كثيرا ما أقرأ وصف الحكّاء على بعض الكتاب من الروائيين، ويظن صاحب الوصف وهو يفعل ذلك إنه يمدح من يصفه به مدحا عظيما. ولا شك في أنه يقصد ذلك بحق ومن كل قلبه، بينما الحقيقة أنه ينقله إلى مكان آخر ليس هو الرواية وكتابتها وبالطبع ليس هو القصة القصيرة أبدا. إن الوصف بالحكي أو بالحكاء وصف خادع، رغم ما يبدو عليه من مديح، فالرواية ليست أبدا حكاية، رغم أن فيها حكاية، بل وحكايات أيضا، فالحكاية تراث قديم مرتبط بالحكي الشفاهي لا المكتوب، وتطور الحكاية كثيرا إن لم يكن دائما مرتبط بمدى سعادة المستمعين بالحكي. فالحكاء حين يرى من المستمعين ميلا لما يقول في أمر ما، يزيد من هذا الأمر، رغم أنه قد لا يكون في الحكاية أبدا. ونحن نقرأ الحكايات الشعبية القديمة نندهش من الإطناب الكثير والتطويل، فنرى مثلا في حكاية الهلالية أو أبوزيد الهلالي كيف وقد بدأت القبائل الهلالية في الانتقال من الجزيرة العربية إلى مصر، قد مرت في الطريق بالعراق، رغم أن العراق ليس طبعا في الطريق إلى مصر.
لغة الحكاية تتغير بين البلاد والمجتمعات، حسب الحكاء ومن يستمعون إليه، فقد يختار السخرية أو التفكه، أو حتى الحكم والأمثال، مادام المستمعون يروق لهم ذلك كما يمكن أن يخترع حكايات ينسبها إلى صحابة الرسول، أو تابعيه، أو بعض أولياء الله الصالحين، لتعزيز ما يقول، ما دام ذلك يؤثر في المستمعين. ليس للحكاية إذن شكل أدبي، ولا توجد بين أشكالها عبر التاريخ معارك أدبية ولا حوارات من أي نوع. فن الحكاية عابر ومؤقت يؤثر فيه اندماج المستمعين له. لم تظهر الحكاية لتكتب ولا لتكون فنا مكتوبا، وإن كتبت فيما بعد كنوع من الاحتفاظ بالتراث الشفاهي القديم. ومن خلال حياتي الأدبية أستطيع أن أقول إنها كلمة يقولها البعض من الذين لم يقرأوا للكاتب الذي يصفونه بذلك، أو لأنه طعن في السن ويظنون أن ذلك مدح، كما قلت، عظيم ولا يجدون غير هذه الكلمة الحلوة الشكل الخادعة، فهي تعني بدون أن يدركوا أنه، الكاتب يعني، بمقياس النقد الأدبي الحقيقي ليس كاتبا كبيرا، رغم أنهم يتصورون ذلك. لقد قامت المذاهب والاتجاهات الأدبية والفنية على تغيير رئيسي في الشكل الأدبي، وتغيير رئيسي في حكي الحكاية. والأعمال الأدبية الروائية بالذات هي حكاية في المظهر، لكنها بناء فني معقد تلعب فيه اللغة دورا والمكان دورا والزمان دورا والمشاعر أدوارا، فإن تكتب عن رجل في أزمة، ليس كما تكتب عن رجل في فرح. وأن تكتب عن رجل في صحراء، ليس كما تكتب عن رجل في أوتوبيس. واستخدام الجملة يكون قصيرا أحيانا، ويكون طويلا أحيانا، حسب روح الشخصيات وروح المكان ولحظة الزمن، لا كما يريده المستمعون.
