من هنا الدخول:
ماالذي خسرَه الشاعر الراحل محمود درويش وهو في " حضرة الغياب " الأبدي، وماالذي ربحه سليم بركات وهو بين الضحك والنسيان: الضحك حياة، والنسيان: رحيل الأحبة والأصدقاء ؟ وما الذي ربحه الآخرون من وراء تقابلهما ضدياً راهناً، سوى خسارة الأدب ؟
أكان درويش بحاجة إلى من " يفشي " عنه سراً من " العيار الثقيل " المادة التي حوَّلت أجساد جمهرة كتاب وسياسيين وحتى من ليسوا على صلة بالكتابة، إلى كتلة صاخبة من الأدرينالين داخل جسد أعياء المؤثر الكيميائي الطارىء، ليضج الراحل في قبره؟ أو بركات بحاجة إلى مثل هذه الحركة لوضع الجرس في رقبة القط، ليثير انتباه الصديق قبل العدو؟ أي أركيولوجيا للسر هذه وقد أضافت إلى مرارة الواقع المزْري ومخاوف كورونا في العالم، ما يزيد في مساحة صيدلية أفلاطون، فيُبعَد عن " الفارماكون " بُعد العقار فيه، وهو أحد معنييه، ويكتفى بـ" السم " المعنى الآخر، لنشهد تداخلاً بين كلام أب غائب، لكنه حاضر بهيبته، وكتابة من قدّم ابناً في شخص بركات، معرَّف به كما لو أنه الغائب، ونبّه المتجاهلين له بنسبة ما إلى أنه حاضر ؟
وبالتالي، لينفتح " بازار " ثقافي دون الثقافي، مع رمزيين أدبيين عاليي المستوى، لا يد لأي منهما في الحراك التسويقي اللاأدبي الفعلي بالقائمين في ساحته، والقيمين على مساحته !
أي فارماكون مستعار هنا، في طارىء الوقت، وما أكثر، ما أكبر مساحته، لرسم علاقة بين اسمين علَمين شهيرين، فيصبح أحدهم: الحاضر والحي، في مقام " الابن الضال " لأب سام ٍ؟
ماالذي دفع بالكردي السوري الشاعر والروائي والمقاليّ، بركات، وقد كان الأثير المقرب لدى الشاعر العربي الفلسطيني المفلَّق درويش، كما تشهد يومياته الفلسطينية، أو " كنيسة المحارب " أو " أرواح هندسية " والمسافة البرّية- البحرية بين بيروت وقبرص ولائحة من الحروب الصغيرة والكبيرة، أكثر من الطريق الواصل برَّاً وبحراً وجواً بين قبرص، ومنذ نهاية القرن العشريني الآفل وضاحية سكوغوس" ستوكهولم: السويد " حيث الغابة الشجرية التي تمتد بحراً من الخضرة، كما رأيتها قبل أربعة عشر عاماً، حين التقيته في بيته المقابل للغابة، لأن " وبعد ثلاثة عقود من الزمن لأن " يفجّرها " سراً لم يطقه صدره ربما، أو حارسة روحه ولوحها المحفوظ، السر الذي يخص درويش الشاعر، وهو الذي أفصح عنه بينه وبين نفسه، كما يقول تأريخه لنصه المقال الانفجاري " محمود درويش وأنا " " 1 " .
حيث أتعرض للمستجد، ولو بعد مرور زمن محتسب، متابعة للأثر الغباري للحدث الجاري!
كيف لأقل من " ألفي كلمة " هي حصاد النص المقال، وربما لأقل من عدة جمل عما اعتبِر سراً في " لوح محفوظ " إن كان ذلك صحيحاً، أن تسفك دماء آلاف من الكلمات والتعليقات عربياً وأبعد، وما في ذلك من تداعيات وإرهاصات وتأويلات، كما وتثير آلافاً مؤلفة من الكتاب ومن هم باسم الكتاب ومن وجدوا في ذلك حافزاً شبه قطيعي، ليقولوا " كلمتهم " وكأن هناك انتظروا منذ زمان زمان " ولاعة " مضغوطة صاعقة كهذه، ليسمّوا الكثير مما في نفوسهم؟ أكان ذلك مدعاة لكل هذا الخضم الكلامي، السجالي، والتحريضي والاستفزازي يا تُرى ، بحيث لم تعد " شبه المعركة المدشَّنة بركاتياً " في حقل درويش شبه المبارك المقدس " معركة أي منهم، وإنما معركة بروليتاريا هؤلاء الذين يمتطون صهوات كلمات، وينفخون في صُور رغباتهم شبه المكبوتة، تعبير عن انكسارات فالحة، كما هو حال البروليتاريا شبه الغيبية هنا، ممن أتيت على توصيفهم، وما يمضي بنا إلى حيث يكون الرمزان الكبيران في الأدب والثقافة ؟
وليكون السرُّ العرّابَ الماكر للأثر المكنون، والوهاب للمعنى الحامل لهذا الأثر المتشعب هنا وهناك . لتصدق مقولة أخرى: كل سر جاوز الواحد" وليس الاثنين " شاع.
دَيْن السر :
ليس من سر، إلا بوجود من يحمله شخصاً واحداً، أو أكثر، وهناك عهد ما، للإبقاء عليه. سر لا يُنسى، إنما لا يذكّر به أيضاً.
نقرأ السر كما هو معرَّف به دريدياً :
(السر ليس مجرد شيء ، يجب إخفاء المحتوى أو الاحتفاظ به داخلاً. البعض الآخر سرّي لأنهم آخرون. أنا سرّي ، أنا سري مثل أي شخص آخر. التفرد في الأساس سر. الآن ، قد يكون هناك واجب أخلاقي وسياسي لاحترام السرية ، حق معين في سر ما. وتتجلى الدعوة الاستبدادية بمجرد فقدان هذا الاحترام. ومع هذا ، ومن هنا الصعوبة ، هناك بالمقابل انتهاكات للسرية واستغلال سياسي لـ "سر الدولة" وكذلك "سبب الدولة" وسجلات الشرطة وغيرها.)"2 "
السر علاقة، مُقامة في محمية التذكر، ويجب عدم وقوعه بين براثن النسيان، لئلا يفلت ويفقد حق معناه بوصفه سراً.
وليس منا، ليس فينا من يحرَم من حِمْله لأسرار معينة، وفي مراتب شتى: شخصية، عائلية، صداقات، أهلية، اجتماعية، وعلى مستوى الدولة كذلك، مع فارق المنظور إلى السر، تبعاً للمجتمع الذي يعلِمنا بما يعرَف بالسر، وكيف يتعامَل به.
سر يُحتفَظ به إلى حين،وسر أسير الأعماق الصامتة المصمَتة، لا ينبغي الإفصاح عنه، إلا في وضعية معينة، وسر لا بد عليه أن يستمر سراً حتى مواراة حامله الثرى، وربما لا ينكشف أمره ، طالما أن ليس من شارة معينة إلى ذلك. كم من أسرار تموت بموت أصحابها!
فأي آخر كان درويش بالنسبة إلى بركات؟ وهل نظر درويش إلى بركات على أنه آخر ضامن لسر خاص جداً له؟
ربما بمجرد الحديث عن السر، حتى يخرج العفريت من قمقمه، أو يهدّد بالخروج، إذ لا يشار إلى السر على أنه سر، إنما في خزّين اللاشعور المحروس، أو كما لو أنه لم يكن يوماً. ما أن يقول أحدهم: هناك سر، حتى ينكشف أمره، وإن لم تتم تسميته، لأنه يحفّز المقابل: المستمع، المعني بصورة ما، على أن السر هو أمر ما، في الطريق إلى العلن.
وربما كان عنوان مقال بركات " محمود درويش وأنا " ما يشير إلى علاقة من نوع آخر، إذ يأتي الشاعر الراحل والكبير في البداية، ليس لإتيكيت معين، وإنما لأن هناك ما يفصح عن تراتبية، وهي أن هناك ما " ينزل " من الأول إلى التالي، وإن كان التالي هو من حدَّده باسمه، ونعرف مسمَّى الضمير هنا من خلال اسم كاتبه، وقد لا يتضح هكذا أحياناً في مقال لا يخفي لعبة، أو أحجية معينة، أي يكون ضمير " أنا " منفصلاً عن كاتب المقال، حيث يسمّي آخر ضمنا ً .
بعد عدة أسطر نعلم بأن الضمير أنا " بركاتي " وكعادته يمضي بعيداً في تدافعات الاستعارات كعادته، ليقترب مما يريد تسميته، رغم أنه لا يدخر طاقة خيال مضاعفة في جعل السهل استثناء، وابتداع صيَغ تترى للكلمات قاعدة .
والعلاقة تستمد بدعتها من اللون كمفهوم كيميائي، ومخاض الرمز منه. ولا أحسب أن بركات كان يكتب وأمامه معجم ما استعجم من الألوان ودلالاتها، وله تجربة طويلة في استقدام الألوان في تشكيل فضاءات نصوصه الروائية والشعرية كذلك، إلى درجة الإدمان، شغفاً نفسياً بهما، حيث ثنائية البياض والسواد تستغرض كامل المقال، وتستدرج إليها مختلف المفارقات، والتقابلات، وتحديداً جهة الأبوة والبنوَّة،، وامتداد كل منهما، والسابق واللاحق:
( البياضُ رائقٌ، راضٍ عن حظوظه؛ بل راضٍ عن مقاديره موزَّعةً بعَدْلِ الميزانِ اللونِ..
سوادٌ راضٍ عن نفْسِه؛ عن حكمةِ الأصلِ في عِظةِ اللون...)
الابتداء لأي منهما يكون، حيث ينعدم اللون كاسم في البياض، وحتى السواد كصبغة ، كما هو معلوم؟ لدينا وضعية حياد هنا إذاً! فهل كان لدى بركات إدراك الحيادية هذه، بالرغم من أن كلاً منهما يهتز أمام ناظرينا.
يحفّزنا بركات، وهو معايش تجربة فنية" رسّام لوحات فنية بذاته لبعض أعماله الشعرية، كما في " آلهة " على استنطاق اللون الفعلي في محتوى كل شريك في الثنائية اللونية لديه هنا، حيث يتداخل ظلا درويش وبركات !
هل يمكن تنسيب السواد إلى ذائقة درويشية، والبياض إلى حافظة بركاتية ؟ لماذا هذا التفريق هنا؟
ماالذي يميّزهما عن بعضهما بعضاً في التراتبية اللونية، إن تجاوبنا مع بركات ؟
ما يعرَف هو أن كل الألوان تخرج من الأسود وتنتهي في الأبيض، فهل جسَّد بركات عموم الألوان بعائدها الإبداعي الشعري في شخص درويش من خلال الأسود، وقدَّم نفسه على أنه متلقي الألوان مجتمعة، وفي صهارة فنية خاصة في شخص بركات من خلال الأبيض؟
هناك تاريخ يدلي بشهادته، والراوية بركات نفسه :
(لونان هما تاريخ البرهة جمعتنا معاً، محمود درويش وأنا، في ميثاقٍ سوادٍ وبياضٍ من مُبْتكَرِ العام 1973... في بيت الشاعر السوري أدونيس.).
والبرهة هي لحظة نشوة، هي أشبه بلقاء مستحيل، لقاء الغيب غير المتوقَّع، حيث يلي البياض السواد. السواد يحتضن الأشياء ويثير الفضول، والبياض يحتفظ بها، إذ يتلقاها، لكأن بركات سجلُّ درويش. والحكَم الفصْل، وحامل راية الحداثة في الشعر بالنسبة إليها، كما يظهر هو أدونيس، وربما ما كان له أن يُذكَر إلا لأنه " طوَّب " اسمه وطبع أول مجموعة شعرية له " كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً "، وربما كان معلِن فرادة اللحظة هذه هو أدونيس ذاته.
وهناك ما يلفت النظر في عبارة لها دلالتها في قوله :
(بضع مساءات التقيت الشاعر الفلسطيني في بيت الشاعر السوري. آثرتُ، أنا الخجول، ابتعاداً لا أُقحِمُ نفْسي في ما يتكلَّفُه المعجبون بشاعر ولد بملعقةٍ في فمه نِصْفٍ من ذهب الشعر قضيَّةً آسِرَةً، ونصفٍ شهرةٍ مجتاحة.).
تلك هي " أنا الخجول " ! خجل الابن من أبيه الرمزي، من عرّاب اسمه، وهو مفتون، بدرويش افتتاناً بنوياً، كما يظهر.
