في الآن ذاته.
يستهل الكاتب كل فصل وكل جزء منه بقولة مقتطفة من كوميديا دانتي "الجحيم، المطهر، الفردوس"، لتشكل عتبات أولية في كل جزء، ومن تلك المقولات يبدأ التشويق في لعب لعبته.
في بداية الرواية يقتطف: "فيروح يرتعش لمجرد رؤية الظل" الجحيم/الانشودة 17(ص 11من الرواية)، ليسرد لنا في هذا الصدد حكاية من "حكايات التراث العالمي"، وهي عبارة عن رسوم متحركة كانت تُبث في التسعينيات، والحكاية هذه المرة ستكون من التراث الكوري حول الرجل يونيتي الذي فقد ظله، فيقول الراوي في هذا الصدد: "ثمة زمن نفقد فيه جميعا طفولتنا...نهجرها، خوفا من الظلال التي تجثم علينا...لكننا ننتهي بفقدان ظلنا، ننتهي بالإمحاء..."(ص13)، هكذا فقد الطفل الصغير طفولته ودخل الرعب والفزع الى قلبه وأصبح دائم المراقبة لظله لدرجة أنه مرض نفسيا، واستعان بطبيب في هذا الصدد.
تتجلى عتبة الفصل الأول في: "ما لعقلك ينأى ويشطّ عن مسالكه المألوفة؟" الجحيم/ الانشودة 16 (ص 17 من الرواية)، هنا نجد أنفسنا أمام مواضيع فلسفية تتمحور حول مدى أحقية الحواس في الوصول للمعرفة "على أن حواسنا كما هو معروف، تخدعنا عادة بسهولة، وعلى كل حال ليس هذا الواقع الملاذ الوحيد للحقائق، بل إني لأستطيع الجزم، لطول ما اختبرته من حالات وما مر بي من حكايا، أن حقائق العوالم المفارقة، هي أضعاف مضاعفة مقارنة بحقائق هذا الواقع البئيس" (ص18) هذا ما جاء على لسان الطبيب. كما يتحدث هنا عن الخيال، وهل للخيال _حقا_ واقعا ووجودا فعليا؟ فيجزم الطبيب بذلك ويعتبر بأن "الخيال ليس ضيفا عارضا على الواقع وانما هو من صميمه.."، وهنا يلمس الراوي تبني الطبيب لأفكار سيجموند فرويد، والتي يصفها بكونها هراء.
ينقلنا الكاتب من هذه المواضيع ذات الصبغة الفلسفة (ان صح قول ذلك) الى مواضيع أخرى، ذات صبغة اجتماعية_نفسية، فيحدثنا عن الانتحار، حيث أقدم عليه حارس المرمى بعد ان توفيت ابنته، وما خلفته من آثار سلبية على نفسيته. يستغل الراوي هذه الحادثة ليقف عند هذا الموضوع، "فبالنسبة الى جميع من يتداولون خبر انتحار شخص من الاشخاص، فإن النقاش لا يخرج من اطار مسألتين: الدافع والأداة. ما الذي دفعه الى الانتحار؟ وكيف انتحر؟ (...) لكن الامور عند المنتحر لا تتوقف عند هذه الحدود، إن الانتحار يبدأ عنده بزمن قبل الإقدام الفعلي عليه..." (ص28)، بيد أن الراوي لم يقف عند هذا الحد، بل انتابته رغبة في البحث عن جوهر الإقدام على الموت بصفة عامة ومنه الانتحار بصفة خاصة، فيشرع في تصفح العديد من الصفحات على الانترنت، فوجد زخما هائل من التفسيرات، فهناك من يتحدث عن الخلاص ويستنجد بالأفكار الدينية، ومن تنتابه لذة مشاركة الآخر في الانتحار (وهنا نكون بصدد ظاهرة الانتحار الجماعي)، "لكن جميع تلك الكتابات تتعامل مع الفعل كأنه ظاهرة خارجية، كأنما هو فعل يمكن عزله ودراسته، كأنما الامر لا يعني كيانا حيا له وعي وشعور وذاكرة وتاريخ شخصي يوشك أن ينتهي" (ص29)، كما أن هذا الموضوع لم تسلم منه حتى الدراسات الادبية، فكم من أديب وأديبة وضع ووضعت حدا لحياته/ا عن طريق الانتحار، وهنا يعطي مثال بالأديبة الانجليزية فرجيينيا وولف التي وضعت حدا لحياتها برمي نفسها في بحيرة بعدما ملأت معطفها بالحجارة.
