التعميم الذي أصدرته سفارة لبنان لدى دولة الإمارات العربية المتحدة في الأول من أيار من هذا العام ٢٠٢٠ كان في وسائل التواصل الاجتماعي لافتا للأنظار .
أعلى صفحة التعميم عبارة هي " طائرة الإجلاء من أبو ظبي "
ومرجعية التعميم " المديرية العامة للأمن العام اللبناني " وينص التعميم على " عدم السماح بالعودة إلى لبنان على متن طائرات الإجلاء للأشخاص من التابعية الفلسطينية اللاجئة في لبنان " و عليه يرجى أخذ العلم أنه قد تم حذف أسماؤكم للسفر على رحلات الإجلاء إلى لبنان ، والتوقيع أسفل الكلام السابق هو توقيع " سفارة لبنان لدى دولة الإمارات العربية المتحدة .
ونحن الآن في العام ٢٠٢٠ - أي بعد سبعين عاما وعامين من عام النكبة وعام اللجوء ، وهي مدة كافية لأن تخفف من النظر إلى اللاجئين نظرة دونية ونظرة احتقار ونظرة تعال - ببساطة نظرة فيها من العنصرية الكثير ، وربما وجد المرء نفسه يكرر مع محمود درويش سطره :
" عرب وباعوا روحهم
عرب وضاعوا "
وربما وجد المرء نفسه أيضا يكرر مع مريد البرغوثي بيته :
" طال الشتات وعافت خطونا المدن
وأنت تمعن بعدا أيها الوطن "
سلوك قديم - متجدد :
ذكرني التعميم بالأدبيات الفلسطينية التي كتبها الأدباء الفلسطينيون في خمسينيات وستينيات القرن العشرين ، بل والأدبيات الصادرة في بداية القرن الحادي والعشرين .
كأن الأمر يتكرر ، وكأن ما حدث في السابق ما زال متواصلا . بم يختلف ما ورد في التعميم عما ورد في قصص سميرة عزام وبعض روايات غسان كنفاني مثل " أم سعد " وفي رواية سامية عيسى " حليب التين " ؟
في العام ٢٠١١ أصدرت لي وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية كتاب " قراءات في القصة الفلسطينية القصيرة " وطلب مني أن أقدمه للجمهور ، وهو ما تم ، وقد عقدت الندوة في مركز خليل السكاكيني بحضور وزيرة الثقافة في حينه السيدة سهام البرغوثي .
في تقديمي كتابي توقفت أمام قصتين للقاصة سميرة عزام هما " لأنه يحبهم " و " فلسطيني " ، والقصتان تصوران واقع الفلسطينيين في لبنان ، ولم يكن واقعهم ورديا ، فلقد كان واقعا أسود فيه من احتقار الفلسطينيين والتعالي عليهم والتضييق عليهم ما فيه .
وعلى الرغم من مرور تسعة أعوام على الندوة وحديثي عن القصتين فإنني لم أنس ما ورد فيهما ولم أنس بعض عبارات وردت فيهما أعتقد أن ما ورد في التعميم المشار إليه لا يختلف عن العبارات في القصتين .
في قصة " لأنه يحبهم " تكتب عزام عن تحولات الفلسطيني بعد فقدان أرضه ووطنه . لقد ذل فمن لا وطن له لا كرامة له .
لا يحترم اللاجيء وإنما يعتدى على مخصصاته مما توزعه عليه وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ، يشترك في ذلك الأجنبي واللبناني والفلسطيني الذي صار بخسران أرضه وغدا وقوادا ولصا وبغيا ، وهذا ما لا يروق بالطبع لأحد اللاجئين الذي رأى إلى أين آلت أحوال شعبه ، فيقرر إحراق مخازن الوكالة . وهو يدخل المخزن يرى الفئران ترتع من أكياس الطحين ، وهنا نقرأ :
" وغمر الضوء المكان .. واضطربت الفئران التي ترتع وتسمن وتكتسب يوما على يوم مناعة ضد حبوب السم الحمراء .. حتى هذه تتجرأ على مال اللاجيء .. " .
في قصة " فلسطيني " يغدو الفلسطيني مثل الأرمني ، يغدو فردا في قطيع بلا ملامح فردية . إنه فلسطيني وحسب ، وهذا يقلقه وما يقلقه هو خوفه على مستقبل أبنائه ، فهو يملك وثيقة تحول دون تنقله بحرية وتحد من فرص عمله ، ولذلك يسعى إلى " أن يتلبنن " لعله يسافر ويعود كما يسافر اللبناني ويعود ، وعلى الرغم من حصوله على هوية لبنانية مزورة ، دفع من أجل الحصول عليها دم قلبه ، إلا أنه ظل ينادى يا " فلسطيني " .