كيف لهذا الخجول أن يكون، رمزياً، سليل هذا الجموح من الداخل، وهاضم لغة الآخر، ومبتكر طريقته بها؟ أم تراه الخجول الذي يذكّرنا بمعلَمه الاعتباري على أنه أنثوي في العُرف الاجتماعي الشرقي، ولولاه لكان أكثر ارتقاء وسطوعاً مما هوعليه؟ كيف للمعجَب أن يبتكر مذهبه، ويُبقي المعجَب به جانباً، كما لو أنه لم يكن أصلاً؟
تلك إشكالية في منطق النص: المقال، وليس احتفاء بالآخر المقدَّر بجوار ٍ آخر سابق عليه في ظله هو أدونيس نفسه ؟
ثمة مِران أو تدريب على كيفية صعود جبل مواز، تحرُّك جاذبي، بمفهوم كوكبي، أو ما شابه: نجم: كوكب إلى حين. وليس هذا تأويلاً زائغاً، إنما مقتضى المعنى المتسلسل في كل عبارة تعقب أخرى .
كثير من الاسترسال في الجمنازتيك اللغوي، واستدعاء تواريخ متقطعة، وحتى استهواء بالصور المعهودة لديه كثيراً، وصحبة البياض السواد: السواد البياض، وما من حيلة للفصل بينهما في حالات كثيرة، والقدوة الأثر المقتفى درويش:
( يلقي أشعار المفقوديْنَ في مجاهل السواد الخالد، على مسمع البياض الخالد، كاللونيْنِ في صورتنا الأولى ).
هنا، يحرجني المعنى الأقرب إلى صفة القرابة بينهما، إلى درجة أنه في الوقت الذي تقتنصه أحياناً لكي تتعرف على نوعية العلاقة هذه، وهي بتداخلات أبعادها، حتى يتم نسيان عموم النص في وحدة فكرته.
غير أن الذي أعرفه، بيني وبين نفسي، ولنفسي أثبت اعتباراً فهمياً، وهو أن القارىء يمضي مع بركات كثيراً، ليكون على بيّنة من مدى تقديره الكبير لدرويشـ:ـه، وإطناب لا يخفي شهادته في إبراز هذا الانفساح النفسي، ربما ليثبت أن الذي بينه وبين درويش ما ليس بين درويش وأي آخر، بما أنه مسجَّل من خلال من " صلبه " الشعري. وهو يظهر أو ينبّه في كل فقرة أنه متابع درويش في كل خطوة حياتية له :
(سيرتُه “ذاكرة للنسيان”، عن حصار بيروت العام 1982، لم تَخْلُ مني أيضاً. دحرجني في السطورِ السوادِ الغاضب عشرين صفحةً، ودحرجني في البياض الغاضب بين السطور عشرين صفحة، بالحرف الأول من أسمي “س”.)، ودائماً من خلال التقابل أو التداخل أو التفاعل أو التجاذب بياضاً سواداً أو بالعكس، وتعقيد مهمة الإيضاح على القارىء.
وربما كان مبتغاه هو أن يؤكّد ما يستوقف القارىء المعني نفسه: ارتضاء بركات بالبنوة لصالح أبوة درويشية إبداعياً.
يستوقفني هذا الوقْف المحيّز للعقل، بالنسبة لبركات، وكيف أجاز لنفسه قول كلمة لها ثقلها.
بركات الذي أبصر نفسه الأخرى في بيروت: لبنان، وليس قامشلي، أو عامودا اللتين ينتمي إليهما بكرديته، وإرث مكتسب في عربيته التي وطَّت فيه اسمه الأدبي المعروف، أو دمشق التي أقام فيها لبعض وقت، ودرس في جامعتها" قسم اللغة العربية " لبعض وقت، لأنه لم يجد فيها ما يستجيب لذائقته الخاصة، ونفسه الجَموح، وتوقاً إلى عالم برّي كان ينشده، ولأخصص أكثر: ما أسميه بـ" جغرافية " منظمة التحرير الفلسطينية التي استشرف من خلالها اسمه الأدبي الشعري بداية والمنتظَر، وكان لها سطوعها النجمي في سبعينيات القرن الماضي، وهو بهيئته تلك نصف مكشوف الصدر، مكشوف اليدين، الكتفين، كما لو أنه شدد على انتسابه إلى عالم مغاير تماماً لعالمه، احتضنته المنظمة تلك، وضمناً الراحل الكبير محمود درويش، ليمنحه ولادة ثانية، أو يُعمّده، وما لطقوسيات منظمة التحرير الفلسطينية وإمكاناتها السياسية والمالية والرمزية حينها، من تأثير وصيت حتى في الوسط الكردي " لدينا " ليختار فيها أو عبرها الموقع الذي تلمَّس فيه التعبير الأوفى الذي لطالما تمنّاه. وخاصية التنسيب هذه إلى المنظمة، ويكون درويش بانتظاره من خلال ذائقته الأدبية الخاصة هو الذي شكَّل لديه " مصباح علاء الدين السحري " وما لحركته من دلالة أخرى: خروجه من فلسطين المحتلة، ومجيئه إلى بيروت الصغيرة الكبيرة، البرّية والجبلية والبحرية، الحدود الفسيحة لما تمنّاه، كما هو حال آخرين وما أكثر وأوفر هذه الـ" آخرين " ممن ارتقوا بكينونتهم العضوية لتصبح رمزية: الرمز الأقرب هنا هو السوري أدونيس" الاسم اللقب " الذي وجد نفسه هو الآخر في بيروت ومن بيروت كانت سندباديته. وهي علاقة مركَّبة شديدة الحساسية، ومؤثّرة، وثرّية، وخطِرة في بنيتها وآفاقها الدلالية، جهة التشابه والتباين بين حركة كل من هؤلاء الكتاب الرموز، وتركيباتها الاجتماعية والثقافية والاثنية وحتى المذهبية، ولا أظن أنها درِست من هذا المنظور لدى أي كان.
أقتصر هنا إيجازاً على الاسمين الكبيرين: درويش- بركات:
درويش الخارج من وطن محتل، ومضغوط عليه من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية، باحثاً عن اسمه الذي بدأ يرتقي نجماً سياسياً- أدبياً، إنما من خلال شعر تميَّز به في فضاء عربي انفتح له كثيراً.
بركات الخارج من مدينة صغيرة، استشعر فيها محواً، انكاره لكينونته، وهو شعور تنامى معه، وهو في دمشق " هناك الكثير من الكتاب الكرد، ممن وجدوا فيه إيقونتهم، أبصروا في حركته خارجاً على نظام سياسي كامل لا يعترف بأي حق للكرد في سوريا، وهو بخروجه المفرد " بصيغة الجمع " على طريقة أدونيس، اُعتبِر الممثّل الأكثر سحراً وإدهاشاً وحضورَ أثر لهؤلاء الكتاب، إلى درجة المبالغة في توصيفه هنا، أي باعتباره حامل " القضية الكردية " إلى الخارج وجسَّدها في كتاباته، وبدءاً من " كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً. 1973 "، وتكون بيروت في انتظاره، وتكوزن منظمة التحرير الفلسطينية التي كان لها موقع لافت في التقدير في برامج الأحزاب الكردية عينها، بوصفها حركة تحرر نموذجية، مع فارق في الموقع والعلاقة،. وهذا المتنفَّس الذي عايشه لدى المنظمة، وعلاقات من خلالها مع الأوساط الثقافية في بيروت، ليقول الكثير مما كان ينتظره. إنما هي مبالغة كبرى، وقتْل رمزي، وحتى شطحة كردية من قبل كتابها، وليس ممثلي أحزابها الذين لم يكن لديهم أي وعي يُذكر بهذا الصدد، أو ذائقة أدبية، ليحسنوا تفهَّم عالم كاتب استعصى فهمه كثيراً حتى على أهل الأدب، ودون نسيان ما لبركات نفسه من دور في هذا التلغيز، وهو يعيش نهْب ارتحالات، حتى وهو في سكوغوس منذ عقود.
أشدد هنا مجدداُ على أن بركات رغم وجود إشارات لافتة في أعماله الشعرية فالروائية، ومقالات له إلى موضوع الكرد والكردية، حيث انشغل بها العديد من الكتاب العرب والكرد، وحتى ضمن إطاريح جامعية، إلا أن الأوكد، ومن خلال متابعتي له هو أن الكردية، كمفهوم اجتماعي سياسي، وكأثنية، على وجه التحديد، لم تكن قضية لبركات، ولا في أي عمل له إطلاقاً، إنما هي موضوع، موضوع فيه من الغرابة الكثير، ومن الفانتازيا الكثير الكثير بالمقابل، ليتمكن من " تتبيل: من البهارات " ما يقدَّم على أنه كردي، وربما كان الأحدث في ذلك روايته " سبايا سنجار- 2016 " حيث الأحداث التي ترِد في متن الرواية هذه، تكاد تكون مأخوذة من جذاذات أوراق الصحف، أو الميديا وغيرهما، وحتى في عنوان كتاب شعري يتيم لديه وهو غير معهود " سوريا-2015 " والذي ترجم سريعاً إلى الفرنسية من زاوية إيديولوجيا غالباً، لا يقدّم سوريا إلا كموضوع، وما في الموضوع من تقعير وتعقيد وتكرار للكثير من استهواءات نصوصه السابقة، ودرويش من " ساسو إلى راسو: من هامة رأسه إلى أخمص قدميه "، شاعر قضية، كما هو معروف.
ليت هناك من يقارن بين بركات وروائي معروف وهو ميلان كونديرا التشيكي الذي يكتب بالفرنسية، ولكن التشيكية تتنفس بها عموم أعماله، دون إمكانية الفصل بين ابتداء السياسي وابتداء الأدبي، أو بالعكس، إنما هو نسيج حي، لا يُشك في أن التشيكية هي قضية فاعلة وعبر مخيال محيطي، متمكن، ولدى بركات خلاف ذلك، حيث أبوَّته محوَّلة، ويعيش غربة اختارها بنفسه، وعزلة أرادها معتكفاً له، وعبر لغة غير مستأنسَة إلا في نطاق محدود، ومن قبل نخبة محدودة.
سليم بركات " مواليد 1951 " أعني به في الأصل " محمد سليم ملا حسين " وهوذا اسمه الفعلي، لم يحمل القضية الكردية، كما لو أنه معبَّأ بأي إيديولوجية حزبية كردية، أو كردية دون " الحزبية " فترِدُ الكردية في مختلف أعماله الشعرية والروائية إجمالاً على أنها جغرافية تائهة، تاريخ لم يُكتَب الحظ ليسجّل باسمه، وعبر عوالم مبتدعة، وشخصيات مبتدعة، لم يخف إرادة غموض مقصودة، ليحسن التوازن النفسي أكثر.
من هنا تأتي الأبوة المنتظرة، سيما وأنه حاول التخلص من أبوّته الأولى( من هو الأب المقتول؟ إنه الأب القاتل بامتياز: مناظرة مستوجَبة تاريخياً، وهي مفارقة الأب، الأب فيما يميّزه، أو يتميَّز به رمزياً...) " 3 ".
يصبح قتل الأب رمزاً لمرحلة عمرية، محاولة نسيان ما ينبغي أن يُنسى. ليصبح الإبن دون أب، فكان متلقفه الرئيس بداية هو أدونيس " علي أحمد سعيد " الذي يكبره بـ " 21 " عاماً ، وهو الخارج على ثقافة سائدة " متكلسة " من وجهة نظره، كما هي حركية أطروحته الجامعية " الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتباع عند العرب "، ليقع درويش في منتصف المسافة عمرياً " 1931-2008 "، وهو الذي احتضن درويش، أو حتى " تبنّاه " ليس لأنه كردي، وهو نفسه لم يقدّم نفسه كردياً إطلاقاً، إنما الباحث عن أبوّة أخرى في عاصمة الأبوات الكبرى " بيروت " 4 "، وكتاباته تشير إلى توظيف الكردية بعيداً عن أي مباشرة سياسية، وموهبته الأدبية هي التي سهَّلت له الدخول إلى عالم الأدب والكتابة، ومن خلال منظمة التحرير الفلسطينية وهي بحمولتها الرمزية، كما أسلفت، ودرويش بكل ثقله الأدبي والسياسي كثيراً، درويش كاتب وثيقة إعلان الاستقلال لدولة فلسطين " 1988 "، في الجزائر، وبركات لم يكتب أي وثيقة سياسية باسم كرده، ولا كان له شأن بذلك لا من قريب ولا من بعيد حرْفياً، إنما كان الشعر ومن ثم الرواية وتالياً جملة المقالات التي احتوى البعض منها تالياً على ما هو كردي، والإشارة إلى مأساته سياسياً وثقافياً وجغرافياً وفي منابر ثقافية لبنانية مختلفة " صحيفة الحياة بصورة خاصة " وبعد أن حل مع درويش في قبرص، وبصفته سكرتير تحرير مجلته الأثيرة " الكرمل " التي تأسست في بيروت سنة 1981، وكانت المنبر الثقافي الأهم لبركات.
