بسام الكعبي - عادل الأسطة: ناقد لامع ومحاضر بارع

سَجَل الناقد عادل الأسطة في المقطع الأخير من نصه القصصي (خربشات ضمير المخاطب) فقرة دوّنها قبل عشرين سنة: "كأن محمود درويش كان يقصد ما نحن عليه الآن حين كتب تضيق بنا الأرض تحشرنافي الممر الأخير. هل الضفة وغزة الآن في ظل هذه الظروف هما الممر الأخير والحشر الأخير". توقع الناقد الأسطة أيضاً في نصه الأدبي (ليل الضفة الطويل) ونشره قبل توقيع اتفاقية إعلان مبادئ أوسلو يوم 13 أيلول 1993؛ أن يستمر الليل السياسي طويلا في الأرض المحتلة، وتلج البلاد في حقبة معتمة وطويلة..كيف عَثر عادل الأسطة على أسلوب نقده المر وعكسه "بسوداوية"في أدبه ومقالاته النقدية؟ مِنْ أين عثر على أدوات كتاباته؟ وكيف وظف قسوة اللجوء في نصوصه؟ وقد لَمَعَ بامتلاكه طاقة كبيرة بمتابعة تفاصيل المشهد الثقافي الفلسطيني والعربي؟
حفيد بائع الكعك
عمل أحمد الأسطة،جد عادل، بائع كعك بسمسم في يافا. كانت الجدة تنهض فجراً لتحضير الكعك لزوجها قبل أن يحمل الفرش الخشبي على رأسه ويتجه على قدميه إلى بوابات مدارس يافا لتسويقه بين الطلبة، وبفضل نشاط البائع وعمله المهني الصارم؛ تمكن من بناء بيت واسع في حي النزهة على شاطئ يافا. أصيب الجد الأسطة بحالة من الذهول عندما فقد بيته في نكبة 1948 وتم طرده قسراً إلى مدينة نابلس، وتزايدت أوجاع بائع الكعك وتعرض لشلل رباعي منتصف الخمسينات، وظل مقعداً يتنقل على كرسي حتى رحيله سنة 1968 في مخيم عسكر القديم شرقي نابلس، وغاب وحُلم العودة إلى بيت لم يغب عنه، في حين تمكن نجله مصطفى من زيارة المنزل بعد هزيمة حزيران1967، تحدث بالعبرية التي يتقنها جيداً مع عائلة يهودية مهاجرة تقيم بجوار بيت والده المدمر، وقد أقيم على أنقاضه محطة بنزين!
هاجر والد عادل، السائق مصطفى أحمد الأسطة،بشاحنته من يافا نحو الشرق، وتحديداً إلى مدينة نابلس حيث تعود أصول عائلة زوجته، الصدّر، التي غادر بعض أفرادها المدينة للعمل في يافا بمهنة التنجيد واستقرت في مدينة الساحل، ثم اضطرت للعودة إلى جبل النار عقب النكبة الكبرى. أصيب والده مصطفى بالرصاص أثناء هجرته وعائلته، لكنه واصل السفر بشاحنته إلى نابلس وحط في مدرسة الغزالية. تقاسم مععائلات اللاجئين غرف المدرسة، وأقامت بعض العائلات في الجوامع حتى تم الإعلان عن إقامة مخيم عسكر سنة 1950، فانتقل مصطفى وأفراد عائلته للاقامة في الخيم.
ولد عادل يوم 13 حزيران 1954 تحت خيمة، قبل شروع وكالة غوث اللاجئين ببناء غرف إسمنت عام 1958. يحمل عادل الترتيب الثالث بعد الأخ الأكبر درويش (1950) الذي توفي سنة 1973 بحادث سير في منطقة وادي الباذان شرقي مخيم عسكر، وعدنان الشقيق الثاني (1952) المقيم في الأردن، ويعمل سائق شاحنة لنقل الخضروات والمواد الغذائية من عمان إلى دبي، وجاء سمير (1958) في الترتيب الخامس بعد شقيقته، وقد أنهى الثانوية العامة وعمل سائق سيارة أجرة، وأتهم سنة 1989 بمحاولة دهس جنود للاحتلال خلال الانتفاضة الأولى التي اندلعت أواخر1987، وأصيب بطلقات نارية، وأعتقل وحكم بالسجن الفعلي خمس عشرة سنة، وقضى سمير محكوميته كاملة في سجون الاحتلال. أنجب والد عادل ووالدته سبعة ذكور وست إناث، وتوفي الجنين الرابع عشر أثناء الولادة عام 1975. عاشت الأسرة الكبيرة في غرفتين صغيرتين متلاصقتين وبظروف اقتصادية صعبة.
