إبراهيم الكوني الروائي الليبي، في سردياته انهمام بالصحراء وعشق للطبيعة والذات . الصحراء البكر برمالها وسكونها وليلها الذي يرخي سدوله للإنصات للوجود . في قلب الصحراء كائنات. الإنسان والحيوان والنبات . في أجوائها يهتدي الإنسان للراحة وسكينة العيش. الصحراء ذلك الفضاء الذي تسكنه الألفة والمحبة . يزيد الإنسان إحساسا ببساطة العيش وتنفس الحرية . الصحراء فردوس مفقود، والواقع حسب الكوني أن العرب تنصلوا لرسالة الصحراء . ففي سرديات الكوني، الصحراء روح وتجربة حية لإنسان لا يبرح المكان، ويعود إليها من جديد عند الالتقاء بالمياه. هذا المكان المسكون بالعشق وعدم الفرار من الحياة في الصحراء دليل على تكيف الإنسان في قلبها . ليس المكان مرادفا لشظف العيش والقهر والرياح الهوجاء، بل في المكان سحر لا يتمثله إلا من شربت نفسه عذوبة الصحراء، وترسخت في أعماق اللاوعي نبضات المكان المفعم بالحياة والعطاء.
في تأملات الكوني الصحراء فضاء للرحيل والانتقال، والعبور من مكان إلى آخر . انتقال لا يعني السكون والاستقرار، بل انتقال بالأجساد والنفوس في أمكنة من الصحراء للبحث عن هناء الضمير، والعيش الرغيد بحثا عن دواء يروي ظمأ الإنسان وكائنات الصحراء. انتقالا تغذيه نواميس وأعراف، وتقاليد الإنسان في عدم الاستكانة والمكوث في مكان مدة أطول. حالة الرحل على مر الزمن في الترحال والتجوال . القبض على الزمن في حياة سكان الصحراء، والالتفاف على المكان، ووصف العيش في قلبها من مهام الروائي في تبليغ رسالة فحواها، أن الزمن هنا لا يقاس بالساعات واللحظات، والمكان ليس الفضاء أو الحيز بل في وحدة الزمان والمكان إيقاع للحياة السريعة والممتعة . فالبحث عن المكان الذي منه انطلقت الرسالة الإسلامية للعالم في العبور نحو السهول والجبال والأودية . رؤية الكوني للعالم والحياة إنسانية وفلسفية .وبالأدب يرتفع الكوني نحو تأملات عميقة في الوجود والموجود . ويسخر القلم للكتابة للتعبير عن تنصل العرب لرسالتهم التي انطلقت من الصحراء، وتنصل السياسة للهوية المنبثقة من التراب والأرض . الصحراء غدير ينبض عطاء وسخاء. ألفة ومحبة في سبيل ذلك، يعود الكوني ليعيد استنبات الأصيل في ثقافتنا من البيئة برؤية أدبية ممزوجة بالفلسفة، وذاكرة حية مليئة بأحداث من المكان . ويستعيد الزمان ليروي الحكاية من عبق التراث الفكري والعلاقات الإنسانية في الصحراء .
من قال أن ميزة القبيلة في الصحراء الصراع والتناحر . لكن الكوني يفند الرؤى السلبية من قلب الصحراء ومجتمع الطوارق، عندما يحكي عن الجزء المنسي من الحكاية . الجميل في سرديات الكوني أن الرواية حكاية تحكى معه من البادية وخصال البدو الرحل، وليس من المدينة .وليست كملحمة بورجوازية بتعبير جورج لوكاش . الرواية هنا عكسية من الصحراء تحكي وتعبر عن حياة غنية بكنوزها وأساطيرها وقيمها . الصحراء التي يتغنى فيها الكوني هي الفضاء الذي عرف ميلاد حضارات ودول وكيانات، ومنها كان العبور إلى بلدان أخرى . حضارة الطوارق التي أنصفها ابن خلدون في كتاب "المقدمة " وقال أنها أمة عظيمة . أقيمت فيها دول وكيانات . فالكوني لا ينفي الجذور وهو يقيم في سويسرا الباردة، ويعبر بقلمه واليات الكتابة السردية المقتبسة من القراءة المتشعبة للسرديات الغربية والعالمية كذلك .