تفاصيل كثيرة يعرفها النقاد، والمدارس الأدبية حين قامت ضد ما قبلها من مذاهب، كان وراء ذلك اختلاف طريقة الكتابة وتصور جديد للكتابة. هذه الثقافة النقدية تكون قد ضاعت حين تصف روائيا بأنه حكاء عظيم. يمكن، بل وهذا طبيعي، أن لا تجد هذه الثقافة عند القارئ العادي أو الصحافي العادي، لكن أن تأتي كلمة حكاء عظيم أو حكاء فقط من الكتاب والنقاد فهي ليست مدحا لكنها استسهال منهم، ولا أريد أن أقول عدم معرفة حتى لا أسيء إلى أحد. أسوأ الروايات هي الحكاية العادية التي تتساوى فيها لغة كل الشخوص وتوضح مراميها ومعانيها وتشرح خبايا العمل الفني. فارق كبير بين أن تصف شخصية بالطريقة التقليدية فتقول مثلا، إنه أو إنها ماكر أو ماكرة، وبين أن تضعه في موقف يوضح أنه ماكر. وفارق بين جمل مرتاحة ممتدة من أو عن شخص يتأمل في راحة، وجمل متشابكة ومتقاطعة الصور من أو عن شخص يحلم. فارق بين أن تقول إنه يحلم بكذا وكذا، وأن تقدم الحلم بلغة الحلم وصور الحلم. والحكاء الشعبي الذي هو مصدر الحكاية قديما كان يلون من طبقات صوته مع الحدث، لكنك حين تكتب تلون من إيقاع اللغة، لأن أحدا لا يسمعك من ناحية، والأهم أن الرواية محفل للشخصيات ومن ثم لكل منهم لغة ولكل من الأحداث التي تقع لغة للوصف أو الرؤية. الروايات الكلاسيكية كانت اللغة فيها في أكثرها وصف خارجي وشرح وكانت أقرب إلى الحكي حقا، ثم أتت الرواية الرومانتيكية لتربط اللغة بالشعور أكثر، فصارت أكثر عاطفية ثم تولت الأشكال الأدبية لنصل إلى تعدد في اللغات وفيها كلها لا يبدو الكاتب عليما بكل شيء، بل يترك الحدث والشخصيات تقدم عالمها وتصنع نفسها وبقدر ما كان يسعي الحكاء لرضا مستمعيه، يسعى الكاتب إلى الصدق الفني في تصوير شخوصه فيبحث عن لغة تليق بها على تعددها، وحوارات تليق بها وبثقافتها. الحكاء وهو يحكي قديما كثيرا ما كان يحمل آلة موسيقية مثل الربابة مثلا وكان يبدو دائما على وعي بما يقول ويفعل، بينما الكاتب كثيرا ما يذهب منه الوعي حتى أنه يمكن أن يخرج من جريمة قتل صورها في روايته بالرعب من الجريمة، وكثيرا ما يبحث عن شخصياته في الحياة من حوله بعد أن ينتهي من روايته وينسي أنها شخصيات فنية لن تمشي على قدمين.
الحكاية الشعبية مع مرور الزمن وتغير الحكائين تتغير كثيرا أحداثها، بينما الرواية التي طبعت للقراء في كتاب لا تتغير ولا يتحمس الكاتب إلى إعادة النظر في ما كتب من قبل حتى لو جاءت الرواية سيئة، فما دامت قد نشرت ففرصة أن يغيرها لا يتحمس لها غالبية الكتاب إن لم يكن كلهم ، أي ليس للكاتب تقريبا حق الحكاء. وحتى الآن لم تظهرالدراسات التي تضع لنا مبادئ للحكي، بينما للرواية مدارس ومذاهب متعددة وإن تغيرت مع الأزمان.
ابراهيم عبد المجيد
Jan 24, 2018
* القدس العربي
لغة الحكاية تتغير بين البلاد والمجتمعات، حسب الحكاء ومن يستمعون إليه، فقد يختار السخرية أو التفكه، أو حتى الحكم والأمثال، مادام المستمعون يروق لهم ذلك كما يمكن أن يخترع حكايات ينسبها إلى صحابة الرسول، أو تابعيه، أو بعض أولياء الله الصالحين، لتعزيز ما يقول، ما دام ذلك يؤثر في المستمعين. ليس للحكاية إذن شكل أدبي، ولا توجد بين أشكالها عبر التاريخ معارك أدبية ولا حوارات من أي نوع. فن الحكاية عابر ومؤقت يؤثر فيه اندماج المستمعين له. لم تظهر الحكاية لتكتب ولا لتكون فنا مكتوبا، وإن كتبت فيما بعد كنوع من الاحتفاظ بالتراث الشفاهي القديم. ومن خلال حياتي الأدبية أستطيع أن أقول إنها كلمة يقولها البعض من الذين لم يقرأوا للكاتب الذي يصفونه بذلك، أو لأنه طعن في السن ويظنون أن ذلك مدح، كما قلت، عظيم ولا يجدون غير هذه الكلمة الحلوة الشكل الخادعة، فهي تعني بدون أن يدركوا أنه، الكاتب يعني، بمقياس النقد الأدبي الحقيقي ليس كاتبا كبيرا، رغم أنهم يتصورون ذلك. لقد قامت المذاهب والاتجاهات الأدبية والفنية على تغيير رئيسي في الشكل الأدبي، وتغيير رئيسي في حكي الحكاية. والأعمال الأدبية الروائية بالذات هي حكاية في المظهر، لكنها بناء فني معقد تلعب فيه اللغة دورا والمكان دورا والزمان دورا والمشاعر أدوارا، فإن تكتب عن رجل في أزمة، ليس كما تكتب عن رجل في فرح. وأن تكتب عن رجل في صحراء، ليس كما تكتب عن رجل في أوتوبيس. واستخدام الجملة يكون قصيرا أحيانا، ويكون طويلا أحيانا، حسب روح الشخصيات وروح المكان ولحظة الزمن، لا كما يريده المستمعون.
