لا تدعي هذه المقالة التي آتي فيها على ظاهرة تغييب النواب عن الدراسات النقدية التي تناولت الشعر العربي الحديث وبعض موضوعاته ، لا تدعي الإحاطة والشمول . إنها تلقي نظرة على دراسات دارسين بارزين لهم باعٌ في دراسة حركة الشعر العربي أو دراسة بعض موضوعاته .
و تثير المقالة بعض التساؤلات حول سر هذا التغييب . و هي لا تطمح إلى أكثر من ذلك ، والى لفت أنظار الدارسين إلى ما يشوب دراساتهم من اغفالٍ ، بوعيٍ أو دون وعي ، بحسن نيةٍ أو سوء نية ، لأمر يدركونه أو لأسباب خارجة عن إرادتهم.
كان مظفر النواب وما زال ، يشكلُ ظاهرة شعرية فريدةً في الشعر العربي المعاصر ، ولا أظنُ أنَّ هناكَ شاعراً آخرَ ، في تاريخ الشعر العربي كله منذ امرئ القيس حتى محمود درويش يشبه صوته ؛ صوت مظفر في فرادته واختلافه ، وان تشابه صوته أحيانا و أصوات شعراء المعارضة والاحتجاج مثل ابن مفرغ الحميري وأبي الطيب المتنبي وبشار بن برد . يتشابه صوته الشعري وأصوات هؤلاء ولكنه يختلف عنهم في أنه ؛ في هجائه ؛ بلغ مدى لم يبلغه أي منهم في حدود ما اعرف ، ويختلف عن بعض هؤلاء ، في أنهُ – حتى الآن – لم يمدح حاكما من الحكام . ولئن كان مظفر يستعيرُ من المتنبي مفرداته القاسية لهجاء الحكام ليهجوَ بها الحكام المعاصرين ، فإنه ينميها ويزيد عليها ، وفي الوقت نفسه لا يمدح هؤلاء إن وعدوه ببعض العطايا.
والذي لا شك فيه هو أن مظفرا ليس شاعر هجاء وحسب ، فأشعاره لا تخلو من قصائد يتغزل فيها بالخمر ، وأخرى يعبر فيها عن حبه لهذه المدينة أو تلك . وهو فوق هذا ذو خيال شعري يضاهي خيالَ كبارِ شعراءِ العربيةِ المعاصرينَ ، إذ غالبا ما يلجأُ إلى التعبير من خلال الصورة ، أو من خلال استعارةِ رموزٍ تاريخيةٍ لها في الواقع المعاصرِ ما يشبهها تجربة أو سلوكا ، وهو في هذا يبتعدُ عن المباشرة في القول ، ويُغني نصه الشعري ليصبحَ من النصوصِ الممتلئةِ التي يقفُ أمامها المرءُ طويلا ؛ ويقول فيها الشيء الكثير . و إذا ما التفتنا إلى لغته وجدنا أنفسنا أمام لغة شاعر قرأ تراثه و تأثرَ بِه وكتب بلغة على قدرٍ من الفصاحةِ حتى ليَجِد فيها القارئُ – غير المطلعِ جيدا على التراث ؛ لغة لا تخلو من صعوبة.
وعلى الرغم من أن مظفرا واحدٌ من أكبر شعراء العرب المعاصرين إلا أنه أكثر شاعر مغيّب في الدراسات التي تناولت الشعرَ العربي المعاصر ، تماما كما أنه مغيّبٌ عن المختاراتِ الشعرية العربيةِ المعاصرةِ ، ويُلاحظ الشيءُ نفسه أيضا مع كتب السير والسير الذاتية ، حيثُ لم يرد – في أكثر هذه – نبذةٌ عن حياته تُعَرفُ به.
ويتساءلُ المرءُ عن سرِ هذا التّغَييب ، أيعود مثلا إلى قسوة الشاعرِ في نصوصه على الأنظمة العربية و هجائها هجاء مرا دفعها إلى تغييب نصوصه في بلدانها ؟ ونحنُ نعرفُ أن أشعار الشاعر مطبوعةً غير متوفرة في كثير من البلدان العربية ، وقد صدرت في بيروت والأرض المحتلة وليبيا وباريس ولندن . وما من شك في أن الأسباب المفترضة الأخرى متعلقة في السبب المذكور . فالأكاديميون والمثقفون الذين يوجدون في هذا البلد العربي أو ذاك ، لا يجرؤون عن الكتابة عن شاعر هجا الحاكم ، فكتابتهم قد تكلفهم أشياءَ كثيرة ؛ أقلها المساءلة عن السبب الذي حدا بهم إلى اختيار هذا الشاعر للكتابة عنه .