لا يستطيع قاريء الأدب الفلسطيني أن ينسى رواية " أم سعد " ، أم سعد المرأة اللاجئة التي كانت تروي على غسان كنفاني عن حياتها القاسية في المخيم ، في ليالي الشتاء ، حيث تغرق البيوت وتصبح حالة سكانها بالويل . كانت حياة أم سعد وأسرتها حياة ذل وبؤس وكانت كلماتها وهي تخرج من فمها أسى في أسى .
عندما تحدثت في الندوة عن سميرة عزام وعن غسان كنفاني وحالة الواقع الفلسطيني في نصوصهما سألتني الوزيرة وبعض الحضور عن أدبيات فلسطينية معاصرة تصور واقع الفلسطينيين في القرن الحادي والعشرين ، ويومها كنت قد أنجزت قراءة رواية سامية عيسى " حليب التين " ولم تكن روايتها الثانية " خلسة في كوبنهاجن " قد صدرت .
هل تقل رواية سامية عيسى في تصويرها ما آل إليه الفلسطينيون في لبنان عما ورد في قصتي سميرة عزام ؟
لا تغني الكتابة عن " حليب التين " عن قراءتها ، ويمكن القول إن ثمة صلة بين " لأنه يحبهم " وحليب التين " ، بل يمكن الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك والقول إن " لأنه يحبهم " هي البذرة التي نمت وكبرت وصارت " حليب التين " ، تماما كما أن ما هي عليه المخيمات اليوم من بؤس هو ما كانت عليه يوم تأسيسها ، وكانت الحياة فيها في أيامها الأولى أكثر رحابة .
زوجة الشهيد التي صارت في قصة عزام بغيا حتى تأكل وتعيش تجسدت في رواية سامية عيسى ولم يقتصر الأمر عليها ، فأم الشهيد ، بل الشهداء ، تستغل كما استغلت زوجته التي فرطت في جسدها لتطعم أبناءها وأم زوجها .
هل جانب محمود درويش الحقيقة حين كتب :
" لا تصدق فراشاتنا ، لا تصدق إذن صبر زوجاتنا " لأنهن سيبعن حليب الحبيب ليطعمن أطفالهن بعد فقدان الزوج ؟
ومرة ثانية استشهد بمحمود درويش من قصيدته " نزل على بحر " :
" وإذا رجعتم ، فلأي منفى ترجعون ؟"
إلى أين يذهب لاجئو لبنان حقا يا وزارة الداخلية اللبنانية ؟
iraqpalm.com
أعلى صفحة التعميم عبارة هي " طائرة الإجلاء من أبو ظبي "
ومرجعية التعميم " المديرية العامة للأمن العام اللبناني " وينص التعميم على " عدم السماح بالعودة إلى لبنان على متن طائرات الإجلاء للأشخاص من التابعية الفلسطينية اللاجئة في لبنان " و عليه يرجى أخذ العلم أنه قد تم حذف أسماؤكم للسفر على رحلات الإجلاء إلى لبنان ، والتوقيع أسفل الكلام السابق هو توقيع " سفارة لبنان لدى دولة الإمارات العربية المتحدة .
ونحن الآن في العام ٢٠٢٠ - أي بعد سبعين عاما وعامين من عام النكبة وعام اللجوء ، وهي مدة كافية لأن تخفف من النظر إلى اللاجئين نظرة دونية ونظرة احتقار ونظرة تعال - ببساطة نظرة فيها من العنصرية الكثير ، وربما وجد المرء نفسه يكرر مع محمود درويش سطره :
" عرب وباعوا روحهم
عرب وضاعوا "
وربما وجد المرء نفسه أيضا يكرر مع مريد البرغوثي بيته :
" طال الشتات وعافت خطونا المدن
وأنت تمعن بعدا أيها الوطن "
سلوك قديم - متجدد :
ذكرني التعميم بالأدبيات الفلسطينية التي كتبها الأدباء الفلسطينيون في خمسينيات وستينيات القرن العشرين ، بل والأدبيات الصادرة في بداية القرن الحادي والعشرين .
كأن الأمر يتكرر ، وكأن ما حدث في السابق ما زال متواصلا . بم يختلف ما ورد في التعميم عما ورد في قصص سميرة عزام وبعض روايات غسان كنفاني مثل " أم سعد " وفي رواية سامية عيسى " حليب التين " ؟
في العام ٢٠١١ أصدرت لي وزارة الثقافة في السلطة الفلسطينية كتاب " قراءات في القصة الفلسطينية القصيرة " وطلب مني أن أقدمه للجمهور ، وهو ما تم ، وقد عقدت الندوة في مركز خليل السكاكيني بحضور وزيرة الثقافة في حينه السيدة سهام البرغوثي .
في تقديمي كتابي توقفت أمام قصتين للقاصة سميرة عزام هما " لأنه يحبهم " و " فلسطيني " ، والقصتان تصوران واقع الفلسطينيين في لبنان ، ولم يكن واقعهم ورديا ، فلقد كان واقعا أسود فيه من احتقار الفلسطينيين والتعالي عليهم والتضييق عليهم ما فيه .
