في كتابه "مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق" يثير (ديفيد ديتشس) السؤال التالي: كيف يدخل علم النفس في نطاق النقد؟
ويجيب عن سؤاله بالتالي: يتم ذلك من خلال طريقتين؛ الأولى: البحث عن عملية الخلق والإبداع ـ أي ما الحالة التي يكون عليها الكاتب حين ينجز نصه، وكيف ينجزه. والثانية: الدراسة النفسية لأدباء بأعيانهم وتبيان الصلة بين خصائصهم النفسية ونتاجهم الفني.
هناك دارسون آخرون، مثل د. محمود السمرة، في كتابه "في النقد الأدبي" يضيف طريقة ثالثة هي: التأثير الذي يتركه النص في نفسية المتلقي.
في أثناء الحديث عن الطريقة الثالثة يمكن الحديث عن العلاج النفسي بالأدب، ومن ضمنه فن الرواية، بل ويمكن الحديث أيضاً عن العلاج النفسي بأفلام السينما، مرة شاهدت فيلما عن تدمير (درسدن) في الحرب العالمية الثانية، فأفقت على كوابيس مرعبة، وهكذا فضلت ألاّ أشاهد، قبل النوم، أفلاماً مرعبة.
حين أسترجع روايات قرأتها أسترجع معها الحالة النفسية التي ألمّت بي وأنا أقرؤها. ثمة روايات كانت تحزنني لدرجة أنها قد تجعلني أذرف الدموع، وثمة روايات كنت وأنا أقرؤها أُصاب بحالة من الفرح. كانت هذه الروايات تضحكني.
ثمة روايتان ما إن أقرأ بعض أجزاء منهما حتى تسود حالتي النفسية وتنتابني حالة حزن شديد.
الرواية الأولى هي رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط". لقد قرأت هذه الرواية غير مرة، بل وعلمتها في الجامعة غير فصل.
وأنا أقرأ بعض فقرات منها أمام الطلبة كنت أتماسك بخاصة الفصلان الأخيران. كنت أتعاطف مع رجب وأخته أنيسة تعاطفاً كبيراً، وكنت أشعر أن مأساة أنيسة وما ألمّ بأخيها يخصني شخصياً.
"ها أنذا أعود وقد تعلمت شيئاً واحداً، وأتعلمه بالصدفة، أتعرفون هذا الشيء أيها الجلادون؟ إنه الحقد. ومن حقدي وحقد الملايين سوف نهدم سجونكم، سنهدم سراديبكم، لن نبقي سجناً واحداً يقف على تلك الأرض الممتدة من الشاطئ الشرقي للمتوسط، حتى أعماق الصحراء.." يكتب رجب، وأما أنيسة فتكتب: "بعد أن عاد ظل ثلاثة أيام. إنها الأيام الوحيدة التي رأيت فيها رجب يعود طفلاً. فبعد أن زال الشحوب الذي كان يبدو واضحاً في وجهه، ربما من تأثير التعب، بدأ يقرأ "مذكرات ميت الموتى"، وقد ألح عليّ كثيراً أن اقرأه..." "أنا امرأة خاطئة... وأريد أن أتبع طريقة رجب ذاتها.. أن أدفع الأمور إلى نهاياتها.. لعل شيئاً بعد ذلك يقع".
كما لو أن ما يجري في العالم العربي خرج من معطف كلام رجب. وأما الرواية الثانية التي أبكتني فهي رواية جبور الدويهي "شريد المنازل".
إن ما آل إليه بطلها نظام وموقف أخويه منه حين ذهب ليشارك في جنازة أبيه لشيء يثير الأسى في النفس.
والوحيدة التي تتعاطف مع نظام هي أخته ميسلون. تخلى الأخوان عنه من أجل الميراث، كما تخلى أسعد عن أخيه رجب، وتعاطفت ميسلون مع نظام، كما وقفت أنيسة مع رجب. والمشهد الأخير، مشهد الدفن والجنازة، في "شريد المنازل" لهو مشهد مؤثر مبكٍ حقاً.
