مكان ما غير محدد أو ثابت، لكنه شبه عائم في الفضاء الواسع. بريخت ينام نوما هادئا جميلا. يقترب منه ملاكه الحارس ويهزه برفق ملائكي. بريخت ما زال على نومه الذي يفيض سلاما ونورا . يبتسم الملاك ويهزه بقوة أكبر. يستيقظ بريخت من نومه بصعوبة . ما زال مصدوما، لأنه أُيقظ من نومته الأبدية الهادئة.
الملاك الحارس: سلامي لك .
بريخت (بصوت هادئ لطيف تعلو منه نبرة احتجاج) : سلامي لك أيضا، لكن ما الذي تريده مني ؟! اعتقدت انك كنت ملاكي الحارس في حياتي، أما الآن وقد انتهى الأمر ... ما الذي تريده ؟!
الملاك (مفاجأ) : ألا تريد أن تستيقظ ولو لفترة قصيرة ؟!
بريخت (مقاطعا) : كلا ! لِم أستيقظ ؟! لأول مرة ارتاح في نومي .
الملاك : ألا تريد أن تعرف ماذا يجري في الدنيا ؟!
بريخت : هل على الأشخاص الذين ينتقلون إلى هنا أن يعرفوا ما يجري على الأرض ويستمروا في العذاب ؟!
الملاك (محتارا) : لا ! لكن في حالتك أنت يا بريخت الأمر يختلف .
بريخت : وماذا يعني أن أكون بريخت هنا ؟!
الملاك : لولا أنك لم تكن بريخت الذي كافح وناضل من اجل البشر لما كنت موجودا هنا غارقا في بحر هذا النوم الجميل . لربما كنت ستكون موجودا في قاع جهنم حيث التعب النفسي الذي لا يطاق ولا يحتمل .
بريخت : شكرا أيها الملاك الحارس . لكن مهمتي انتهت على الأرض . وأعتقد أني عملت ما بوسعي .
الملاك : وهنا ؟!
بريخت (مستيقظا تماما) : وهنا ؟! ماذا هنا ؟! ألا تكفي المنافي والشحشطة والمرمطة التي عشتها على الأرض ؟!
الملاك (في حماس) : أردت أن أجعلك ترى بأم عينك الاحتفالات التي تجري من أجلك ومن اجل أعمالك المسرحية . مثلا، أنا أحب شعرك جدا . هل لي أن اقرأ لك إحدى قصائدك ؟
بريخت (مستغربا) : تحفظ قصائدي أيها الملاك ؟
الملاك (يتلو قصيدة "إلى الأجيال المقبلة" بصوت جهوري مؤثر) .
بريخت : إلقاؤك جدا جميل أيها الملاك، لكن الترجمة أقل من الأصل .
الملاك : لغة الأرض المفضلة عندي هي الإيطالية، لغة دانتي . أحفظ الكوميديا الإلهية كلها عن ظهر قلب . أأتلو لك الآن إحدى قصائدك بالألمانية ؟
بريخت (باهتمام شديد) : أتفعل ؟!
الملاك (يتلو بعضا من قصائد بريخت القصيرة ) .
بريخت (في ذهول) : يا إلهي ! كم أنت عظيم أيها الملاك ! من أين لك موهبة الإلقاء هذه ؟! هل كنت في حياتك قارئ شعر ؟!
الملاك : طوال حياتي كنت ملاكا فقط .
بريخت (مفاجأ) : إذن، أنت ولدت ملاكا ؟!
الملاك (متابعا) : أبديا .
بريخت : وشغلة الملاك هذه ...
الملاك (مقاطعا بمنتهى اللطف) : إنها ليست شغلة، فهذه مفاهيم أرضية . إنها عبادة .
بريخت (مترددا) : وهل هي شبيهة بنومي ؟!
الملاك (مبتسما) : إنها عبادة . ألا تعرف ما هي العبادة ؟!
بريخت : طيلة حياتي كلها لم أكن متعبدا إلا لمسرحي وشعري وإيماني بحياة أفضل للبشر .
الملاك (تتسع ابتسامته) : وأنا شيء من هذا القبيل .
بريخت : من هذا القبيل أيضا ... يعني مثلي ؟!
الملاك : الممارسة تختلف، لكننا نعمل من اجل خير الناس .
بريخت : إذن، نحن نتفق ؟!
الملاك (بطبيعية) : لم لا ؟! فالبشر أحيانا يحبون تعقيد الأمور، ولو نظروا إلى أعماق ذاتهم لوجدوا جانبا ملائكيا في أعماقهم ما أرادوا أن يعيشوه . أما أنت يا بريخت، فكنت دائم العمل والسؤال . أحيانا تصيب ومرات تخطئ . لكنك كنت دائم البحث والانشغال . كان يعجبني إصرارك ونشاطك . كنت قريبا من ملائكيتك إلى درجة قد تصدمك ... أو بالأحرى كنت ملاكا ...
بريخت (مذهولا مقاطعا ويكاد يخرج من نومته الأبدية) : أنا ... ملائكية ؟! ملاك ؟!