النهضة المفقودة يعيد إنتاجها الإنسان . والحرية لا بديل عنها فهي جوهر الإنسان الذي سكن الصحراء . والرحيل استجابة لنداء وجودي . نداء الحقيقة على طريقة مارتن هايدغر . نداء لانكشاف الحقيقة والإنصات للوجود بدل الموجود . الكوني بصراحة ليس روائيا أو شاعرا فقط بل فيلسوفا يحسن الإنصات للوجود، ويعتبر الصحراء مكان ضائع يؤسس للوجود والموجود . الحرية جوهر ونداء يبحث عنها الإنسان في ذاته، وفي الرحيل والالتقاء، والعبور من هنا إلى هناك . يرحل الكوني من الفضاء الأصلي إلى روسيا، ومنها إلى سويسرا، ويعود للصحراء من جديد، ويعيد السفر إلى أمكنة متعددة. يعثر على ذاته العزلة والعودة من جديد. وفي قوة سرديات الكوني حضور قوي للرموز الدينية والأساطير والتاريخ والتراث . شعرية المكان وسيميائيته يضفي لمسة دلالية على الفضاء الذي ولد فيه الكوني وشب في أحضان الجماعة وقيمها .وبين الفينة والأخرى يعود إليه من جديد من سفر طويل في الغرب .
ناموس الصحراء تلك القيم النابعة من عمقها . ولما ينقسم الناس في الصحراء، بين الاستقرار والعبور بفعل دخول القيم البديلة .والصفائح الإسمنتية والبيوت العالية . حيث اقتلعت رمال الصحراء بفعل الجرافات والآلات الباحثة عن خيرات الأرض في سوائلها . الغاز والنفط مصادر في تدمير العيش وفق ناموس الصحراء . نداء ما كان بعيدا عن أهل الصحراء وبطولاتهم في الدفاع عن منطق الصحراء إلى حدود المياه . شدة الناس ولينهم مأخوذة من محبة الخير وكراهية الظلم . والنساء تسري عليهن الحرية وعشقهن للشعر والشعراء مبدأ قويم في الأنوثة . ولو خيرت المرأة بين البطل والشاعر وأصحاب المال لاختارت الشاعر بلا تردد . فالصحراء خلاء مشغول بالفراغ . في الصحراء لا يتقيد الإنسان بالزمان . السير والسهر واللقاء في الليل، واحتساء الشاي والقول المتين في مرامي اليومي وتأملات في السماء . في الصحراء أكثر الكنوز هي الحرية وفرار الإنسان من عبادة للإنسان. لذلك قال إبراهيم الكوني في كتاب " نزيف الروح " قولة مأثورة " في الصحراء لا يوجد شيء، في الصحراء يوجد كل شيء "السكون . والعرف والتقاليد . والألفة . وحيوان الودان . ونداء الحقيقة في سكون الصحراء. في المكان الضائع يخلق الكوني حوار بين الغريب في قواعد الصحراء، يرسل الأبله لاستطلاع الحقيقة وعند العجز ترسل الحسان ويسميهم الكوني بأسمائهن : تفران . تمريت . تامنوكالت. تاهلا . تامولي . تديكت . زهور الرتم . الغرباء بطبعهم متكتمون في طبائعهم وخفايا نواياهم . غامضون وعابرون للمكان . الغريب لا يملك القدرة في إخفاء ذاته أمام دهاء النساء، وينتهي الكوني من كل حكاية لإبراز ناموس الصحراء دون قيود القوانين الوضعية، أو السير على خطى المدنية المعاصرة. لا يصنع المكان كفضاء متخيل للسرد على مقياس السرديات المعاصرة، بل المكان حقيقي يضفي عليه الروائي لمسة جديدة من الكلمات والشخصيات المتخيلة . والأحداث التي تنفلت من الوصف والسرد . فالكوني يميل إلى استعمال ترسانة من الكلمات المفعمة بلغة شعرية فياضة للوصف، ورؤية مثالية وإنسانية في القبض على المكان الضائع من الرواية .
