اتخذ السويح قراره في الخروج من حياته الماضية ليصف لنا رحلة الخروج من ماضيه و كل ما يربطه به إلا من جسده الذي حافظ عليه لتخليد هذه الرحلة، انه فرعون جديد يريد الخلود، و لكنه لم يحنّط هذا الجسد بل طهّره " بزجاجتي mornag" ليمزج بين الروح و الجسد، فالخمرة تنشي الروح و تبعث في الجسد حياة جديدة هي ما يبحث عنه.
لقد تطهّر من ملابسه القديمة فألقاها في النار :" و ألقيت بملابسي السابقة إلى النار"، في حركة رمزية تدل على رغبته في التجديد. و ها هو يختار لباسا واحدا يستره و يقيه برد روحه في هذه الرحلة التي سيكون المكان سببا في تحققها.
و لعل اول ما حقق بعد أن اتخذ قراره في الخروج هو " ارتديت برنسا" ، هذا البرنس الذي ظلّ معه منذ أن كان في * مقهى طاسكو" ( نص برنس ابيض في مقهى طاسكو)، و لعل فعل" خرجت " في صيغة الماضي جاء توكيدا لقراره. إنه خروج عن ماض طالما كان عائقا له عن التحرر و الانعتاق من سلطة الماضي الذي صوّره لنا بيتا بعيدا، فإذا المكان لعنة أصابته فأوهنت عزمه. فما هي دلالات هذا المكان عند السويح؟
البيت كجزء من المدينة لم يعد مصدرا للأمان و الراحة بل هو مصدر للحزن و الآلام :" بيتي الذي كان، يتراءى لي من بعيد كوردة حزينة تعبث بها المناسبات"، فهذه الوردة التي أبعد عنها الحديد في نصوص سابقة لم ينل من شذاها سوى الانكسار الذي صاحبه، فهو مفلس، حزين و " مدينتي العامرة قحبة تكره الرجال المفلسين"، فالمدينة الفسيحة أصبحت مطبقة على أنفاسه، لأنه يشعر بالافلاس، انه افلاس الروح المهترئة لا الافلاس المادي.
انها لعنة تلاحقه فتزرع فيه أشواك آلامها مع خوف من غد لم يتعوّده :" أمشي و قلبي مغتاظا من الغد"، ليواصل بنا رحلة المشي في عالم الوجع، فإذا به " يودّع الأحلام في مرحلة منقضية "، انه الضياع و العقم في بعديه المادي- الجسدي و الفكري- النفسي. فحتى الذي "ما بين فخذي" ينكره و يعجز عن امتاعه كما كان، بل هو مفلس في مكان يكره المفلسين ( مدينتي العامرة قحبة تكره الرجال المفلسين).
هذه الحياة التي خرج منها سرعان ما يعود إليها وصفا، فيبرز لنا أسباب خروجه منها بأسلوب فني يعتمد التداعي الحرّ ليقرّ لنا بالأسباب المباشرة و لكنه ضمنيا يخاتلنا للمحافظة على ماء وجهه، إذ يصدّر لنا كل هذه الأسباب و يشرّكنا في تحمّل أوزارها لنتعاطف معه. إنه يريد الظهور في مظهر القوي صاحب الإرادة، فيجعل منها أمرا ماضيا تجاوزه :" حياتي التي كانت"، و لكنه سرعان ما ينهار ليبرز لنا ضعفه و عدم قدرته على التحمّل ( السطر 10الى12)، ليؤكد لنا مرة أخرى ارادته :" حياتي السابقة"، و هي في الحقيقة إرادة واهنة، فهو أضعف من أن يواجه بل انه لم يتجرّأ طيلة خمسين سنة على المواجهة ( سطر 13)، انه مسلوب الإرادة فاقد لكل قوّة.