الملاك (مبتسما بتفهّم) : أجل، أنت .
بريخت : يبدو أن الحياة الأخرى هنا مليئة بالمفاجآت !
الملاك : كنت نائما نوما عميقا جدا .
بريخت : وهل أيقظتني من قليل لأرى مصائب البشر مرة أخرى ؟!
الملاك : تبدو منزعجا جدا .
بريخت : لقد ارتحت في نومي هذا ولا أريد أن أعود إلى الأرض مرة أخرى . (صمت) اليوم افهم لماذا غضب أليعازر حين أعاده السيد المسيح من الموت إلى الحياة . لو كنت أعرف أن الموت على هذا ...
الملاك (مقاطعا) : هل تحب الحياة هنا ؟
بريخت : تعبت جدا على الأرض .
الملاك : لكنك أعطيت الكثير .
بريخت : ألا يشفع لي ما أعطيت لأظل على نومي الجميل هنا ؟!
الملاك : وهل تظنني سأبعثك الآن حيا لتعود إلى الأرض ؟!
بريخت : أرجو ألا تكون هذه الفكرة قد خطرت ببالك . أنا لست على استعداد بالمرة للعودة . هناك حققت ما حققته . والآن لكل زمان رجاله . ثم إنني الآن أنا هنا .
الملاك : لو كنت متأكدا أنك ستكون هنا بهذه الحالة المريحة، هل كنت ستبدع ما أبدعت ؟!
بريخت : ربما نعم وربما لا .
الملاك : جواب ذكي .
بريخت : لأني كنت ماديا على الأرض .
الملاك : كنت عمليا وماديا جدا لا تهمك العوالم التي لا ترى .
بريخت : لم يعنني الميتافيريق بالمرة، وأمور الله لم تشغلني آنذاك . كنت مشغولا بالمساهمة بطريقتي وإيماني بضرورة تغيير العالم الأرضي إلى ما هو أجمل وأفضل . أن تكون الحياة من نصيب الجميع، وليس من حق الأغنياء الجشعين فقط وصنّاع الحروب وتجارّها . بالنسبة لي أيها الملاك العزيز، الجميع يستحقون الحياة وبغزارة .
الملاك : وهل نجحت ؟!
بريخت : لا أعرف، لكني حاولت وأعطيت ما عندي بكل ما فيّ من قوة وإيمان وإبداع .
الملاك : هل كانت هناك أسئلة تناوشك وتجعلك مترددا حول الطريق الذي اخترته ؟
بريخت : مترددا ؟! لماذا ؟!
الملاك : أسئلة، تردد، ضعف، هشاشة ... كانت طريقك وعرة، ألا توافقني ؟
بريخت : وعرة، صحيح . تردد ؟! (يفكر) ... ضعف ؟! (يبدو متضايقا بعض الشيء) كلنا نصاب بالضعف البشري، لكن أن نستسلم لا . كل ما تسألني عنه من تردد وضعف وهشاشة كان ترفا على زمننا القاسي، كما كان إيماني كبيرا بالطريق الذي اخترته . لذا كان طريقا وعرا، لكني اجتزته بقوة وعزيمة وإصرار على أمل أن تتغيّر الأمور إلى ما هو أحسن وأفضل . أحيانا كنت أكون منهارا في داخلي، لكن كان علي أن أعمل جهدي لكي تنعكس إرادتي القوية على ملامحي . كنت مسكونا بهاجس تغيير العالم من خلال كل ما أعمل . أحيانا كان الضعف يهاجمني، لكني كنت له بالمرصاد بشتى الطرق وأهمها العمل، وهذا ما نال من صحتي وربما من كل ما فعلت وقمت به . ولا بد أن كل هذه التناقضات انعكست على أدبي وأغنته .
الملاك : والآن، لو عدت إلى الأرض، ماذا كنت ستفعل ؟
بريخت : كنت سأتابع مسيرتي . أو أني كنت سأتعامل مع الحياة بصورة أخرى .. أي أني كنت سأشيخ وأموت . كان الاندفاع سيكون اضعف من البدايات القوية . وربما ...
الملاك : احتمالات عديدة .
بريخت : عفوا، لماذا تبلبلني بكل هذه الأسئلة ؟! لقد فعلت ما فعلته وللآخرين أن يحكموا على ما فعلت . لقد استرحت هنا من دينونة البشر القاسية . كم من قسوة وفظاعات هناك . يتعبني أن أتذكر مقدار القسوة هناك . الرحمة قليلة لا بل نادرة والقسوة طاغية . حاربت دائما من اجل الرحمة التي كانت دليّلة ونادرة جدا!
الملاك : صورة قاتمة .
بريخت : لكنها حقيقية .
الملاك : منذ كنت ملاكك الحارس وأنت على الأرض كنت في شوق كبير إلى الحوار معك .
بريخت (متعبا) : لكني أنا الآن ميت . هل من جدوى أن تحاور ميتا بات بعيدا عما أنجزه على الأرض ؟!
الملاك : لا يوجد موت . هناك حياة أخرى .