إن نظرةً على المجلات العراقية الصادرة – منذ بزغَ نجمُ هذا الشاعر ، تُري كم هو مُغَيَّبٌ عنها ؛ ولكن المرء لا يفاجأ ، فالنواب شاعر معارضة ، وكان ينتمي إلى الحزب الشيوعي الذي كان على خلاف مع حزب البعث ، ولم يكن – أي النواب – يتوانى لحظةً واحدة في هجاء الخصوم ، وحزب البعث تحديدا ، وهناك مقاطع عديدة في شعره يبدو فيها هجومه العنيف على الحزب المذكور الذي قال بالوحدة وأضاف القطرية ذيلا قبليا ، بل إنه ذكر بعض القادة تصريحا ، ومن لم يصرح باسمه لمح إليه بمفردات تغني عن التصريح . و لكن المرء يفاجأ حين يلقي نظرة على مجلة " فصول المصرية " ، وبالتحديد على أعدادها التي تناولت الشعر العربي المعاصر ، أو تلك التي خصصتها للرموز الشعرية العربية مثل : شوقي وحافظ وصلاح عبد الصبور ، ف " فصول " لم تدرج أيه دراسة تختص بالنواب ، والسؤال الذي يثيره الدارس هوَ : أيعودُ السبب إلى الدارسين أنفسهم أم إلى هيئة تحرير المجلة ؟ وهل امتنعت الأخيرة عن نشر دراسات وصلت إليها أم أن أي دارس لم يخص النواب منذ عام 1980 بأية دراسة ؟ أو أن الدارسين تبنوا رأي الشاعر مريد البرغوثي الذي قاله مؤخرا في نابلس ، وهو رأي يرى في النواب " شاعرا عابرا أو شاعر مرحلة و شاعر موضة"؟
سوف أشير إلى بعض الدراسات التي تناولت حركة الشعر العربي المعاصر ، وأتوقف أمام بعض جوانبها وأشير إلى قصائد مظفر النواب ، لأوضحَ أن ما صدر عنه لا يقل قيمة عما صدر عن غيره ، وأن إهماله لم يكن لقزامة مكانته الشعرية ، وسوف أشير أيضا إلى بعض المختارات الشعرية وبعض المعاجم الأدبية أو الشعرية لأوضح الغبنَ الذي لحق بالشاعر.
أولا : دراسات لم يؤتَ فيها على ذكر النواب:
الدراسة الأولى التي أرغب في الإتيان عليها هي دراسة الدكتور احسان عباس " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " ( 1977 ط 1 – 1992 ط 2 – 2001 ط 3). والدكتور عباس أحد أبرز دارسي الشعر العربي قديمه وحديثه ، وله باع طويل في التأليف ، وهذا ما لا يخفى على أي دارس . وهوَ ، بالإضافة إلى قراءاته الطويلة ، التقى – بحكم إقامته ؛ سابقا – في بيروت وتدريسه في الجامعة الأمريكية فيها ، بالعديد من الشعراء ، ولا أظن أنه فوّت على نفسه الذهاب إلى أمسيات الشعراء ، حين كان هؤلاء يزورون بيروت ليلقوا قصائدهم فيها.
وقد تشكل كتاب الدكتور عباس من : تمهيد و ثمانية فصول وملحق ، ألقى في الأول نظرة تاريخية موجزة ، وعالج في الثاني دلالة البواكير الأولى وتحدث في الثالث عن العوامل التي تحدد الاتجاهات الشعرية وعالج في بقية الفصول موقف الشعراء من الزمن والمدينة و التراث و الحب والمجتمع ، و ضم الملحق قصائد لنازك الملائكة والسياب و البياتي و القاسم وخليل حاوي و ادونيس ، و أشار في ملحقه إلى أنه ليس مختارات من الشعر المعاصر ، وإنما يضم بعض القصائد التي وقف عندها ، حتى يستطيعَ القارئ ، أن يربط بينها وبين ما قاله عنها في متن الكتاب.
وقد خلت الدراسة من تناول النواب أو التمثيل بشعره . فهل اكتفى عباس بثلاثة شعراء عراقيين هم البياتي والسياب والملائكة ؟ إن قراءة الكتاب تشير إلى انه أتى على غيرهم مثل حميد سعيد ، والسؤال الذي يثار هنا هوَ : لماذا لم يأت د . عباس على شعر مظفر النواب ؟ أيعودُ ذلك إلى أنه لا يرى فيه شاعرا كبيرا ؟ أم انه رأى في الإتيان على شعر النواب مجازفة خطرة ، قد تسبب له – وهو الأكاديمي الذي لا يرى في ذاته عقائديا يلتزم بأيديولوجية ما تحتم عليه اتخاذ موقف حاد يترتب عليه إشكالات ما – تسبب له إشكالات عديدة؟
طبعا علينا أن لا نغفل اللحظة الزمنية التي أنجز فيها عباس دراسته – أي عام 1977 – ولم يكن تاريخ النواب الشعري مساويا لتاريخ أولئك الذين درسهم ، فقد بدأ الثلاثة المذكورون كتابتهم الشعر ، قبل أن يصبح النواب شاعرا ، بعشرين عاما . ربما يكون هذا سببا ، ولكن علينا في المقابل ألا ننسى أن النواب لفت الأنظار إليه منذ كتب قصيدته الأولى عام 1969 ، وأنه أصبح في أوائل السبعينات الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي ، وقد صدرت له في هذه الأثناء مجموعة ” وتريات ليلية ” ، وكانت بيروت هي الحاضنة لها ، فهل غابت عن الدكتور عباس؟!
