ب. فاروق مواسي - ناقدة في العصر الجاهلي

أما الناقدة فهي أم جُنْدُب ( أو جُنْدَب) - زوجة امرئ القيس.

في هذا النقد نجد ما يدل على ذوق ومقارنة وإصدار حكم، كل ذلك بمنطق عدل ورؤية متمكنة.

فهذه المرأة (أم جُنْـدَُب) تحكّم بين شاعرين، الأول هو زوجها- امرؤ القيس، والشاعر الثاني ضيف قدم عليهما- هو علقمة بن عَبَدَة.

ورد في كتاب أبي الفرج الأصفهاني (الأغاني ، ج10، ص 208):

"كانت تحت امرئ القيس امرأة من طيئ تزوجها حين جاور فيهم، فنزل به عَلْقمة الفَحْل بن عَبَدة التميمي، فقال كل واحد منهما لصاحبه: "أنا أشعر منك"، فتحاكما إليها.

فأنشد امرؤ القيس قوله:

خليليَّ مُرّا بي على أُمّ جُنْدُبِ

حتى مر بقوله:

فللسَّوط أُلهوبٌ وللسَّاق دِرَّةٌ
وللزَّجر منه وَقْعُ أخْرجَ مُهذِب

(ويروى: أهوج مِنْعب، ومعاني الألفاظ في نهاية المقالة)

فأنشدها علقمة قوله:

ذَهَبْتَ من الهِجران في غير مَذْهَب
ولم يك حقًا كل هذا التجنب

حتى انتهى الى قوله:

فأدركهنّ ثانيًا من عِنانه
يمُرُّ كغيث رائحٍ مُتَحَلَّب

(في رواية أخرى: كمرّ الرائح المتحلب)

فقالت له: "علقمة أشعر منك".

قال: وكيف؟

قالت: "لأنك زجرت فرسك، وحركته بساقك، وضربته بسوطك"،

"أما هو فجاء هذا الصيد، ثم أدركه ثانيًا من عنانه".

فغضب امرؤ القيس، وقال: "ليس كما قلت، ولكنك هَوِيتِه.

فطلقها، فتزوجها علقمة بعد ذلك، وبهذا لقب علقمة الفحل، وذلك لأنه خلَف على امرأة امرئ القيس.

قال الفرزدق في معرض حديثه عن الشعراء الأوائل الذين أفاد منهم:

والفحلُ علقمةُ الذي كانت له
حللُ الملوك كلامه يُتنحّلُ".

كذلك وردت القصة في الأغاني (ج8، ص 204) بزيادة في معلوماتها، وهذه المرة على لسان القينة جميلة:

"نازع أمرؤ القيس علقمة بن عبدة الفحل الشعر، فقال له قد حكمت بيني وبينك امرأتك أم جُنْدَب. قال: قد رضيت.

فقالت لهما: قولا شعرًا على روي واحد وقافية واحدة، صِفا فيه الخيل!

فقال أمرؤ القيس:

خليلي مُرّا بي على أم جُندَب
أقضِّ لُبانات الفؤاد المعذَّب

وقال علقمة:

ذهبتَ من الهِجران في غير مذهب
ولم يك حقًّا كل هذا التجنب

وأنشدا القصيدتين.

فغلَّـبت علقمة.

فقال لها زوجها: بأي شيء غلَّبتِـه؟

قالت: لأنك قلت:

فللسوط ألهوبٌ وللساق دِرة
وللزجر منه وقع أهوجَ مِنْعب

فجهدت فرسك بسوطك، ومريته بساقك وزجرِك، وأتعبته بجَهدك.

وقال علقمة:

فولّى على آثارهن بحاصب
وغبيةِ شُؤبوب من الشدّ مُلْهِب
فأدركهن ثانيًا من عنانه
يمرّ كمرّ الرائح المتحلب

فلم يضرب فرسه بسوط، ولم يمْرِه بساق، ولم يتعبه بزجر".

كذلك أورد البغدادي في (خزانة الأدب، ج3، ص 284- الشاهد 213)
الرواية باختلاف يسير:

"إنما لقب بالفحل لأنه خلف على امرأة امرىء القيس لما حكمت له بأنه أشعر منه.

وذلك ما حكاه الأصمعي- أن امرأ القيس لما هرب من المنذر بن ماء السماء، وجاور في طيء (طيِّـئ)، تزوج امرأة منهم يقال لها أم جندب.

ثم إن علقمة بن عبدة نزل عنده ضيفًا وتذاكر الشعر، فقال امرؤ القيس: أنا أشعر منك!
وقال علقمة: أنا أشعر منك!

واحتكما إلى امرأته- أم جندب لتحكم بينهما.

فقالت: "قولا شعرًا تصفان فيه الخيل على روي واحد".