بريخت (معتذرا) : العفو . ما زلت استعمل تلك اللغة الأرضية البسيطة الناقصة التي لا تقدر على حمل معنى الحياة هنا .
الملاك : وأنا أخاطبك الآن باللغة الأرضية التي ستنساها بعد مئات السنين .
بريخت (مرعوبا) : أنساها نهائيا ؟! وكيف أفكر أو أحكي إذا أُيقظت مرة أخرى ؟!
الملاك (مبتسما) : لن تحتاجها بالمرة . ستزداد غنى هنا من دون تلك اللغة القاصرة الفقيرة الهزيلة .
بريخت : وهل هناك لغة أخرى ؟
الملاك : جوهر اللغات كلها .
بريخت (محتارا) : عن أي جوهر تحكيني ؟
الملاك : لغة هذا النوم الجميل الذي لا يشبه أي نوم أرضي .
بريخت : وهل يفهمني الآخرون ؟
الملاك : الجميع .
بريخت (بعد تفكير، ساخرا ) : هل أنا في مطهر اللغة الآن ؟!
الملاك : كلا . في حالة الـتأهب للانتقال إلى ما هو أفضل وأرقى .
بريخت : هل يمكنك أن تشرح لي ذلك ؟
الملاك : لنترك هذا الأمر الآن . إن سبب إيقاظي لك من موتك، الذي هو حياتك الجديدة، هو المسرح على الأرض . كنت سأجعلك ترى بعض الأعمال التي تعرض في بعض المدن الأرضية وتقول لي ما هو رأيك .
بريخت : هل هذا أمر ؟! تسألني رأيي ؟!
الملاك : لا نجبرك على شيء هنا .
بريخت : إذن أقول لك رأيي صراحة، لقد رأيت ما يكفيني على الأرض .
الملاك : إذن لا تريد أن ترى المسرح هناك ؟
بريخت : هم ادرى بامورهم احسن مني .
الملاك : أصارحك أنني دائما كنت معجبا بمسرحك وشعرك . لهذا أردت أن أطلعك على بعض الأعمال المسرحية وأسمع رأيك .
بريخت (متضايقا) : أشعر ببرد هنا . هل الطقس بارد ؟!
الملاك : أنت مصدوم لأنك أُيقظت من حياتك الأبدية الغنية الجميلة .
بريخت : ربما .
الملاك : بعد قليل ستعود إلى نومك الأبدي الجميل .
بريخت (باهتمام شديد) : وأليعازر، هل ينام الآن ؟
الملاك : ناشط كملاك مثلي .
بريخت : ألا تنام الملائكة ؟!
الملاك : يسبّحون الله ويقومون بأعمال كثيرة . إنهم على اتصال وثيق مع الله ومع أهل الأرض .
بريخت : رائع .
الملاك : رد فعل جميل .
بريخت : قل لي أيها الملاك الطيب، أين هيلنا فايغل ؟ هل هي الأخرى نائمة ؟
الملاك : مثلك تماما . ما أُعطيت هنا أُعطيت هي الأخرى . إنكما تستحقان أفضل ما عندنا .
بريخت (بحزن) : لقد تعبت معي على الأرض .
الملاك : تلتقي روحاكما هنا أحيانا .
بريخت : هل هي قريبة مني ؟
الملاك : قصدك روحها ؟!
بريخت : أي شيء منها ؟! لا يهم .
الملاك : إنها قريبة .
بريخت : أرجوك أن تسلّم لي عليها .
الملاك : سأفعل .
بريخت : وقل لها إني بخير . عانيت الكثير على الأرض وعانت هي الأخرى معي .
الملاك : رحمة الله واسعة لا يدركها البشر .
بريخت : أنا متأكد أن القسوة ما زالت منتشرة في الأرض .
الملاك : لو كتبت مسرحا الآن، أي مسرح كنت ستكتب ؟
بريخت : مسرح ؟! هنا ؟! أيها الملاك العزيز نحن في مكان أكبر من المسرح، أليس كذلك ؟!
الملاك (مصرّا بلطف) : لكن لو كتبت مسرحا .
بريخت : في هذه اللحظة .. عفوا أعتقد انه لا يوجد زمن هنا .. ما يأتي إلى بالي بقوة أليعازر عندما أعاده المسيح إلى الحياة (يتوقف عن الكلام) ...
الملاك : ماذا ؟! (مبتسما) أنت لا تجدّف، قل ما تريد !
بريخت : المسيح أخطأ فعلا بحق أليعازر . كان موت أو نوم أو حياة أليعازر الجديدة أطيب وأجمل من حياته على الأرض . إذن لماذا أيقظه ؟! هذا ما يدور في خلدي الآن .
الملاك : وهل أنا مخطئ بحقك ؟
بريخت (متحرّجا الإجابة) : لا، ربما زهقت وأردت أن تحكي معي . هذا طبيعي جدا . وبما أنكم دائما بين الله وبيننا نحن البشر، فلربما أصبتم بعدوى الحكي البشري . لكن قل لي أيها الملاك : أما زالت هناك حروب على الأرض ؟
الملاك (بأسف) : الكثير . الكراهية تزداد .