وما ليس الشك فيه أن الموضوعات التي أتى عليها المؤلف كانت ذات حضور في أشعار النواب ، وإتيان هذا على القدس وتصويرها على أنها عروس مغتصبة اشتهر أكثر من اشتهار المقطع الذي استشهد به د . عباس لحميد سعيد . وهنا نأتي على التساؤل الثاني : لعل المؤلف رأى في مقطع النواب مقطعا خطيرا والاستشهاد به يشكل مجازفة خطرة قد تمنع الكتاب الذي صدر في الكويت من رؤية النور ومن دخول أكثر البلدان العربية ، وقد يترتب على هذا اشكالات تمس الدكتور عباس نفسه ، فيمنع بدوره من دخول بعض الأقطار العربية . و أرى أيضا أن موقف النواب من المدينة ومن التراث برز في أشعاره ، حتى عام 1977 ، بروزا لافتا للنظر ، بروزا يضاهي بروز الموضوعين في أشعار الشعراء الذين استشهد المؤلف بقصائدهم ، إن لم يفق النواب الآخرين ، في هذا الجانب . و ” قراءة في دفتر المطر ” ( 1969 ) ، و “ وتريات ليلية ” ( 1973 ) يعدان مثالا جيدا.
الدراسة الثانية التي تجدر إليها دراسة د . علي عشري زايد ” استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر ” – ( 1977 ط1 – 1997 ط 2 ) و تُظهر لنا نظرة على فهرس الشعراء والقصائد المعاينة ( ص 296 – ص 307 ) غياب اسم النواب نهائيا ، فلم تعاين قصائده التي نشرت في الصحف والمجلات . ولعل الدكتور زايد ، حين يقرأ النواب يدرك أنه تجاوز شاعرا كان له في توظيف التراث باع طويل ، وكان له منه – أي التراث – موقف يستوقف الدارس . و لا نريد أن نظلم الدارس فقد اعتمد في دراسته على نصوص صدر أكثرها قبل عام 1972 ، ولم يكن اسم النواب في حينه ، شائعا . غير أن ما يلفت النظر هو أن الدارس في طبعته الثانية ( 1997 ) لم يجر أي تغيير ، وبالتالي فلم يذكر النواب إطلاقا . و هنا يمكن الإشارة إلى دراسة د.خالد الكركي في هذا المجال ، لقد أتى في كتابه ” الرموز التراثية في الشعر العربي الحديث ” ( 1989 ) على ذكر مظفر ، ولكنه لم يوضح إن كان توظيف النواب للتراث توظيفا جزئيا أو كليا ، لقد كتب الكركي عن النواب في أثناء الكتابة عن استحضار الرموز التراثية الثائرة ” الأفراد الثوار ” ، ومع أن المؤلف اعتمد على ديوانين للشاعر هما ” وتريات ليلية ” و ” أربع قصائد ” ، وهما مجموعتان تحفلان بالرموز التراثية إلا أنه لم يورد الكثير عن هذا الجانب في أشعار النواب . و يتساءل المرء هنا عن السبب : أيعودُ إلى طبيعة دراسة المؤلف التي تأتي على هذه الظاهرة ظاهرة توظيف الرموز التراثية ، بشكل عام ، وأنه لم يدرس نصا واحدا دراسة تحليلية مفصلة ؟ أم يعود السبب إلى أن الكركي أراد أن يقدم لنا دليلا على جرأته التي لم تبلغ مداها ؟ أم أنه أراد أن يقول – بطريقة غير مباشرة – إن ثمة حرية في الأردن ، و ها أنا أتناول شاعرا هجا النظام في شخص رأسه الأول؟
في كتابه ” جدل الحداثة في الشعر ” ( 1985 ) يتناول المؤلف وفيق خنسة النواب لينتقص منه . لقد صدّر هذا الشاعر السوري كتابه بمقولات لماركس ولينين و الشيوعي اللبناني محمد دكروب ، وتناول مفهوم الحداثة و درس شعراء عديدين منهم أحمد عبد المعطي حجازي و عبد العزيز المقالح و محمد الفيتوري وأدونيس . ومن المؤكد أن المرء لا يفاجأ بأحكام الشاعر ، فما دام مؤيدا لأحزاب شيوعية عربية ، وما دام معجبا بأدونيس إعجابا كبيرا عبر عنه بالعبارات التالية:
” أن تقرأ أدونيس يعني أن تتهيأ لأنك مدعو لطقس جديد … أنت مطالب بكل الحضور وكل التذوق وكل الإقبال في احتفال بهي للقصيدة .. أنت لا تستطيع أن تقرأ أدونيس وأنت تدير ظهرك للكيمياء ، لأن الجمالية لدى ادونيس تتأسس على انفتاح اللغة الشعرية ، على خلع أبواب القابلية .. ” ( 125 ) .
