في واحدة من النصوص البديعة للناقد المغربي عبد الفتاح كيليطو، في كتابه "بحبر خفي" يقول: "يتمُّ في الغالب تفضيل قراءة نصّ روائي على مجموعة قصصيّة، لأنّ كلَّ وحدة من وحداتها تتطلب استعدادًا مُتجدّدًا وعناءً مستأنفًا للاندماج في بيئتها والانصهار في أجوائها". في الحقيقة هذا فارق مُهمٌّ جدّا بين القصة القصيرة والرواية، ربما لم يلتفتْ إليه النقاد.
متوالية قصصية
الجميل أن هناك مِن كُتَّاب القِصَّة مَن يستعيد هذا الفن الجميل، ويمنحه قيمته وأصالته، وفي نفس الوقت تأتي كتاباتهم كتأكيد على ما طرحه كيليطو، دون ضجيج، أو طنطنة. فالقصّة عندهم – مع استقلاليتها - وحدة متكاملة لا تُرى إلّا في كليتها، وليس في جزئيتها، على نحو ما نرى في مجموعة القاص صابر رشدي "شكولاتة نيتشه"، الصّادرة مؤخّرًا عن سلسلة أصوات أدبيّة، الهيئة العامة لقصور الثقافة. تأتي المجموعة في 27 نصًّا بديعًا، لا يشبه بعضه بعضًا، وإن كانت تمتح من بيئة مكانيّة واحدة، بحضور المكان الشعبي، حيث الطقوسيّة والكرنفاليّة والحياة في بساطتها وصخبها، وأيضًا في إنسانيتها وقسوتها.
وكأنّها تتمثّل (أو تتماهى مع) لواقعها لا في شخصياته وحكاياتهم وهواجسهم فحسب، وإنما في حميميتهم ونزعتهم الإنسانيّة، أو التمثُّل لفكرة نيتشه في "السير على الطريق"، التي هي رديف للخطر أو القلق عند الوجوديين، وهو ما يشير إلى كدحهم وصراعهم مع العالم الذي ينتمون إليه.
كما تتمثّل أيضًا للغته وللحوارية المهيمنة؛ كتكريس للأُلفة والمشاركة كما هي عند باختين، وطرائق تفكيره الذي يعتمد على وعي مغاير ينحاز إلى التفكير البدائي. إضافة إلى أنها ترفد من مصدر واحد هو الذاكرة. وفوق هذا وذاك، ثمّة روح خفيّة تسري تربط القصص برباط يجعل منها نصًّا واحدًا، يقترب من حدود المتواليّة القصصيّة.
فالقصص على استقلاليتها الظاهرة؛ حيث لكلِّ قصة عنوان مستقل، وحدث مختلف، وإن كان يظل الراوي وما يستحضرهم من أصدقاء حاضرين، يتتبع أحوالهم عبر حكايات مختلفة، فتح لها قوس السرد مع قوس الحياة، هما الخيط الممتدّ بين جميع القصص، حيث تيمة روح الجماعة والنزعة الإنسانيّة تهيمن عليها، سواء بتعدّد شخصياتها الحاضرين في كثير من القصص، فلا توجد قصة بطلها شخص واحد، بل على العكس تمامًا، نلاحظ ازدياد الشخصيات، حتى لو لم تكن فاعلة، فقط بالحضور، على نحو الشخصيات الموجود في حفل الزار، أو في مشاهدة واقعة معركة محسن والي أو في مشهد العزاء والسينما. أو حتى في علاقات الأصدقاء معًا، فهم متواجدون في إطار جماعي، سواء في البيت للاستذكار وسماع حكايات الجارة كما في قصة "هناك شيء يحترق"، أو حتى للعب والمهاترات كما في قصتي "انتصارات، والنيل عند وكالة البلح" أو حتى في رحلة البحث عن المتعة سواء كانت المخدرات كما في قصة "مخدرات الطفولة"، أو النسوان كما في قصة "سيدة النهر".
الرّوح الجماعية
اللافت أن استحضار الرُّوح الجماعيّة، يأتي مُلتبسًا بوعي تحتي مُتصلب ينشد لروح الخرافة التي تٌعارض (أو تتحدى) الحداثة، فالطب يكون عن طريق العلاج بالماعز، وطرد الأرواح الشريرة يكون بالزار، وغيرها كالإيمان بالأرواح والسعي إلى تحضيرها، أو الاعتقاد بتلبس الجن للزوجة ومعاشرتها وهو ما ينتهي نهاية مأساوية بالزوج كما في قصة "شكولاتة نيتشه".
كما أن هذه الرُّوح الجماعيّة تنتصر لقيمها وأنساقها، فبطل قصة "النافذة" ينال العقاب لأنّه تخطّى أنساق المكان، وترك نفسه لأوهام خياله الجامح فتتبع من النافذة علاقة حميمة بين زوجين، اخترق بنظره ما هو محرّم، ومن ثمّ كان العقاب، أصيب في ذات المكان الذي حرّضه على اختراق نسق المكان، فظهر على هذه الحالة عندما رأه أصدقائه: "منفرجًا، ممسكًا بمقدمة جلبابه الفضفاض، مباعدًا له عن نصفه الأسفل ... متألمًا مع كل خطوة".
حكاية هذا العامل والعقاب السماوي أيضًا، تقف في مقابل الأنساق المضمرة التي لا تظهرها القصة، فجُرم التلصص الذي عوقب به العامل، صار مفخرة الآن، بعد أن انتهكت الخصوصية. هكذا الماضي يحيل إلى حاضر أسوأ ومن ثمّ كان الهروب منه إلى هذا الواقع، بمضاده، الراوي لم يذكر شيئًا عن الواقع المعاصر، لكن صيغة الماضي كشفت عن نقيضه (الحاضر). وهذه اللعبة، الهروب من الواقع المعاش إلى ماضٍ ولّى، تكشف عن ما هو أبعد من حكايات النوستالجيا إلى الأنساق المُضمرة، والمتخفيّة في هذه الحكايات!
هذه الرُّوح الجماعيّة تجعل من مجموع القصص بناءً متضافِرًا، يعكس رؤية الرُّوح الجماعيّة المترعة بفرح عارم بالحياة وملذاتها، وهو معنى يحمل دلالات تُفارق زمن القصص، إلى زمن الحكي تعود أوّل ما تعود إلى الراوي الذي يبدو فرحًا بما يسرد، وإن كان يخفي عكس ما يظهر "فما الفرح بالحياة إلا انفلات من قهرها بتبني نقيضها".