وثمة روايتان كلما أعدت قراءتهما أو قراءة مقاطع منهما انفجرت بالضحك. الأولى هي رواية أميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، والطريف أن زمن كتابتها قريب من زمن كتابة "شرق المتوسط"، والأطرف أن "المتشائل" تأتي على واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال، فيما تأتي "شرق المتوسط" على واقع السجناء العرب السياسيين في العالم العربي. تفجر الأولى الضحك، وتدفع الثانية إلى البكاء.
كان أميل حبيبي يرى أن خير وسيلة لمواجهة الواقع القاسي الصعب الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال يجب أن يواجه بالسخرية والضحك، وحين يعجز المرء عن مواجهة قوة الظالم بالقوة، فيجب على المرء أن يبتكر سلاحاً يواجهها فيه: السخرية والضحك.
"كيف تحول سعيد إلى هرة تموء"، "كيف سبقت العروبة الأصيلة، بالتشمير، عصر التشمير" و.. و.. "إن آباء زخرون يعقوب اختلفوا يوماً: هل من الحق، شرعاً، أن يعاشر الرجل زوجه في السبت، أم أن الأمر عمل، مثله مثل بقية الأعمال التي لا تجوز في السبت، شرعاً، فذهبوا إلى الحاخام ليقضي بينهم. هل الأمر عمل أم لذّة، فكر الحكمُ طويلاً، ثم حكم أنه لذّة، فهات برهانك؟ قال: لو حكمت بأنه عمل لأعطيتموه العرب.. الفرادسة! فضحكنا. يعقوب لأنه يكره الاشكناز، وأنا لأنه ضحك".
وأما الرواية الثانية فهي رواية التركي عزيز نيسين "الطريق".
لم أبدأ قراءة الرواية من فصلها الأول ولما أخذت أتصفح عناوينها التفت إلى عنوان "المسلم الألماني المنتحل" وبدأت أقرؤه لأعرف قصد الأتراك والألمان ففرطت من الضحك، وهكذا عدت إلى فصول الرواية لاقرأها فصلاً فصلاً، وحين أنظر، الآن، في ملاحظاتي على الرواية أقرأ الملاحظة التالية: كم هو ممتع هذا الفصل. إنه يذكرني برواية "المتشائل"، و.. و.. و..
ويجيب عن سؤاله بالتالي: يتم ذلك من خلال طريقتين؛ الأولى: البحث عن عملية الخلق والإبداع ـ أي ما الحالة التي يكون عليها الكاتب حين ينجز نصه، وكيف ينجزه. والثانية: الدراسة النفسية لأدباء بأعيانهم وتبيان الصلة بين خصائصهم النفسية ونتاجهم الفني.
هناك دارسون آخرون، مثل د. محمود السمرة، في كتابه "في النقد الأدبي" يضيف طريقة ثالثة هي: التأثير الذي يتركه النص في نفسية المتلقي.
في أثناء الحديث عن الطريقة الثالثة يمكن الحديث عن العلاج النفسي بالأدب، ومن ضمنه فن الرواية، بل ويمكن الحديث أيضاً عن العلاج النفسي بأفلام السينما، مرة شاهدت فيلما عن تدمير (درسدن) في الحرب العالمية الثانية، فأفقت على كوابيس مرعبة، وهكذا فضلت ألاّ أشاهد، قبل النوم، أفلاماً مرعبة.
حين أسترجع روايات قرأتها أسترجع معها الحالة النفسية التي ألمّت بي وأنا أقرؤها. ثمة روايات كانت تحزنني لدرجة أنها قد تجعلني أذرف الدموع، وثمة روايات كنت وأنا أقرؤها أُصاب بحالة من الفرح. كانت هذه الروايات تضحكني.
ثمة روايتان ما إن أقرأ بعض أجزاء منهما حتى تسود حالتي النفسية وتنتابني حالة حزن شديد.
الرواية الأولى هي رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط". لقد قرأت هذه الرواية غير مرة، بل وعلمتها في الجامعة غير فصل.
وأنا أقرأ بعض فقرات منها أمام الطلبة كنت أتماسك بخاصة الفصلان الأخيران. كنت أتعاطف مع رجب وأخته أنيسة تعاطفاً كبيراً، وكنت أشعر أن مأساة أنيسة وما ألمّ بأخيها يخصني شخصياً.