فقال امرؤ القيس:

خليليّ مرّا بي على أمّ جندب
لنقضي حاجات الفؤاد المعذب

وقال علقمة:

ذهبتَ من الهِجران في كل مذهب
ولم يك حقًا كل هذا التجنب

ثم أنشداها جميعًا.

فقالت لامرىء القيس: "علقمة أشعر منك"!

قال: "وكيف ذلك"؟

قالت: "لأنك قلت:

فللسوط ألهوب وللساق درّة
وللزجر منه وقع أهوج منعب

فجهدت فرسك بسوطك، ومريته بساقك،

وقال علقمة:

فأدركهن ثانيًا من عِنانه
يمرّ كمرّ الرّائح المتحلّب

فأدرك طريدته وهو ثانٍ من عنان فرسه، لم يضربه بسوط، ولا مَراه بساق، ولا زجره!

قال: ما هو بأشعر مني، ولكنك له وامق!

فطلّقها، فخلف عليها علقمة، فسمّي بذلك الفحل".

(رويت القصة في كتاب ابن قتيبة: الشعر والشعراء، ج1، ص 218- مادة علقمة الفحل، حيث يذكر رواية أخرى لسبب تسميته بالفحل- "ويقال بل كان في قومه رجل يقال له علقمة الخَصيّ، ففرقوا بينهما بهذا الاسم.)

فأم جندب قد قارنت بين صورتين شعريتين: صورة فرس امرئ القيس الذي راح يزجره ويضربه ويستحثه على العدْو كي يدرك طريدته، وصورة فرس علقمة الذي أدرك طريدته وهو ثان من عنانه لم يضربه بسوط ولا مراه بساق ولا زجره، ولا شك ان صورة علقمة في هذه الأبيات أوضح وأكمل وأجمل.

واشتراط أم جندب للحكم أن يكون الموضوع واحدًا والروي واحدًا والقافية واحدة، ثم إصدار حكمها بعد الموازنة معللا فيها هو من صنيع النقاد المتأخرين في الموازنة والحكم.

وهي هنا تختلف عن طبيعة النقد الجاهلي المبني على الذوق الفطري الخالي من التعليل، فنقد المرأة هنا معَلَّل ومقنع.

لقد طلب الشاعر من أم جندب أن تحكم بينهما، فلم يكن من الطبيعي بعد أن تستمع إليهما أن تقول لأحدهما: أنت أشعر من صاحبك، خاصة وأن أحد الشاعرين زوجها، فلا بد إذن أن تصدر حكمًا معللا حتى تنفي عن نفسها شبهة التحيز التي تطعن في عدالة الحكم، ومع هذا فقد اتهمها زوجها بالتحيز لعلقمة.

أما علقمة فلم يتنكر لها بعد أن طلقها زوجها، وبعد أن اتهمهما بأنهما عاشقان.

قد يعارض بعض القراء أن هناك موضوعية في حكم الناقدة، بدعوى أن امرأ القيس اتهِم بكونه مُفَـرَّكًا- أي تبغضه النساء، وبأن زوجته – أم جندب قالت عنه إنه "بطيء الإفاقة، سريع الإراقة"، وعليه فإن حكمها لا يخلو من التحيز عليه لا له.

مثل هذا التحفظ ذكره مصطفى صادق الرافعي، فهو لا يرى الموضوعية في حكمها، إذ يقول:

"وما أرى أم جندب إلا أرادت ما تريد الفارك من زوجها، فقرعت أنفه على حميّة ونخوة، وهي تعلم أنها لا بد مسرَّحة في زمام هذه الكلمة، وإلا فالبيت الذي توافيا على معناه ليس بموضع تفضيل، لأن في قصيدة امرئ القيس ما هو أبلغ في هذه الصنعة من بيت علقمة".
(الرافعي، تاريخ آداب العرب، ج3، 197- 198- تحقيق الجيلاني).


المعاني:

الاسم عبَدَة: العبَدة محركة بمعنى القوة، والسّمن، والبقاء، وصلاءة الطيب، والأنفة.

ألهوب: اجتهاد الفرس في عَدْوه حتى يُثير الغبار، وهذا لا يستحسن.

الدّرَّة: حث الفرس على العدْو.

الأخرج من الخيل: ما خالط بياضه سواد، والأخرج كذلك ذكر النعام.

مُهْذِب: مسرع.

مِنعب: سريع في جريه.

مريته: حملته على إبراز مقدرته في الجري.

على آثارهن= يريد بهن البقر الوحشي.

الحاصب: السحاب يرمي بالبرَد، ويريد هنا الجري السريع، الغَبْية: المطرة الشديدة، الشؤبوب- دفعة المطر الشديد.

الرائح المتحلب: السحاب المتتابع.

وامق: عاشق.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...