وعلى الرغم من مرور تسعة أعوام على الندوة وحديثي عن القصتين فإنني لم أنس ما ورد فيهما ولم أنس بعض عبارات وردت فيهما أعتقد أن ما ورد في التعميم المشار إليه لا يختلف عن العبارات في القصتين .
في قصة " لأنه يحبهم " تكتب عزام عن تحولات الفلسطيني بعد فقدان أرضه ووطنه . لقد ذل فمن لا وطن له لا كرامة له .
لا يحترم اللاجيء وإنما يعتدى على مخصصاته مما توزعه عليه وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ، يشترك في ذلك الأجنبي واللبناني والفلسطيني الذي صار بخسران أرضه وغدا وقوادا ولصا وبغيا ، وهذا ما لا يروق بالطبع لأحد اللاجئين الذي رأى إلى أين آلت أحوال شعبه ، فيقرر إحراق مخازن الوكالة . وهو يدخل المخزن يرى الفئران ترتع من أكياس الطحين ، وهنا نقرأ :
" وغمر الضوء المكان .. واضطربت الفئران التي ترتع وتسمن وتكتسب يوما على يوم مناعة ضد حبوب السم الحمراء .. حتى هذه تتجرأ على مال اللاجيء .. " .
في قصة " فلسطيني " يغدو الفلسطيني مثل الأرمني ، يغدو فردا في قطيع بلا ملامح فردية . إنه فلسطيني وحسب ، وهذا يقلقه وما يقلقه هو خوفه على مستقبل أبنائه ، فهو يملك وثيقة تحول دون تنقله بحرية وتحد من فرص عمله ، ولذلك يسعى إلى " أن يتلبنن " لعله يسافر ويعود كما يسافر اللبناني ويعود ، وعلى الرغم من حصوله على هوية لبنانية مزورة ، دفع من أجل الحصول عليها دم قلبه ، إلا أنه ظل ينادى يا " فلسطيني " .
لا يستطيع قاريء الأدب الفلسطيني أن ينسى رواية " أم سعد " ، أم سعد المرأة اللاجئة التي كانت تروي على غسان كنفاني عن حياتها القاسية في المخيم ، في ليالي الشتاء ، حيث تغرق البيوت وتصبح حالة سكانها بالويل . كانت حياة أم سعد وأسرتها حياة ذل وبؤس وكانت كلماتها وهي تخرج من فمها أسى في أسى .
عندما تحدثت في الندوة عن سميرة عزام وعن غسان كنفاني وحالة الواقع الفلسطيني في نصوصهما سألتني الوزيرة وبعض الحضور عن أدبيات فلسطينية معاصرة تصور واقع الفلسطينيين في القرن الحادي والعشرين ، ويومها كنت قد أنجزت قراءة رواية سامية عيسى " حليب التين " ولم تكن روايتها الثانية " خلسة في كوبنهاجن " قد صدرت .
هل تقل رواية سامية عيسى في تصويرها ما آل إليه الفلسطينيون في لبنان عما ورد في قصتي سميرة عزام ؟
لا تغني الكتابة عن " حليب التين " عن قراءتها ، ويمكن القول إن ثمة صلة بين " لأنه يحبهم " وحليب التين " ، بل يمكن الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك والقول إن " لأنه يحبهم " هي البذرة التي نمت وكبرت وصارت " حليب التين " ، تماما كما أن ما هي عليه المخيمات اليوم من بؤس هو ما كانت عليه يوم تأسيسها ، وكانت الحياة فيها في أيامها الأولى أكثر رحابة .
زوجة الشهيد التي صارت في قصة عزام بغيا حتى تأكل وتعيش تجسدت في رواية سامية عيسى ولم يقتصر الأمر عليها ، فأم الشهيد ، بل الشهداء ، تستغل كما استغلت زوجته التي فرطت في جسدها لتطعم أبناءها وأم زوجها .
هل جانب محمود درويش الحقيقة حين كتب :
" لا تصدق فراشاتنا ، لا تصدق إذن صبر زوجاتنا " لأنهن سيبعن حليب الحبيب ليطعمن أطفالهن بعد فقدان الزوج ؟
ومرة ثانية استشهد بمحمود درويش من قصيدته " نزل على بحر " :
" وإذا رجعتم ، فلأي منفى ترجعون ؟"
إلى أين يذهب لاجئو لبنان حقا يا وزارة الداخلية اللبنانية ؟
فلسطينيو لبنان والفئران التي تتجرأ على أموال اللاجيء
موقع عراقي مستقل يعنى بالادب والثقافة والاجتماع، يعزز ثقافة التعايش والسلم المجتمعي، يهدف الى خلق فرص للمواهب والمبدعين لتقديم نتاجهم، (وانتاج حراك فكري وادبي، من شأنه ان يساهم في تعزيز الهوية الوطنية للعراقية ويعيد الثقافة لدورها الفعال في بناء القيم المجتمعية).