بريخت (متضايقا) : لقد عشت حربين عالميتين . لو كان ممكنا أن أقول شيئا للأجيال الشابة، لقلت : أيها الجندي الشجاع، لا تذهب إلى الحرب ! عشنا ما يكفي من الحروب، ولا توجد حروب عادلة . (يشعر بتعب) قل لي أيها الملاك : أما زال ادوارد بوند حيّا يكتب ؟
الملاك : إنه حي ويكتب .
بريخت : وطبعا، هناك آخرون من قوى الخير . هل تتابعهم ؟
الملاك : كافكا الاكتئابي المعذّب موجود هنا . ولقد درس العربية وقرأ كل ما كتبه أستاذه أبو العلاء المعري وهما يتحاوران كثيرا، وأحيانا يطوّفان في الجنة بحثا عن معنى . ويلح بورخيس طالبا التعرّف على أبي العلاء المعري .
بريخت (بعد صمت طويل) : الحقيقة، لم أكن من هواة أدب كافكا . والمعري لم اقرأه . (صمت) أرجو أن يكون فالتر بنيامين الصديق العزيز في مكان مريح .
الملاك : وهو كذلك . لا تقلق عليه . أتعرف يا برتولد ؟ دائما أحببت المسرح . المسرح الحقيقي . مسرحك . بيرانديلو . بوند . آنوي . كلوديل . بيكيت . شاهدت "في انتظار غودو" ما يزيد على العشرين مرة . بيكيت كان ملاكا على الأرض دون أن يعرف ذلك، وهنا يقود جوقة كبيرة من الملائكة . لكني دائما فضلّتك يا بريخت على الجميع، إذ كنت تعرف ما تريد، وكنت دائما خصما عنيدا لكل ما هو معاد للبشر . أنت مسرحي هائل . من مثلك مقدرة على مقارعة الشر ومحاربته في كل ما كتبت ؟ كنت أتابع كل ما تكتبه بشغف كبير . أعرف، المسرح كان ولا زال نقطة ضعفي . ذات مرة تسللت إلى عرض " الأم كوراج وأولادها" ولم أتمالك نفسي، فبكيت . لقد أبكيت ملاكا يا بريخت لا علاقة له بمسرح البشر . لقد شاهدت أغلب أعمالك . كنت أنتظرها كما لو كنت أنتظر روحا غاية في الطيبة . وكنت دائما أسأل الله أن يسمح لي بمتابعة أعمالك، وكان يسمح لي إذ كان يعرف ما تفعله وما ستفعله إلى آخر يوم لك على الأرض .
بريخت : الملائكة تشاهد أعمالي ؟! كم أنا محظوظ !
الملاك : أنا ملاكك الحارس . لا أعرف الكثير عن الآخرين . أحفظ معظم أعمالك عن ظهر قلب .
بريخت : وهل هذا مسموح ؟!
الملاك : كل ما هو خير مسموح . لكنك بمسرحك وشعرك كدت توقع بي في خطيئة كبيرة، إذ إني بعد مشاهدة "دائرة الطباشير القوقازية" تمنيت أن أكون بشريا وأن ... لكني استدركت الأمر وعدت إلى حالتي الملائكية التي سأبقى عليها .
بريخت : أنت تحيّرني أيها الملاك . كنت أظن أن السماء غير ما أراه وأسمعه الآن .
الملاك : السماء هي حياة أخرى أغنى من حياة الأرض بكثير .
بريخت : ممكن، ممكن .
الملاك : اعذرني، كان علي ألا أوقظك . حبي للمسرح، مسرحك أنت بالذات، جعلني افعل ذلك .
بريخت : لا عليك أيها الملاك الطيب، فأنا رهن إشارتك . لكن حالي هنا كحال إليعازر، إذ أحب هذا النوم الجميل . أحب هذه الحياة هنا، ولا أريد مقارعة البشر بعد . لقد تعبت بما فيه الكفاية .
الملاك : سيكون لك ما تريد .
بريخت (بشيء من الأسف) : هل سترحل ؟!
الملاك : أجل .
بريخت : وأنا أعود إلى نومي ؟!
الملاك : إلى حياتك الجديدة .
بريخت : وهل ستوقظني مرة أخرى ؟
الملاك : ذات مرة ستستيقظ لوحدك .
بريخت : متى ؟
الملاك : عندما تصير ملاكا مثلي .
بريخت : أنا ؟! ملاك ؟!
الملاك : يا عزيزي بريخت لا تنقز ولا تجفل . لقد قطعت شوطا كبيرا على الأرض من الملائكية . وأستطيع أن أقول لك إنك كنت ملاكا على الأرض، وبعد فترة ستكون ملاكا هنا .
بريخت (على استغرابه) : أنا ؟!
الملاك : الوداع .