ومن هذا الوقت، من هذا التاريخ أعلِن عن أبوّة درويشية لبركات، ويظهر أنه لم يتجاهلها، ولا نسيها حتى تاريخ كتابة هذا المقال الانفجاري: اللغمي" محمود درويش وأنا "، أبوّة ورثت لديه حالة اليُتم الكبرى، ولا شك أن رحيل درويش كان أكبر صدمة تلقاها بركات، وكما يقول نص مقاله، وكما هي صورة درويش المقدَّرة في كتاباته، حيث كان يحتفي به، ويكون من هذا المنطلق قارئه السعيد، إن جاز التعبير " 5 "
نعم، يحق لبركات أن يسجّل هذه الأبوة، وهو يعترِف بذلك، مراراً، حيث قدَّم للخارج، وعبر درويش كان هناك الاهتمام به، ورحيله أعاده إلى حالة اليتم الكبرى، يتم الكبير الذي لا ينفك يجد نفسه صغيراً بمعنى. إنه السواد الذي يحلم عبره بالنجوم، ويتنفس النهار، حيث يفترش البياض بخيال حمل الكثير مما هو ليلي، وتكون الكتابة بينية .
بركات يحاول تجسير المسافة بينهما، إلى درجة الإمحاء، كما تخلى عن كل من نصف اسمه الأول " محمد " ونصف تاليه الديني "ملا "، كما لو أن قضيتهما واحدة، وهذا وهم أو شبهه، كمنا في تعبيره الحواري هذا، في لقاء أب بابنه، كما هو مقدَّر:
(لقد أوجدتَ حلاًّ لمشكل الحياةِ كلِّه”، قال لي مرةً بإطراءٍ. “حلولُك لغوية”.
“وطنُكَ لغويٌّ”، قلتُ له. )
ما يقوله درويش له، وكما يذكر بركات، ليس كما يقول بركات لدرويش جهة اللغة والوطن . بالعكس، ربما كانت لغة درويش إجمالاً لغة جلية، ولا تخفي أحياناً حس البراغماتيكية، و" ابن العائلة الفلسطينية المدلَّل كثيراً "وقابلية النزول إلى الشارع، والانتشار عبر الأغاني " لنتذكر الفنان العتيد مارسيل خليفة هنا "، حتى نصه النثري لا يخفي غنائيته، وبالتالي، لم يكن لدى درويش حلول لغوية، إنما وطن مشعور به داخل اللغة، وهذا ما لا نجد له أثراً على وجه العموم لدى بركات، وقول درويش له صائب تماماً، إذا كان قد قالها هكذا حرفياً. لغة بركات لا يمكن لها أن تنزل إلى الشارع، لا بل وحتى إلى مجالس الكتاب الذين يمكنهم التواصل الفعلي عبر كتاباته، إنما هو في الغالب هوس برمز مسجَّل من قبل الآخر، ومعترَف به من قبل اخر، وهو ليس كأي آخر: بدءاً من أدونيس وليس انتهاء بدرويش، جهة الاعتراف بمجاز لغته. وربما كان هناك تهكم درويشي في عبارته تلك، لحظة التمعن في المكوّن الدلالي لـ" " الحلول اللغوية " . ولا أدري ما كان عليه شعور الابن تجاه قولة الأب، وهو يسمِعه ّلك، وحيث لا تناسب بين قوله وقول بركات له إطلاقاً .
لدينا " بركات " من نوع آخر، من درويش الذي يستزيد الكرم الموهبي: الشعبي !
لنحدد هذه الأبوة وصلتها بالبنوة لديه :
( كانت عروضُه مبذولةً لي بلا انقطاع، حتى ظننتُ، أحياناً، أنني ابنُه.)
هو كرم درويشي، وتقدير من درويش له، إذ شكل منبراً متنقلاً، ولا يخلو من بعد دعوي، من خلال حب درويش له، وهذا الكرم ترك أثره النافذ في شخصية بركات الذي يستأنس بالعزلة المضاعفة كثيراً، حيث يندر ظهوره خارجاً، وكل ذلك خلق إشكالاً كبيراً، سمح للذين رفعوا من مكانته إلى مستوى الإيقونة المقدسة، لأن يضفوا على هذه العزلة المختارة براعة استثنائية، وهم أبعد ما يكونون عن معايشة عزلة كهذه، وهو تناقض مريع، وهو إشكال، لم يدرَس حسب متابعتي له إلى هذه اللحظة من قبل أي كان عربياً أو كردياً " لماذا بركات العزلة: الداخل " وليس الظهور النسبي جداً " خارجاً "؟
ألسنا بحاجة إلى مكاشفة تحليلنفسية لمثل هذه الحالة الاستثناء ؟
بركات الموصوف بلسانه ابناً لأب من " الخارج "، صيرَ أباً لجمع غفير من كتّابه الكرد، ونظروا إلى أنفسهم على أنهم أبناء بدورهم، سوى أنهم أخطأوا في " تسديد " المعنى كثيراً. فإذا كان الابن قد أصاب من ناحيته في كسب ولاء أب، ونوْل حظوة منه، فهو شعور بأبوة لم يهنأ بها طويلاً، رغم أنه شب عن الطوق كثيراً تحت رعايته، ولازال يحسب نفسه الابن الذي يعيش مأساة الفقْد، وفي الوقت الذي كان يلقى حنواً، عطفاً، أو رعاية من"الأب " انعدم هذا لدى بركات، أي إحساسه بأبوة تجاه من ينظرون إليه هكذا، فثمة أكثر من حبل مقطوع في الاهتمام الفعلي .
وتلك العزلة، كما يظهر كانت أبوة درويش تلطّف مناخها، ويكون الابن معزَّزاً بالحفاوة من قبل درويش، أكثر من خاصية ظنية " حتى ظننت "، وهذه البنوة حفّزت في بركات طاقات كبرى تجسدت في الشعر والرواية بشكل رئيس، وليكون ظهورها سلسلة من التأكيدات على أن هذا " الابن " جدير بالانتساب إلى مثل هذا " الأب "، ومن ناحية أخرى، ليكون غياب الأب الفاجعة الكبرى، جسدياً، فهو حضور، وربما كان هذا المقال الأخير هذا هو الشاهد الموثَّق .
كما أسلفت ثمة ما يوطّد بنية العلاقة تلك :
(في اللقاء الأخير على بوابة الشمال الأخير من أطلس العالم، جَمَعَنا عشاءٌ من حَبَّارٍ ـ صَبِّيدجٍ مقليٍّ دوائرَ كالأفلاك لُتَّتْ ببَيْضٍ وطحينٍ، همس وهو ينظر إلى ابني ـ ابن السابعة عشرة: “كسبتُ صداقةً جديدة ـ صداقةَ Rhan”. ابتسمتُ. كان أجدى لو قال: “ها التقيتُ حفيدي”.)
" ران " هو ابن بركات، الذين التقيتُه في بيته، ووكان في مقتبل صباه صيف 2006، وما تمناه بركات في أن يكون " ران " الحفيد، وعبارة " كان أجدى " تجاوبُ مع رغبة نفسية قائمة ومتجذرة في كامل كينونته .
الأبوة- البنوة، وتداعياتها:
مسألة الأبوة الدرويشية والبنوة البركاتية نافذة بمفعولها في نصه: المقال هذا، وفي حياة بركات، كما يمكن استقراء ذلك في عنفواتية الكلمات، ورومانسيّ الكتابة، وللنجابة التي يأتي على ذكرها، تاريخ طويل عربياً. النجابة أكثر من كونها القادر على الإنسال، النجيب شخص لا يخلو من فحولة، و" نجيب " اسم شائع عربياً، إنه أكثر من كونه والداً بحق، إنه والد وفي الوقت نفسه يمتلك قابلية الإخصاب والكثرة الدلالية، وبركات شاهد على هذه القيمة الجنسانية المحوَّرة:
(كان محمود مذهِلاً في تلقائيةِ “اعترافه”، بلا تحفُّظ من شاعرٍ كبير مثله، أنه جاهدَ كي لا يتأثر بي، وفي اعترافه أنه لم يعد يعرف أين الحدُّ بين أن يراني صديقاً، أو يراني ابناً له. تزوج مرتين ولم يُنجبْ، بقرارٍ قَصْدٍ في أنْ لا يُنجب. كلُّ شاعر أنجب طفلاً أنجب قصيدةً مُضافة إلى ديوانه. وكل شاعر لم يُنجب طفلاً، أنجب الكونَ معموراً بأطفالِ اللامرئيِّ. أبوَّةٌ تكفي الشاعرَ هنا، وأبوَّةٌ تكفيه هناك.)
أردت إيراد هذا المقطع بكامله، لرؤيته بكامله، وتحري الحراك الجنساني وما للجنسانية المستعارة من فحولة مستدارة، إن جاز التعبير، وكيف يستهوي " الابن " شغف استمراء " الأبوة " و" اجتيافها " ليكون هو الأب، وإن كان الأغلب هو شعوره بالبنوة، كي يستمر في تلقّي حفاوة الأب، ويدرك الابن الرمزي هنا، أنه يمتلك أهلية استمرار في الحياة أكثر.
وربما بركات نفسه نظير درويش في قلة الانشغال بالأبوة العضوية تجاه الابن الذي هو من صُلبه.
أب يقاوم التأثر بالابن! لعلها علاقة حميمية بينهما. أن يكون الابن محط أنظار الآخرين ففي ذلك ما يثير اهتمام الأب، ما يشغله به، ولكلمات بركات ما يمضي بنا إلى الأبعد: أن يكون الصديق، يكون النظير، الآخر الذي يُرى من على مسافة، أما أن يكون الابن، فهو امتلاء بالأبوة، ومجاورة مستمرة، وعن قرب لهذا المعتبَر ابناً. هنا نجد أنفسنا تجاه ترجمان وجداني، نفسي، وبتوصيف من بركات بالذات، دلالة لا تخرج عن نطاق البيت، وقاعه السفلي العميق الغور، بذلك المفهوم النفسي، حيث الطفولة تحضر هنا، والبيت الأول، وأثريات ما كان، ليتم تفعيل أثر آخر، ليعيش طفولة مستعارة، كي يتمكن من الاستمرار، وتقوية حلقات الوصل بين كان، وصار ذكرى، وما هو كائن، ليكون المعهود به درويشياً .
الشاعر منجباً، والنجابة، كما قلت فحولة ضاربة، وهو ما برع فيه درويش بشهادة بركات الذي هو الآخر لا يخفي هذه النجابة بخاصيتها الفحولة على مستوى اللغة والتلاعب بها كثيراً، كما لو أنه مالك سرها دون أي كان، فيكون إنجاب القصيدة أهم من إنجاب الطفل، ربما لأن الأخير قد يكبر ويُنسى أمره، سوى أن القصيدة تحدد علامة النجابة المقدَّرة هنا أكثر، وكون الابن زمنياً، وليس أمر القصيدة هكذا، والنجابة لا نهاية لقدراتها، كما يُلاحظ: في النجابة العضوية ثمة زمن محدود، بعائده الجنسي الغريزي طبعاً، وعبر علاقة معينة، بينما النفسية منها، فهي ارتقاء بالجسد " إنها مواقعة من لدى خيال رماح، لا يطعَن فيه: جنسانية محوَّلة وديمومية ، فلدينا كم هائل من " أطفال اللامرئي ".
إنه اعتزاز بأبوة كهذه، ترقى به إلى مصاف الابن، وما يبقي الابن ابناً وليس أباً، هو هذا الاعتراف الصادم .