أما عن موضوع الأحلام ،وهو الذي أخذ القسط الوافر من الرواية، فإِنما ترجع كثرت أحلام الغربي لقصته مع نهال، الشابة التي أحبها (عن بعد فقط، دون ان يتحدث اليها قط، ودون ان يخبرها بمشاعره) ولم ينل منها اي شيء، يقول: "منذ أن ابتليت بمرض الاحلام...لا أعيش حياتي إلا عرضا" (ص31). سافرت نهال الى أمريكا وتزوجت، هذا الأمر الذي اكتشفه عن طريق صفحتها على الفايسبوك، من خلال صورتها الشخصية التي وضعت عليها يد زوجها بدل يدها (التي كانت قد وضعتها من قبل) وظهر جزء من قفطان الحناء التي كانت تلبسه. فقصته مع اليد (يد نهال) ومدى تأثيرها عنه، جعله يبحث عن دلالات هذه اليد (الساحرة)، بعدما أصبح يدقق في كل الأيادي، وأصبح قادراً على ان يميز يد نهال عن كل الأيادي الأخرى. استعان الغربي بمعجم لسان العرب ليعرف ماذا تعنيه هذه الكلمة، إلا ان "الحصيلة التي خرج بها من لسان العرب بئيسة حقا، ثمة برودة لا يخطئها الجلد في عباراته. كيف تغيب معاني الحرارة والدفء والحب؟ إنه معجم وضيع، مثل كل المعاجم، بليد، ينسى القيمة الفعلية للكلمات، قيمتها كأشياء محسوسة..."(ص58). فاليد بالنسبة له (الغربي) مرادفة للحب ولا يمكن تعريفها بمعزل عن ذلك الشعور الذي تخلقه لذا المحبين، فربما يكون هذا الأمر تافها لدى غيرهم، "لكن صدقاً من يتحدثون عادة عن قصص الحب الكبرى يغفلون أن التافه من القصص قد يكون أعمقها، فلا تهم القصة بقدر ما تهم المسارات الداخلية التي يحفرها الحب في نفس المحب. وما قد يبدو تافها وبسيطا قد يشكل للمحب عالما بأكمله، بل قد يشكل له "العالم"." (ص50).
عتبة الفصل الثاني هي: "فَتُفهم الكلمات تارةً وطوراُ لا تُفهَم" المطهر/الانشودة 9 (ص75 من الرواية)، يتحدث هنا عن ما يسمى بـ "المعرفة بالممكن" ، بمعنى ان أعي الاشياء انطلاقا من معرفة الآخرين، يمكننا ان نتصور هذه المعرفة انطلاقا من مفهوم الصور النمطية Stéréotypes، حيث تتشكل لدى افراد المجتمع جملة من المعارف المتشابهة التي تُنقل من جيل لآخر، فيقول الروي في هذا الصدد: "تعرف الاشياء كأنما تُلقي في نفسك إلقاءً...تُحس كأنك تَقرأ أو كأنما يُقرأ عليك...هي إقراء، هذا ما هي عليه بالضبط" (ص76)، ويضيف "معنى ذلك أن أي واحد من ابناء جنسك قد يخطو الى هذا العالم سيسمع الكلام نفسه كلما واجهه موقف من مواقف عالمنا هذا" (ص77) هذا بالضبط ما يسمى بالصور النمطية.
يسافر بنا الكاتب _فيما بعد_ الى عالم التيه والضياع الذي يعيشه كل من "الغربي" و"عادل" و"المختار"، فلا أحد من هؤلاء راضياً عن وضعه، وكل يتخبط في عالم يعتبره غير عالمه.
