خالد الدامون - إضاءات حول أثر الجوائح ودلالاتها في الواقع والمتخيل..

من خلال نموذجين من الأدب الروائي الغربي: رواية "
الطا عون" لألبير كامو و رواية " الطاعون القرمزي " ل جاك لندن.

يعيش العالم اليوم على إيقاعات الحيرة والرعب من فيروس كوفيد19 والذي بات يعرف في العالم بأسره بفيروس كورونا المستجد، وهو الفيروس الذي انتقل من يوهان الصينية وانتشر بين سكان المعمور عن طريق العدوى بشكل سريع، مشكلا بذلك أهم حدث وبائي في تاريخنا المعاصر ، فرض على معظم دول العالم الإلتجاء إلى الحجر الصحي بغية تحقيق العزل الإجتماعي اللازم للوقاية والحد من انتشار العدوى في أفق إنجاح البروتوكول الطبي المعتمد في مثل هذه الجوائح للقضاء على الوباء، وفي خضم هذه الأزمة الصحية العالمية اختلفت طرق الناس في التعامل مع الحجر الصحي، فهناك من سيطر عليه الخوف والهلع وظل حبيس هواجسه المرعبة، وهناك من حافظ على رباطة جأشه إلى حد ما بتزجية الوقت بما يفيد شؤون المنزل و الأسرة، وهناك - وهذا ما استرعى انتباه العالم- هو إقبال كثير من المثقفين والمهتمين على قراءة وإعادة قراءة أدب الوباء والجوائح ، مثل ر واية " الطاعون" لألبير كامو ورواية " الطاعون القرمزي" ل جاك لندن، وهم بذلك واجهوا ويواجهون الخوف والرعب المستجد بالإحتماء بالفكر والإبداع والفلسفة، أليست رحاب الفكر و الإبداع هي الفضاءات المالكة للرؤى الرحبة التي ما فتئت تنبهنا مرارا إلى محدودية الرؤى الضيقة التي نرى نتائجها المأساوية اليوم على العالم؟ ألم يكن من المجدي الإستفادة من أعمال فكرية. أدبية دقت ناقوس الخطر منذ عشرات السنين حول الخطر القاتل القادم من الجوائح الوبائية؟ وفي هذا السياق ألم تقدم لنا كل من رواية ألبير كامو وجاك لندن المذكورتبن ما يكفي من الخطر ومن دلالات وأثر واقعي منه و محتمل ومتخيل على البشرية ومصيرها؟
ماهي إذا مجمل الأبعاد و الدلالات الأخرى التي يمكن إلقاء الضوء عليها؟ تلكم أسئلة نطرحها محاولين معالجاتها من خلال عرضنا للموضوع قيد الدرس.

يعتبر ألبير كامو من الروائيين الفرنسيين الذين لمعوا في عالم الأدب والفلسفة، ويمكن اعتباره ذو هوية مركبة ، وهو الذي ازداد بالجزائر وعاش مراحل نضجه بفرنسا، وما بين الجزائر وفرنسا أبدع ألبير كامو ر وايته " الطاعون" التي كانت سببا رئيسيا في نيله جائزة نوبل للأداب، الرواية التي تحدثت عنها تقارير مؤخرا تجعلها الرواية الأكثر مبيعا في العالم في هذه الفترة، وهي رواية تمتح أبعادها ودلالاتها من الواقع التاريخي والسياسي للعالم خلال الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن العشرين .

-----------------------------------------------------------------
إضاءات حول الدلالات المباشرة وغير المباشرة
لرواية " الطاعون" لألبير كامو.

---------------------------------------------------------------
الدلالات المباشرة:
----------------------------------------------------------------