تعلم المرحلتين الابتدائية والإعدادية طوال تسع سنوات في مدرسة مخيم عسكر التابعة لوكالة الغوث، واجتاز امتحان (المترك) سنة 1969. ترك الاستاذ زياد القمحاوي أثراً في تعليمه بمدارس الوكالة لرصانته وجديته في التعليم، وكذلك أستاذ اللغة الانجليزية الصارم حسن عيد، وأيضاً الأستاذ جورج من رفيديا غربي نابلس، الذي كتب عنه قصة حقيقية نشرها سنة 1979 بعنوان (درويش يتمرد) تناولت المواجهة بين شقيقه درويش والاستاذ جورج الذي حاول إجباره على تجرع كأس حليب بارد وبائس، يتناولها الطلبة يومياً وإجبارياً من مركز الرعاية في المخيم. لم يتمكن شقيقه درويش من تجرع الحليب رغم ضغط الاستاذ جورج، فأضطر لضربه بالكاسة والفرار. قرأ الأستاذ أحمد الحاج علي القصة، واستنتج المعلمون أن المقصود بها الاستاذ جورج الذي جاء غاضباً مهدداً برفع دعوى قضائية ضد عادل، وقد أكد له أنه ليس المقصود بالحكاية التي انتهت مع مدرس تميّز بالطيبة واللطف، وقد هاجر من فلسطين وأقام منذ سنوات بعيدة في الولايات المتحدة. اشتبك عادل مع أستاذ التاريخ والجغرافيا عبد الرحمن أبو شبيب الذي كان يحاول تمرير أفكار حزب التحرير إلى طلابه والتأثير عليهم بتقديم نقد لثورة الحسين بن علي، والدفاع عن الخلافة العثمانية. اعترض الطالب عادل، في إحدى الحصص، على تبديد وقت حصة التاريخ والجغرافيا، فتعرض لصفعة على وجهه، وطرد من الصف باتجاه غرفة مدير المدرسة أبو نبيل حمزة، الذي يتمتع بشخصية قوية وسطوة على الطلاب، لكنه وضع حداً للمشكلة الطارئة.
تعلم سنة 1969 في مدرسة الملك طلال الثانوية، وترك الأساتذة لطفي زغلول، رفعت الكخن بصمة على دراسته، رغم أنه أبدى امتعاضه من إدراج إسمه في مدرسة بعيدة عن مركز مدينة نابلس، لا توفر له مواعيد بدء الدراسة صباحاً والانتهاء منها عصراً، فرصة اكتشاف مراهقته والتسكع بشوارع تكتظ بالطالبات. المدرسة البعيدة كانت تجبره على النهوض باكراً وركوب الحافلة من مخيم عسكر إلى المركز التجاري، ثم المشي غرباً مسافة ليست قصيرة لبلوغ الطابور المدرسي الصباحي دون تأخير.
رابع الضفة وتاسع المملكة
انتقل سنة 1970 إلى مدرسة الجاحظ الثانوية شرقي المدينة، وقد باتت المسافة أقرب كثيراً إلى المخيم، وتتناسب مواعيد الدراسة صباحاً وعصراً مع اندفاع الطالبات إلى المركز التجاري للمدينة. بدأ يتغير تدريجياً ويغادر سريعاً سنوات المراهقة مع ازدياد اهتمامه بالأدب الوطني، وسماع قصائد أستاذه عبد اللطيف عقل، والاحتفاظ بديوانه الشعري الصادر حديثاً أنذاك (أغاني القمة والقاع)، فيما كان يرافق زميله الطالب حلمي الزواتي لقراءة أشعاره في غرفة المعلمين بدعوة من الشاعر عقل، وقد كان يبدي اعجابه بصورها الشعرية وصدق انتمائها الوطني، وشهد قيام الاحتلال بإبعاد مدير المدرسة غالب إسماعيل إلى الأردن بذريعة النشاط الوطني وتأييد المقاومة الفلسطينية.