الغربي يقول: "أنا ضائع. فقدت أهم ما يميز أبناء جلدتي: الشرود (...)، ليتني واحد من الاثنين الآخرين، ليتني المخيتير (اسم مصغر للمختار)، ليتني عادل. هما واضحان، يعرفان نفسيهما والجميع يعرفهما. لم أرَ أحد في وضوحهما...من أنا؟" (ص82). عاش الغربي حياة ضائعة منذ صغره، فطفولته مزقتها الرسوم المتحركة وجعلته دائم الخوف بفقدان ظله، أما شبابه الذي أحب فيه نهال (ايام الجامعة) فقد كان مآله الضياع (الحب الذي لم يبدأ في الأصل، كان فقط حب من طرفه)...لينتهي به الأمر في شقة ضيقة يعيش فيها لوحده، بعد ان تقاعد عن عمله...ومن ثم، اصبح التيه والضياع محور حياته.
أما عن المختار، فيقول: "أما أنا فهربت ولست تحت رحمة أحد، يعرض لي أن أنسى تفاصيل ما وقع، لكنني أبدا لا أنسى قصة الايطالي. خصوصا الجملة الاخيرة، كانت جملة حادة كالمدية: "أنا خائف". ليتني كنت واحد من الاثنين الآخرين، ليتني الغربي، ليتني عادل...ليتني أنا!" (ص 83-84)، فالمخيتير الذي زوده الحاج ،الذي كان يكرهه بشدة، بمأتيي درهم وأمره ان يذهب ويؤسس لحياته بعيدا عنه، فاتجه الى الرباط، لتبدأ رحلة تيهه هو الآخر.
في حين يقول عادل ايضا: "أنا لم أختر شيئا. لو كان لي أن أختار لاخترتُ أن أكون أي شيء ما عدا ما أنا عليه (...) ليتني الغربي، ليتني المختار..." (ص85). فعادل على الرغم من السعادة التي كان يعيشها، وكان يُعتبر من "احد مسببات السعادة السريعة"، إلا أنه لم يكن راضيا عن نفسه.
فمن الأفضل حالا من هؤلاء: "الغربي" أم "المخيتير" ام "عادل"؟ ربما لا أحد منهم!!
بالنسبة لعتبة الفصل الثالث، فيقتطف لنا الكاتب: "انا من بيتي صنعت لنفسي مشنقة" الجحيم/ الانشودة13 (ص117 من الرواية)، هنا نصل للحظة التي ينتظرها _ربما_ كل قارئ/ة لهذه الرواية، اذ أننا نعرف هنا سبب تسمية الكاتب عمله هذا بـ "الحديقة الحمراء" وهو حلم مر به، جعله يراجع نفسه، ويقرر ان يعيد ترتيب حياته من جديد ويخرج من التيه الذي يعيش فيه، فيقول: " المهم أن أقوم بالإصلاحات اللازمة في المطبخ والحمام والشقة، والأهم أن أفتح شرفة البهو لأوسع الشقة. سأتزوج، وستكون لي طفلة جميلة. سأصعد السلم الى آخره، لن أجلس بعد في المنتصف. غدا يوم آخر، غدا سألقي بصخرتي في البحر." (ص137). فهل سينجح الغربي في ذلك؟ ام أنه سيستسلم كعادته للا معنى الذي طبع حياته منذ الصغر؟
في الختام، فإن هذه التدوينة تعد كمراجعة بسيطة لهذا العمل الأدبي الذي يزخر بالكثير من الموضوعات التي تحتاج أن نقف عندها عن كثب ونفصل فيها، على أننا اقتصرنا هنا على بعض اللمحات الكبرى التي كانت لها دورا محوريا في هذا العمل والتي أثارت انتباهنا في الآن ذاته.