فالتولُّع بوصف الحياة في كافة نواحيها؛ الفرح والحزن، اللّهو والمأساة، الشبق والعربدة، إلخ... لهو تعبير عن يوتوبيا تحقّق لساردها فرحًا لأنه عاشها، وحزنًا على افتقادها الآن وهو يروي، فيعمل على العيش في يوتوبيا الماضي باستدعائها هربًا من جحيم الواقع.
اختبار الذاكرة
المجموعة أشبه باختبار لهذه الذاكّرة، على التقاط تفاصيل حياتيّة مغايرة عن واقعنا الرّاهن، بما حلّ عليه من مُستجدات وتحوّلات في بنيته وأيضًا في أنساقه، لا أقول كتابة نوستالجيا، وإن كانت تقترب منها – بدرجة ما - بما أورده من عادات وألعاب وحكايات عن الطفولة والمراهقة، وغيرها. ولكن في ظل ميل القصص وحكاياتها لزمن ماضٍ، مفارق للحظة الكتابة وزمنها الآني بكل إيقاعه السّريع اللاهث، وتوتراته على المستوى الاجتماعيّ والسياسيّ المحليّ والعالميّ، أتساءل: هل لي أن أقرأ هذه القصص في حدود زمنها الفعلي، كأن أنقل نفسي لهذا الزمن وحكاياته، وبعد القراءة أتحسر على الزمن الجميل، أم أقرأها في زمن كتابتها وتلقيها؟ فكما يقول بارت إن: "وحدة النص لا تكمن في محطة انطلاقه ولكن في محطة وصوله".
في الحقيقة ثمّة مفارقة قائمة بين زمن الحكي (القصص) وزمن القراءة؛ المفارقة تكشف عن تغريب فعليّ بين واقع الزمنيْن، وأيضًا بين الحياتيْن، وهو ما يُوحي باستحالة اللقاء، فالأحداث التي وقعتْ في الماضي لا يُمكن أن تحدثَ الآن، والأسباب قالها الراوي، ومررها عبر رسائل القصص المُضمرة. فحضور الماضي بتلك الحميمية والأُلفة، يأتي كتوسّل مُضادّ أشبه بحيلة لمقاومة هذه الفردية والتباعُّد الاجتماعي، وكسر لحالة الاغتراب التي يعيشها الفرد في مجتمع الحداثة والتكنولوجيا، أهم سِمَة فيه أنّه مجرد عدد من مجموع - مع الأسف - لا يأبه به، فاُنْتزعت منه إنسانيتّه، إلى أن صار مجرد تِرس يدور مع ساقية الحياة ومتطلباتها التي لا تنتهي. هنا تُستعاد - أوّلاً - الحياة في بساطتها وحيويتها، مقابل حالة الموات والجمود التي نشعر بها، في ظلّ حركة الترس في المجموع. وثانيًا تُستعاد القيم والأنساق الحاكمة، حتى لو كانت في ردّةِ الفِعْلِ المتمثِّلَة في العقاب الرّادع على الخروج عن أنساقها.
عالم الطفولة البهي
عالما الطفولة والمراهقة بكل براءة الأوّل، ونزق الثاني ومغامراته وانتصاراته وإحباطاته ومآسيه وأحلامه المُحرَّمة، هو المُهيمن على المجموعة ككل، حيث الشقاوات بما فيها المُحرّمة التي كانت تُمارس خِلسة في صفوف المدرسة، والتي يأتي بعضها كنوع من الانتصارات المؤجّلة على مَن هزموهم في الواقع كما في قصة "الولد الذي.." حيث يقهر مدرسته بفعل جنسي صادم داخل الصف. ومثلما يحضر الواقع الاجتماعي بفقره المادي وعوزه، تحضر السياسة باعتبارها عاملاً من عوامل الإحباط، فتحضر وقائع مظاهرات الخبز، مِن عينيّ طفل مُرتعب مما يرى ويشاهد أمام عينيه، وبالمثل تحضر حادثة المنصة، وإن كانت برؤية تستلمح الموت عبر صورة الاستعراض والخيلاء أثناء مرور موكب "الرئيس سيمرّ بعد دقائق" على نحو ما عبرت هذه القصة.
وهنا يَبْرُزُ معنى مُضمر يتمثّل في السخريّة من هذا الواقع، وفي الأصل الواقعيْن؛ الماضي والحاضر. تأمّل المفارقة بين أجواء القصة الأولى "العلاج بالماعز" وأجواء القصة الأخيرة "الرئيس سيمرّ بعد دقائق" ستكتشف الدلالات المُضمرة التي ينتجها النّص، ومن ثمّ كانت نبوءة الموت نتيجة لهذا التناقض بين الفقر المُدقع والبذخ السّفيه. فهؤلاء الذين يموتون طلبًا للعلاج وينشدون العلاج الشعبيّ لعجزهم عن العلاج في المستشفيات كما أوضحت قصة الطابور، هم مَن تُخمد أصواتهم واحتجاجتهم بالهراوات والرَّصَاص، عندما طالبوا بحقهم في الحياة بعد ارتفاع الأسعار في مظاهرات الخبز. نفس المفارقة الواضحة بين حالة الوحدة التي تبدو عليها "سيدة النهر"، فالزوج قاسٍ يضربها، وعندما تستجير بأسرتها، يردونها إليه؛ فهم خائفون منه. مقابل وحدتها التي دفعتها إلى محاولة الانتحار كانت هذه الروح الجماعيّة التي أنقذتها، فلم ينقذها فرد واحد، وإنما تشاركوا جميعا في عملية الإنقاذ.
فالسُّخرية مغلَّفة بنقمة على الواقع القديم بما شابه من بؤس وفقر وقهر اجتماعيّ وسياسيّ، فهو أشبه بالغابة تنهض فيه الحياة على القوة لا على الحق. وهو ما لا يختلف عنه الواقع الآن، الذي هو تجسيد فعلي لصورة الغابة، فكأنّ الماضي والحاضر اشتركا معًا في خلق واقع بديل يعيشه السارد ينهض على أنقاض وأطلال الماضي، باحثًا عن يوتوبياه.