أي اعتقاده أن صلة قرباه بدرويش، يمنحه مثل هذا البوح بسر لا يُذاع، كما يفترَض، وقد افترض بركات أنه سر له مكانته الأخرى في عالم الأدب، وكونه امتداداً لأب لطالما استشعر قرباً وجدانياً منه، كابن، فكان التقدير الخاطىء، أي ما اعتبره حقاً من حقوق الابن جرّاء هذه العلاقة، والسر، كما بات شائعاً، أي لم يعد سراً:
(ألقى عليَّ، في العام 1990، في بيتي بنيقوسيا ـ قبرص، سِرًّا لا يعنيه. كلُّ سِرٍّ يعني صاحبَه، لكن ذلك السرَّ لم يكن يعني محموداً. باح به بتساهُلٍ لا تساهلَ بعده، أمْ كان لا يتكلَّف معي قطُّ “أنا الذي أعرف الكثير عنه مما لا يعرفه سوايَ” حجْبَ شيءٍ يخصُّه؟
“لي طفلة. أنا أبٌ. لكن لا شيء فيَّ يشدُّني إلى أبوَّةٍ”، قال. كنا نتبادل كشتباناتٍ من تدريب اللسان على الأبوَّةِ (مُذْ صارت زوجتي حاملاً) قبل تدريب الوجدان على الأبوَّةِ. ليس الأمر أن يكون المرءُ أباً لسليلٍ من لحمه، بل أن تكون الأبوَّةُ، ذاتُها، على قُرْبٍ لَمْساً من السَّليل. أبوَّةٌ لم تَلْمَسْ بيديِّ الجسدِ سليلَها؛ لم ترَ بعينيِّ الجسدِ سليلَها، أبوَّةٌ فكرةٌ. الغريزةُ قُرْباً، والغريزةُ لَمْساً، والغريزةُ علاقةً، هي أمُّ الأبوَّةِ، وأبوها. محمود، حين كلمني عن أبوَّتهِ المتحقِّقة إنجاباً محسوساً، كلمني عن فكرةٍ في عموم منطقها بلا تخصيصٍ. أنا لم أسأله مَنْ تكون أمُّ طفلته.).
لم بركات وليس سواه، وهل كان بركات هو الوحيد العالم والمتلقي الأوحد لهذا السر ؟
يقول أحدهم :
(السرّية هي شيء مدفون ، مشفّر ، نابع من استبعاد أو دفن تجربة لا توصف.) " 6 "
هذا السر الدرويشي الذي نقِل إلى بركات، إذا كان كذلك، أقام على تقدير لدرويش على أنه الأب، وأن بركات الذي يعتقد أنه الابن، لن يسمع به أحد؟ إنما لماذا هو بالذات ؟
العلاقة القائمة بينهما قائمة على ود استثنائي. هل نقل السر تم من خلال هذه العلاقة، ولأن درويش شعر بوطأة نفسية معينة، وفي جلسة مصارحة معينة، وجد السر طريقة إلى لوح بركات غير المحفوظ ؟
لماذا لا نمضي أبعد من ذلك، ودائماً نفترض أنه السر الذي جرت تسميته، ونتوقف عند كل منهما: أكان نقل السر يجري بتصريف داخلي، صوب خارج بموقعه، وصفته، كون بركات كردياً، ويمكنه ضمان استمرار سره سراً ؟
بين خارج، بالنسبة إلى درويش، وداخل بالنسبة إلى بركات، يتضاعف الإشكال في التعامل مع سر لا يستهان بأمره. أي حين يُعتبَر بركات خارجاً، وإن كان في الداخل، ويتقن لغته، أي بركات، قادراً على تلقي سره، الذي يبدو أنه كان يثقِل عليه طويلاً، حتى كان ما كان، وبركات في تعامله مع الخارج بالنسبة إلى درويش، وجد في هذا السر شعوراً معزّزاً لخاصية البنوة فيه، ليطلق سراح هذا السر، وإنما ليثير " غبار النقع " فوق رؤوس كثيرة، وهو الرأس الأول هنا.
بركات، من خلال كشف السر، أصبح في عراء المكاشفات، وعلى وقْع فضيلة مؤلمة كهذه، فضيلة السر الذي نعِي بالكشف عنه، فتح أكثر من جبهة ليس عليه فحسب، وإنما على ما هو راسخ الجذور كثيراً في النفوس: إنها كرديته، كما لو أن بركات أراد انتقاماً من الأب " الخارجي " ومن يجري تمثيلهم من خلاله، وليكون هو الكردي تمثيلاً لقضية لم يمثّلها يوماً باسمها. أي ما كان في إثر كشف السر من كشف ما ليس أسراراً، على صعيد العلاقات الاجتماعية، وما في فيها توصيفات اثنوغرافية أو حتى " عرقية " وتصبح اللغة هي الرهان والمعبر والممر أيضاً إلى ذهنية الآخر، وما في ذلك من حيثيات القول المؤدلج، أي ليصبح القائل/ الكاتب نفسه موضوعاً هذه المرة، كما هو الممكن النظر فيه من خلال الكم الهائل من التعليقات والاستغرابات وحتى الطعن في الاسم، ومن قبل كتاب عرب لهم مواقعهم الثقافية غالباً. ودرويش الكبير موقعاً، ليس الممنوع من الصرف في نطاق حالات كهذه، أي ما يخص مفهوم " السر " بمفهومه العربي، ولا بركات بممنوع من الصرف في ارتكابه لأخطاء ذات صلة بتصورات معينة، وليحصل الخطأ المضاعف هنا في تحويل درويش إلى رصاصة وبركات إلى هدف، وليس البعد الثقافي لكل منهم، أي ما يكون للكتابة من مأثرة في مقاربة نقدية لكاتبها، وكذلك الحال مع بركات الذي بات في حُكم السر المسمى قضية خلافية إلى أبعد حد، ليكون مرآة " أخلاقية " لتقويم لغته التي ليست له " لوحظ من قبل العديد وأكثر من ذلك، مدى التقويم السلبي للغته، كما لو أن الفراغ المقدَّر خلل الكلمات، هو التالي: بما أنه ليس عربياً، فمن البداهة بمكان، أنه يفشل في إقامة صرح لغة يستأنس إليه عبرها " والواقع ليس كذلك، والإشكال هو في الموقع البنيوي للسر المفشي، كما لو أنه الحكم الفصل في ذلك:
من جهة يكون الراحل درويش ضحية مزدوجة: لما يُعتبَر افتراء، وكونه متوفى، ولأنه رمز إيقوني سياسي وثقافي فوق أي " شبهة "، أو توجيه أي نقد له، وهنا تلعب اليوتوبيا السياسية المعممة دورها الكبير هنا، وتتعطل بوصلة الكتابة المستقلة أو الإبداع الأدبي والفني، ولتكون الردود على بركات، إيقاظاً لسلسلة المكبوتات المكامنة في النفوس، صوب خارج، لا يُحاسَب عليه من قبل هذا النظام السياسي أو ذاك، وكان في الإمكان، وفيهذا الوقت بالذات، تحديد دائرة النقد وليس الدفع بالقول إلى ساحة ملغومة لأكثر من سبب، ودون نسيان طبيعة العلاقة الفعلية بين الاسمين .
أكان إفشاء السر، سعياً من بركات إلى الانتقام من ثقل وصية الأب القاهر والمبارك في آن، وقد بات في عمر، لم يعد قادراً على تحمل الأبوة بعد كل هاتيك السنين، وفي لحظة مكابدة وطأة " المحفوظ " يتنفس الصعداء، سوى أنه يستحيل موضوعاً متعدد الأبعاد في منابر مختلفة، وعلى مواقع " التواصل " الاجتماعي. أكانت تلك رغبة بركات ؟
لا يمكن الجزم بذلك. سوى أن بركات المقيم طوعياً في عزلة، والمتابع لما يجري حوله وفي العالم، من خلال انتشار أجهزة الميديا وغيرها، يمكن متابعة الكثير مما يجري، وربما- أيضاً- يكون ذلك مادة ممتعة وحتى مثيرة له ومسلية ليمضي معها بعض وقته، وهو في : مأمن " من الأيادي التي لا تدخر جهداً في الإساءة المادة إلى جانب المعنوية .
الأبوة المسماة تلك لم تدم إنما كانت عابرة على صعيد الكلام " غير العابر " هنا:
(أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها. لذا محمود بلا أبوَّةٍ..).
وربما حتى بالنسبة إلى بركات، يبدو أن قوله الساخن جداً هذا، قد يشغل " الناس " لبعض الوقت، وليرجع هؤلاء إلى " أعمالهم " وما أكثرها في وطأتها وعسْر التعايش معاً في ظلها ، في ظل وطأة السياسي الناظر إليهم قطيعياً كثيراً.
وما كتبه في نهاية المقال يفصح عما هو مرتقب :
(بياضٌ هدنةٌ، وسوادٌ صُلحٌ نَحَتا ذاكرةَ العمر صورةً لمحمود ولي. صورةٌ أخرى وصلتني، على الإنترنت، من مشهد لقائنا معاً بجمهورٍ في السويد. صورةٌ ملونةٌ هي الثانيةُ أرانا فيها جنباً إلى جنبٍ. صورةٌ بألوانٍ ليست صُلْحاً أو هدنةً، بل لوعةٌ كالرياضيات، وحنينٌ كالهندسة.)
أي يعود البياض والسواد، تعود كيمياءاللون، تعود العلاقة كما كانت، يعود ما يتعدى اليومي، في الجمع الهائل بين بياض وسواد، أكثر من كونه الرمادي بالمقابل، سوى أنه لن لوعة كالرياضيات، ولا حنيناً كالهندسة، وإنما يكون شرخاً مدمى كالوجدان، وحنيناً كالذاكرة المنتكسة كثيراً .
لعلها فلتة من فلتات بركات، إنما، مهما يمكن قوله في الاستبداد الممارَس جهة الرقابة على الذاكرة ذاتها، وما يكون للسر من عميق الدلالة في الثقافة المتداولة هنا وهناك، ربما ما كان يجب لبركات أن " يفشي " بسر كهذا، ولا يعود إلا محمد سليم ملا حسين ، أي من نقطة صفره التي لا نريدها له، في الشمال المعلوم ببرده .
إشارات :
2- نُشِر المقال في صحيفة " القدس العربي " اللندنية، 6 حزيران، 2020 ، ويمكن متابعة التعليقات طي المقال، وفي مواقع مختلفة، جهة ردود الأفعال طبعاً .
2-Lemieux, René-Labrecque, Simonouvoirs et impouvoirs du secret, sens-public.org
لومييه، رينيه- لابريك، سيمون: سلطات السر وعدْمها.
3-محمود، إبراهيم: قتل الأب في الأدب " سليم بركات نموذجاً " دراسة، دار الينابيع، دمشق،ط1، 2007،ص9.
4-لا أخفي هنا أنني أنا نفسي وجدت في بيروت متنفساً لي، من خلال نشر مقالاتي وأبحاثي، بدءاً من عام 1980، وهي مرحلة نشْر المقالات والأبحاث وليس الكتاب، في كم وافر، ولا بأس به من المنابر الثقافية اللبنانية " المسيرة المحتجبة، الآداب، دراسات عربية، الطريق...الخ "، وأول لقاء لي بالنشر الفعلي كان سنة 1994، من خلال كتابي " الجنس في القرآن " لتتواصل قائمة أعمالي البحثية، وعبر " الريس " بالذات، والتقيت الأستاذ رياض الريس في بيروت، شخصياً، بعد نشْر كتابين لي، وكانت لقاءات قائمة على الزيارات وليس القائمة .
5-لم أعد أذكر التاريخ الدقيق حين التقيت الراحل درويش، في معرض الكتاب العربي ببيروت، جناج رياض الريس للكتاب، ودار حديث حوله، بحضور الأستاذ رياض نجييب الريس، ولازلت أذكر عبارته التي تفوَّه بها بلهجته الفلسطينية الجهورية " سليم، بحبو، بحبو، بحبو: أحبه، أحبه، أحبه "، وهو ما تأكد لدي حين التقيت بركات في بيته بضاحية سكوغوس، باستوكهولم، صيف 2006، وجلسنا معاً جلسة حوارية شفاهية ساعة من الزمن وفي مطبخه، وكتبت عن ذلك " في بيت سليم بركات " وقد ضمَّنت المقال كتابي عنه، والذي سلف ذكره " صص341-347 "، وهو يشير إلى هذه العلاقة، وللتنويه فقد سجلت ملاحظتي على ذلك اللقاء، وموقفي من بركات نقدياً، حيث لم يأت، لا من قريب ولا من بعيد، على أي إشارة تخص المكان الذي خرج منه وبه عُرِف كردياً، وتحديداً على خلفية من أحداث قامشلي " 12 آذار 204 " وقد كتبت حينها عشرات المقالات، والمفارقة، أن بياناً تشهيرياً صدر ضدي من هناك من مدينته التي يتعصب له كتاب كرد ينتمون إليها جغرافياً، ووزّع على أوسع نطاق، لا يخفي خلفيته الإيديولوجيته الصارخة.