من المقولات المأثورة لجون بول سارتر " الحياة تبدأ من اليأس" بمعنى من المعاني في حالتنا الراهنة فإن الوباء يمكنه أن يدفعنا لنقرأ الدرس القاسي الذي من شأنه ان يوقضنا لننطلق بوعي آخر في اتجاه مستقبل أفضل، وجزء مهم من فصول هذا الدرس نجدها عند ألبير كامو في روايتنا من خلال جملة من أحداثها وأقوال وسلوكات شخصياتها،
فجأة إذا، وفي وهران تتناسل الأحداث والأقاويل عن فئران تغزو ا المدينة، عن إصابات متعددة بالحمى، ثم ما لبث أن انتشر المرض الفتاك، الذي رفضت السلطات أنذاك بوهران تسمية المرض / الوباء القاتل بإسمه، حتى لا تثير مزيدا من الهلع بين الناس..الهلع الذي يفضي إلى الفوضى في مثل هذه المواقف.
ستغلق وهران وستفرض السلطات العزل الاجتماعي على سكانها ، وفي خضم هذا العزل يقدم لنا ألبير كامو شخصيات روايته وهي تتفاعل مع الكارثة! يقدم لنا عبرها ومن خلالها دلالات مختلفة في سياق مواجهة الأثر المدمر للحياة في وهران، حيث نقف على بعد التضحية والتضامن عند بطل الرواية الدكتور" ريو" وصديقه " تارو" اللذان ينخرطان بمسؤولية في مواجهة الطاعون القاتل بقوة وشراسة من خلال أعمال المساعدة التي يقدمونها للمرضى في الجانبين العملي والمعنوي أولائك الناس المرضى الأبرياء الذين يراهم " ريو" دائما على استعداد لأن يكونوا أخيارا، يقدمون كل الخير ويعطونه إذا ما أعطيت لهم الفرصة. فالرواية تقدم لنا صورة المأساة التي مهما عبرت عن دلالات الياس تجد هناك جنود الخفاء من شخصيات الرواية تضفي على اللوحة البائسة ألوان الإنسانية المشرقة بالأمل ، ومن بين هذه الشخصيات الصحفي رامبير حين يقول" إن الذي يهمني هو أن يعيش الإنسان ويموت من أجل ما يحب.." في إشارة لأهمية الأرادة والحب في جعل الأنسان ينتصر في مثل مثل هذه الجوائح.
إن رواية الطاعون لألبير كامو بها كما أسلفنا من خلال الأمثلة التي اوردنا كثير من المواقف ذات الدلالة الأخلاقية، تدعو من خلالها الأنسان و العالم بالتشبث بالمقاربة الإنسانية والإنتصار لقيم المحبة والتضامن فعلا وسلوكا في مواجهة الوباء ، " إن التضامن هو نوع من المشاركة في الألم..وهو فضيلة( وهو فضيلة مضاعفة اليوم) ما دام الموت بالطاعون/ الوباء يهدد الجميع " يقول الصحفي رامبير.

- الدلالات غير المباشرة
-------------------------------------------------------------

غير أنه يجب الإنتباه إلى أن بمعية هذه الدلالات المباشرة للرواية التي تتحدث عن الطاعون الذي ضرب وهران سنة 1943 , هناك دلالات غير مباشرة تستمد وجودها من الخلفية التاريخية والإيديولوجية للمرحلة التاريخية التي عاش فيها ألبير كامو ، وهي المرحلة المثخنة بأحداث جسام حفزته وشحذت همته الإبداعية لكتابة رواية الطاعون.
لقد دخل "ألبير كامو" باريس وهي ترزح تحت نير الإكتساح النازي لفرنسا ، مما دفع الفرنسيين بتشبيه النازية بالفئران ..التي تجلب الطاعون..لتكون بذلك غزوة الفئران النازية غزوة للطاعون، وهكذا يمكن القول من الوجهة الأخرى لأبعاد ودلالات الرواية أن الطاعون هي النازية ، وأن وهران المدينة البحرية الهادئة التي فجأة قد تجد نفسها ترزح تحت الحكم النازي عوض الفرنسي..وبالتالي ومن هذا المنطلق و هذه الرؤية فوهران شكلت رمزا لمقاومة الطاعون/ النازية في رواية الطاعون " لألبير كامو"

----------------------------------------------------------------
اضاءات حول دلالات وأبعاد رواية " الطاعون القرمزي ل جاك لندن.
----------------------------------------------------------------