فإن المرء لا يفاجأ وهو يقرأ التالي عن النواب:
” إن وتريات ليلية نهاية منهج شعري وقمته بآن واحد ، ولكن هذا الاتجاه خرب جمالية القصيدة ، وهدر الكثير من موهبة الشاعر دون مقابل ” ( ص 43).
ويعقب على مقطع النواب:
” يا حكاما مهزومين
ويا جمهورا مهزوما ..
ما أوسخنا ..
لا أستثني أحدا “
قائلا :
” بوضوح هذا الكلام ليس شعرا ، إنه شتائم رخيصة وسوقية ” ( ص 42 ) ، ويتساءل المؤلف قائلا:
” ترى هل صحيح أننا وسخون ، أبناء الأعداء ، بدءا بالثورة الفلسطينية ، وانتهاء بالثوار الذين يسقطون شهداءً بالعشرات كل يوم في الوطن العربي ؟”( ص 42 ).
وعلى الرغم من أن النواب كتب الوتريات ما بين ( 72 – 1975 ) ، وعلى الرغم من انه كتب بعدها قصائد يمجد فيها الفدائي ، مثل قصيدة " تل الزعتر " التي يخاطب فيها الحكام:
” أتحدى أن يرفع أحد منكم عينيه أمام حذاء فدائي يا قردة..“
إلا أن الخنسة لم يشر إلى هذا التغير في موقف النواب . إن بحث المؤلف عن جمالية القصيدة وحداثتها جعله يثمن دور ادونيس هذا التثمين ، وحتى لا يشتم بأنه رجعي صدّر كتابه بعبارة لينين:
” حتى نستطيع تقريب الفن من الشعب ، و تقريب الشعب من الفن ، ينبغي علينا ، في البداية ، رفع المستوى التعليمي والثقافي العام ” ( ص 7 ) . ونزول النواب إلى مستوى الجماهير وكتابته شعرا ينتقل فيه الشاعر مباشرة إلى : نثرية هي أقل جمالا من الصياغة الصحفية اليومية ” هو ما جعل منه في نظر المؤلف ، نهاية مرحلة شعرية في آن ، ولم يتساءل الدارس لماذا تمنع الأنظمة العربية أشعار مظفر ولا تمنع أشعار أدونيس التي ترحب بها ؟ ولا أريد أن أقدم على هذا السؤال ، السؤال التالي : لماذا تصغي الجماهير إلى مظفر ولا تقرأ أشعار ادونيس ؟ ولا شك أن الخنسة سيجيب : اقرأ مقولة ” لينين ” التي صُدِّر بها الكتاب .
دراسة أخرى أرغب في الإتيان عليها هي دراسة الدكتور خالد الكركي ” حماسة الشهداء : رؤية الشهادة والشهيد في الشعر العربي الحديث دراسة ومختارات ” ( 1998 ) .
يُعد هذا الكتاب أطول دراسة درست موضوع الشهادة والشهيد في الشعر العربي الحديث ، وهو أيضا أحدثها ؛ أحدث الدراسات . وليس هناك تاريخ يوضح متى بدأ الدارس في انجاز دراسته التي قدم لها د . إحسان عباس في كانون الثاني 1998 ، أي أنها كانت أُنجزت في عام 1997 ، وقبل هذا العام بعام ، صدرت من لندن ، الأعمال الكاملة لمظفر النواب ، وقد خلت قائمة مراجع الكتاب من الإشارة إليها ، وهذا يعني أن المؤلف لم يطلع عليها ، وان كان أتى بإيجاز على موضوع الشهيد في أشعار مظفر ، معتمدا على بعض القصائد التي وردت كتاب باقر ياسين ” مظفر النواب : حياته وشعره ” ( 1988 ) . وفي العودة إلى كتاب د.الكركي ” الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث ” ( 1989 ) , نلحظ أنه يمتلك ” وتريات ليلية ” و”أربع قصائد ” ، وهما مجموعتان تخلوان عموما من قصائد رثى فيها الشاعر الشهداء . وعليه فإن المرء للوهلة الأولى ، يتجاوز إهمال المؤلف لدراسة قصائد النواب التي خصصت للشهداء . وحين يمعن المرء النظر في كتاب باقر ياسين ، ويقرأ الملحق الخاص الذي أفرده المؤلف لبعض قصائد النواب ، يستغرب المرء لماذا لم يورد الدارس إحدى هاتين في الملحق الذي اتبع فيه دراسته ، ولماذا لم يقف أمامهما ، أبضا ، وقفة متأنية ؟ وما أراه هو أن صورة الشهيد في أشعار مظفر النواب تحتاج – بعد إلى إصدار أعماله الكاملة – إلى دراسة . فأعماله تضم العديد من القصائد التي رثى فيها الشهداء ، وتقدم صورة تبدو – إلى حد ما -مختلفة ، وربما تبدو على قدر من المبالغة التي ينفر منها بعض المسلمين .