المجموعة تبدو صورة مختصرة لواقع مصر في حِقبة من تاريخها القريب وليس البعيد، متمثّلة في أحيائها الشعبيّة، وشوارعها، واشتغالات الناس، من منظور عين الطفل الذي كان شاهدًا ومعاصرًا وفاعلاً في الكثير من الحكايات. عين الطفل تتبع الحياة أينما كانت، في شوارع روض الفرج ووكالة البلح، وسينماتها، وأماكنها الملغزة؛ أماكن المتعة كأوكار الجنس والمخدرات، وفي غرفها المُغلقة مع النّسوة المعزيات، أو تلك التي يُقام فيها الزار، مرورًا بالأَسِرّة حيث الجِماع المَحموم، والشَّبق المُترع باللَّذة المَمْزُوج بالمخدِّر، في لحظات النشوة وأيضًا في لحظات العجز، ومع المرضى وهم يقفون في طابور يُمارس عليهم تارة قهر الفقر بالانتظار غير المُجدي، وقهر سلطة الأعلى بما تُمارسه من سرقة وابتزاز في صورة الممرضين.
نزعة إنسانيّة
ثمّة نزعة إنسانيّة تسري في المجموعة، وهي من تأثيرات نيتشه، الذي لم يأتِ اسمه هباءً على عنوان المجموعة، حتى لو برّر بطل قصة "شكولاتة نيتشه"، حضروه بأنه لديه لمحة بسيطة مشوشة، وفي الأخير هو " ثمة شخص مشهور على أي حال، تعرفه الملايين" دون تحديد لهويته وكنهته. لكنْ في الحقيقة، هو حضور له انعكاسات على شخصيات المجموعة التي ينطبق عليها أنها "إنساني مفرط في الإنسانية" كما عبّر نيتشه، خاصّة في مواقف بسيطة ولكن كاشفة، كأن تأتي النّسوة لمشاركة صاحبة العزاء في العِدّيد، أو تواطؤ الصبيّة على جريمة محسن والي عندما قضم إصبع أشرف حسن، باختراع أسباب مُلفّقة.
التواطؤ ليس حرصًا على المشاركة في الإثم أو خوفًا من العقوبة، وإنما استجابة لدواعي إنسانيّة كامنة، درءًا لدعوات "قصاص بالسيوف وعصى غاضبة"، أو إيمانًا بحتمية تحقيق العدالة الإلهيّة حتى لو تأخّرت، لكن ستأتي "فبعد سنوات داهمته آلام رهيبة من هذه الهواية،...(ثم) فوجئ الأطباء بعد عدد من الفحوصات الدقيقة بأن هناك أشياءَ غريبة تلتصق بكليته (والتي لم تكن) سوى أظافر آدمية جميعها". وحاضرة في مشهد إنقاذ سيدة النهر حيث يتضافر الجميع في مشهد إنساني عذب يكشف هذه الروح الجماعية ونوازعها الإنسانيّة مع أن تواجدهم في المكان كان بدافع غريزي وشهواني لا أكثر.
شخصيات هذه المجموعة هي ابنة بيئتها الشعبيّة، العامرة بالحكي الشعبي والروايات، وهي عنصر من عناصر الألفة في هذه البيئات، لاحظ المرأة العجوز التي يلتف حولها الطلاب في قصة "شيء يحترق"، يستمعون لحكاياتها وبالمثل في قصة "شكولاتة نيتشه"، بطلها المراوغ النفعي الذي لا تمر عليه الأشياء دون استغلال، إلا أنّ جانبًا آخر في حياته مهمّ، حيث يطاردهم بحكاياته العجيبة وأساطيره المذهلة، حتى ولو كان مبالغًا في معظم أقواله إلا أنه يسحرهم بخياله الجامح.
كما أنهم ينتمون إلى واقعهم بإيمانهم بأنساقه الحاكمة كالخرافة والتداوي الشعبي، والإيمان بضاربي الودع، والهوس بالمنشطات الجنسيّة حتى ولو كان على سبيل الوهم، والتطيّر كما في قصة رياح أمشير، فالبطل المعروف عنه صولاته الجنسيّة يعجز مع زوجته الجديدة التي ضحّت بكل شيء من أجل استعادة المتعة، لكن يحدث ما لا يكن في الحسبان، فيحيل الأمر إلى صراع ومواء القطط، فيضطر مدارة لعحزه وفشله لأن يطردها. الغريب أن تأثير الإيمان بالخرافة والماورائية ليس ماثلاً في صور الحياة كما استعرضتها القصص، بل أيضًا في الحكايات كما في بطل قصة "شيكولاتة نيتشه" الذي يستغل قرين زوجته الجنيّ لتنفيذ مطالبه.
كما ثمّة إلحاح يؤكّد هذه الحميمية وتلك الأُلفة عبر ذكر أسماء الشخصيات، وكأننا نعرفهم ويذكّرنا بهم دائمًا باستدعاء الأسماء، انظر: محسن والي وأشرف حسن، ومحمود حنفي وسامي السيد، جمال إمام، لطفي عشم، جلال فاروق، سمير عبد الرحيم. هكذا تتكرر أسماء الشخصيات وأفعالهم التي تتشابه مع شخصيات عرفناه وأفعال كنا شاهدين عليها، كالسباحة في النيل أو الترع، والقفز من أعلى الكوبري كنوع من التحدي، أو صراعات مباريات كرة القدم في الشارع، أو ارتياد دور السينما، أو رعونة الطفولة والمراهقة وغيرها كما في قصص برطمان زجاجي، وانتصارات وسينما فلوريدا "النيل عند وكالة البلح، وأنامل، الطريق إلى الأستاد".
تتجاور أماكن الألفة في القصص من سوق شعبي، إلى صالة في بيت لأداء العزاء، إلى ملعب في الشارع، إلى سينما، جميعها أماكن مفتوحة تتسع للجميع وتتميّز بالمشاركة والترابط، حتى الأماكن المغلقة بانتقال الأشخاص إليها تنكسر عزلتها أو رفضها، فدلالتها تكتسب وفق احتياجات الإنسان، على نحو ما ذكر يوري لوتمان. كما أن صخب الحياة يتجاوز الأماكن المفتوحة، إلى الأماكن المغلقة.