فالدين يتسلّط على روحه و كذلك الدولة تتسلط على قوته
و حريته، ليتبِع هذا الاقرار الأول باقرار ثانٍ هو هروب إلى الأمام بدل المواجهة. فينفي عنه أيّ قوّة :" لا شيء لي، لا أحد يودّعني"، انه ينهار و يشعر بالندم على مغادرته حياته السابقة ربّما. هذه الحياة التي كانت مليئة بالأحداث على تنوّعها و لكنه كان يجد ما يشغله فيها، كان يكتب نصوصا
و يستجمع ذكريات ، فإذا بِ " نصوصي يخرأ عليها الذباب ليطمس ذكريات لا ينسى الرب تفاصيلها ".
إنها المأساة تتجلّى في " لا شيء معي"، بعد أن شرب الأغنياء نخب عرقه فآزدادوا غنًى و لم يتركوا له " غير هذا البرنس الأسود" الذي ستر عوراته و لكنه انعكس على نفسيته التي غلبت عليها القتامة و السوداوية فيحيلنا ضمنيا على نص *معدة خاوية على مكتب *، فإذا به لم يتبقى منه إلا " هذا الجسد العصا " و برنس اسود يقيه برد الروح المتشظية يواصل معهما و بهما رحلة المعاناة :" نصعد سويا أعلى شجرة لنصبح إحدى فزّاعات الطيور"، ليستحيل المكان فزّاعة مخيفة أخرجته من حياته السابقة، من مدينته العامرة إلى أرض يبابٍ ودّع فيها احلامه عبر رحلة لم يخترها و لكنه كان ملزمًا بها تلاحقه لعنتها أينما حلّ فلم تنفعه لا طهارة جسده " بزجاجتي mornag "و لا برنسه الأسود ليغطّي به سوءاته،
و لا نصوصه التي خانته فخرأ عليها الذباب ليطمس ذكريات يحاول تناسيها و لكن الرب لا ينساها فعاقبه بها في رحلة للهروب من المكان ليقع فريسة لجلدِ الذات كسيزيف كلما وصل الا و سقط من جديد في ألعوبة اللعنة.
ان لعنة المكان التي صورها لنا أبو محمود السويح ماهي إلا صورة للإنسان تتقاذفه الأقدار، فلا هو تخلّص من براثنها و لا هي كفّت عنه، انها مأساة الانسان يتأرجح بين الماضي و الحاضر، بين الموجود و المنشود.
م أ مخلوف 23 أفريل 2020
عبد الواحد السويّح
لا شيء معي
قرّرتُ أن أخرجٓ من حياتي الماضيةِ
احتفظتُ بجسدي كما هو
طهّرتُهُ بزجاجتي Mornag* وألقيتُ بملابسي السّابقةِ إلى النْارِ
ارتديتُ برنساً وخرجتُ
بيتي الّذي كانٓ، يتراءي لي من بعيدٍ كوردةٍ حزينةٍ تعبثُ بها المناسباتُ
مدينتي العامرةُ قحبةٌ تكرهُ الرّجالٓ المفلِسينٓ
أمشي وعقلي يودُّ لو أتمّٓ كتابٓهُ الأخيرٓ الّذي اسنردّٓهُ من ملاكِ الشّرِّ
أمشي وقلبي يتوجّعُ مغتاظاٌ من الغدِ
أمشي وما بين فخذيّٓ يودّعُ الأحلامٓ في مرحلةٍ منقضيةٍ
حياتي الّتي كانت، لم تقوٓ على كلّ ذلك الجحيمِ
لم تتمالكْ أمامٓ انتحارِ العصافيرِ أمامٓ بطشِ الشّمسِ إمامٓ تهالكِ السّماءِ
حياتي السّابقةُ خمسون سنة نصفُها مسروقٌ من الدولةِ ونصفُها مسروقٍ من الدّينِ
لا شيء لي لا أحد يودّعني
نصوصي يخرإُ عليها الذّبابُ ليطمسٓ ذكرياتٍ لا ينسى الرّبُّ تفاصيلٓها
عرقي مكيّفُ الأغنياءِ
لا شيء لي غيرُ هذا البرنسِ الأسودِ وهذا الجسد العصا أبدأُ بهما مرحلةً مواليةً
نصعدُ سويّاً أعلى شجرةٍ لنصبحٓ إحدى فزّاعاتِ الطّيور.