إن رواية الطاعون القرمزي رواية للكاتب والروائي الأمريكي" جاك لندن" من الخيال الصرف كتبها سنة 1912؛ رواية متخيلة لم يحدث أي فصل منها في الواقع التاريخي في الزمن الماضي ، لكن جاءت معبرة لحد كبير عن الواقع الذي عاشه العالم مع جائحة فيروس كورونا.
يقول" جاك لندن " في قول مأثور له: " لا يمكنك ان تنتظر الإلهام، عليك ان تذهب وتبحث عنه بنفسك" وهذا ما فعله جاك..فقد ذهب بنفسه يبحث بعيدا في تخوم الخيال عن الإلهام والنبوءة..فنجده قد نال بغيته و ألف رواية عظيمة من خياله الصرف، رواية تخيل فيها أحداث روايته التي ستحدث 2073 أي بعد ستين عاما من انتشار وباء لا يمكن السيطرة عليه، تخيل جاك حدوثه سنة 2013 حيث وفي خضم الوباء ذلك كاد أن ينتهي سكان الأرض بعد استفحال الوباء وتناسله بالموت بين الناس.
لم ينجو من الكارثة غير البطل ونفر قليل من الناس، بعد وباء الطاعون الذي انتشر في مدينة فتنتشر وخلق حالة هلع كبيرة تلتها أعمال تخريب وفوضى من الغوغاء الذين استغلو حالة الإ رتباك والهلع،لينطلق مسلسل دمار العالم وإنهاء الحضارة فيه التي تعب الإنسان كثيرا في تشييدها، لكن السؤال الذي يفرض نفسه علينا هنا هو هل أسست هذه الحضارة على أسس متينة؟ لقد أصبح اليوم واضحا وجليا ان الصحة الجمعية هي الأساس التي فرطت فيه الحضارة المعاصرة. فضلا عن تفريطها في أسس أخرى لا تقل أهمية عن الصحة الجمعية.
يمكن القول انه من أهم دلالات هذه الرواية هو إظهار استهتار الحكام والناس على السواء بالأرض والطبيعة والصحة بحيث يساهمون كلهم في التمهيد إلى الوصول إلى شبه انقراض يأتي على معظم سكان المعمور، ليعود ما تبقى من الأحياء لبدئ بناءالحضارة من الصفر! هذا ما فعله بطل الرواية بالضبط حينما وجد نفسه يبحث عن ملجا حياة في وسط كل ذلك الموت /الدمار، فيتجه ليبدا حياته الجديدة في منطقة سان فرانسيسكو ليبدو مع أحفاده إدوين وهو- و هو هير وهم شباب يعيشون على الصيد وجمع الثمار تماما كما كان يفعل الناس في الحياة البدائية، ويتضح من خلال كلامهم وسلوكهم محدودية تفكيرهم وقدراتهم بعدما كان العالم والإنسان قد وصل إلى اوج الأفكار والذكاء، ولديه القدرات القوية المبدعة.
لا غرو ان جاك لندن من زاوية نظره التخييلية التنبؤية جعلنا في" الطاعون القرمزي " كأننا نعيش واقع اليوم ، واقع الوباء من حيث الهلع والإنتشار المهول وتدعياته السلبية غير المسبوقة على جميع مناحي الحياة الإقتصادية والدينية والإجتماعية للدول والناس، وسبب كل ذلك في النهاية حسب الرواية هو تهور البشر وعدم احتكامهم إلى قيم المحبة والعقل، فالإنسان كائن متوحش لدى جاك لندن فمهما بدا انه نضج وتعقلن سرعان ماتراه يفاجئك بالعودة إلى الظلم والتوحش،
حنى تحسب ان غريزة الظلم والتوحش مستحكمة فيه ولا امل في الشفاء منها..الظلم والتوحش هو الوباء الذي يحمله البشر معه! وفي هذا السياق نرى البطل " اسميث" يحكي إلى أحفاده قصته وكيف انقلبت حياته من أستاذ جامعي إلى رجل بدائي في عالم بدون حضارة، وفي خضم الحكي العائلي يتذكر اسميث بحرقة..ينتابه الحنين إلى الحضارة التي دمرها الوباء فيهمس لنفسه قائلا: " الأنظمة تختفي مثل الرغوة ، لقد كان كدح جميع البشر على الكوكب مجرد فقاعات زائلة، استأنس الإنسان الحيوانات ودجن بعضها وأباد الحيوانات ..وطهر الأرض من نباتاتها البرية ، ثم عاد طوفان الحياة البدائية مرة أخرى. وغمرت أعشاب الغابات حقول البشر واجتاحت الحيوانات المفترسة الجماعات وبأسلحة ما قبل التاريخ ، يدافع الناس عن أنفسهم ضد السلب..فكر بالأمر، كل ذلك بسبب الموت القرمزي"
إن البشر وهم يمارسون حرب تطهير عرقية على عناصر الطبيعة ، ستعود الطبيعة لتمارس عليهم نفس التطهير العرقي، فالناس في المحصلة النهائية هم المسؤولون عن أقدارهم، وبالتالي ومن هذا المنطلق والتصور فإن جاك لندن في الرواية لا يعتبر الوباء عقابا إلهيا، وإنما فرصة شبيهة بدرس يمنحها لنا الإله لنفكر كم نحن- البشر- مخطئون في حق ذواتنا حينما نخطئ في حق الطبيعة بفعل سلوكات وممارسات متطرفة غارقة في التوحش.
يمكن القول انه من خلال مقاربة جاك لندن لسلوكات الناس في الطاعون القرمزي أنها تشترك مع روايات أخرى تناولت موضوعات الجائحة/ الوباء في البعد الدلالي الأ خلاقي للوجود الإنساني الذي بجب إعادة النظر فيه من خلال قراءة وإعادة تقييم الاداء الإنساني في الوجود ، فجاك لندن من خلال الرواية فقد الثقة في الإنسان في ان يعود إلى رشده، ويسوق مثلا على ذلك على لسان بطل الرو اية " اسميث" في نغمة يائسة" " سوف يعود البارود..لا شيئ يمكن ان يمنعه، والقصة القديمة نفسها سوف تكرر ذاتها"
إلى هذا الحد جاك لندن من خلال بطل الرواية واضح ..البشر كائنات لا يعول عليها في الحفاظ على الحضارة..لكن مع ذلك هناك امل في ان يتغير هؤلاء البشر إلى الأحسن بعد ان يستوعب الجميع الدرس القاسي ويقتنعوا بضرورة التغيير.. ويرددون جماعة مع الكاتب أوتافيو كاتيكا..نعم.." لن نكون كما كنا من قبل.." لن نكون كما كنا من قبل!
---------------------------------------------------------
* خالد الدامون.
---------------------- * المرجعين الأساسيين في هذه القراءة : رواية " الطاعون" لألبير كامو ورواية" الطاعون القرمزي" ل جاك لندن.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...