تكشف القصص عن أنساق مضمرة في بنية المجتمع كالقهر التراتبي فالأعلى يُمارسه على الأقل. وبالمثل نراه في غضبة السلطة إذا انتهكت حرمتها في حين إذا انتهكت حرمات الشعب فغض الطرف، ففي قصة "الأنامل" التي ترصد عالم الإجرام والأشقياء، وصراعاتهم الخفيّة للاستحواذ والسيطرة، وأيضًا وسائل الربح السريع، تعكس عالمًا من البؤس حيث البرئ يتعرض للإرهاب والسرقة العلنيّة، والفتيات يتحرش بهن دون أن يتعرض أحد للمتحرشين بشيء، ولكن ما أن قام الثلاثي الإجرامي بالتعرُّض لابنة أحد رجالات الاتحاد الاشتراكي، تمّ تعليق الثلاثة في فلقة فوق إحدى البالوعات في رسالة يسمعها القاصي والداني. بأن السلطة لا يجوز اللعب معها، وهو مبدأ ساري مع تبدل العصور والأزمنة والرجال.
حالة الخوف في قصة "النيل عند وكالة البلح" تظهر مشاعر حقيقية تُعبّر عن حالة الروح الجماعية، حتى لو انتهت القصة بترك الأصدقاء لصديقيهما المتنافسيْن، الهروب ليس جبنًا، وإنما على النقيض تمامًا، فأمام عجز الأصدقاء عن الحيلولة دون اتمام الرهان بالقفز من أعلى الكوبري، بدأ الخوف يتسلّل إلى الصديقين، خاصّة أن ثمة شواهدَ سابقة تؤكّد المصير الذي سينقاد إليه الصديقان.
كشفت الحوارات البسيطة بين الأصدقاء، عن قلق شديد، ومن ثمّ كان القرار بالهروب، خوفًا من أن يكونوا شهودًا على مأساة، هذا الخوف انعكس على حالة الترقُّب والانتظار لأيّة أخبار تؤكّد حدوث المأساة، فحالة الهروب قابلها تقريع ذاتي لتصرُّفهم المخيب بالانسحاب، لكن كانت المكافأة أن الصديقيْن عادا، والحكاية المأساوية تحولت إلى فانتازيا وهما يحكيان كيف عادا عارييْن، وركوبهما الأتوبيس انتهاء بوصولهما إلى البيت.
المأساة والفنتازيا
التحوّل من مأساة الواقع إلى الفانتازيا أو العكس (من الفانتازيا إلى المأساة) تكاد تكون سمة بنائية لقصص المجموعة، ففي قصة "العلاج بالماعز" بعد المشهد الفانتازي عن النّساء الجالسات وتربط كل واحدة منهن "معزة ذات أثداء ضخمة"، مقابل النساء القادمات من مناطق مجهولة يحملن أطفالًا مهزولين، تضربهم سخونة قاتلة، وتتناثر على وجوههم البثور. وفي قصة "النافذة" تتحوّل المأساة إلى فانتازيا، وفي قصة "برطمان الزجاجي" تتحوّل مشاغبات الأطفال إلى مأساة بعدما يخدع الرّاوي صديقه وجاره رياض السيد، بأن البرطمان فيه سكر، فيبتلع كمية كبيرة، تسبب له ألمًا فظيعا انتهى به الأمر إلى المستشفى.
الفنتازيا تجعل من مواء قطط في موسم التزاوج سببًا لإفساد متعة لقاء أُعدّ له جيدًا بين رأسمالي فخري يتباهى بزيجات وامرأة مترملة. وبالمثل في قصة "شيكولاتة نيتشه" يسخر الزوج قرين زوجته لخدمة مصالحه، المكيافيلية يتحايل على هذا الجنّيّ ويستغله في ما يدر عليه مالاً، بعد أن اختبره في أعمال مساعدتها في البيت إلا أنه يطلب منه مطالب أكثر نفعًا في مصنع الحلوى لكن هذه المنفعة تتنهي نهاية مأساوية كعادة القصص حيث تحمل زوجته من هذا الجنّيّ الوله بها، في ظل حموة الزوج للثراء، وتنهي القصة لكنها تضع قارئها في تأويلات واستكمال فجوات النص عن نوع الجنين، وإلى أي فصيلة سينتمي وكيف سيكون شكله؟!
في قصة "الطابور" تفارق القصة واقعيتها الفجة، بما يتعرض له المرضى من الفقراء الذين يقبلون على المستشفيات الحكومية، من قهر وإذلال وهو ما يُفسِّر حالة الهروب إلى المستشفى الشّعبي في القصة الاولى "العلاج بالماعز" لتنتهي بهذه الكوميديا وإن كانت سوداء، فـ"أم شكل" المرأة النمط تتكفّل بإنهاء هذا الموقف العبثي، بل جملتها كانت خاتمة مناسبة لوقع متهرئ "هذه المياه تغسل بها مؤخرتك". لا تأتي هذه الجملة كقفلة للقصة، بل في رأيي هي جملة مفصلية خاتمة تليق بمشهد عبثي من بدايته أقصد من بداية قصة العلاج بالماعز.
تأمّل قفلة القصة وما تكشفه من معانٍ مضمرة، تؤكد حالة القهر، والكبت، التي لم يعد بالإماكن تحمل المزيد من الضغوط والإكراهات:
- "ثمّ قامت بفتح الزجاجة، وأفرغتها فوق رأسه وهي تواصل شتائمها، دون أن تهدأ لحظة واحدة، لتنهي ثورتها بدفع البرميل بكامل قوتها، ليسيل مابداخله فوق الأرض، وسط صمت الجميع، لتنصرف بعدها محتفظة بملامحها الغاضبة، أمام هؤلاء الذين ألجمتهم الصدمة، ولم يجرؤ أحدهم علي مواجهتها" هكذا تنهي أم شكل المشهد لصالحها، بفعلتها تنتصر لنفسها، ولآخرين تحمّلوا هذا القهر، وهذه سمة أيضًا بارزة في المجموعة، فالعقاب يكون نيابة عن آخرين، عانوا من الجرم على نحو ما حدث في قصص "برطمان زجاجي، والنافذة، والطابور".