حديث الكوني عن الروح والنزيف ومظاهر العيش والتنقل، والفرار والكائنات الموجودة في الطبيعة هو بالفعل كلام في التناغم والسكون . الطوارق يعشقون الصحراء عشقا صوفيا لأن الصحراء رمز للبساطة والسعادة . ونداء الحقيقة في عمقها يوجد الإنسان بعيدا عن التيه والاغتراب . يسكنها ولا يبرح مكانها إلا للانتقال والسفر في دروب الأمكنة والأزمنة والعودة إليها من جديد. هنا يوظف الكوني الرموز والأساطير والقيم الدينية المختلفة للتعبير عن شجون الإنسان واغترابه في عالم الماديات والمظاهر . يبحث عن إمكانية القبض على تلك الوحدة بين الزمان والمكان في الصحراء . في مجتمع الصحراء الحرية جوهر الكائن . الصحراء هي الانتماء والأصل والانبعاث والاستمرارية في مقابل مجتمع التبر . هكذا يعبر إبراهيم الكوني في تأملاته عن الوجود والموجود في فضاء الصحراء .المكان الضائع في ترسيخ قيم الحرية والمحبة، وانتشال الإنسان من التيه والاغتراب بفعل التحول من القيم الأصيلة للقيم المادية . ومن المجتمع البسيط إلى المدن الإسمنتية . والأكيد حسب الكوني أن ما يعانيه العرب اليوم من أزمات سببها بالأساس تخليهم عن قيم الصحراء . ومن يقرأ في روايات عبد الرحمان منيف عن خماسية "مدن الملح" في كل أجزائها يدرك نتائج التيه عن بوصلة القيم واختيار التبر وحياة الرخاء على السكون والألفة . وعندما كان يسأل عبد الرحمان منيف عن ذلك في المبالغة من المخاطر المحدقة بالعالم العربي، يكون جوابه في غالب الأحيان، أن الانتقال من البداوة إلى الحضارة كان يمكن أن توازيه صحوة في الوعي وبناء الحضارة وفق معطيات القيم المحلية . والتأثر بالحضارة الغربية ينبغي أن يكون متوازنا .
يعتبر إبراهيم الكوني روائي كبير يكتب بلغة الضاد، ويعبر من المكان البعيد – سويسرا- عن ذكريات وتجارب الإنسان في الصحراء في قوة المشاهد والحكايات المروية من عبق التاريخ الفردي والجماعي . يصنع عالمه الخاص في اختيار شخصيات من المكان، وينزوي بالذاكرة في العودة للذات وللمعيش، المكان الذي يسكنه الشخص مرآة للطبائع والسمات النفسية والثقافية، وحياة الشخصية الفردية والجماعية تعكسها بصورة دقيقة المكان . وما يميز إبراهيم الكوني الإنسان كلامه القليل في السياسة واستلهامه المعرفة من مصادر متنوعة من القرآن الكريم وسفر التكوين والعهد القديم، ومن الأساطير . وفي نداء الحقيقة يكشف الكوني عن طبائع أهل الصحراء، ومنها الرفض المطلق للعبودية والاستعباد . ومن يتأمل في مرامي سرديات الكوني يخرج بانطباعات أن الكوني نتاج للسفر والترحال بين الأمكنة والأزمنة .وإن كان قوله يأتي من بعيد فان الرجل سكن الصحراء وسكنته رمالها وليالي أنسها وجمال طبيعتها . وفي سردياته انهمام بالذات والوجود بحثا عن ما هو أصيل في قيمنا على شاكلة ما يرمي إليه الفيلسوف الوجودي مارتن هايدغر . وأخيرا يمكن القول أن الكوني في أعماله الروائية واستناده في وصف الصحراء وقانونها الداخلي وطبائع البشر فيها يعتبر بالفعل فيلسوف الكينونة بامتياز .