يختار الدكتور صلاح فضل في كتابه ” أساليب الشعرية المعاصرة ” ، يختار شعراء مشهورين ليدرس بعض قصائدهم ، يختار أدونيس ونزار قباني و محمود درويش وسعدي يوسف والسياب و الماغوط وعفيفي مطر والبياتي وصلاح عبد الصبور . وتمثيل شعراء العراق كما هو واضح ، تمثيل جيد ، ويقر المؤلف بأن رضا الشعراء غاية لا يمكن أن تنال ، وكان اختياره للشعراء عائدا إلى ما يمتاز به كل واحد من المدروسين ، فلكل منهم نهج ما يجمع ما بين التعبير والتجريد .
وإذا أتينا على دراسات بعض الدارسين العراقيين ، ألفينا بعضهم لا يشير إليه ، في حين يقر آخرون بشاعريته وتميزه .
يخلو كتاب حاتم الصكر ” كتابة الذات : دراسات في وقائعية الشعر ” ( 1994) من أية إشارة للنواب . وربما يعود السبب في ذلك إلى أن الصكر الذي نشر كتابه في الأردن ما يزال يقيم في بغداد ، وبالتالي فإن موقعه يؤثر على موقفه . والنواب ، كما تعرف ، شخص غير مرغوب فيه في العراق . حقا إن الصكر كتب عن البياتي ، وهذا أيضا لم يُقِم ، منذ فترة طويلة في العراق ، إلا أننا نعرف ، من خلال قراءة شعر النواب والبياتي ، أن ثمة فارقا بينهما في نغمة الخطاب ومباشرة القصائد وابتعادها عن المباشرة . ويرى د . علي جعفر العلاق في كتابه“ الشعر والتلقي ” ( 1997
أن النواب “ يُعتبر بنبرته الحارة ولغته الواخزة ، واحدا من الأصوات الشعرية المتميزة في الشعر العراقي الحديث ” ( ص 28 ) . ولكنه يرى أن مجد النواب الحقيقي ” يكمن ، ربما ، في أرض أخرى : القصيدة العامية ” (ص 28 ) . ولا يفرد العلاق صفحات يدرس فيها أشعار النواب ويوضح ما ذهب إليه . إنه يكتفي بالإشارة إليه في فقرة لا تتجاوز عشرة أسطر .
وكما أشرت في التمهيد ، فإن هذه المقالة لا تدعي الإحاطة والشمول . إنها ليست أكثر من مدخل لظاهرة تعامل الدارسين مع شاعر شكل علامة بارزة من علامات الشعر العربي في الثلاثين سنة الأخيرة . وبقي أن أشير هنا إلى كتابين صدرا عن النواب من دمشق وهما : كتاب باقر ياسين ” مظفر النواب حياته وشعره ” ( 1988) ، وكتاب عبد القادر الحسيني وهاني الخير ” مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية ” ( 1996 ) .
ثانيا التغييب عن المختارات وكتب التراجم .
في كتاب ” أعلام الأدب العربي المعاصر : سير وسير ذاتية ” (1996) ، وهو كتاب أعده الأب روبرت .ب . كامبل اليسوعي سيّر ل 380 أديبا عربيا معاصرا ، ليس النواب واحدا منهم ، وربما يكمن سبب استبعاده في أنه نشر أشعاره في كراسات و نشرات متفرقة ، فلم تكن أعماله الكاملة ، في أثناء إعداد الكتاب الضخم ، قد صدرت . ولعل الإشارة التي صدر بها المشرف على الكتاب كتابه تعفينا من محاكمته واتهامه بالتحيز ” فلم نلتفت عند الاختيار إلا لما ظهر في كتاب مطبوع ، دون المقالات المنفردة أو المراجعات أو الكراسات التي نشرت متفرقة ، إلا إذا أعيد طبعها مجموعة في كتاب ” ( ص 8 و 9 ) .
ولا أرى د.ميشال خليل جحا – فيما ذهب إليه في كتابه ” الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش ” ( 1999 ) – محقا حين كتب واقفا أمام كتاب كامبل اليسوعي :
” فكيف يسمح شخص ( أجنبي ) لنفسه بأن يتناول الأدباء والشعراء العرب المعاصرين ، في كل البلدان العربية ؟! فهل باستطاعته أن يطلع على جميع هؤلاء في دنيا العرب ؟! وهل يستطيع شخص فرد ، مهما أوتي من خبرة ومعرفة واطلاع ، أن يدعي معرفة كل الأدباء والشعراء في اليمن أو السودان أو موريتانيا مثلا … ؟! “(ص 7 ) .
ولعل اغفال الأب روبرت كامبل أسماء شعراء مثل صلاح لبكي وبشارة الخوري وشفيق المعلوف والشاعر القروي رشيد سليم هو سبب هذه اللهجة الحادة .