هذه مجموعة ثرية، وخادعة متعدّدة الدلالات. مكتوبة بحرفيّة، لا تكتفي بجذب قارئها وإنما تورطه – أيضًا - في تفاصيلها وتجعله يتعاطف تارة مع شخصياتها، وتارة أخرى يلعنهم، وتارة ثالثة يحقد عليهم؛ لأنه لم يعش زمنهم.
متوالية قصصية
الجميل أن هناك مِن كُتَّاب القِصَّة مَن يستعيد هذا الفن الجميل، ويمنحه قيمته وأصالته، وفي نفس الوقت تأتي كتاباتهم كتأكيد على ما طرحه كيليطو، دون ضجيج، أو طنطنة. فالقصّة عندهم – مع استقلاليتها - وحدة متكاملة لا تُرى إلّا في كليتها، وليس في جزئيتها، على نحو ما نرى في مجموعة القاص صابر رشدي "شكولاتة نيتشه"، الصّادرة مؤخّرًا عن سلسلة أصوات أدبيّة، الهيئة العامة لقصور الثقافة. تأتي المجموعة في 27 نصًّا بديعًا، لا يشبه بعضه بعضًا، وإن كانت تمتح من بيئة مكانيّة واحدة، بحضور المكان الشعبي، حيث الطقوسيّة والكرنفاليّة والحياة في بساطتها وصخبها، وأيضًا في إنسانيتها وقسوتها.
وكأنّها تتمثّل (أو تتماهى مع) لواقعها لا في شخصياته وحكاياتهم وهواجسهم فحسب، وإنما في حميميتهم ونزعتهم الإنسانيّة، أو التمثُّل لفكرة نيتشه في "السير على الطريق"، التي هي رديف للخطر أو القلق عند الوجوديين، وهو ما يشير إلى كدحهم وصراعهم مع العالم الذي ينتمون إليه.
كما تتمثّل أيضًا للغته وللحوارية المهيمنة؛ كتكريس للأُلفة والمشاركة كما هي عند باختين، وطرائق تفكيره الذي يعتمد على وعي مغاير ينحاز إلى التفكير البدائي. إضافة إلى أنها ترفد من مصدر واحد هو الذاكرة. وفوق هذا وذاك، ثمّة روح خفيّة تسري تربط القصص برباط يجعل منها نصًّا واحدًا، يقترب من حدود المتواليّة القصصيّة.
فالقصص على استقلاليتها الظاهرة؛ حيث لكلِّ قصة عنوان مستقل، وحدث مختلف، وإن كان يظل الراوي وما يستحضرهم من أصدقاء حاضرين، يتتبع أحوالهم عبر حكايات مختلفة، فتح لها قوس السرد مع قوس الحياة، هما الخيط الممتدّ بين جميع القصص، حيث تيمة روح الجماعة والنزعة الإنسانيّة تهيمن عليها، سواء بتعدّد شخصياتها الحاضرين في كثير من القصص، فلا توجد قصة بطلها شخص واحد، بل على العكس تمامًا، نلاحظ ازدياد الشخصيات، حتى لو لم تكن فاعلة، فقط بالحضور، على نحو الشخصيات الموجود في حفل الزار، أو في مشاهدة واقعة معركة محسن والي أو في مشهد العزاء والسينما. أو حتى في علاقات الأصدقاء معًا، فهم متواجدون في إطار جماعي، سواء في البيت للاستذكار وسماع حكايات الجارة كما في قصة "هناك شيء يحترق"، أو حتى للعب والمهاترات كما في قصتي "انتصارات، والنيل عند وكالة البلح" أو حتى في رحلة البحث عن المتعة سواء كانت المخدرات كما في قصة "مخدرات الطفولة"، أو النسوان كما في قصة "سيدة النهر".
الرّوح الجماعية
اللافت أن استحضار الرُّوح الجماعيّة، يأتي مُلتبسًا بوعي تحتي مُتصلب ينشد لروح الخرافة التي تٌعارض (أو تتحدى) الحداثة، فالطب يكون عن طريق العلاج بالماعز، وطرد الأرواح الشريرة يكون بالزار، وغيرها كالإيمان بالأرواح والسعي إلى تحضيرها، أو الاعتقاد بتلبس الجن للزوجة ومعاشرتها وهو ما ينتهي نهاية مأساوية بالزوج كما في قصة "شكولاتة نيتشه".
كما أن هذه الرُّوح الجماعيّة تنتصر لقيمها وأنساقها، فبطل قصة "النافذة" ينال العقاب لأنّه تخطّى أنساق المكان، وترك نفسه لأوهام خياله الجامح فتتبع من النافذة علاقة حميمة بين زوجين، اخترق بنظره ما هو محرّم، ومن ثمّ كان العقاب، أصيب في ذات المكان الذي حرّضه على اختراق نسق المكان، فظهر على هذه الحالة عندما رأه أصدقائه: "منفرجًا، ممسكًا بمقدمة جلبابه الفضفاض، مباعدًا له عن نصفه الأسفل ... متألمًا مع كل خطوة".
حكاية هذا العامل والعقاب السماوي أيضًا، تقف في مقابل الأنساق المضمرة التي لا تظهرها القصة، فجُرم التلصص الذي عوقب به العامل، صار مفخرة الآن، بعد أن انتهكت الخصوصية. هكذا الماضي يحيل إلى حاضر أسوأ ومن ثمّ كان الهروب منه إلى هذا الواقع، بمضاده، الراوي لم يذكر شيئًا عن الواقع المعاصر، لكن صيغة الماضي كشفت عن نقيضه (الحاضر). وهذه اللعبة، الهروب من الواقع المعاش إلى ماضٍ ولّى، تكشف عن ما هو أبعد من حكايات النوستالجيا إلى الأنساق المُضمرة، والمتخفيّة في هذه الحكايات!
هذه الرُّوح الجماعيّة تجعل من مجموع القصص بناءً متضافِرًا، يعكس رؤية الرُّوح الجماعيّة المترعة بفرح عارم بالحياة وملذاتها، وهو معنى يحمل دلالات تُفارق زمن القصص، إلى زمن الحكي تعود أوّل ما تعود إلى الراوي الذي يبدو فرحًا بما يسرد، وإن كان يخفي عكس ما يظهر "فما الفرح بالحياة إلا انفلات من قهرها بتبني نقيضها".