6-Wiener, Simone: De vains secrets, www.cairn.info
وينر، سيمون: الأسرار عبثاً
ماالذي خسرَه الشاعر الراحل محمود درويش وهو في " حضرة الغياب " الأبدي، وماالذي ربحه سليم بركات وهو بين الضحك والنسيان: الضحك حياة، والنسيان: رحيل الأحبة والأصدقاء ؟ وما الذي ربحه الآخرون من وراء تقابلهما ضدياً راهناً، سوى خسارة الأدب ؟
أكان درويش بحاجة إلى من " يفشي " عنه سراً من " العيار الثقيل " المادة التي حوَّلت أجساد جمهرة كتاب وسياسيين وحتى من ليسوا على صلة بالكتابة، إلى كتلة صاخبة من الأدرينالين داخل جسد أعياء المؤثر الكيميائي الطارىء، ليضج الراحل في قبره؟ أو بركات بحاجة إلى مثل هذه الحركة لوضع الجرس في رقبة القط، ليثير انتباه الصديق قبل العدو؟ أي أركيولوجيا للسر هذه وقد أضافت إلى مرارة الواقع المزْري ومخاوف كورونا في العالم، ما يزيد في مساحة صيدلية أفلاطون، فيُبعَد عن " الفارماكون " بُعد العقار فيه، وهو أحد معنييه، ويكتفى بـ" السم " المعنى الآخر، لنشهد تداخلاً بين كلام أب غائب، لكنه حاضر بهيبته، وكتابة من قدّم ابناً في شخص بركات، معرَّف به كما لو أنه الغائب، ونبّه المتجاهلين له بنسبة ما إلى أنه حاضر ؟
وبالتالي، لينفتح " بازار " ثقافي دون الثقافي، مع رمزيين أدبيين عاليي المستوى، لا يد لأي منهما في الحراك التسويقي اللاأدبي الفعلي بالقائمين في ساحته، والقيمين على مساحته !
أي فارماكون مستعار هنا، في طارىء الوقت، وما أكثر، ما أكبر مساحته، لرسم علاقة بين اسمين علَمين شهيرين، فيصبح أحدهم: الحاضر والحي، في مقام " الابن الضال " لأب سام ٍ؟
ماالذي دفع بالكردي السوري الشاعر والروائي والمقاليّ، بركات، وقد كان الأثير المقرب لدى الشاعر العربي الفلسطيني المفلَّق درويش، كما تشهد يومياته الفلسطينية، أو " كنيسة المحارب " أو " أرواح هندسية " والمسافة البرّية- البحرية بين بيروت وقبرص ولائحة من الحروب الصغيرة والكبيرة، أكثر من الطريق الواصل برَّاً وبحراً وجواً بين قبرص، ومنذ نهاية القرن العشريني الآفل وضاحية سكوغوس" ستوكهولم: السويد " حيث الغابة الشجرية التي تمتد بحراً من الخضرة، كما رأيتها قبل أربعة عشر عاماً، حين التقيته في بيته المقابل للغابة، لأن " وبعد ثلاثة عقود من الزمن لأن " يفجّرها " سراً لم يطقه صدره ربما، أو حارسة روحه ولوحها المحفوظ، السر الذي يخص درويش الشاعر، وهو الذي أفصح عنه بينه وبين نفسه، كما يقول تأريخه لنصه المقال الانفجاري " محمود درويش وأنا " " 1 " .
حيث أتعرض للمستجد، ولو بعد مرور زمن محتسب، متابعة للأثر الغباري للحدث الجاري!
كيف لأقل من " ألفي كلمة " هي حصاد النص المقال، وربما لأقل من عدة جمل عما اعتبِر سراً في " لوح محفوظ " إن كان ذلك صحيحاً، أن تسفك دماء آلاف من الكلمات والتعليقات عربياً وأبعد، وما في ذلك من تداعيات وإرهاصات وتأويلات، كما وتثير آلافاً مؤلفة من الكتاب ومن هم باسم الكتاب ومن وجدوا في ذلك حافزاً شبه قطيعي، ليقولوا " كلمتهم " وكأن هناك انتظروا منذ زمان زمان " ولاعة " مضغوطة صاعقة كهذه، ليسمّوا الكثير مما في نفوسهم؟ أكان ذلك مدعاة لكل هذا الخضم الكلامي، السجالي، والتحريضي والاستفزازي يا تُرى ، بحيث لم تعد " شبه المعركة المدشَّنة بركاتياً " في حقل درويش شبه المبارك المقدس " معركة أي منهم، وإنما معركة بروليتاريا هؤلاء الذين يمتطون صهوات كلمات، وينفخون في صُور رغباتهم شبه المكبوتة، تعبير عن انكسارات فالحة، كما هو حال البروليتاريا شبه الغيبية هنا، ممن أتيت على توصيفهم، وما يمضي بنا إلى حيث يكون الرمزان الكبيران في الأدب والثقافة ؟
وليكون السرُّ العرّابَ الماكر للأثر المكنون، والوهاب للمعنى الحامل لهذا الأثر المتشعب هنا وهناك . لتصدق مقولة أخرى: كل سر جاوز الواحد" وليس الاثنين " شاع.
دَيْن السر :
ليس من سر، إلا بوجود من يحمله شخصاً واحداً، أو أكثر، وهناك عهد ما، للإبقاء عليه. سر لا يُنسى، إنما لا يذكّر به أيضاً.
نقرأ السر كما هو معرَّف به دريدياً :
(السر ليس مجرد شيء ، يجب إخفاء المحتوى أو الاحتفاظ به داخلاً. البعض الآخر سرّي لأنهم آخرون. أنا سرّي ، أنا سري مثل أي شخص آخر. التفرد في الأساس سر. الآن ، قد يكون هناك واجب أخلاقي وسياسي لاحترام السرية ، حق معين في سر ما. وتتجلى الدعوة الاستبدادية بمجرد فقدان هذا الاحترام. ومع هذا ، ومن هنا الصعوبة ، هناك بالمقابل انتهاكات للسرية واستغلال سياسي لـ "سر الدولة" وكذلك "سبب الدولة" وسجلات الشرطة وغيرها.)"2 "
السر علاقة، مُقامة في محمية التذكر، ويجب عدم وقوعه بين براثن النسيان، لئلا يفلت ويفقد حق معناه بوصفه سراً.
وليس منا، ليس فينا من يحرَم من حِمْله لأسرار معينة، وفي مراتب شتى: شخصية، عائلية، صداقات، أهلية، اجتماعية، وعلى مستوى الدولة كذلك، مع فارق المنظور إلى السر، تبعاً للمجتمع الذي يعلِمنا بما يعرَف بالسر، وكيف يتعامَل به.
سر يُحتفَظ به إلى حين،وسر أسير الأعماق الصامتة المصمَتة، لا ينبغي الإفصاح عنه، إلا في وضعية معينة، وسر لا بد عليه أن يستمر سراً حتى مواراة حامله الثرى، وربما لا ينكشف أمره ، طالما أن ليس من شارة معينة إلى ذلك. كم من أسرار تموت بموت أصحابها!
فأي آخر كان درويش بالنسبة إلى بركات؟ وهل نظر درويش إلى بركات على أنه آخر ضامن لسر خاص جداً له؟
ربما بمجرد الحديث عن السر، حتى يخرج العفريت من قمقمه، أو يهدّد بالخروج، إذ لا يشار إلى السر على أنه سر، إنما في خزّين اللاشعور المحروس، أو كما لو أنه لم يكن يوماً. ما أن يقول أحدهم: هناك سر، حتى ينكشف أمره، وإن لم تتم تسميته، لأنه يحفّز المقابل: المستمع، المعني بصورة ما، على أن السر هو أمر ما، في الطريق إلى العلن.
وربما كان عنوان مقال بركات " محمود درويش وأنا " ما يشير إلى علاقة من نوع آخر، إذ يأتي الشاعر الراحل والكبير في البداية، ليس لإتيكيت معين، وإنما لأن هناك ما يفصح عن تراتبية، وهي أن هناك ما " ينزل " من الأول إلى التالي، وإن كان التالي هو من حدَّده باسمه، ونعرف مسمَّى الضمير هنا من خلال اسم كاتبه، وقد لا يتضح هكذا أحياناً في مقال لا يخفي لعبة، أو أحجية معينة، أي يكون ضمير " أنا " منفصلاً عن كاتب المقال، حيث يسمّي آخر ضمنا ً .
بعد عدة أسطر نعلم بأن الضمير أنا " بركاتي " وكعادته يمضي بعيداً في تدافعات الاستعارات كعادته، ليقترب مما يريد تسميته، رغم أنه لا يدخر طاقة خيال مضاعفة في جعل السهل استثناء، وابتداع صيَغ تترى للكلمات قاعدة .
والعلاقة تستمد بدعتها من اللون كمفهوم كيميائي، ومخاض الرمز منه. ولا أحسب أن بركات كان يكتب وأمامه معجم ما استعجم من الألوان ودلالاتها، وله تجربة طويلة في استقدام الألوان في تشكيل فضاءات نصوصه الروائية والشعرية كذلك، إلى درجة الإدمان، شغفاً نفسياً بهما، حيث ثنائية البياض والسواد تستغرض كامل المقال، وتستدرج إليها مختلف المفارقات، والتقابلات، وتحديداً جهة الأبوة والبنوَّة،، وامتداد كل منهما، والسابق واللاحق:
( البياضُ رائقٌ، راضٍ عن حظوظه؛ بل راضٍ عن مقاديره موزَّعةً بعَدْلِ الميزانِ اللونِ..
سوادٌ راضٍ عن نفْسِه؛ عن حكمةِ الأصلِ في عِظةِ اللون...)
الابتداء لأي منهما يكون، حيث ينعدم اللون كاسم في البياض، وحتى السواد كصبغة ، كما هو معلوم؟ لدينا وضعية حياد هنا إذاً! فهل كان لدى بركات إدراك الحيادية هذه، بالرغم من أن كلاً منهما يهتز أمام ناظرينا.
يحفّزنا بركات، وهو معايش تجربة فنية" رسّام لوحات فنية بذاته لبعض أعماله الشعرية، كما في " آلهة " على استنطاق اللون الفعلي في محتوى كل شريك في الثنائية اللونية لديه هنا، حيث يتداخل ظلا درويش وبركات !
هل يمكن تنسيب السواد إلى ذائقة درويشية، والبياض إلى حافظة بركاتية ؟ لماذا هذا التفريق هنا؟
ماالذي يميّزهما عن بعضهما بعضاً في التراتبية اللونية، إن تجاوبنا مع بركات ؟
ما يعرَف هو أن كل الألوان تخرج من الأسود وتنتهي في الأبيض، فهل جسَّد بركات عموم الألوان بعائدها الإبداعي الشعري في شخص درويش من خلال الأسود، وقدَّم نفسه على أنه متلقي الألوان مجتمعة، وفي صهارة فنية خاصة في شخص بركات من خلال الأبيض؟
هناك تاريخ يدلي بشهادته، والراوية بركات نفسه :
(لونان هما تاريخ البرهة جمعتنا معاً، محمود درويش وأنا، في ميثاقٍ سوادٍ وبياضٍ من مُبْتكَرِ العام 1973... في بيت الشاعر السوري أدونيس.).
والبرهة هي لحظة نشوة، هي أشبه بلقاء مستحيل، لقاء الغيب غير المتوقَّع، حيث يلي البياض السواد. السواد يحتضن الأشياء ويثير الفضول، والبياض يحتفظ بها، إذ يتلقاها، لكأن بركات سجلُّ درويش. والحكَم الفصْل، وحامل راية الحداثة في الشعر بالنسبة إليها، كما يظهر هو أدونيس، وربما ما كان له أن يُذكَر إلا لأنه " طوَّب " اسمه وطبع أول مجموعة شعرية له " كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً "، وربما كان معلِن فرادة اللحظة هذه هو أدونيس ذاته.
وهناك ما يلفت النظر في عبارة لها دلالتها في قوله :
(بضع مساءات التقيت الشاعر الفلسطيني في بيت الشاعر السوري. آثرتُ، أنا الخجول، ابتعاداً لا أُقحِمُ نفْسي في ما يتكلَّفُه المعجبون بشاعر ولد بملعقةٍ في فمه نِصْفٍ من ذهب الشعر قضيَّةً آسِرَةً، ونصفٍ شهرةٍ مجتاحة.).
تلك هي " أنا الخجول " ! خجل الابن من أبيه الرمزي، من عرّاب اسمه، وهو مفتون، بدرويش افتتاناً بنوياً، كما يظهر.