_____________
*Mornag, نوع من انواع الخمر الشعبي في تونس
لقد تطهّر من ملابسه القديمة فألقاها في النار :" و ألقيت بملابسي السابقة إلى النار"، في حركة رمزية تدل على رغبته في التجديد. و ها هو يختار لباسا واحدا يستره و يقيه برد روحه في هذه الرحلة التي سيكون المكان سببا في تحققها.
و لعل اول ما حقق بعد أن اتخذ قراره في الخروج هو " ارتديت برنسا" ، هذا البرنس الذي ظلّ معه منذ أن كان في * مقهى طاسكو" ( نص برنس ابيض في مقهى طاسكو)، و لعل فعل" خرجت " في صيغة الماضي جاء توكيدا لقراره. إنه خروج عن ماض طالما كان عائقا له عن التحرر و الانعتاق من سلطة الماضي الذي صوّره لنا بيتا بعيدا، فإذا المكان لعنة أصابته فأوهنت عزمه. فما هي دلالات هذا المكان عند السويح؟
البيت كجزء من المدينة لم يعد مصدرا للأمان و الراحة بل هو مصدر للحزن و الآلام :" بيتي الذي كان، يتراءى لي من بعيد كوردة حزينة تعبث بها المناسبات"، فهذه الوردة التي أبعد عنها الحديد في نصوص سابقة لم ينل من شذاها سوى الانكسار الذي صاحبه، فهو مفلس، حزين و " مدينتي العامرة قحبة تكره الرجال المفلسين"، فالمدينة الفسيحة أصبحت مطبقة على أنفاسه، لأنه يشعر بالافلاس، انه افلاس الروح المهترئة لا الافلاس المادي.
انها لعنة تلاحقه فتزرع فيه أشواك آلامها مع خوف من غد لم يتعوّده :" أمشي و قلبي مغتاظا من الغد"، ليواصل بنا رحلة المشي في عالم الوجع، فإذا به " يودّع الأحلام في مرحلة منقضية "، انه الضياع و العقم في بعديه المادي- الجسدي و الفكري- النفسي. فحتى الذي "ما بين فخذي" ينكره و يعجز عن امتاعه كما كان، بل هو مفلس في مكان يكره المفلسين ( مدينتي العامرة قحبة تكره الرجال المفلسين).
هذه الحياة التي خرج منها سرعان ما يعود إليها وصفا، فيبرز لنا أسباب خروجه منها بأسلوب فني يعتمد التداعي الحرّ ليقرّ لنا بالأسباب المباشرة و لكنه ضمنيا يخاتلنا للمحافظة على ماء وجهه، إذ يصدّر لنا كل هذه الأسباب و يشرّكنا في تحمّل أوزارها لنتعاطف معه. إنه يريد الظهور في مظهر القوي صاحب الإرادة، فيجعل منها أمرا ماضيا تجاوزه :" حياتي التي كانت"، و لكنه سرعان ما ينهار ليبرز لنا ضعفه و عدم قدرته على التحمّل ( السطر 10الى12)، ليؤكد لنا مرة أخرى ارادته :" حياتي السابقة"، و هي في الحقيقة إرادة واهنة، فهو أضعف من أن يواجه بل انه لم يتجرّأ طيلة خمسين سنة على المواجهة ( سطر 13)، انه مسلوب الإرادة فاقد لكل قوّة.
فالدين يتسلّط على روحه و كذلك الدولة تتسلط على قوته
و حريته، ليتبِع هذا الاقرار الأول باقرار ثانٍ هو هروب إلى الأمام بدل المواجهة. فينفي عنه أيّ قوّة :" لا شيء لي، لا أحد يودّعني"، انه ينهار و يشعر بالندم على مغادرته حياته السابقة ربّما. هذه الحياة التي كانت مليئة بالأحداث على تنوّعها و لكنه كان يجد ما يشغله فيها، كان يكتب نصوصا
و يستجمع ذكريات ، فإذا بِ " نصوصي يخرأ عليها الذباب ليطمس ذكريات لا ينسى الرب تفاصيلها ".