أنهى الثانوية العامة سنة 1972 بتفوق، وحصل على المرتبة الرابعة في الضفة الغربية والتاسع بين الذكور على مستوى المملكة الأردنية. حصل على منحة للدراسة في الجامعة الأردنية رغم رغبته في الدراسة في فرنسا، ولم يتمكن من الحصول على منحة فرنسية، ولا يعرف حتى اللحظة كيف طارت المنح الفرنسية؟ ومن فاز بها؟ وكيف تم توزيعها؟ كانت خياراته محدودة في الجامعة الأردنية: لغة إنجليزية أو أدب عربي! صدفة عثر على صديق قديم أفشى له بالابتعاد عن قسم اللغة الانجليزية: المدرسون أجانب، والطلبة خريجو مدارس خاصة يتقنون الانجليزية بطلاقة، ولن يستطيع الفقراء منافستهم، وكشف صديقه أنه سيعيد السنة الدراسية لانه رسب بالامتحانات. إختار عادل الأدب العربي وتفوق في دراسته، وحافظ على مستوى جيد جداً وظل في قائمة أفضل عشرة طلاب في الدائرة.
وفرت المنحة الدراسية الأقساط الجامعية السنوية، وشهرياً عشرين ديناراً أردنياً، إضافة إلى خمسة عشر ديناراً سنوياً لشراء ما يحتاجه من كتب، ولم يتردد في اقتناء أبرز الكتب في الأدب: (ديوان الوطن المحتل) للكاتب والشاعر يوسف الخطيب الذي رصد فيه كل شعراء الارض المحتلة، وسجل فيه مقدمة طويلة من تسعين صفحة، وظل حريصاً على الاحتفاظ بالكتاب إلى أن أنهى دراسته وقرر العودة إلى الوطن المحتل فقدمه هدية لصديقه علي العقده. واظب على شراء الكتب والمجلات الأدبية، وتابع عبر صفحات (أفكار) الأردنية خلاف الحركة الأدبية الفلسطينية بين الداخل المحتل والخارج، وتكتل محمود درويش ومعين بسيسو بمواجهة سميح القاسم وإميل حبيبي قبل حل الخلافات الطارئة والعابرة. ترك الأساتذة عبد الرحمن ياغي وهاشم ياغي ومحمود إبراهيم أثراً كبيراً في مسيرته الأكاديميةوالأدبية، وعاد إلى الضفة الغربية المحتلة متأثراً بأفكار أستاذه عبد الرحمن ياغي بشأن الهم الجماعي ورؤيته الفلسفية الماركسية في وظيفة الأدب، وبرز ذلك في مقالاته الأولى التي نشرها في مجلة (البيادر) المقدسية حول رواية (نجران تحت الصفر) للكاتب يحيى يخلف، ورواية (الصبّار) للكاتبة سحر خليفة، وديوان (أغنيات الليالي الأخيرة) للشاعر خليل توما، وأوحى له قراءة فصل (المدينة في الشعر العربي المعاصر) من كتاب (قضايا الشعر المعاصر) لمؤلفه عزالدين إسماعيل؛ بكتابة دراسة نقدية أدبية بعنوان (تجربة المدينة في شعر عبد اللطيف عقل).
معلمٌ محفز
التحق مطلع أيلول 1976 بسلك التعليم في مدرسة تل الثانوية قرب نابلس لمدة ثلاثة أسابيع، ونقل إلى مدرسة الصلاحية الثانوية لتعليم اللغة العربية بدلاً من معلم الفلسفة عبد اللطيف عقل، وقد قرر الاحتلال إلغاء مادة الفلسفة في المدارس، وحوّل معلمو المادة لتدريس اللغة العربية. أبدى عبد اللطيف عقل احتجاجه وقرر ضابط الاحتلال المشرف على المدارس نقله إلى مدرسة بورين، ثم قدم عقل استقالته وغادر إلى الولايات المتحدة لاستكمال دراسته العليا، ونال شهادة الدكتوراه من جامعة هيوستن الاميركية.
صمدَ عادل سنة وشهرين في مدرسة الجاحظ، وهبط راتبه من 64 ديناراً شهرياً إلى 44 ديناراً بفعل تآكل العملة الإسرائيلية. تمكن خلال هذه الفترة من إنشاء مكتبة مدرسية، وشراء كتابين أسبوعياً بتمويل من مصروف الطلبة، على أن يستعيرها الطالب لفترة قصيرة ويسلمها إلى زميله، وتضمنت المكتبة روايات تقدمية ويسارية عربية بطبعات فلسطينية أسهمت كثيراً في بلورة رؤية تقدمية لمجموعات كبيرة من الطلبة. عثر على شاغر في مدارس وكالة الغوث، والتحق بوظيفة معلم في قرية العقربانية في الأغوار براتب أفضل بكثير من راتب المدرسة الحكومية، وكرر تجربة إنشاء مكتبة مدرسية وشراء روايتين أسبوعياً، إلى أن اقتحم جنود الاحتلال المدرسة، وأبدى المدير خوفه على الطلبة فاعتقل الكتب في خزانة وأحكم إغلاقها.
