بعينيها الصافيتين، المختبئتن تحت نظارتي قراءة، كانت تجلس في زاوية قصية بأحد المقاهي الراقية في حي " دبي مارينا"، تحرك نسائم الخليج المحاط بغابة من الأبراج طرف ملحفتها اللازوردية اللون، وبين يديها كتاب يبدو غلافه أنيقا، وأمامها فنجان قهوة لا يبدو أنها احتست منه أكثر من رشفتين.
وهي منهمكة في مضمون الكتاب الذي تقرأ، ما يوحي أنه رواية جيدة الحبكة، أو كتاب فلسفي عميق، يستهلك كل تركيزها، ويجعلها في عزلة نفسية عن ضوضاء التكنولجيا المحيطة بها، ويلهيها حتى عن الاستمتاع بالنظر إلى الخيوط الرقيقة لأشعة الشمس التي تكافح بصعوبة لاختراق الفراغات الضئيلة بين الأبراج الشاهقة لتطبع قبلة وداع على مياه لم تترك لها اليخوت الفارهة فرصة لرد التحية.
كنت أبث هموما رافقتي من الليلة الماضية، عبر دخان سجارتي المتماوج بكسل، وقعت عيني على تلك الزاوية القصية، انتابني فضول عارم لالقاء التحية.
وتساءلت أيعقل أن تكون موريتانية؟!
إن كانت كذلك فما الذي أتى بها إلى مقهى في أحد أكثر أحياء دبي بروجوازية في هذا الوقت بالذات؟
كانت القهوة والكتاب الأنيق والتركيز المفرط، والتكيف مع الضوضاء الهادئة مؤشرات جعلتني أستبعد كونها موريتانية؟
وكانت الملحفة اللازوردية، وطرفها المنسدل على يسارها، ونقوش خطوط الحناء الدارسة على كفها الأيسر تؤكد أنها قدمت لتوها في رحلة استغرقت اثنتي عشرة ساعة طيران.
قادني الفضول لأكون منها على مسافة لا تزيد على أربعين سنتمترا، وكان عطرها الفرنسي الهادئ، يغالب رائحة الدخان السويدي المنبعث من بين أصابعي.
لم يكن الكتاب الذي جعلها لا تلاحظ قربي اللافت من كرسيها سوى "رواية خيالية" لكاتب انجليزي نشرت في النصف الأول من القرن الماضي تتحدث عن فساد قادة الثورة السوفيتية، الراتعين في الجهل والغباء كحيوانات في مزرعة.
كان عنوان الكتاب كافيا لتبرير انشغالها، فلن تجد اسقاطا لمضمونه أكثر قبولا من الزمان والمكان اللذين تجلس فيهما.
تقدمتُ بلطف وقلت بإنجليزية حاولت جهدي أن لا تحمل لكنة تفضح أصلي، وأنا أضع يدي على الكرسي المقابل لها:
هل تسمحين...؟
تفضل..
لي بالجلوس؟
لا.
وعادت إلى مزرعتها، وعدت إلى حيرتي.
سحبت الكرسي بهدوء مفتعل، وجلست في الطاولة المقابلة لها تماما، طلبت قهوة بحجم فنجانها، أشعلت سجارة أخرى، واسترقت النظر إلى تقاسيم وجه كان من الصنف الذي يوحي إليك أنك تعرف صاحبه من زمن بعيد.
مر نصف ساعة ولم ترفع عينيها عن الكتاب، ولم تحتس من قهوتها الباردة سوى رشفة واحدة، ولم تنتبه لهاتفها الذي تضيء شاشته بين الحين الآخر.
تقدمت إليها نادلة تحمل مغلفا يحوي الفاتورة، وتقدمت مني أخرى فأشرت إلى التي معها، فأتتني، بينما كانت هي تخرج من حقيبة يد جلدية أنيقة بطاقة ائتمان لتدفع..
طلبتُ من النادلة أن تخصم مبلغ فاتورتها ، أرادت أن تستأذنها، فألحمت إليها أن لا داعي لذلك.
وضعت بطاقتها الصادرة عن بنك بريطاني في المغلف وانتظرت عودة النادلة، اثم عادت إلى كتابها الذي لم يبق دون دفته اليمنى سوى صفحات قليلة.
هل يمكن أن أسألك سؤالا؟.. قلت بصوت لا يخلو من خجل.
لا يبدو أنها سمعت ما قلت.. أو أنها فضلت عدم الإجابة.
ارتشفت قليلا من قهوتي الباردة، وسحبت نفسا من سجارتي واستجمعت ما معي من جرأة لاقتحام خلوة فاتنة تتبتل في محراب القراءة لجورج أورويل على شاطئ دبي..
هل يمكن أن أسألك سؤالا؟
وهل تراني في مؤتمر صحافي؟
كانت النبرة جافة جدا، قالتها وهي تضم الكتاب وتدخله بتذمر إلى حقيبتها، نظرتْ إلى المغلف، ثم أشارت بحنق إلى النادلة مستعجلة..
وقفت مستعجلا ووضعت بطاقة تعريفية على طاولتها، ثم انثنيت وهي ترمقني بنظرة مليئة بالازدراء، فشاب هندي الملامح بملابس رياضية وحذاء بيتي يدخن بشراهة، ويغلبه الفضول، قطعا أنه قد لا يكون من صنفها المفضل من الرجال.
ألقت نظرة على الورقة الصغيرة المستطيلة لم يكن بها سوى شعار شركة أميركية اتخذت من دبي مقرا لفرعها التقني، ربما طلبا لليد العاملة الرخصية، أو هربا من الضرائب.. وتحت الشعار؛ المهندس الداه إطول عمرو.. مدير الأمن الألكتروني .. ورقم هاتف، وبريد ألكتروني.
***
مرت أربع وعشرون ساعة طويلة.. هز رقم محجوب هاتفي الموضوع على طاولة بمقهى في مرسى دبي.
الداه يتكلم.. قلتها بانجليزية فصيحة، وهي الجملة التي افتتح بها مكالماتي حين لا أعرف المتصل.
كان صوت دافئ يصل كأنه مختلس من الطرف الآخر من العالم: ذا اللي كنت ليه اتسول عنو شنهو؟..