(يبتعد الملاك محلّقا، فيما يردد بريخت بين نوم وصحو، في حالة لا سبيل إلى وصفها) : أنا ... ملاك ؟! حياتي على الأرض ... كانت ملائكية ؟! (يحاول أن يصرخ، لكن يدرك أن صوته الأرضيّ غاب، ومع ذلك يفعل) أين أنت يا هيلنا فايغل ؟! كم أنا بحاجة إليك !
الملاك الحارس: سلامي لك .
بريخت (بصوت هادئ لطيف تعلو منه نبرة احتجاج) : سلامي لك أيضا، لكن ما الذي تريده مني ؟! اعتقدت انك كنت ملاكي الحارس في حياتي، أما الآن وقد انتهى الأمر ... ما الذي تريده ؟!
الملاك (مفاجأ) : ألا تريد أن تستيقظ ولو لفترة قصيرة ؟!
بريخت (مقاطعا) : كلا ! لِم أستيقظ ؟! لأول مرة ارتاح في نومي .
الملاك : ألا تريد أن تعرف ماذا يجري في الدنيا ؟!
بريخت : هل على الأشخاص الذين ينتقلون إلى هنا أن يعرفوا ما يجري على الأرض ويستمروا في العذاب ؟!
الملاك (محتارا) : لا ! لكن في حالتك أنت يا بريخت الأمر يختلف .
بريخت : وماذا يعني أن أكون بريخت هنا ؟!
الملاك : لولا أنك لم تكن بريخت الذي كافح وناضل من اجل البشر لما كنت موجودا هنا غارقا في بحر هذا النوم الجميل . لربما كنت ستكون موجودا في قاع جهنم حيث التعب النفسي الذي لا يطاق ولا يحتمل .
بريخت : شكرا أيها الملاك الحارس . لكن مهمتي انتهت على الأرض . وأعتقد أني عملت ما بوسعي .
الملاك : وهنا ؟!
بريخت (مستيقظا تماما) : وهنا ؟! ماذا هنا ؟! ألا تكفي المنافي والشحشطة والمرمطة التي عشتها على الأرض ؟!
الملاك (في حماس) : أردت أن أجعلك ترى بأم عينك الاحتفالات التي تجري من أجلك ومن اجل أعمالك المسرحية . مثلا، أنا أحب شعرك جدا . هل لي أن اقرأ لك إحدى قصائدك ؟
بريخت (مستغربا) : تحفظ قصائدي أيها الملاك ؟
الملاك (يتلو قصيدة "إلى الأجيال المقبلة" بصوت جهوري مؤثر) .
بريخت : إلقاؤك جدا جميل أيها الملاك، لكن الترجمة أقل من الأصل .
الملاك : لغة الأرض المفضلة عندي هي الإيطالية، لغة دانتي . أحفظ الكوميديا الإلهية كلها عن ظهر قلب . أأتلو لك الآن إحدى قصائدك بالألمانية ؟
بريخت (باهتمام شديد) : أتفعل ؟!
الملاك (يتلو بعضا من قصائد بريخت القصيرة ) .
بريخت (في ذهول) : يا إلهي ! كم أنت عظيم أيها الملاك ! من أين لك موهبة الإلقاء هذه ؟! هل كنت في حياتك قارئ شعر ؟!
الملاك : طوال حياتي كنت ملاكا فقط .
بريخت (مفاجأ) : إذن، أنت ولدت ملاكا ؟!
الملاك (متابعا) : أبديا .
بريخت : وشغلة الملاك هذه ...
الملاك (مقاطعا بمنتهى اللطف) : إنها ليست شغلة، فهذه مفاهيم أرضية . إنها عبادة .
بريخت (مترددا) : وهل هي شبيهة بنومي ؟!
الملاك (مبتسما) : إنها عبادة . ألا تعرف ما هي العبادة ؟!
بريخت : طيلة حياتي كلها لم أكن متعبدا إلا لمسرحي وشعري وإيماني بحياة أفضل للبشر .
الملاك (تتسع ابتسامته) : وأنا شيء من هذا القبيل .
بريخت : من هذا القبيل أيضا ... يعني مثلي ؟!
الملاك : الممارسة تختلف، لكننا نعمل من اجل خير الناس .
بريخت : إذن، نحن نتفق ؟!
الملاك (بطبيعية) : لم لا ؟! فالبشر أحيانا يحبون تعقيد الأمور، ولو نظروا إلى أعماق ذاتهم لوجدوا جانبا ملائكيا في أعماقهم ما أرادوا أن يعيشوه . أما أنت يا بريخت، فكنت دائم العمل والسؤال . أحيانا تصيب ومرات تخطئ . لكنك كنت دائم البحث والانشغال . كان يعجبني إصرارك ونشاطك . كنت قريبا من ملائكيتك إلى درجة قد تصدمك ... أو بالأحرى كنت ملاكا ...
بريخت (مذهولا مقاطعا ويكاد يخرج من نومته الأبدية) : أنا ... ملائكية ؟! ملاك ؟!
الملاك (مبتسما بتفهّم) : أجل، أنت .
بريخت : يبدو أن الحياة الأخرى هنا مليئة بالمفاجآت !
الملاك : كنت نائما نوما عميقا جدا .