كيف لهذا الخجول أن يكون، رمزياً، سليل هذا الجموح من الداخل، وهاضم لغة الآخر، ومبتكر طريقته بها؟ أم تراه الخجول الذي يذكّرنا بمعلَمه الاعتباري على أنه أنثوي في العُرف الاجتماعي الشرقي، ولولاه لكان أكثر ارتقاء وسطوعاً مما هوعليه؟ كيف للمعجَب أن يبتكر مذهبه، ويُبقي المعجَب به جانباً، كما لو أنه لم يكن أصلاً؟
تلك إشكالية في منطق النص: المقال، وليس احتفاء بالآخر المقدَّر بجوار ٍ آخر سابق عليه في ظله هو أدونيس نفسه ؟
ثمة مِران أو تدريب على كيفية صعود جبل مواز، تحرُّك جاذبي، بمفهوم كوكبي، أو ما شابه: نجم: كوكب إلى حين. وليس هذا تأويلاً زائغاً، إنما مقتضى المعنى المتسلسل في كل عبارة تعقب أخرى .
كثير من الاسترسال في الجمنازتيك اللغوي، واستدعاء تواريخ متقطعة، وحتى استهواء بالصور المعهودة لديه كثيراً، وصحبة البياض السواد: السواد البياض، وما من حيلة للفصل بينهما في حالات كثيرة، والقدوة الأثر المقتفى درويش:
( يلقي أشعار المفقوديْنَ في مجاهل السواد الخالد، على مسمع البياض الخالد، كاللونيْنِ في صورتنا الأولى ).
هنا، يحرجني المعنى الأقرب إلى صفة القرابة بينهما، إلى درجة أنه في الوقت الذي تقتنصه أحياناً لكي تتعرف على نوعية العلاقة هذه، وهي بتداخلات أبعادها، حتى يتم نسيان عموم النص في وحدة فكرته.
غير أن الذي أعرفه، بيني وبين نفسي، ولنفسي أثبت اعتباراً فهمياً، وهو أن القارىء يمضي مع بركات كثيراً، ليكون على بيّنة من مدى تقديره الكبير لدرويشـ:ـه، وإطناب لا يخفي شهادته في إبراز هذا الانفساح النفسي، ربما ليثبت أن الذي بينه وبين درويش ما ليس بين درويش وأي آخر، بما أنه مسجَّل من خلال من " صلبه " الشعري. وهو يظهر أو ينبّه في كل فقرة أنه متابع درويش في كل خطوة حياتية له :
(سيرتُه “ذاكرة للنسيان”، عن حصار بيروت العام 1982، لم تَخْلُ مني أيضاً. دحرجني في السطورِ السوادِ الغاضب عشرين صفحةً، ودحرجني في البياض الغاضب بين السطور عشرين صفحة، بالحرف الأول من أسمي “س”.)، ودائماً من خلال التقابل أو التداخل أو التفاعل أو التجاذب بياضاً سواداً أو بالعكس، وتعقيد مهمة الإيضاح على القارىء.
وربما كان مبتغاه هو أن يؤكّد ما يستوقف القارىء المعني نفسه: ارتضاء بركات بالبنوة لصالح أبوة درويشية إبداعياً.
يستوقفني هذا الوقْف المحيّز للعقل، بالنسبة لبركات، وكيف أجاز لنفسه قول كلمة لها ثقلها.
بركات الذي أبصر نفسه الأخرى في بيروت: لبنان، وليس قامشلي، أو عامودا اللتين ينتمي إليهما بكرديته، وإرث مكتسب في عربيته التي وطَّت فيه اسمه الأدبي المعروف، أو دمشق التي أقام فيها لبعض وقت، ودرس في جامعتها" قسم اللغة العربية " لبعض وقت، لأنه لم يجد فيها ما يستجيب لذائقته الخاصة، ونفسه الجَموح، وتوقاً إلى عالم برّي كان ينشده، ولأخصص أكثر: ما أسميه بـ" جغرافية " منظمة التحرير الفلسطينية التي استشرف من خلالها اسمه الأدبي الشعري بداية والمنتظَر، وكان لها سطوعها النجمي في سبعينيات القرن الماضي، وهو بهيئته تلك نصف مكشوف الصدر، مكشوف اليدين، الكتفين، كما لو أنه شدد على انتسابه إلى عالم مغاير تماماً لعالمه، احتضنته المنظمة تلك، وضمناً الراحل الكبير محمود درويش، ليمنحه ولادة ثانية، أو يُعمّده، وما لطقوسيات منظمة التحرير الفلسطينية وإمكاناتها السياسية والمالية والرمزية حينها، من تأثير وصيت حتى في الوسط الكردي " لدينا " ليختار فيها أو عبرها الموقع الذي تلمَّس فيه التعبير الأوفى الذي لطالما تمنّاه. وخاصية التنسيب هذه إلى المنظمة، ويكون درويش بانتظاره من خلال ذائقته الأدبية الخاصة هو الذي شكَّل لديه " مصباح علاء الدين السحري " وما لحركته من دلالة أخرى: خروجه من فلسطين المحتلة، ومجيئه إلى بيروت الصغيرة الكبيرة، البرّية والجبلية والبحرية، الحدود الفسيحة لما تمنّاه، كما هو حال آخرين وما أكثر وأوفر هذه الـ" آخرين " ممن ارتقوا بكينونتهم العضوية لتصبح رمزية: الرمز الأقرب هنا هو السوري أدونيس" الاسم اللقب " الذي وجد نفسه هو الآخر في بيروت ومن بيروت كانت سندباديته. وهي علاقة مركَّبة شديدة الحساسية، ومؤثّرة، وثرّية، وخطِرة في بنيتها وآفاقها الدلالية، جهة التشابه والتباين بين حركة كل من هؤلاء الكتاب الرموز، وتركيباتها الاجتماعية والثقافية والاثنية وحتى المذهبية، ولا أظن أنها درِست من هذا المنظور لدى أي كان.
أقتصر هنا إيجازاً على الاسمين الكبيرين: درويش- بركات:
درويش الخارج من وطن محتل، ومضغوط عليه من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية، باحثاً عن اسمه الذي بدأ يرتقي نجماً سياسياً- أدبياً، إنما من خلال شعر تميَّز به في فضاء عربي انفتح له كثيراً.
بركات الخارج من مدينة صغيرة، استشعر فيها محواً، انكاره لكينونته، وهو شعور تنامى معه، وهو في دمشق " هناك الكثير من الكتاب الكرد، ممن وجدوا فيه إيقونتهم، أبصروا في حركته خارجاً على نظام سياسي كامل لا يعترف بأي حق للكرد في سوريا، وهو بخروجه المفرد " بصيغة الجمع " على طريقة أدونيس، اُعتبِر الممثّل الأكثر سحراً وإدهاشاً وحضورَ أثر لهؤلاء الكتاب، إلى درجة المبالغة في توصيفه هنا، أي باعتباره حامل " القضية الكردية " إلى الخارج وجسَّدها في كتاباته، وبدءاً من " كل داخل سيهتف لأجلي، وكل خارج أيضاً. 1973 "، وتكون بيروت في انتظاره، وتكوزن منظمة التحرير الفلسطينية التي كان لها موقع لافت في التقدير في برامج الأحزاب الكردية عينها، بوصفها حركة تحرر نموذجية، مع فارق في الموقع والعلاقة،. وهذا المتنفَّس الذي عايشه لدى المنظمة، وعلاقات من خلالها مع الأوساط الثقافية في بيروت، ليقول الكثير مما كان ينتظره. إنما هي مبالغة كبرى، وقتْل رمزي، وحتى شطحة كردية من قبل كتابها، وليس ممثلي أحزابها الذين لم يكن لديهم أي وعي يُذكر بهذا الصدد، أو ذائقة أدبية، ليحسنوا تفهَّم عالم كاتب استعصى فهمه كثيراً حتى على أهل الأدب، ودون نسيان ما لبركات نفسه من دور في هذا التلغيز، وهو يعيش نهْب ارتحالات، حتى وهو في سكوغوس منذ عقود.
أشدد هنا مجدداُ على أن بركات رغم وجود إشارات لافتة في أعماله الشعرية فالروائية، ومقالات له إلى موضوع الكرد والكردية، حيث انشغل بها العديد من الكتاب العرب والكرد، وحتى ضمن إطاريح جامعية، إلا أن الأوكد، ومن خلال متابعتي له هو أن الكردية، كمفهوم اجتماعي سياسي، وكأثنية، على وجه التحديد، لم تكن قضية لبركات، ولا في أي عمل له إطلاقاً، إنما هي موضوع، موضوع فيه من الغرابة الكثير، ومن الفانتازيا الكثير الكثير بالمقابل، ليتمكن من " تتبيل: من البهارات " ما يقدَّم على أنه كردي، وربما كان الأحدث في ذلك روايته " سبايا سنجار- 2016 " حيث الأحداث التي ترِد في متن الرواية هذه، تكاد تكون مأخوذة من جذاذات أوراق الصحف، أو الميديا وغيرهما، وحتى في عنوان كتاب شعري يتيم لديه وهو غير معهود " سوريا-2015 " والذي ترجم سريعاً إلى الفرنسية من زاوية إيديولوجيا غالباً، لا يقدّم سوريا إلا كموضوع، وما في الموضوع من تقعير وتعقيد وتكرار للكثير من استهواءات نصوصه السابقة، ودرويش من " ساسو إلى راسو: من هامة رأسه إلى أخمص قدميه "، شاعر قضية، كما هو معروف.
ليت هناك من يقارن بين بركات وروائي معروف وهو ميلان كونديرا التشيكي الذي يكتب بالفرنسية، ولكن التشيكية تتنفس بها عموم أعماله، دون إمكانية الفصل بين ابتداء السياسي وابتداء الأدبي، أو بالعكس، إنما هو نسيج حي، لا يُشك في أن التشيكية هي قضية فاعلة وعبر مخيال محيطي، متمكن، ولدى بركات خلاف ذلك، حيث أبوَّته محوَّلة، ويعيش غربة اختارها بنفسه، وعزلة أرادها معتكفاً له، وعبر لغة غير مستأنسَة إلا في نطاق محدود، ومن قبل نخبة محدودة.
سليم بركات " مواليد 1951 " أعني به في الأصل " محمد سليم ملا حسين " وهوذا اسمه الفعلي، لم يحمل القضية الكردية، كما لو أنه معبَّأ بأي إيديولوجية حزبية كردية، أو كردية دون " الحزبية " فترِدُ الكردية في مختلف أعماله الشعرية والروائية إجمالاً على أنها جغرافية تائهة، تاريخ لم يُكتَب الحظ ليسجّل باسمه، وعبر عوالم مبتدعة، وشخصيات مبتدعة، لم يخف إرادة غموض مقصودة، ليحسن التوازن النفسي أكثر.
من هنا تأتي الأبوة المنتظرة، سيما وأنه حاول التخلص من أبوّته الأولى( من هو الأب المقتول؟ إنه الأب القاتل بامتياز: مناظرة مستوجَبة تاريخياً، وهي مفارقة الأب، الأب فيما يميّزه، أو يتميَّز به رمزياً...) " 3 ".
يصبح قتل الأب رمزاً لمرحلة عمرية، محاولة نسيان ما ينبغي أن يُنسى. ليصبح الإبن دون أب، فكان متلقفه الرئيس بداية هو أدونيس " علي أحمد سعيد " الذي يكبره بـ " 21 " عاماً ، وهو الخارج على ثقافة سائدة " متكلسة " من وجهة نظره، كما هي حركية أطروحته الجامعية " الثابت والمتحول: بحث في الإبداع والاتباع عند العرب "، ليقع درويش في منتصف المسافة عمرياً " 1931-2008 "، وهو الذي احتضن درويش، أو حتى " تبنّاه " ليس لأنه كردي، وهو نفسه لم يقدّم نفسه كردياً إطلاقاً، إنما الباحث عن أبوّة أخرى في عاصمة الأبوات الكبرى " بيروت " 4 "، وكتاباته تشير إلى توظيف الكردية بعيداً عن أي مباشرة سياسية، وموهبته الأدبية هي التي سهَّلت له الدخول إلى عالم الأدب والكتابة، ومن خلال منظمة التحرير الفلسطينية وهي بحمولتها الرمزية، كما أسلفت، ودرويش بكل ثقله الأدبي والسياسي كثيراً، درويش كاتب وثيقة إعلان الاستقلال لدولة فلسطين " 1988 "، في الجزائر، وبركات لم يكتب أي وثيقة سياسية باسم كرده، ولا كان له شأن بذلك لا من قريب ولا من بعيد حرْفياً، إنما كان الشعر ومن ثم الرواية وتالياً جملة المقالات التي احتوى البعض منها تالياً على ما هو كردي، والإشارة إلى مأساته سياسياً وثقافياً وجغرافياً وفي منابر ثقافية لبنانية مختلفة " صحيفة الحياة بصورة خاصة " وبعد أن حل مع درويش في قبرص، وبصفته سكرتير تحرير مجلته الأثيرة " الكرمل " التي تأسست في بيروت سنة 1981، وكانت المنبر الثقافي الأهم لبركات.