إنها المأساة تتجلّى في " لا شيء معي"، بعد أن شرب الأغنياء نخب عرقه فآزدادوا غنًى و لم يتركوا له " غير هذا البرنس الأسود" الذي ستر عوراته و لكنه انعكس على نفسيته التي غلبت عليها القتامة و السوداوية فيحيلنا ضمنيا على نص *معدة خاوية على مكتب *، فإذا به لم يتبقى منه إلا " هذا الجسد العصا " و برنس اسود يقيه برد الروح المتشظية يواصل معهما و بهما رحلة المعاناة :" نصعد سويا أعلى شجرة لنصبح إحدى فزّاعات الطيور"، ليستحيل المكان فزّاعة مخيفة أخرجته من حياته السابقة، من مدينته العامرة إلى أرض يبابٍ ودّع فيها احلامه عبر رحلة لم يخترها و لكنه كان ملزمًا بها تلاحقه لعنتها أينما حلّ فلم تنفعه لا طهارة جسده " بزجاجتي mornag "و لا برنسه الأسود ليغطّي به سوءاته،
و لا نصوصه التي خانته فخرأ عليها الذباب ليطمس ذكريات يحاول تناسيها و لكن الرب لا ينساها فعاقبه بها في رحلة للهروب من المكان ليقع فريسة لجلدِ الذات كسيزيف كلما وصل الا و سقط من جديد في ألعوبة اللعنة.
ان لعنة المكان التي صورها لنا أبو محمود السويح ماهي إلا صورة للإنسان تتقاذفه الأقدار، فلا هو تخلّص من براثنها و لا هي كفّت عنه، انها مأساة الانسان يتأرجح بين الماضي و الحاضر، بين الموجود و المنشود.
م أ مخلوف 23 أفريل 2020
عبد الواحد السويّح
لا شيء معي
قرّرتُ أن أخرجٓ من حياتي الماضيةِ
احتفظتُ بجسدي كما هو
طهّرتُهُ بزجاجتي Mornag* وألقيتُ بملابسي السّابقةِ إلى النْارِ
ارتديتُ برنساً وخرجتُ
بيتي الّذي كانٓ، يتراءي لي من بعيدٍ كوردةٍ حزينةٍ تعبثُ بها المناسباتُ
مدينتي العامرةُ قحبةٌ تكرهُ الرّجالٓ المفلِسينٓ
أمشي وعقلي يودُّ لو أتمّٓ كتابٓهُ الأخيرٓ الّذي اسنردّٓهُ من ملاكِ الشّرِّ
أمشي وقلبي يتوجّعُ مغتاظاٌ من الغدِ
أمشي وما بين فخذيّٓ يودّعُ الأحلامٓ في مرحلةٍ منقضيةٍ
حياتي الّتي كانت، لم تقوٓ على كلّ ذلك الجحيمِ
لم تتمالكْ أمامٓ انتحارِ العصافيرِ أمامٓ بطشِ الشّمسِ إمامٓ تهالكِ السّماءِ
حياتي السّابقةُ خمسون سنة نصفُها مسروقٌ من الدولةِ ونصفُها مسروقٍ من الدّينِ
لا شيء لي لا أحد يودّعني
نصوصي يخرإُ عليها الذّبابُ ليطمسٓ ذكرياتٍ لا ينسى الرّبُّ تفاصيلٓها
عرقي مكيّفُ الأغنياءِ
لا شيء لي غيرُ هذا البرنسِ الأسودِ وهذا الجسد العصا أبدأُ بهما مرحلةً مواليةً
نصعدُ سويّاً أعلى شجرةٍ لنصبحٓ إحدى فزّاعاتِ الطّيور.
_____________
*Mornag, نوع من انواع الخمر الشعبي في تونس