اسمه "الغربي"، اسم يحمل بين طياته العديد من الدلالات، لكنني أقول أن حكاياته كاسمه تماما، هكذا هي هذه الرواية، غريبة أولا لكونها انتقلت من موضوع لآخر دون أن تعرف _في كثير من الأحيان_ الرابط بين الآنف والحالي والآتي، لكن تجد نفسك تتابع بدقة وتركيز لا متناهيين، وذلك نظرا لأهمية المواضيع وغرابتها في الآن ذاته.
يستهل الكاتب كل فصل وكل جزء منه بقولة مقتطفة من كوميديا دانتي "الجحيم، المطهر، الفردوس"، لتشكل عتبات أولية في كل جزء، ومن تلك المقولات يبدأ التشويق في لعب لعبته.
في بداية الرواية يقتطف: "فيروح يرتعش لمجرد رؤية الظل" الجحيم/الانشودة 17(ص 11من الرواية)، ليسرد لنا في هذا الصدد حكاية من "حكايات التراث العالمي"، وهي عبارة عن رسوم متحركة كانت تُبث في التسعينيات، والحكاية هذه المرة ستكون من التراث الكوري حول الرجل يونيتي الذي فقد ظله، فيقول الراوي في هذا الصدد: "ثمة زمن نفقد فيه جميعا طفولتنا...نهجرها، خوفا من الظلال التي تجثم علينا...لكننا ننتهي بفقدان ظلنا، ننتهي بالإمحاء..."(ص13)، هكذا فقد الطفل الصغير طفولته ودخل الرعب والفزع الى قلبه وأصبح دائم المراقبة لظله لدرجة أنه مرض نفسيا، واستعان بطبيب في هذا الصدد.
تتجلى عتبة الفصل الأول في: "ما لعقلك ينأى ويشطّ عن مسالكه المألوفة؟" الجحيم/ الانشودة 16 (ص 17 من الرواية)، هنا نجد أنفسنا أمام مواضيع فلسفية تتمحور حول مدى أحقية الحواس في الوصول للمعرفة "على أن حواسنا كما هو معروف، تخدعنا عادة بسهولة، وعلى كل حال ليس هذا الواقع الملاذ الوحيد للحقائق، بل إني لأستطيع الجزم، لطول ما اختبرته من حالات وما مر بي من حكايا، أن حقائق العوالم المفارقة، هي أضعاف مضاعفة مقارنة بحقائق هذا الواقع البئيس" (ص18) هذا ما جاء على لسان الطبيب. كما يتحدث هنا عن الخيال، وهل للخيال _حقا_ واقعا ووجودا فعليا؟ فيجزم الطبيب بذلك ويعتبر بأن "الخيال ليس ضيفا عارضا على الواقع وانما هو من صميمه.."، وهنا يلمس الراوي تبني الطبيب لأفكار سيجموند فرويد، والتي يصفها بكونها هراء.
ينقلنا الكاتب من هذه المواضيع ذات الصبغة الفلسفة (ان صح قول ذلك) الى مواضيع أخرى، ذات صبغة اجتماعية_نفسية، فيحدثنا عن الانتحار، حيث أقدم عليه حارس المرمى بعد ان توفيت ابنته، وما خلفته من آثار سلبية على نفسيته. يستغل الراوي هذه الحادثة ليقف عند هذا الموضوع، "فبالنسبة الى جميع من يتداولون خبر انتحار شخص من الاشخاص، فإن النقاش لا يخرج من اطار مسألتين: الدافع والأداة. ما الذي دفعه الى الانتحار؟ وكيف انتحر؟ (...) لكن الامور عند المنتحر لا تتوقف عند هذه الحدود، إن الانتحار يبدأ عنده بزمن قبل الإقدام الفعلي عليه..." (ص28)، بيد أن الراوي لم يقف عند هذا الحد، بل انتابته رغبة في البحث عن جوهر الإقدام على الموت بصفة عامة ومنه الانتحار بصفة خاصة، فيشرع في تصفح العديد من الصفحات على الانترنت، فوجد زخما هائل من التفسيرات، فهناك من يتحدث عن الخلاص ويستنجد بالأفكار الدينية، ومن تنتابه لذة مشاركة الآخر في الانتحار (وهنا نكون بصدد ظاهرة الانتحار الجماعي)، "لكن جميع تلك الكتابات تتعامل مع الفعل كأنه ظاهرة خارجية، كأنما هو فعل يمكن عزله ودراسته، كأنما الامر لا يعني كيانا حيا له وعي وشعور وذاكرة وتاريخ شخصي يوشك أن ينتهي" (ص29)، كما أن هذا الموضوع لم تسلم منه حتى الدراسات الادبية، فكم من أديب وأديبة وضع ووضعت حدا لحياته/ا عن طريق الانتحار، وهنا يعطي مثال بالأديبة الانجليزية فرجيينيا وولف التي وضعت حدا لحياتها برمي نفسها في بحيرة بعدما ملأت معطفها بالحجارة.