ومن هذا الوقت، من هذا التاريخ أعلِن عن أبوّة درويشية لبركات، ويظهر أنه لم يتجاهلها، ولا نسيها حتى تاريخ كتابة هذا المقال الانفجاري: اللغمي" محمود درويش وأنا "، أبوّة ورثت لديه حالة اليُتم الكبرى، ولا شك أن رحيل درويش كان أكبر صدمة تلقاها بركات، وكما يقول نص مقاله، وكما هي صورة درويش المقدَّرة في كتاباته، حيث كان يحتفي به، ويكون من هذا المنطلق قارئه السعيد، إن جاز التعبير " 5 "
نعم، يحق لبركات أن يسجّل هذه الأبوة، وهو يعترِف بذلك، مراراً، حيث قدَّم للخارج، وعبر درويش كان هناك الاهتمام به، ورحيله أعاده إلى حالة اليتم الكبرى، يتم الكبير الذي لا ينفك يجد نفسه صغيراً بمعنى. إنه السواد الذي يحلم عبره بالنجوم، ويتنفس النهار، حيث يفترش البياض بخيال حمل الكثير مما هو ليلي، وتكون الكتابة بينية .
بركات يحاول تجسير المسافة بينهما، إلى درجة الإمحاء، كما تخلى عن كل من نصف اسمه الأول " محمد " ونصف تاليه الديني "ملا "، كما لو أن قضيتهما واحدة، وهذا وهم أو شبهه، كمنا في تعبيره الحواري هذا، في لقاء أب بابنه، كما هو مقدَّر:
(لقد أوجدتَ حلاًّ لمشكل الحياةِ كلِّه”، قال لي مرةً بإطراءٍ. “حلولُك لغوية”.
“وطنُكَ لغويٌّ”، قلتُ له. )
ما يقوله درويش له، وكما يذكر بركات، ليس كما يقول بركات لدرويش جهة اللغة والوطن . بالعكس، ربما كانت لغة درويش إجمالاً لغة جلية، ولا تخفي أحياناً حس البراغماتيكية، و" ابن العائلة الفلسطينية المدلَّل كثيراً "وقابلية النزول إلى الشارع، والانتشار عبر الأغاني " لنتذكر الفنان العتيد مارسيل خليفة هنا "، حتى نصه النثري لا يخفي غنائيته، وبالتالي، لم يكن لدى درويش حلول لغوية، إنما وطن مشعور به داخل اللغة، وهذا ما لا نجد له أثراً على وجه العموم لدى بركات، وقول درويش له صائب تماماً، إذا كان قد قالها هكذا حرفياً. لغة بركات لا يمكن لها أن تنزل إلى الشارع، لا بل وحتى إلى مجالس الكتاب الذين يمكنهم التواصل الفعلي عبر كتاباته، إنما هو في الغالب هوس برمز مسجَّل من قبل الآخر، ومعترَف به من قبل اخر، وهو ليس كأي آخر: بدءاً من أدونيس وليس انتهاء بدرويش، جهة الاعتراف بمجاز لغته. وربما كان هناك تهكم درويشي في عبارته تلك، لحظة التمعن في المكوّن الدلالي لـ" " الحلول اللغوية " . ولا أدري ما كان عليه شعور الابن تجاه قولة الأب، وهو يسمِعه ّلك، وحيث لا تناسب بين قوله وقول بركات له إطلاقاً .
لدينا " بركات " من نوع آخر، من درويش الذي يستزيد الكرم الموهبي: الشعبي !
لنحدد هذه الأبوة وصلتها بالبنوة لديه :
( كانت عروضُه مبذولةً لي بلا انقطاع، حتى ظننتُ، أحياناً، أنني ابنُه.)
هو كرم درويشي، وتقدير من درويش له، إذ شكل منبراً متنقلاً، ولا يخلو من بعد دعوي، من خلال حب درويش له، وهذا الكرم ترك أثره النافذ في شخصية بركات الذي يستأنس بالعزلة المضاعفة كثيراً، حيث يندر ظهوره خارجاً، وكل ذلك خلق إشكالاً كبيراً، سمح للذين رفعوا من مكانته إلى مستوى الإيقونة المقدسة، لأن يضفوا على هذه العزلة المختارة براعة استثنائية، وهم أبعد ما يكونون عن معايشة عزلة كهذه، وهو تناقض مريع، وهو إشكال، لم يدرَس حسب متابعتي له إلى هذه اللحظة من قبل أي كان عربياً أو كردياً " لماذا بركات العزلة: الداخل " وليس الظهور النسبي جداً " خارجاً "؟
ألسنا بحاجة إلى مكاشفة تحليلنفسية لمثل هذه الحالة الاستثناء ؟
بركات الموصوف بلسانه ابناً لأب من " الخارج "، صيرَ أباً لجمع غفير من كتّابه الكرد، ونظروا إلى أنفسهم على أنهم أبناء بدورهم، سوى أنهم أخطأوا في " تسديد " المعنى كثيراً. فإذا كان الابن قد أصاب من ناحيته في كسب ولاء أب، ونوْل حظوة منه، فهو شعور بأبوة لم يهنأ بها طويلاً، رغم أنه شب عن الطوق كثيراً تحت رعايته، ولازال يحسب نفسه الابن الذي يعيش مأساة الفقْد، وفي الوقت الذي كان يلقى حنواً، عطفاً، أو رعاية من"الأب " انعدم هذا لدى بركات، أي إحساسه بأبوة تجاه من ينظرون إليه هكذا، فثمة أكثر من حبل مقطوع في الاهتمام الفعلي .
وتلك العزلة، كما يظهر كانت أبوة درويش تلطّف مناخها، ويكون الابن معزَّزاً بالحفاوة من قبل درويش، أكثر من خاصية ظنية " حتى ظننت "، وهذه البنوة حفّزت في بركات طاقات كبرى تجسدت في الشعر والرواية بشكل رئيس، وليكون ظهورها سلسلة من التأكيدات على أن هذا " الابن " جدير بالانتساب إلى مثل هذا " الأب "، ومن ناحية أخرى، ليكون غياب الأب الفاجعة الكبرى، جسدياً، فهو حضور، وربما كان هذا المقال الأخير هذا هو الشاهد الموثَّق .
كما أسلفت ثمة ما يوطّد بنية العلاقة تلك :
(في اللقاء الأخير على بوابة الشمال الأخير من أطلس العالم، جَمَعَنا عشاءٌ من حَبَّارٍ ـ صَبِّيدجٍ مقليٍّ دوائرَ كالأفلاك لُتَّتْ ببَيْضٍ وطحينٍ، همس وهو ينظر إلى ابني ـ ابن السابعة عشرة: “كسبتُ صداقةً جديدة ـ صداقةَ Rhan”. ابتسمتُ. كان أجدى لو قال: “ها التقيتُ حفيدي”.)
" ران " هو ابن بركات، الذين التقيتُه في بيته، ووكان في مقتبل صباه صيف 2006، وما تمناه بركات في أن يكون " ران " الحفيد، وعبارة " كان أجدى " تجاوبُ مع رغبة نفسية قائمة ومتجذرة في كامل كينونته .
الأبوة- البنوة، وتداعياتها:
مسألة الأبوة الدرويشية والبنوة البركاتية نافذة بمفعولها في نصه: المقال هذا، وفي حياة بركات، كما يمكن استقراء ذلك في عنفواتية الكلمات، ورومانسيّ الكتابة، وللنجابة التي يأتي على ذكرها، تاريخ طويل عربياً. النجابة أكثر من كونها القادر على الإنسال، النجيب شخص لا يخلو من فحولة، و" نجيب " اسم شائع عربياً، إنه أكثر من كونه والداً بحق، إنه والد وفي الوقت نفسه يمتلك قابلية الإخصاب والكثرة الدلالية، وبركات شاهد على هذه القيمة الجنسانية المحوَّرة:
(كان محمود مذهِلاً في تلقائيةِ “اعترافه”، بلا تحفُّظ من شاعرٍ كبير مثله، أنه جاهدَ كي لا يتأثر بي، وفي اعترافه أنه لم يعد يعرف أين الحدُّ بين أن يراني صديقاً، أو يراني ابناً له. تزوج مرتين ولم يُنجبْ، بقرارٍ قَصْدٍ في أنْ لا يُنجب. كلُّ شاعر أنجب طفلاً أنجب قصيدةً مُضافة إلى ديوانه. وكل شاعر لم يُنجب طفلاً، أنجب الكونَ معموراً بأطفالِ اللامرئيِّ. أبوَّةٌ تكفي الشاعرَ هنا، وأبوَّةٌ تكفيه هناك.)
أردت إيراد هذا المقطع بكامله، لرؤيته بكامله، وتحري الحراك الجنساني وما للجنسانية المستعارة من فحولة مستدارة، إن جاز التعبير، وكيف يستهوي " الابن " شغف استمراء " الأبوة " و" اجتيافها " ليكون هو الأب، وإن كان الأغلب هو شعوره بالبنوة، كي يستمر في تلقّي حفاوة الأب، ويدرك الابن الرمزي هنا، أنه يمتلك أهلية استمرار في الحياة أكثر.
وربما بركات نفسه نظير درويش في قلة الانشغال بالأبوة العضوية تجاه الابن الذي هو من صُلبه.
أب يقاوم التأثر بالابن! لعلها علاقة حميمية بينهما. أن يكون الابن محط أنظار الآخرين ففي ذلك ما يثير اهتمام الأب، ما يشغله به، ولكلمات بركات ما يمضي بنا إلى الأبعد: أن يكون الصديق، يكون النظير، الآخر الذي يُرى من على مسافة، أما أن يكون الابن، فهو امتلاء بالأبوة، ومجاورة مستمرة، وعن قرب لهذا المعتبَر ابناً. هنا نجد أنفسنا تجاه ترجمان وجداني، نفسي، وبتوصيف من بركات بالذات، دلالة لا تخرج عن نطاق البيت، وقاعه السفلي العميق الغور، بذلك المفهوم النفسي، حيث الطفولة تحضر هنا، والبيت الأول، وأثريات ما كان، ليتم تفعيل أثر آخر، ليعيش طفولة مستعارة، كي يتمكن من الاستمرار، وتقوية حلقات الوصل بين كان، وصار ذكرى، وما هو كائن، ليكون المعهود به درويشياً .
الشاعر منجباً، والنجابة، كما قلت فحولة ضاربة، وهو ما برع فيه درويش بشهادة بركات الذي هو الآخر لا يخفي هذه النجابة بخاصيتها الفحولة على مستوى اللغة والتلاعب بها كثيراً، كما لو أنه مالك سرها دون أي كان، فيكون إنجاب القصيدة أهم من إنجاب الطفل، ربما لأن الأخير قد يكبر ويُنسى أمره، سوى أن القصيدة تحدد علامة النجابة المقدَّرة هنا أكثر، وكون الابن زمنياً، وليس أمر القصيدة هكذا، والنجابة لا نهاية لقدراتها، كما يُلاحظ: في النجابة العضوية ثمة زمن محدود، بعائده الجنسي الغريزي طبعاً، وعبر علاقة معينة، بينما النفسية منها، فهي ارتقاء بالجسد " إنها مواقعة من لدى خيال رماح، لا يطعَن فيه: جنسانية محوَّلة وديمومية ، فلدينا كم هائل من " أطفال اللامرئي ".
إنه اعتزاز بأبوة كهذه، ترقى به إلى مصاف الابن، وما يبقي الابن ابناً وليس أباً، هو هذا الاعتراف الصادم .