بريخت : وهل أيقظتني من قليل لأرى مصائب البشر مرة أخرى ؟!
الملاك : تبدو منزعجا جدا .
بريخت : لقد ارتحت في نومي هذا ولا أريد أن أعود إلى الأرض مرة أخرى . (صمت) اليوم افهم لماذا غضب أليعازر حين أعاده السيد المسيح من الموت إلى الحياة . لو كنت أعرف أن الموت على هذا ...
الملاك (مقاطعا) : هل تحب الحياة هنا ؟
بريخت : تعبت جدا على الأرض .
الملاك : لكنك أعطيت الكثير .
بريخت : ألا يشفع لي ما أعطيت لأظل على نومي الجميل هنا ؟!
الملاك : وهل تظنني سأبعثك الآن حيا لتعود إلى الأرض ؟!
بريخت : أرجو ألا تكون هذه الفكرة قد خطرت ببالك . أنا لست على استعداد بالمرة للعودة . هناك حققت ما حققته . والآن لكل زمان رجاله . ثم إنني الآن أنا هنا .
الملاك : لو كنت متأكدا أنك ستكون هنا بهذه الحالة المريحة، هل كنت ستبدع ما أبدعت ؟!
بريخت : ربما نعم وربما لا .
الملاك : جواب ذكي .
بريخت : لأني كنت ماديا على الأرض .
الملاك : كنت عمليا وماديا جدا لا تهمك العوالم التي لا ترى .
بريخت : لم يعنني الميتافيريق بالمرة، وأمور الله لم تشغلني آنذاك . كنت مشغولا بالمساهمة بطريقتي وإيماني بضرورة تغيير العالم الأرضي إلى ما هو أجمل وأفضل . أن تكون الحياة من نصيب الجميع، وليس من حق الأغنياء الجشعين فقط وصنّاع الحروب وتجارّها . بالنسبة لي أيها الملاك العزيز، الجميع يستحقون الحياة وبغزارة .
الملاك : وهل نجحت ؟!
بريخت : لا أعرف، لكني حاولت وأعطيت ما عندي بكل ما فيّ من قوة وإيمان وإبداع .
الملاك : هل كانت هناك أسئلة تناوشك وتجعلك مترددا حول الطريق الذي اخترته ؟
بريخت : مترددا ؟! لماذا ؟!
الملاك : أسئلة، تردد، ضعف، هشاشة ... كانت طريقك وعرة، ألا توافقني ؟
بريخت : وعرة، صحيح . تردد ؟! (يفكر) ... ضعف ؟! (يبدو متضايقا بعض الشيء) كلنا نصاب بالضعف البشري، لكن أن نستسلم لا . كل ما تسألني عنه من تردد وضعف وهشاشة كان ترفا على زمننا القاسي، كما كان إيماني كبيرا بالطريق الذي اخترته . لذا كان طريقا وعرا، لكني اجتزته بقوة وعزيمة وإصرار على أمل أن تتغيّر الأمور إلى ما هو أحسن وأفضل . أحيانا كنت أكون منهارا في داخلي، لكن كان علي أن أعمل جهدي لكي تنعكس إرادتي القوية على ملامحي . كنت مسكونا بهاجس تغيير العالم من خلال كل ما أعمل . أحيانا كان الضعف يهاجمني، لكني كنت له بالمرصاد بشتى الطرق وأهمها العمل، وهذا ما نال من صحتي وربما من كل ما فعلت وقمت به . ولا بد أن كل هذه التناقضات انعكست على أدبي وأغنته .
الملاك : والآن، لو عدت إلى الأرض، ماذا كنت ستفعل ؟
بريخت : كنت سأتابع مسيرتي . أو أني كنت سأتعامل مع الحياة بصورة أخرى .. أي أني كنت سأشيخ وأموت . كان الاندفاع سيكون اضعف من البدايات القوية . وربما ...
الملاك : احتمالات عديدة .
بريخت : عفوا، لماذا تبلبلني بكل هذه الأسئلة ؟! لقد فعلت ما فعلته وللآخرين أن يحكموا على ما فعلت . لقد استرحت هنا من دينونة البشر القاسية . كم من قسوة وفظاعات هناك . يتعبني أن أتذكر مقدار القسوة هناك . الرحمة قليلة لا بل نادرة والقسوة طاغية . حاربت دائما من اجل الرحمة التي كانت دليّلة ونادرة جدا!
الملاك : صورة قاتمة .
بريخت : لكنها حقيقية .
الملاك : منذ كنت ملاكك الحارس وأنت على الأرض كنت في شوق كبير إلى الحوار معك .
بريخت (متعبا) : لكني أنا الآن ميت . هل من جدوى أن تحاور ميتا بات بعيدا عما أنجزه على الأرض ؟!
الملاك : لا يوجد موت . هناك حياة أخرى .
بريخت (معتذرا) : العفو . ما زلت استعمل تلك اللغة الأرضية البسيطة الناقصة التي لا تقدر على حمل معنى الحياة هنا .
الملاك : وأنا أخاطبك الآن باللغة الأرضية التي ستنساها بعد مئات السنين .