ولم يخل كتاب د . جحا من الكتابة عن النواب وحسب , فلم يدرجه ضمن الشعراء الستة والعشرين المختارين ، و إنما قائمة مصادره ومراجعه التي وقعت في خمس عشرة صفحة ( من 493 – 507 ) من أية إشارة للنواب ، وحين يبرر اختياره لشعراء عراقيين يكتب : ” أما العراق ، فإن الشاعر جميل صدقي الزهاوي ( 1863 – 1936 ) ومعروف الرصافي ( 1872 – 1945 ) و أحمد صافي النجفي ( 1895 - 1977 ) كممثل للشعر السياسي والاجتماعي الذي يصور واقع العراق الحديث . أو بلند الحيدري ( 1916 – 1996 ) الذي فضلت عليه عبد الوهاب البياتي .” ( ص 9 ) .
إن الشعراء الذين اختارهم يمثلون في رأيه ” أهم وأبرز شعراء الطبقة الأولى من المعاصرين في العالم العربي والأكثر تمثيلا لطبقتهم ” ( ص 8 ) .
وإذا ما ألقينا نظرة على معجم البابطين الشعري ( 1995 ) لاحظنا أن النواب كان غائبا عنه . ولعل المرء يتساءل عن السبب أيعود إلى المشرفين على المعجم أم يعود إلى النواب نفسه !!
ولا أريد أن أجازف وأتعجل القول ، فلربما يكون النواب نفسه عزف عن المشاركة في المعجم .
لم يغب النواب عن السير الذاتية أو المعاجم الشعرية وحسب ، بل غاب أيضا عن المختارات الشعرية التي أشرف على إنجازها بعض الدارسين العرب ، ومع أنني غير مطلع على المختارات جميعها إلا أنني أعطي مثلا على ذلك . أصدر الأديب التونسي محمد علي اليوسفي كتابا عن الانتفاضة عنوانه ” أبجدية الحجارة ” ( 1990) , ويضم الكتاب العديد من المقالات الأدبية وقصائد لشعراء عرب وعالميين ، ولكنه لم يدرج قصيدة مظفر النواب ” عرس الانتفاضة ” التي صدرت ، ابتداء ، في كراس ثم ظهرت في أعماله الكاملة . حقا إن الناشر كتب في المقدمة أن المختارات تقدم عينات كافية ، وأن جهده ” لا يطمح أساسا إلى حصر كل ما كتب من نصوص ، بمقدار توجهه إلى رصد ظاهرة متأنية من فعل الواقع المحتدم في الشاعر …” ( ص 5 وما بعدها ) . إلا أن الأسماء التي احتفل بها وأدرجت لها نصوص شعرية لم تقدم جميعها نصوصا شعرية متميزة تفوق نص النواب .
بقي أن أشير إلى ن إنصاف النواب دراسة وطباعة أعمال إنما تم في الأرض العربية الخارجة عن سلطة النظام العربي ، باستثناء النظام السوري والليبي ، فقد صدر عنه في سوريا كتابان ( 1988) و ( 1996 ) ، وأذيعت قصائده من ليبيا مرارا ، واحتفل به الفلسطينيون احتفالا يوازي بقضيتهم .
آمل أن تكون هذه المقالة التي لا تدعي الإحاطة والشمول لفتة , ولو بسيطة وعابرة ، للانتباه إلى هذا الشاعر الذي سيشغل شعره الناس ، ذات نهار ، كما شغلهم شعر المتنبي .
المراجع :
1- احسان عباس , اتجاهات الشعر العربي المعاصر , عمان , دار الشروق
2- باقر ياسين , مظفر النواب : حياته وشعره , دمشق , الناشر هو المؤلف , دمشق , 1988
3- حاتم الصكر , كتابة الذات : دراسات في وقائعية الشعر , عمان , دار الشروق , 1994
4- خالد الكركي , الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث , بيروت , دار الجيل , 1989 .
5- خالد الكركي , حماسة الشهداء : رؤية الشهادة والشهيد في الشعر العربي الحديث , بيروت, المؤسسة العربية للدراسات والنشر , 1998 .
6- صلاح فضل , أساليب الشعرية المعاصرة , بيروت , دار الأدب , 1995 .
7- عبد القادر الحصيني وهاني الخير , مظفر النواب : شاعر المعارضة السياسية , قراءة في تجربته الشعرية , دمشق , المنارة , 1996
8 – علي جعفر العلاق , الشعر والتلقي , دراسات نقدية , عمان , دار شروق .
9- علي عشري زايد , استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر , الكويت , دار الفكر العربي , 1997 ط 2 , ط1 1977 .
10. محمد علي مقلد , الشعر والصراع الأيديولوجي , بيروت , دار الأدب , 1996 .
11- محمد علي اليوسفي , أبجدية الحجارة , باقة الغربية , منشورات شمس , 1993 ط2 , ط1 1990 .
12 – ميشال خليل جحا , الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش , بيروت , دار العودة , 1999 .