أما عن موضوع الأحلام ،وهو الذي أخذ القسط الوافر من الرواية، فإِنما ترجع كثرت أحلام الغربي لقصته مع نهال، الشابة التي أحبها (عن بعد فقط، دون ان يتحدث اليها قط، ودون ان يخبرها بمشاعره) ولم ينل منها اي شيء، يقول: "منذ أن ابتليت بمرض الاحلام...لا أعيش حياتي إلا عرضا" (ص31). سافرت نهال الى أمريكا وتزوجت، هذا الأمر الذي اكتشفه عن طريق صفحتها على الفايسبوك، من خلال صورتها الشخصية التي وضعت عليها يد زوجها بدل يدها (التي كانت قد وضعتها من قبل) وظهر جزء من قفطان الحناء التي كانت تلبسه. فقصته مع اليد (يد نهال) ومدى تأثيرها عنه، جعله يبحث عن دلالات هذه اليد (الساحرة)، بعدما أصبح يدقق في كل الأيادي، وأصبح قادراً على ان يميز يد نهال عن كل الأيادي الأخرى. استعان الغربي بمعجم لسان العرب ليعرف ماذا تعنيه هذه الكلمة، إلا ان "الحصيلة التي خرج بها من لسان العرب بئيسة حقا، ثمة برودة لا يخطئها الجلد في عباراته. كيف تغيب معاني الحرارة والدفء والحب؟ إنه معجم وضيع، مثل كل المعاجم، بليد، ينسى القيمة الفعلية للكلمات، قيمتها كأشياء محسوسة..."(ص58). فاليد بالنسبة له (الغربي) مرادفة للحب ولا يمكن تعريفها بمعزل عن ذلك الشعور الذي تخلقه لذا المحبين، فربما يكون هذا الأمر تافها لدى غيرهم، "لكن صدقاً من يتحدثون عادة عن قصص الحب الكبرى يغفلون أن التافه من القصص قد يكون أعمقها، فلا تهم القصة بقدر ما تهم المسارات الداخلية التي يحفرها الحب في نفس المحب. وما قد يبدو تافها وبسيطا قد يشكل للمحب عالما بأكمله، بل قد يشكل له "العالم"." (ص50).
عتبة الفصل الثاني هي: "فَتُفهم الكلمات تارةً وطوراُ لا تُفهَم" المطهر/الانشودة 9 (ص75 من الرواية)، يتحدث هنا عن ما يسمى بـ "المعرفة بالممكن" ، بمعنى ان أعي الاشياء انطلاقا من معرفة الآخرين، يمكننا ان نتصور هذه المعرفة انطلاقا من مفهوم الصور النمطية Stéréotypes، حيث تتشكل لدى افراد المجتمع جملة من المعارف المتشابهة التي تُنقل من جيل لآخر، فيقول الروي في هذا الصدد: "تعرف الاشياء كأنما تُلقي في نفسك إلقاءً...تُحس كأنك تَقرأ أو كأنما يُقرأ عليك...هي إقراء، هذا ما هي عليه بالضبط" (ص76)، ويضيف "معنى ذلك أن أي واحد من ابناء جنسك قد يخطو الى هذا العالم سيسمع الكلام نفسه كلما واجهه موقف من مواقف عالمنا هذا" (ص77) هذا بالضبط ما يسمى بالصور النمطية.