بريخت (مرعوبا) : أنساها نهائيا ؟! وكيف أفكر أو أحكي إذا أُيقظت مرة أخرى ؟!
الملاك (مبتسما) : لن تحتاجها بالمرة . ستزداد غنى هنا من دون تلك اللغة القاصرة الفقيرة الهزيلة .
بريخت : وهل هناك لغة أخرى ؟
الملاك : جوهر اللغات كلها .
بريخت (محتارا) : عن أي جوهر تحكيني ؟
الملاك : لغة هذا النوم الجميل الذي لا يشبه أي نوم أرضي .
بريخت : وهل يفهمني الآخرون ؟
الملاك : الجميع .
بريخت (بعد تفكير، ساخرا ) : هل أنا في مطهر اللغة الآن ؟!
الملاك : كلا . في حالة الـتأهب للانتقال إلى ما هو أفضل وأرقى .
بريخت : هل يمكنك أن تشرح لي ذلك ؟
الملاك : لنترك هذا الأمر الآن . إن سبب إيقاظي لك من موتك، الذي هو حياتك الجديدة، هو المسرح على الأرض . كنت سأجعلك ترى بعض الأعمال التي تعرض في بعض المدن الأرضية وتقول لي ما هو رأيك .
بريخت : هل هذا أمر ؟! تسألني رأيي ؟!
الملاك : لا نجبرك على شيء هنا .
بريخت : إذن أقول لك رأيي صراحة، لقد رأيت ما يكفيني على الأرض .
الملاك : إذن لا تريد أن ترى المسرح هناك ؟
بريخت : هم ادرى بامورهم احسن مني .
الملاك : أصارحك أنني دائما كنت معجبا بمسرحك وشعرك . لهذا أردت أن أطلعك على بعض الأعمال المسرحية وأسمع رأيك .
بريخت (متضايقا) : أشعر ببرد هنا . هل الطقس بارد ؟!
الملاك : أنت مصدوم لأنك أُيقظت من حياتك الأبدية الغنية الجميلة .
بريخت : ربما .
الملاك : بعد قليل ستعود إلى نومك الأبدي الجميل .
بريخت (باهتمام شديد) : وأليعازر، هل ينام الآن ؟
الملاك : ناشط كملاك مثلي .
بريخت : ألا تنام الملائكة ؟!
الملاك : يسبّحون الله ويقومون بأعمال كثيرة . إنهم على اتصال وثيق مع الله ومع أهل الأرض .
بريخت : رائع .
الملاك : رد فعل جميل .
بريخت : قل لي أيها الملاك الطيب، أين هيلنا فايغل ؟ هل هي الأخرى نائمة ؟
الملاك : مثلك تماما . ما أُعطيت هنا أُعطيت هي الأخرى . إنكما تستحقان أفضل ما عندنا .
بريخت (بحزن) : لقد تعبت معي على الأرض .
الملاك : تلتقي روحاكما هنا أحيانا .
بريخت : هل هي قريبة مني ؟
الملاك : قصدك روحها ؟!
بريخت : أي شيء منها ؟! لا يهم .
الملاك : إنها قريبة .
بريخت : أرجوك أن تسلّم لي عليها .
الملاك : سأفعل .
بريخت : وقل لها إني بخير . عانيت الكثير على الأرض وعانت هي الأخرى معي .
الملاك : رحمة الله واسعة لا يدركها البشر .
بريخت : أنا متأكد أن القسوة ما زالت منتشرة في الأرض .
الملاك : لو كتبت مسرحا الآن، أي مسرح كنت ستكتب ؟
بريخت : مسرح ؟! هنا ؟! أيها الملاك العزيز نحن في مكان أكبر من المسرح، أليس كذلك ؟!
الملاك (مصرّا بلطف) : لكن لو كتبت مسرحا .
بريخت : في هذه اللحظة .. عفوا أعتقد انه لا يوجد زمن هنا .. ما يأتي إلى بالي بقوة أليعازر عندما أعاده المسيح إلى الحياة (يتوقف عن الكلام) ...
الملاك : ماذا ؟! (مبتسما) أنت لا تجدّف، قل ما تريد !
بريخت : المسيح أخطأ فعلا بحق أليعازر . كان موت أو نوم أو حياة أليعازر الجديدة أطيب وأجمل من حياته على الأرض . إذن لماذا أيقظه ؟! هذا ما يدور في خلدي الآن .
الملاك : وهل أنا مخطئ بحقك ؟
بريخت (متحرّجا الإجابة) : لا، ربما زهقت وأردت أن تحكي معي . هذا طبيعي جدا . وبما أنكم دائما بين الله وبيننا نحن البشر، فلربما أصبتم بعدوى الحكي البشري . لكن قل لي أيها الملاك : أما زالت هناك حروب على الأرض ؟
الملاك (بأسف) : الكثير . الكراهية تزداد .