13 – وفيق الخنسة , جدل الحداثة في الشعر , بيروت ودمشق , دار الحقائق , 1985 .
فبركة القصائد
2013-04-07 للشاعر نجوان درويش قصيدة عنوانها "فبركة". مرّة أصغيت إليه يقرؤها في احتفالية فلسطين للأدب، الاحتفالية التي تشرف عليها الروائية المصرية أهداف سويف، وثانية قرأتها على صفحات "أيّام الثقافة" في جريدة "الأيام". وأظنّ أنني عقبت عليها ذات نهار، فأشعار نجوان يروق لي قسم منها. القصيدة فيها ميل هادئ لسخرية هادئة مما يجري في عالمنا، وفي عالمنا العربي والفلسطيني. كل شيء فبركة في فبركة. دولة إسرائيل فبركة. المخيمات الفلسطينية فبركة. مجازر صبرا وشاتيلا فبركة.. كل شيء.. كل شيء فبركة في فبركة على الرغم من أنه حقيقة واقعة.
في "أيام الثقافة" (18/12/2012) نشرت مقالة للكاتب صقر أبو فخر عنوانها "عن فبركة القصائد والوثائق والنصوص.. الكلمات يمكنها أن تقتل، أيضاً، أتى فيها على قصائد نسبت للشاعرين محمود درويش ومظفر النواب، وذهب صقر إلى أنه اتصل بالشاعرين يسألهما إن كان بعض ما نسب إليهما من قصائد ركيكة هو حقاً من كتابتهما، فأنكرا.
بعد هزيمة حزيران 1967 شاعت قصيدة مطلعها:
غنّت فيروز مُغرِّدة وقلوب الشعب لها تسمع
الآن، الآن وليس غداً أجراس العودة فلتقرع
ومنها:
من أين العودة فيروز والعودة يلزمها مدفع
والمدفع يلهو مُنْهَمِكَاً في إستِ الشعبِ له مرتع
و.. و.. وتنتهي القصيدة يقول صاحبها:
عفواً فيروز ومعذرة أجراس العودة لن تقرع
وحتى اللحظة لا أعرف شخصياً من هو صاحب القصيدة. عزيت القصيدة لنزار قبّاني، وقيل إن كاتبها هو طالب طب في جامعة دمشق.
القصيدة التي عزيت لمحمود درويش، وما زلت أملك نصّها، مطلعها:
لهفي على القدس الشريف يلوغ بها ......... .
وهي قصيدة تسخر من اتفاقات (أوسلو) ومُوقِّعِيها، ولا أظنّ أنها من نظم محمود درويش إطلاقاً. ويبدو أن الذي عزاها له أراد أن يُروِّجها، علماً بأنها ستُرَوَّج لأسبابٍ عديدة منها أنها ضد (أوسلو)، ومنها أنها قصيدة عمودية، ومنها أنها تسخر من رموز بعضها ليس محبوباً من الناس، ناس الانتفاضة الأولى التي أعقبتها اتفاقات (أوسلو).
والقصيدة التي عزيت لمظفر النواب عنوانها "كفرت بإسرائيل" وقد نشرت، أيضاً، تحت عنوان آخر هو "فعل مبني للمجهول"، وقد أكون شخصياً ذهبت إلى أنها له ـ أي للنوّاب ـ لأنه خاطب فيها القارئ/ الناقد الذي يقارن صيغ قصائده في طبعات أعماله/ النواب المختلفة.
يرد في القصيدة المقطع التالي:
"يا قارئ كلماتي بالعرض
وقارئ كلماتي بالطول
لا تبحث عن شيءٍ عندي
يُدعَى المعقول
إني مُعترفٌ بجنونِ كلامي
بالجملة والتفصيل
ولهذا
لا تتعب عقلك بالجرح وبالتعديل
وبنقد المتنِ .. وبالتأويل
خذها مني تلك الكلمات
وصدقها دون دليل"
ويذكر قراء كتابي "الصوت والصدى: مظفر النواب وحضوره في الأرض المحتلة (1999 نابلس/ القاهرة/ دار مدبولي 2002) أنني درست قصيدة النواب "بحار البحارين" دراسة أفقية/ بالعرض، ودراسة عمودية/ بالطول، وقارنت بين صيغتها في طبعة الأرض المحتلة/ دار العامل، وفي طبعة لندن الصادرة عن دار قنبر في العام 1996، واهتممت بالجرح وبالتعديل.
عندما قرأت مقال الكاتب صخر أبو فخر قلت: إن كان مظفر ليس كاتب القصيدة، فقد ذهبت أنا بعيداً وشططت، أيضاً، حين رأيت نفسي المخاطب في الفقرة الشعرية الواردة أعلاه.
قارئ القصيدة المعزوة إلى محمود درويش "الحكم الذاتي" يكتشف بسهولة أنها ليست من نظم درويش ـ عنوان القصيدة بالضبط هو "سلطة الذات" ـ فلا اللغة ولا التعابير ولا الموقف من بعض الرموز الفلسطينية يقول هذا.