أي اعتقاده أن صلة قرباه بدرويش، يمنحه مثل هذا البوح بسر لا يُذاع، كما يفترَض، وقد افترض بركات أنه سر له مكانته الأخرى في عالم الأدب، وكونه امتداداً لأب لطالما استشعر قرباً وجدانياً منه، كابن، فكان التقدير الخاطىء، أي ما اعتبره حقاً من حقوق الابن جرّاء هذه العلاقة، والسر، كما بات شائعاً، أي لم يعد سراً:
(ألقى عليَّ، في العام 1990، في بيتي بنيقوسيا ـ قبرص، سِرًّا لا يعنيه. كلُّ سِرٍّ يعني صاحبَه، لكن ذلك السرَّ لم يكن يعني محموداً. باح به بتساهُلٍ لا تساهلَ بعده، أمْ كان لا يتكلَّف معي قطُّ “أنا الذي أعرف الكثير عنه مما لا يعرفه سوايَ” حجْبَ شيءٍ يخصُّه؟
“لي طفلة. أنا أبٌ. لكن لا شيء فيَّ يشدُّني إلى أبوَّةٍ”، قال. كنا نتبادل كشتباناتٍ من تدريب اللسان على الأبوَّةِ (مُذْ صارت زوجتي حاملاً) قبل تدريب الوجدان على الأبوَّةِ. ليس الأمر أن يكون المرءُ أباً لسليلٍ من لحمه، بل أن تكون الأبوَّةُ، ذاتُها، على قُرْبٍ لَمْساً من السَّليل. أبوَّةٌ لم تَلْمَسْ بيديِّ الجسدِ سليلَها؛ لم ترَ بعينيِّ الجسدِ سليلَها، أبوَّةٌ فكرةٌ. الغريزةُ قُرْباً، والغريزةُ لَمْساً، والغريزةُ علاقةً، هي أمُّ الأبوَّةِ، وأبوها. محمود، حين كلمني عن أبوَّتهِ المتحقِّقة إنجاباً محسوساً، كلمني عن فكرةٍ في عموم منطقها بلا تخصيصٍ. أنا لم أسأله مَنْ تكون أمُّ طفلته.).
لم بركات وليس سواه، وهل كان بركات هو الوحيد العالم والمتلقي الأوحد لهذا السر ؟
يقول أحدهم :
(السرّية هي شيء مدفون ، مشفّر ، نابع من استبعاد أو دفن تجربة لا توصف.) " 6 "
هذا السر الدرويشي الذي نقِل إلى بركات، إذا كان كذلك، أقام على تقدير لدرويش على أنه الأب، وأن بركات الذي يعتقد أنه الابن، لن يسمع به أحد؟ إنما لماذا هو بالذات ؟
العلاقة القائمة بينهما قائمة على ود استثنائي. هل نقل السر تم من خلال هذه العلاقة، ولأن درويش شعر بوطأة نفسية معينة، وفي جلسة مصارحة معينة، وجد السر طريقة إلى لوح بركات غير المحفوظ ؟
لماذا لا نمضي أبعد من ذلك، ودائماً نفترض أنه السر الذي جرت تسميته، ونتوقف عند كل منهما: أكان نقل السر يجري بتصريف داخلي، صوب خارج بموقعه، وصفته، كون بركات كردياً، ويمكنه ضمان استمرار سره سراً ؟
بين خارج، بالنسبة إلى درويش، وداخل بالنسبة إلى بركات، يتضاعف الإشكال في التعامل مع سر لا يستهان بأمره. أي حين يُعتبَر بركات خارجاً، وإن كان في الداخل، ويتقن لغته، أي بركات، قادراً على تلقي سره، الذي يبدو أنه كان يثقِل عليه طويلاً، حتى كان ما كان، وبركات في تعامله مع الخارج بالنسبة إلى درويش، وجد في هذا السر شعوراً معزّزاً لخاصية البنوة فيه، ليطلق سراح هذا السر، وإنما ليثير " غبار النقع " فوق رؤوس كثيرة، وهو الرأس الأول هنا.
بركات، من خلال كشف السر، أصبح في عراء المكاشفات، وعلى وقْع فضيلة مؤلمة كهذه، فضيلة السر الذي نعِي بالكشف عنه، فتح أكثر من جبهة ليس عليه فحسب، وإنما على ما هو راسخ الجذور كثيراً في النفوس: إنها كرديته، كما لو أن بركات أراد انتقاماً من الأب " الخارجي " ومن يجري تمثيلهم من خلاله، وليكون هو الكردي تمثيلاً لقضية لم يمثّلها يوماً باسمها. أي ما كان في إثر كشف السر من كشف ما ليس أسراراً، على صعيد العلاقات الاجتماعية، وما في فيها توصيفات اثنوغرافية أو حتى " عرقية " وتصبح اللغة هي الرهان والمعبر والممر أيضاً إلى ذهنية الآخر، وما في ذلك من حيثيات القول المؤدلج، أي ليصبح القائل/ الكاتب نفسه موضوعاً هذه المرة، كما هو الممكن النظر فيه من خلال الكم الهائل من التعليقات والاستغرابات وحتى الطعن في الاسم، ومن قبل كتاب عرب لهم مواقعهم الثقافية غالباً. ودرويش الكبير موقعاً، ليس الممنوع من الصرف في نطاق حالات كهذه، أي ما يخص مفهوم " السر " بمفهومه العربي، ولا بركات بممنوع من الصرف في ارتكابه لأخطاء ذات صلة بتصورات معينة، وليحصل الخطأ المضاعف هنا في تحويل درويش إلى رصاصة وبركات إلى هدف، وليس البعد الثقافي لكل منهم، أي ما يكون للكتابة من مأثرة في مقاربة نقدية لكاتبها، وكذلك الحال مع بركات الذي بات في حُكم السر المسمى قضية خلافية إلى أبعد حد، ليكون مرآة " أخلاقية " لتقويم لغته التي ليست له " لوحظ من قبل العديد وأكثر من ذلك، مدى التقويم السلبي للغته، كما لو أن الفراغ المقدَّر خلل الكلمات، هو التالي: بما أنه ليس عربياً، فمن البداهة بمكان، أنه يفشل في إقامة صرح لغة يستأنس إليه عبرها " والواقع ليس كذلك، والإشكال هو في الموقع البنيوي للسر المفشي، كما لو أنه الحكم الفصل في ذلك:
من جهة يكون الراحل درويش ضحية مزدوجة: لما يُعتبَر افتراء، وكونه متوفى، ولأنه رمز إيقوني سياسي وثقافي فوق أي " شبهة "، أو توجيه أي نقد له، وهنا تلعب اليوتوبيا السياسية المعممة دورها الكبير هنا، وتتعطل بوصلة الكتابة المستقلة أو الإبداع الأدبي والفني، ولتكون الردود على بركات، إيقاظاً لسلسلة المكبوتات المكامنة في النفوس، صوب خارج، لا يُحاسَب عليه من قبل هذا النظام السياسي أو ذاك، وكان في الإمكان، وفيهذا الوقت بالذات، تحديد دائرة النقد وليس الدفع بالقول إلى ساحة ملغومة لأكثر من سبب، ودون نسيان طبيعة العلاقة الفعلية بين الاسمين .
أكان إفشاء السر، سعياً من بركات إلى الانتقام من ثقل وصية الأب القاهر والمبارك في آن، وقد بات في عمر، لم يعد قادراً على تحمل الأبوة بعد كل هاتيك السنين، وفي لحظة مكابدة وطأة " المحفوظ " يتنفس الصعداء، سوى أنه يستحيل موضوعاً متعدد الأبعاد في منابر مختلفة، وعلى مواقع " التواصل " الاجتماعي. أكانت تلك رغبة بركات ؟
لا يمكن الجزم بذلك. سوى أن بركات المقيم طوعياً في عزلة، والمتابع لما يجري حوله وفي العالم، من خلال انتشار أجهزة الميديا وغيرها، يمكن متابعة الكثير مما يجري، وربما- أيضاً- يكون ذلك مادة ممتعة وحتى مثيرة له ومسلية ليمضي معها بعض وقته، وهو في : مأمن " من الأيادي التي لا تدخر جهداً في الإساءة المادة إلى جانب المعنوية .
الأبوة المسماة تلك لم تدم إنما كانت عابرة على صعيد الكلام " غير العابر " هنا:
(أبوَّتُه ظلَّتْ تبليغاً موجَزاً من صوتٍ في الهاتف عن ابنةٍ لم تستطع العبورَ من صوتِ أمها إلى سمع أبيها. لذا محمود بلا أبوَّةٍ..).
وربما حتى بالنسبة إلى بركات، يبدو أن قوله الساخن جداً هذا، قد يشغل " الناس " لبعض الوقت، وليرجع هؤلاء إلى " أعمالهم " وما أكثرها في وطأتها وعسْر التعايش معاً في ظلها ، في ظل وطأة السياسي الناظر إليهم قطيعياً كثيراً.
وما كتبه في نهاية المقال يفصح عما هو مرتقب :
(بياضٌ هدنةٌ، وسوادٌ صُلحٌ نَحَتا ذاكرةَ العمر صورةً لمحمود ولي. صورةٌ أخرى وصلتني، على الإنترنت، من مشهد لقائنا معاً بجمهورٍ في السويد. صورةٌ ملونةٌ هي الثانيةُ أرانا فيها جنباً إلى جنبٍ. صورةٌ بألوانٍ ليست صُلْحاً أو هدنةً، بل لوعةٌ كالرياضيات، وحنينٌ كالهندسة.)
أي يعود البياض والسواد، تعود كيمياءاللون، تعود العلاقة كما كانت، يعود ما يتعدى اليومي، في الجمع الهائل بين بياض وسواد، أكثر من كونه الرمادي بالمقابل، سوى أنه لن لوعة كالرياضيات، ولا حنيناً كالهندسة، وإنما يكون شرخاً مدمى كالوجدان، وحنيناً كالذاكرة المنتكسة كثيراً .
لعلها فلتة من فلتات بركات، إنما، مهما يمكن قوله في الاستبداد الممارَس جهة الرقابة على الذاكرة ذاتها، وما يكون للسر من عميق الدلالة في الثقافة المتداولة هنا وهناك، ربما ما كان يجب لبركات أن " يفشي " بسر كهذا، ولا يعود إلا محمد سليم ملا حسين ، أي من نقطة صفره التي لا نريدها له، في الشمال المعلوم ببرده .
إشارات :
2- نُشِر المقال في صحيفة " القدس العربي " اللندنية، 6 حزيران، 2020 ، ويمكن متابعة التعليقات طي المقال، وفي مواقع مختلفة، جهة ردود الأفعال طبعاً .
2-Lemieux, René-Labrecque, Simonouvoirs et impouvoirs du secret, sens-public.org
لومييه، رينيه- لابريك، سيمون: سلطات السر وعدْمها.
3-محمود، إبراهيم: قتل الأب في الأدب " سليم بركات نموذجاً " دراسة، دار الينابيع، دمشق،ط1، 2007،ص9.
4-لا أخفي هنا أنني أنا نفسي وجدت في بيروت متنفساً لي، من خلال نشر مقالاتي وأبحاثي، بدءاً من عام 1980، وهي مرحلة نشْر المقالات والأبحاث وليس الكتاب، في كم وافر، ولا بأس به من المنابر الثقافية اللبنانية " المسيرة المحتجبة، الآداب، دراسات عربية، الطريق...الخ "، وأول لقاء لي بالنشر الفعلي كان سنة 1994، من خلال كتابي " الجنس في القرآن " لتتواصل قائمة أعمالي البحثية، وعبر " الريس " بالذات، والتقيت الأستاذ رياض الريس في بيروت، شخصياً، بعد نشْر كتابين لي، وكانت لقاءات قائمة على الزيارات وليس القائمة .
5-لم أعد أذكر التاريخ الدقيق حين التقيت الراحل درويش، في معرض الكتاب العربي ببيروت، جناج رياض الريس للكتاب، ودار حديث حوله، بحضور الأستاذ رياض نجييب الريس، ولازلت أذكر عبارته التي تفوَّه بها بلهجته الفلسطينية الجهورية " سليم، بحبو، بحبو، بحبو: أحبه، أحبه، أحبه "، وهو ما تأكد لدي حين التقيت بركات في بيته بضاحية سكوغوس، باستوكهولم، صيف 2006، وجلسنا معاً جلسة حوارية شفاهية ساعة من الزمن وفي مطبخه، وكتبت عن ذلك " في بيت سليم بركات " وقد ضمَّنت المقال كتابي عنه، والذي سلف ذكره " صص341-347 "، وهو يشير إلى هذه العلاقة، وللتنويه فقد سجلت ملاحظتي على ذلك اللقاء، وموقفي من بركات نقدياً، حيث لم يأت، لا من قريب ولا من بعيد، على أي إشارة تخص المكان الذي خرج منه وبه عُرِف كردياً، وتحديداً على خلفية من أحداث قامشلي " 12 آذار 204 " وقد كتبت حينها عشرات المقالات، والمفارقة، أن بياناً تشهيرياً صدر ضدي من هناك من مدينته التي يتعصب له كتاب كرد ينتمون إليها جغرافياً، ووزّع على أوسع نطاق، لا يخفي خلفيته الإيديولوجيته الصارخة.
6-Wiener, Simone: De vains secrets, www.cairn.info
وينر، سيمون: الأسرار عبثاً