بريخت (متضايقا) : لقد عشت حربين عالميتين . لو كان ممكنا أن أقول شيئا للأجيال الشابة، لقلت : أيها الجندي الشجاع، لا تذهب إلى الحرب ! عشنا ما يكفي من الحروب، ولا توجد حروب عادلة . (يشعر بتعب) قل لي أيها الملاك : أما زال ادوارد بوند حيّا يكتب ؟
الملاك : إنه حي ويكتب .
بريخت : وطبعا، هناك آخرون من قوى الخير . هل تتابعهم ؟
الملاك : كافكا الاكتئابي المعذّب موجود هنا . ولقد درس العربية وقرأ كل ما كتبه أستاذه أبو العلاء المعري وهما يتحاوران كثيرا، وأحيانا يطوّفان في الجنة بحثا عن معنى . ويلح بورخيس طالبا التعرّف على أبي العلاء المعري .
بريخت (بعد صمت طويل) : الحقيقة، لم أكن من هواة أدب كافكا . والمعري لم اقرأه . (صمت) أرجو أن يكون فالتر بنيامين الصديق العزيز في مكان مريح .
الملاك : وهو كذلك . لا تقلق عليه . أتعرف يا برتولد ؟ دائما أحببت المسرح . المسرح الحقيقي . مسرحك . بيرانديلو . بوند . آنوي . كلوديل . بيكيت . شاهدت "في انتظار غودو" ما يزيد على العشرين مرة . بيكيت كان ملاكا على الأرض دون أن يعرف ذلك، وهنا يقود جوقة كبيرة من الملائكة . لكني دائما فضلّتك يا بريخت على الجميع، إذ كنت تعرف ما تريد، وكنت دائما خصما عنيدا لكل ما هو معاد للبشر . أنت مسرحي هائل . من مثلك مقدرة على مقارعة الشر ومحاربته في كل ما كتبت ؟ كنت أتابع كل ما تكتبه بشغف كبير . أعرف، المسرح كان ولا زال نقطة ضعفي . ذات مرة تسللت إلى عرض " الأم كوراج وأولادها" ولم أتمالك نفسي، فبكيت . لقد أبكيت ملاكا يا بريخت لا علاقة له بمسرح البشر . لقد شاهدت أغلب أعمالك . كنت أنتظرها كما لو كنت أنتظر روحا غاية في الطيبة . وكنت دائما أسأل الله أن يسمح لي بمتابعة أعمالك، وكان يسمح لي إذ كان يعرف ما تفعله وما ستفعله إلى آخر يوم لك على الأرض .
بريخت : الملائكة تشاهد أعمالي ؟! كم أنا محظوظ !
الملاك : أنا ملاكك الحارس . لا أعرف الكثير عن الآخرين . أحفظ معظم أعمالك عن ظهر قلب .
بريخت : وهل هذا مسموح ؟!
الملاك : كل ما هو خير مسموح . لكنك بمسرحك وشعرك كدت توقع بي في خطيئة كبيرة، إذ إني بعد مشاهدة "دائرة الطباشير القوقازية" تمنيت أن أكون بشريا وأن ... لكني استدركت الأمر وعدت إلى حالتي الملائكية التي سأبقى عليها .
بريخت : أنت تحيّرني أيها الملاك . كنت أظن أن السماء غير ما أراه وأسمعه الآن .
الملاك : السماء هي حياة أخرى أغنى من حياة الأرض بكثير .
بريخت : ممكن، ممكن .
الملاك : اعذرني، كان علي ألا أوقظك . حبي للمسرح، مسرحك أنت بالذات، جعلني افعل ذلك .
بريخت : لا عليك أيها الملاك الطيب، فأنا رهن إشارتك . لكن حالي هنا كحال إليعازر، إذ أحب هذا النوم الجميل . أحب هذه الحياة هنا، ولا أريد مقارعة البشر بعد . لقد تعبت بما فيه الكفاية .
الملاك : سيكون لك ما تريد .
بريخت (بشيء من الأسف) : هل سترحل ؟!
الملاك : أجل .
بريخت : وأنا أعود إلى نومي ؟!
الملاك : إلى حياتك الجديدة .
بريخت : وهل ستوقظني مرة أخرى ؟
الملاك : ذات مرة ستستيقظ لوحدك .
بريخت : متى ؟
الملاك : عندما تصير ملاكا مثلي .
بريخت : أنا ؟! ملاك ؟!
الملاك : يا عزيزي بريخت لا تنقز ولا تجفل . لقد قطعت شوطا كبيرا على الأرض من الملائكية . وأستطيع أن أقول لك إنك كنت ملاكا على الأرض، وبعد فترة ستكون ملاكا هنا .
بريخت (على استغرابه) : أنا ؟!
الملاك : الوداع .
(يبتعد الملاك محلّقا، فيما يردد بريخت بين نوم وصحو، في حالة لا سبيل إلى وصفها) : أنا ... ملاك ؟! حياتي على الأرض ... كانت ملائكية ؟! (يحاول أن يصرخ، لكن يدرك أن صوته الأرضيّ غاب، ومع ذلك يفعل) أين أنت يا هيلنا فايغل ؟! كم أنا بحاجة إليك !