شكل عادل مع زميليه في مدرسة العقربانية محمد كمال جبر أستاذ الرياضيات وعادل الزواوي، خلية ثقافية تتابع النشاطات الثقافية، وتقرأ معظم الاصدارات الأدبية، وبخاصة أن الباص الوحيد الذي كان ينقل المسافرين صباحاً من نابلس إلى أريحا يعود بهم عصراً، ووفر وقتاً للقراءة والتحليل والنقد، ووقع سنة 1979 أول مجموعة قصصية بعنوان (فصول في توقيع الاتفاقية) من إصدار دار الأسوار في عكا، فيما أبدى محمد كمال اهتماماً بالحركة المسرحية وأسس مسرح الزيتون، وأخرج عدة مسرحيات للكاتب السوري سعد الله ونوس، قبل أن تتفكك الخلية الثقافية في مدرسة العقربانية، ويغادرها محمد كمال إلى مدارس وكالة الغوث في مخيمي بلاطة وعسكر ثم معهد الطيرة في رام الله، ويتسلم الزواوي مفتشاً للتربية بمدارس وكالة الغوث. تزوج عادل سنة 1983 وانفصل عن زوجته سنة 1989، وكانا قد أنجبا روز (1985) وفائزة (1986) وتعيشان مع والدتهما في الأردن، وسجل وقائع لقائه بكريمتيه بعد انقطاع دام عشر سنوات، وجاء النص بعنوان (تفاصيل ذلك اللقاء) المدرج على موقع جامعة النجاح الالكتروني. ظل عادل منذ تدوينه تفاصيل اللقاء حريصاً على التواصل مع كريمتيه بانتظام ولم ينقطع عنهما.
محاضر جامعي
غادر عادل المدرسة سنة 1982 بعد خمس سنوات في الوظيفة، وذلك لاستكمال دراسة الماجستير في الجامعة الأردنية، ونال شهادته على أطروحة (القصة القصيرة في الضفة الغربية وقطاع غزة 1967- 1981) وعاد للتعليم كمحاضر في الأدب العربي بكلية آداب جامعة النجاح الوطنية في نابلس.
حاضر خمس سنوات في جامعة النجاح، وغادر إلى ألمانيا سنة 1987 لاستكمال دراسته العليا ونال شهادة الدكتوراه في الأدب سنة 1991 بأطروحته (اليهود في الأدب الفلسطيني 1913- 1987). عاد إلى وظيفته بكلية آداب جامعة النجاح عقب تخرجه، ووضع تجربته الألمانية في كتاب أصدره سنة 1993 بعنوان (تداعيات ضمير المخاطب) تناول يومياته في المانيا، وقد وفر السرد الأدبي معلومات وحكايات عن البلاد التي عاش فيها طالباً خلال أربع سنوات، ثم أصدر سنة 1996 رواية بعنوان (الوطن عندما يخون).
أصدر سنة 2002 مجموعة من القصص القصيرة بعنوان (فسحة لدعابة ما) تناول فيها ضمن خمس عشرة قصة قصيرة يوميات إنتفاضة الأقصى التي اندلعت في القدس أواخر أيلول 2000، والقصص متوفرة على موقع ديوان العرب الالكتروني لكنها لم تطبع في كتاب.وأصدر أربع مجموعات قصصية قصيرة تؤرخ وقائع الاحداث بدءاً من العام 1982
أنهى مخطوطة أدبية بعنوان (حزيران الذي لا ينتهي) ونشرها مؤخراً في المواقع الالكترونية قبل الورق، وإستعاد فيها وقائع نكبة حزيران1967 المتواصلة دون نهاية مرتقبة، ويحاكي فيها الأحداث بطريقة الكاتب إميل حبيبي في روايته (المتشائل) دون إقتباس أو تقليد لأسلوب الروائي..يقضي الأسطة وقتاً طويلاً في متابعة الكتابات، والندوات، والمحاضرات، وتدوين "خربشاته"اليومية عبر وسائل التواصل الاجتماعي، ويحرص على مقالته الأسبوعية التي ينشرها منذ سنوات في صحيفة "الأيام" المحلية، ويحرص أيضاً علىدفع طلابه في جامعة النجاح للتفوق، وحثهم على شق طريق إبداع لا يتوقف عند شهادات جامعية.




تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...