فالتولُّع بوصف الحياة في كافة نواحيها؛ الفرح والحزن، اللّهو والمأساة، الشبق والعربدة، إلخ... لهو تعبير عن يوتوبيا تحقّق لساردها فرحًا لأنه عاشها، وحزنًا على افتقادها الآن وهو يروي، فيعمل على العيش في يوتوبيا الماضي باستدعائها هربًا من جحيم الواقع.
اختبار الذاكرة
المجموعة أشبه باختبار لهذه الذاكّرة، على التقاط تفاصيل حياتيّة مغايرة عن واقعنا الرّاهن، بما حلّ عليه من مُستجدات وتحوّلات في بنيته وأيضًا في أنساقه، لا أقول كتابة نوستالجيا، وإن كانت تقترب منها – بدرجة ما - بما أورده من عادات وألعاب وحكايات عن الطفولة والمراهقة، وغيرها. ولكن في ظل ميل القصص وحكاياتها لزمن ماضٍ، مفارق للحظة الكتابة وزمنها الآني بكل إيقاعه السّريع اللاهث، وتوتراته على المستوى الاجتماعيّ والسياسيّ المحليّ والعالميّ، أتساءل: هل لي أن أقرأ هذه القصص في حدود زمنها الفعلي، كأن أنقل نفسي لهذا الزمن وحكاياته، وبعد القراءة أتحسر على الزمن الجميل، أم أقرأها في زمن كتابتها وتلقيها؟ فكما يقول بارت إن: "وحدة النص لا تكمن في محطة انطلاقه ولكن في محطة وصوله".
في الحقيقة ثمّة مفارقة قائمة بين زمن الحكي (القصص) وزمن القراءة؛ المفارقة تكشف عن تغريب فعليّ بين واقع الزمنيْن، وأيضًا بين الحياتيْن، وهو ما يُوحي باستحالة اللقاء، فالأحداث التي وقعتْ في الماضي لا يُمكن أن تحدثَ الآن، والأسباب قالها الراوي، ومررها عبر رسائل القصص المُضمرة. فحضور الماضي بتلك الحميمية والأُلفة، يأتي كتوسّل مُضادّ أشبه بحيلة لمقاومة هذه الفردية والتباعُّد الاجتماعي، وكسر لحالة الاغتراب التي يعيشها الفرد في مجتمع الحداثة والتكنولوجيا، أهم سِمَة فيه أنّه مجرد عدد من مجموع - مع الأسف - لا يأبه به، فاُنْتزعت منه إنسانيتّه، إلى أن صار مجرد تِرس يدور مع ساقية الحياة ومتطلباتها التي لا تنتهي. هنا تُستعاد - أوّلاً - الحياة في بساطتها وحيويتها، مقابل حالة الموات والجمود التي نشعر بها، في ظلّ حركة الترس في المجموع. وثانيًا تُستعاد القيم والأنساق الحاكمة، حتى لو كانت في ردّةِ الفِعْلِ المتمثِّلَة في العقاب الرّادع على الخروج عن أنساقها.
عالم الطفولة البهي
عالما الطفولة والمراهقة بكل براءة الأوّل، ونزق الثاني ومغامراته وانتصاراته وإحباطاته ومآسيه وأحلامه المُحرَّمة، هو المُهيمن على المجموعة ككل، حيث الشقاوات بما فيها المُحرّمة التي كانت تُمارس خِلسة في صفوف المدرسة، والتي يأتي بعضها كنوع من الانتصارات المؤجّلة على مَن هزموهم في الواقع كما في قصة "الولد الذي.." حيث يقهر مدرسته بفعل جنسي صادم داخل الصف. ومثلما يحضر الواقع الاجتماعي بفقره المادي وعوزه، تحضر السياسة باعتبارها عاملاً من عوامل الإحباط، فتحضر وقائع مظاهرات الخبز، مِن عينيّ طفل مُرتعب مما يرى ويشاهد أمام عينيه، وبالمثل تحضر حادثة المنصة، وإن كانت برؤية تستلمح الموت عبر صورة الاستعراض والخيلاء أثناء مرور موكب "الرئيس سيمرّ بعد دقائق" على نحو ما عبرت هذه القصة.
وهنا يَبْرُزُ معنى مُضمر يتمثّل في السخريّة من هذا الواقع، وفي الأصل الواقعيْن؛ الماضي والحاضر. تأمّل المفارقة بين أجواء القصة الأولى "العلاج بالماعز" وأجواء القصة الأخيرة "الرئيس سيمرّ بعد دقائق" ستكتشف الدلالات المُضمرة التي ينتجها النّص، ومن ثمّ كانت نبوءة الموت نتيجة لهذا التناقض بين الفقر المُدقع والبذخ السّفيه. فهؤلاء الذين يموتون طلبًا للعلاج وينشدون العلاج الشعبيّ لعجزهم عن العلاج في المستشفيات كما أوضحت قصة الطابور، هم مَن تُخمد أصواتهم واحتجاجتهم بالهراوات والرَّصَاص، عندما طالبوا بحقهم في الحياة بعد ارتفاع الأسعار في مظاهرات الخبز. نفس المفارقة الواضحة بين حالة الوحدة التي تبدو عليها "سيدة النهر"، فالزوج قاسٍ يضربها، وعندما تستجير بأسرتها، يردونها إليه؛ فهم خائفون منه. مقابل وحدتها التي دفعتها إلى محاولة الانتحار كانت هذه الروح الجماعيّة التي أنقذتها، فلم ينقذها فرد واحد، وإنما تشاركوا جميعا في عملية الإنقاذ.
فالسُّخرية مغلَّفة بنقمة على الواقع القديم بما شابه من بؤس وفقر وقهر اجتماعيّ وسياسيّ، فهو أشبه بالغابة تنهض فيه الحياة على القوة لا على الحق. وهو ما لا يختلف عنه الواقع الآن، الذي هو تجسيد فعلي لصورة الغابة، فكأنّ الماضي والحاضر اشتركا معًا في خلق واقع بديل يعيشه السارد ينهض على أنقاض وأطلال الماضي، باحثًا عن يوتوبياه.