تفاصيل كثيرة يعرفها النقاد، والمدارس الأدبية حين قامت ضد ما قبلها من مذاهب، كان وراء ذلك اختلاف طريقة الكتابة وتصور جديد للكتابة. هذه الثقافة النقدية تكون قد ضاعت حين تصف روائيا بأنه حكاء عظيم. يمكن، بل وهذا طبيعي، أن لا تجد هذه الثقافة عند القارئ العادي أو الصحافي العادي، لكن أن تأتي كلمة حكاء عظيم أو حكاء فقط من الكتاب والنقاد فهي ليست مدحا لكنها استسهال منهم، ولا أريد أن أقول عدم معرفة حتى لا أسيء إلى أحد. أسوأ الروايات هي الحكاية العادية التي تتساوى فيها لغة كل الشخوص وتوضح مراميها ومعانيها وتشرح خبايا العمل الفني. فارق كبير بين أن تصف شخصية بالطريقة التقليدية فتقول مثلا، إنه أو إنها ماكر أو ماكرة، وبين أن تضعه في موقف يوضح أنه ماكر. وفارق بين جمل مرتاحة ممتدة من أو عن شخص يتأمل في راحة، وجمل متشابكة ومتقاطعة الصور من أو عن شخص يحلم. فارق بين أن تقول إنه يحلم بكذا وكذا، وأن تقدم الحلم بلغة الحلم وصور الحلم. والحكاء الشعبي الذي هو مصدر الحكاية قديما كان يلون من طبقات صوته مع الحدث، لكنك حين تكتب تلون من إيقاع اللغة، لأن أحدا لا يسمعك من ناحية، والأهم أن الرواية محفل للشخصيات ومن ثم لكل منهم لغة ولكل من الأحداث التي تقع لغة للوصف أو الرؤية. الروايات الكلاسيكية كانت اللغة فيها في أكثرها وصف خارجي وشرح وكانت أقرب إلى الحكي حقا، ثم أتت الرواية الرومانتيكية لتربط اللغة بالشعور أكثر، فصارت أكثر عاطفية ثم تولت الأشكال الأدبية لنصل إلى تعدد في اللغات وفيها كلها لا يبدو الكاتب عليما بكل شيء، بل يترك الحدث والشخصيات تقدم عالمها وتصنع نفسها وبقدر ما كان يسعي الحكاء لرضا مستمعيه، يسعى الكاتب إلى الصدق الفني في تصوير شخوصه فيبحث عن لغة تليق بها على تعددها، وحوارات تليق بها وبثقافتها. الحكاء وهو يحكي قديما كثيرا ما كان يحمل آلة موسيقية مثل الربابة مثلا وكان يبدو دائما على وعي بما يقول ويفعل، بينما الكاتب كثيرا ما يذهب منه الوعي حتى أنه يمكن أن يخرج من جريمة قتل صورها في روايته بالرعب من الجريمة، وكثيرا ما يبحث عن شخصياته في الحياة من حوله بعد أن ينتهي من روايته وينسي أنها شخصيات فنية لن تمشي على قدمين.
الحكاية الشعبية مع مرور الزمن وتغير الحكائين تتغير كثيرا أحداثها، بينما الرواية التي طبعت للقراء في كتاب لا تتغير ولا يتحمس الكاتب إلى إعادة النظر في ما كتب من قبل حتى لو جاءت الرواية سيئة، فما دامت قد نشرت ففرصة أن يغيرها لا يتحمس لها غالبية الكتاب إن لم يكن كلهم ، أي ليس للكاتب تقريبا حق الحكاء. وحتى الآن لم تظهرالدراسات التي تضع لنا مبادئ للحكي، بينما للرواية مدارس ومذاهب متعددة وإن تغيرت مع الأزمان.
ابراهيم عبد المجيد
Jan 24, 2018
* القدس العربي