"ها أنذا أعود وقد تعلمت شيئاً واحداً، وأتعلمه بالصدفة، أتعرفون هذا الشيء أيها الجلادون؟ إنه الحقد. ومن حقدي وحقد الملايين سوف نهدم سجونكم، سنهدم سراديبكم، لن نبقي سجناً واحداً يقف على تلك الأرض الممتدة من الشاطئ الشرقي للمتوسط، حتى أعماق الصحراء.." يكتب رجب، وأما أنيسة فتكتب: "بعد أن عاد ظل ثلاثة أيام. إنها الأيام الوحيدة التي رأيت فيها رجب يعود طفلاً. فبعد أن زال الشحوب الذي كان يبدو واضحاً في وجهه، ربما من تأثير التعب، بدأ يقرأ "مذكرات ميت الموتى"، وقد ألح عليّ كثيراً أن اقرأه..." "أنا امرأة خاطئة... وأريد أن أتبع طريقة رجب ذاتها.. أن أدفع الأمور إلى نهاياتها.. لعل شيئاً بعد ذلك يقع".
كما لو أن ما يجري في العالم العربي خرج من معطف كلام رجب. وأما الرواية الثانية التي أبكتني فهي رواية جبور الدويهي "شريد المنازل".
إن ما آل إليه بطلها نظام وموقف أخويه منه حين ذهب ليشارك في جنازة أبيه لشيء يثير الأسى في النفس.
والوحيدة التي تتعاطف مع نظام هي أخته ميسلون. تخلى الأخوان عنه من أجل الميراث، كما تخلى أسعد عن أخيه رجب، وتعاطفت ميسلون مع نظام، كما وقفت أنيسة مع رجب. والمشهد الأخير، مشهد الدفن والجنازة، في "شريد المنازل" لهو مشهد مؤثر مبكٍ حقاً.
وثمة روايتان كلما أعدت قراءتهما أو قراءة مقاطع منهما انفجرت بالضحك. الأولى هي رواية أميل حبيبي "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، والطريف أن زمن كتابتها قريب من زمن كتابة "شرق المتوسط"، والأطرف أن "المتشائل" تأتي على واقع الفلسطينيين تحت الاحتلال، فيما تأتي "شرق المتوسط" على واقع السجناء العرب السياسيين في العالم العربي. تفجر الأولى الضحك، وتدفع الثانية إلى البكاء.
كان أميل حبيبي يرى أن خير وسيلة لمواجهة الواقع القاسي الصعب الذي يعيشه الفلسطينيون تحت الاحتلال يجب أن يواجه بالسخرية والضحك، وحين يعجز المرء عن مواجهة قوة الظالم بالقوة، فيجب على المرء أن يبتكر سلاحاً يواجهها فيه: السخرية والضحك.
"كيف تحول سعيد إلى هرة تموء"، "كيف سبقت العروبة الأصيلة، بالتشمير، عصر التشمير" و.. و.. "إن آباء زخرون يعقوب اختلفوا يوماً: هل من الحق، شرعاً، أن يعاشر الرجل زوجه في السبت، أم أن الأمر عمل، مثله مثل بقية الأعمال التي لا تجوز في السبت، شرعاً، فذهبوا إلى الحاخام ليقضي بينهم. هل الأمر عمل أم لذّة، فكر الحكمُ طويلاً، ثم حكم أنه لذّة، فهات برهانك؟ قال: لو حكمت بأنه عمل لأعطيتموه العرب.. الفرادسة! فضحكنا. يعقوب لأنه يكره الاشكناز، وأنا لأنه ضحك".
وأما الرواية الثانية فهي رواية التركي عزيز نيسين "الطريق".
لم أبدأ قراءة الرواية من فصلها الأول ولما أخذت أتصفح عناوينها التفت إلى عنوان "المسلم الألماني المنتحل" وبدأت أقرؤه لأعرف قصد الأتراك والألمان ففرطت من الضحك، وهكذا عدت إلى فصول الرواية لاقرأها فصلاً فصلاً، وحين أنظر، الآن، في ملاحظاتي على الرواية أقرأ الملاحظة التالية: كم هو ممتع هذا الفصل. إنه يذكرني برواية "المتشائل"، و.. و.. و..