المجموعة تبدو صورة مختصرة لواقع مصر في حِقبة من تاريخها القريب وليس البعيد، متمثّلة في أحيائها الشعبيّة، وشوارعها، واشتغالات الناس، من منظور عين الطفل الذي كان شاهدًا ومعاصرًا وفاعلاً في الكثير من الحكايات. عين الطفل تتبع الحياة أينما كانت، في شوارع روض الفرج ووكالة البلح، وسينماتها، وأماكنها الملغزة؛ أماكن المتعة كأوكار الجنس والمخدرات، وفي غرفها المُغلقة مع النّسوة المعزيات، أو تلك التي يُقام فيها الزار، مرورًا بالأَسِرّة حيث الجِماع المَحموم، والشَّبق المُترع باللَّذة المَمْزُوج بالمخدِّر، في لحظات النشوة وأيضًا في لحظات العجز، ومع المرضى وهم يقفون في طابور يُمارس عليهم تارة قهر الفقر بالانتظار غير المُجدي، وقهر سلطة الأعلى بما تُمارسه من سرقة وابتزاز في صورة الممرضين.
نزعة إنسانيّة
ثمّة نزعة إنسانيّة تسري في المجموعة، وهي من تأثيرات نيتشه، الذي لم يأتِ اسمه هباءً على عنوان المجموعة، حتى لو برّر بطل قصة "شكولاتة نيتشه"، حضروه بأنه لديه لمحة بسيطة مشوشة، وفي الأخير هو " ثمة شخص مشهور على أي حال، تعرفه الملايين" دون تحديد لهويته وكنهته. لكنْ في الحقيقة، هو حضور له انعكاسات على شخصيات المجموعة التي ينطبق عليها أنها "إنساني مفرط في الإنسانية" كما عبّر نيتشه، خاصّة في مواقف بسيطة ولكن كاشفة، كأن تأتي النّسوة لمشاركة صاحبة العزاء في العِدّيد، أو تواطؤ الصبيّة على جريمة محسن والي عندما قضم إصبع أشرف حسن، باختراع أسباب مُلفّقة.
التواطؤ ليس حرصًا على المشاركة في الإثم أو خوفًا من العقوبة، وإنما استجابة لدواعي إنسانيّة كامنة، درءًا لدعوات "قصاص بالسيوف وعصى غاضبة"، أو إيمانًا بحتمية تحقيق العدالة الإلهيّة حتى لو تأخّرت، لكن ستأتي "فبعد سنوات داهمته آلام رهيبة من هذه الهواية،...(ثم) فوجئ الأطباء بعد عدد من الفحوصات الدقيقة بأن هناك أشياءَ غريبة تلتصق بكليته (والتي لم تكن) سوى أظافر آدمية جميعها". وحاضرة في مشهد إنقاذ سيدة النهر حيث يتضافر الجميع في مشهد إنساني عذب يكشف هذه الروح الجماعية ونوازعها الإنسانيّة مع أن تواجدهم في المكان كان بدافع غريزي وشهواني لا أكثر.
شخصيات هذه المجموعة هي ابنة بيئتها الشعبيّة، العامرة بالحكي الشعبي والروايات، وهي عنصر من عناصر الألفة في هذه البيئات، لاحظ المرأة العجوز التي يلتف حولها الطلاب في قصة "شيء يحترق"، يستمعون لحكاياتها وبالمثل في قصة "شكولاتة نيتشه"، بطلها المراوغ النفعي الذي لا تمر عليه الأشياء دون استغلال، إلا أنّ جانبًا آخر في حياته مهمّ، حيث يطاردهم بحكاياته العجيبة وأساطيره المذهلة، حتى ولو كان مبالغًا في معظم أقواله إلا أنه يسحرهم بخياله الجامح.
كما أنهم ينتمون إلى واقعهم بإيمانهم بأنساقه الحاكمة كالخرافة والتداوي الشعبي، والإيمان بضاربي الودع، والهوس بالمنشطات الجنسيّة حتى ولو كان على سبيل الوهم، والتطيّر كما في قصة رياح أمشير، فالبطل المعروف عنه صولاته الجنسيّة يعجز مع زوجته الجديدة التي ضحّت بكل شيء من أجل استعادة المتعة، لكن يحدث ما لا يكن في الحسبان، فيحيل الأمر إلى صراع ومواء القطط، فيضطر مدارة لعحزه وفشله لأن يطردها. الغريب أن تأثير الإيمان بالخرافة والماورائية ليس ماثلاً في صور الحياة كما استعرضتها القصص، بل أيضًا في الحكايات كما في بطل قصة "شيكولاتة نيتشه" الذي يستغل قرين زوجته الجنيّ لتنفيذ مطالبه.
كما ثمّة إلحاح يؤكّد هذه الحميمية وتلك الأُلفة عبر ذكر أسماء الشخصيات، وكأننا نعرفهم ويذكّرنا بهم دائمًا باستدعاء الأسماء، انظر: محسن والي وأشرف حسن، ومحمود حنفي وسامي السيد، جمال إمام، لطفي عشم، جلال فاروق، سمير عبد الرحيم. هكذا تتكرر أسماء الشخصيات وأفعالهم التي تتشابه مع شخصيات عرفناه وأفعال كنا شاهدين عليها، كالسباحة في النيل أو الترع، والقفز من أعلى الكوبري كنوع من التحدي، أو صراعات مباريات كرة القدم في الشارع، أو ارتياد دور السينما، أو رعونة الطفولة والمراهقة وغيرها كما في قصص برطمان زجاجي، وانتصارات وسينما فلوريدا "النيل عند وكالة البلح، وأنامل، الطريق إلى الأستاد".
تتجاور أماكن الألفة في القصص من سوق شعبي، إلى صالة في بيت لأداء العزاء، إلى ملعب في الشارع، إلى سينما، جميعها أماكن مفتوحة تتسع للجميع وتتميّز بالمشاركة والترابط، حتى الأماكن المغلقة بانتقال الأشخاص إليها تنكسر عزلتها أو رفضها، فدلالتها تكتسب وفق احتياجات الإنسان، على نحو ما ذكر يوري لوتمان. كما أن صخب الحياة يتجاوز الأماكن المفتوحة، إلى الأماكن المغلقة.