يسافر بنا الكاتب _فيما بعد_ الى عالم التيه والضياع الذي يعيشه كل من "الغربي" و"عادل" و"المختار"، فلا أحد من هؤلاء راضياً عن وضعه، وكل يتخبط في عالم يعتبره غير عالمه.
الغربي يقول: "أنا ضائع. فقدت أهم ما يميز أبناء جلدتي: الشرود (...)، ليتني واحد من الاثنين الآخرين، ليتني المخيتير (اسم مصغر للمختار)، ليتني عادل. هما واضحان، يعرفان نفسيهما والجميع يعرفهما. لم أرَ أحد في وضوحهما...من أنا؟" (ص82). عاش الغربي حياة ضائعة منذ صغره، فطفولته مزقتها الرسوم المتحركة وجعلته دائم الخوف بفقدان ظله، أما شبابه الذي أحب فيه نهال (ايام الجامعة) فقد كان مآله الضياع (الحب الذي لم يبدأ في الأصل، كان فقط حب من طرفه)...لينتهي به الأمر في شقة ضيقة يعيش فيها لوحده، بعد ان تقاعد عن عمله...ومن ثم، اصبح التيه والضياع محور حياته.
أما عن المختار، فيقول: "أما أنا فهربت ولست تحت رحمة أحد، يعرض لي أن أنسى تفاصيل ما وقع، لكنني أبدا لا أنسى قصة الايطالي. خصوصا الجملة الاخيرة، كانت جملة حادة كالمدية: "أنا خائف". ليتني كنت واحد من الاثنين الآخرين، ليتني الغربي، ليتني عادل...ليتني أنا!" (ص 83-84)، فالمخيتير الذي زوده الحاج ،الذي كان يكرهه بشدة، بمأتيي درهم وأمره ان يذهب ويؤسس لحياته بعيدا عنه، فاتجه الى الرباط، لتبدأ رحلة تيهه هو الآخر.
في حين يقول عادل ايضا: "أنا لم أختر شيئا. لو كان لي أن أختار لاخترتُ أن أكون أي شيء ما عدا ما أنا عليه (...) ليتني الغربي، ليتني المختار..." (ص85). فعادل على الرغم من السعادة التي كان يعيشها، وكان يُعتبر من "احد مسببات السعادة السريعة"، إلا أنه لم يكن راضيا عن نفسه.
فمن الأفضل حالا من هؤلاء: "الغربي" أم "المخيتير" ام "عادل"؟ ربما لا أحد منهم!!
بالنسبة لعتبة الفصل الثالث، فيقتطف لنا الكاتب: "انا من بيتي صنعت لنفسي مشنقة" الجحيم/ الانشودة13 (ص117 من الرواية)، هنا نصل للحظة التي ينتظرها _ربما_ كل قارئ/ة لهذه الرواية، اذ أننا نعرف هنا سبب تسمية الكاتب عمله هذا بـ "الحديقة الحمراء" وهو حلم مر به، جعله يراجع نفسه، ويقرر ان يعيد ترتيب حياته من جديد ويخرج من التيه الذي يعيش فيه، فيقول: " المهم أن أقوم بالإصلاحات اللازمة في المطبخ والحمام والشقة، والأهم أن أفتح شرفة البهو لأوسع الشقة. سأتزوج، وستكون لي طفلة جميلة. سأصعد السلم الى آخره، لن أجلس بعد في المنتصف. غدا يوم آخر، غدا سألقي بصخرتي في البحر." (ص137). فهل سينجح الغربي في ذلك؟ ام أنه سيستسلم كعادته للا معنى الذي طبع حياته منذ الصغر؟
في الختام، فإن هذه التدوينة تعد كمراجعة بسيطة لهذا العمل الأدبي الذي يزخر بالكثير من الموضوعات التي تحتاج أن نقف عندها عن كثب ونفصل فيها، على أننا اقتصرنا هنا على بعض اللمحات الكبرى التي كانت لها دورا محوريا في هذا العمل والتي أثارت انتباهنا في الآن ذاته.