تكشف القصص عن أنساق مضمرة في بنية المجتمع كالقهر التراتبي فالأعلى يُمارسه على الأقل. وبالمثل نراه في غضبة السلطة إذا انتهكت حرمتها في حين إذا انتهكت حرمات الشعب فغض الطرف، ففي قصة "الأنامل" التي ترصد عالم الإجرام والأشقياء، وصراعاتهم الخفيّة للاستحواذ والسيطرة، وأيضًا وسائل الربح السريع، تعكس عالمًا من البؤس حيث البرئ يتعرض للإرهاب والسرقة العلنيّة، والفتيات يتحرش بهن دون أن يتعرض أحد للمتحرشين بشيء، ولكن ما أن قام الثلاثي الإجرامي بالتعرُّض لابنة أحد رجالات الاتحاد الاشتراكي، تمّ تعليق الثلاثة في فلقة فوق إحدى البالوعات في رسالة يسمعها القاصي والداني. بأن السلطة لا يجوز اللعب معها، وهو مبدأ ساري مع تبدل العصور والأزمنة والرجال.
حالة الخوف في قصة "النيل عند وكالة البلح" تظهر مشاعر حقيقية تُعبّر عن حالة الروح الجماعية، حتى لو انتهت القصة بترك الأصدقاء لصديقيهما المتنافسيْن، الهروب ليس جبنًا، وإنما على النقيض تمامًا، فأمام عجز الأصدقاء عن الحيلولة دون اتمام الرهان بالقفز من أعلى الكوبري، بدأ الخوف يتسلّل إلى الصديقين، خاصّة أن ثمة شواهدَ سابقة تؤكّد المصير الذي سينقاد إليه الصديقان.
كشفت الحوارات البسيطة بين الأصدقاء، عن قلق شديد، ومن ثمّ كان القرار بالهروب، خوفًا من أن يكونوا شهودًا على مأساة، هذا الخوف انعكس على حالة الترقُّب والانتظار لأيّة أخبار تؤكّد حدوث المأساة، فحالة الهروب قابلها تقريع ذاتي لتصرُّفهم المخيب بالانسحاب، لكن كانت المكافأة أن الصديقيْن عادا، والحكاية المأساوية تحولت إلى فانتازيا وهما يحكيان كيف عادا عارييْن، وركوبهما الأتوبيس انتهاء بوصولهما إلى البيت.
المأساة والفنتازيا
التحوّل من مأساة الواقع إلى الفانتازيا أو العكس (من الفانتازيا إلى المأساة) تكاد تكون سمة بنائية لقصص المجموعة، ففي قصة "العلاج بالماعز" بعد المشهد الفانتازي عن النّساء الجالسات وتربط كل واحدة منهن "معزة ذات أثداء ضخمة"، مقابل النساء القادمات من مناطق مجهولة يحملن أطفالًا مهزولين، تضربهم سخونة قاتلة، وتتناثر على وجوههم البثور. وفي قصة "النافذة" تتحوّل المأساة إلى فانتازيا، وفي قصة "برطمان الزجاجي" تتحوّل مشاغبات الأطفال إلى مأساة بعدما يخدع الرّاوي صديقه وجاره رياض السيد، بأن البرطمان فيه سكر، فيبتلع كمية كبيرة، تسبب له ألمًا فظيعا انتهى به الأمر إلى المستشفى.
الفنتازيا تجعل من مواء قطط في موسم التزاوج سببًا لإفساد متعة لقاء أُعدّ له جيدًا بين رأسمالي فخري يتباهى بزيجات وامرأة مترملة. وبالمثل في قصة "شيكولاتة نيتشه" يسخر الزوج قرين زوجته لخدمة مصالحه، المكيافيلية يتحايل على هذا الجنّيّ ويستغله في ما يدر عليه مالاً، بعد أن اختبره في أعمال مساعدتها في البيت إلا أنه يطلب منه مطالب أكثر نفعًا في مصنع الحلوى لكن هذه المنفعة تتنهي نهاية مأساوية كعادة القصص حيث تحمل زوجته من هذا الجنّيّ الوله بها، في ظل حموة الزوج للثراء، وتنهي القصة لكنها تضع قارئها في تأويلات واستكمال فجوات النص عن نوع الجنين، وإلى أي فصيلة سينتمي وكيف سيكون شكله؟!
في قصة "الطابور" تفارق القصة واقعيتها الفجة، بما يتعرض له المرضى من الفقراء الذين يقبلون على المستشفيات الحكومية، من قهر وإذلال وهو ما يُفسِّر حالة الهروب إلى المستشفى الشّعبي في القصة الاولى "العلاج بالماعز" لتنتهي بهذه الكوميديا وإن كانت سوداء، فـ"أم شكل" المرأة النمط تتكفّل بإنهاء هذا الموقف العبثي، بل جملتها كانت خاتمة مناسبة لوقع متهرئ "هذه المياه تغسل بها مؤخرتك". لا تأتي هذه الجملة كقفلة للقصة، بل في رأيي هي جملة مفصلية خاتمة تليق بمشهد عبثي من بدايته أقصد من بداية قصة العلاج بالماعز.
تأمّل قفلة القصة وما تكشفه من معانٍ مضمرة، تؤكد حالة القهر، والكبت، التي لم يعد بالإماكن تحمل المزيد من الضغوط والإكراهات:
- "ثمّ قامت بفتح الزجاجة، وأفرغتها فوق رأسه وهي تواصل شتائمها، دون أن تهدأ لحظة واحدة، لتنهي ثورتها بدفع البرميل بكامل قوتها، ليسيل مابداخله فوق الأرض، وسط صمت الجميع، لتنصرف بعدها محتفظة بملامحها الغاضبة، أمام هؤلاء الذين ألجمتهم الصدمة، ولم يجرؤ أحدهم علي مواجهتها" هكذا تنهي أم شكل المشهد لصالحها، بفعلتها تنتصر لنفسها، ولآخرين تحمّلوا هذا القهر، وهذه سمة أيضًا بارزة في المجموعة، فالعقاب يكون نيابة عن آخرين، عانوا من الجرم على نحو ما حدث في قصص "برطمان زجاجي، والنافذة، والطابور".
هذه مجموعة ثرية، وخادعة متعدّدة الدلالات. مكتوبة بحرفيّة، لا تكتفي بجذب قارئها وإنما تورطه – أيضًا - في تفاصيلها وتجعله يتعاطف تارة مع شخصياتها، وتارة أخرى يلعنهم، وتارة ثالثة يحقد عليهم؛ لأنه لم يعش زمنهم.