هل يمكن قول الشيء نفسه عن قصيدة النواب؟
أغلب الظنّ أن الأمر قد يلتبس على القارئ، فالموقف السياسي فيها من دولة إسرائيل يقوله لنا باقي شعره، وبعض الصور التي وردت فيها، وما جرى على لسان الحيوان، نعثر عليه في بعض قصائده، وما قاله صاحبها عن الجرح والتعديل، والتأويل يجعلني شخصياً لا أشك في أنها عُزِيَت إلى النواب. هل القصيدة لمظفر النواب أم أنها ليست له؟
في مقالته يذهب صقر أبو فخر إلى أن الشاعر أنكر أن تكون القصيدة من كتابته، والسؤال هو: لماذا أدرجها بعد معدّي مختارات مظفر النواب في مختاراتهم؟
يصدر أوس داوود يعقوب مختاراته، بعد المقدمة التي كتبها ـ واعتمد في أكثرها على دراساتي عن النواب ـ، يصدر مختاراته بقصيدة "كفرت بإسرائيل"/ فعل مبني للمجهول.
وأما إسلام إبراهيم الذي ذهب إلى أن ما أنجزه هو أعمال كاملة لمظفر النواب ـ علماً بأنها ليست أعمالاً كاملة ـ فإنه لا يورد القصيدة، لكنه يختار منها المقطع الذي أوردته آنفاً، ويطبعه على صفحة الغلاف الأخيرة.
في العام 2012 سيصدر د. زياد أبو لبن مختارات من أشعار مظفر النواب، وسيورد القصيدة كاملة. وأنا طبعاً سأقع في حيرة من أمري، وسأتساءل: هل القصيدة لمظفر النواب أم أنها ليست له؟
ما زال الشاعر على قيد الحياة، وبإمكان الفضائيات أن تجري معه غير مقابلة، وأن تسأله فيها إن كانت القصيدة من كتابته. طبعاً يمكن لأبي عادل/ مظفر النواب أن يشرف على طبعة جديدة لأشعاره يكون هو مسؤولاً عنها، فيريح القراء ويرتاح، أيضاً.
مع بداية "الربيع العربي" راجت أشعار مظفر النواب طباعةً كما لم ترج من قبل، وربما فاقت في رواجها رواج أشعار الشعراء نزار قباني ومحمود درويش وأحمد مطر.. بل والمتنبي، وجعلها "الربيع العربي" تنتشر انتشار النار في الهشيم، فقد ظل مظفر النواب شاعراً رسولياً مبشراً بالتغيير، ولم يحبط كما أحبط محمود درويش في فترات من حياته [ما نفع القصيدة/ لست النبي لأدعي وحياً/ لم أجد جدوى من الكلمات إلاّ رغبة الكلمات في تغيير صاحبها... إلخ].
مؤخراً قرأت مقالة للشاعر اللبناني شوقي بزيع نشرها في العام 2009 في "الحوار المتمدّن" يرى فيها أن النواب منذ 90 ق2 ما عاد لافتاً كما كان، ولا أدري ماذا يقول الشاعر اللبناني الآن، وهو يرى طبعات أشعار مظفر تتوالى؟!
اغتيال مظفر النواب.. شعرياً
لا أدري كم طبعة صدرت، حتى هذه اللحظة، للأعمال الكاملة للشاعر العراقي مظفر النواب، ولا أدري، أيضاً، كم مختارات اختارها أكثر من واحد وطبعوها ووزعوها في الأسواق. في العام 1996 صدرت في لندن طبعة، تحت عنوان "الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العربي المناضل"، عن دار قنبر. وقد أعيدت طباعتها في الأرض المحتلة، ما دفعني يومها لكتابة مراجعة لها تحت عنوان "إشكالات الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي مظفر النواب. وعرفت فيما بعد أن الشاعر لم يكن المشرف عليها، بل إنه لم يكن يعرف شيئاً عن دار قنبر، وحين سأل عنها قيل له إنها دار نشر وهمية. وفي مقالات، لي، لاحقة أملت أن يقوم الشاعر نفسه بإصدار طبعة يشرف هو عليها، ذلك أن قارئ ما يصدر له يعاني الكثير لأسباب عديدة: ترتيب القصائد وعدم تشكيلها ووضع علامات ترقيم لأسطرها وعباراتها.
في العام 1999 أصدرت كتابي "الصوت والصدى: مظفر النواب وحضوره في الأرض المحتلة، ودرست فيه قصيدة "بحار البحارين" دراسة تكوينية، فقد قارنت بين صيغتها في طبعة الأرض المحتلة ـ طبعة دار العامل ـ وفي طبعة الأعمال الكاملة، ولاحظت الخلاف في مواطن كثيرة. وحتى ذلك التاريخ لم تكن طبعات جديدة لأشعار الشاعر قد صدرت، فقد ظلت أشعار الشاعر محاصرة في كثير من بلدان الوطن العربي. ومع انتشار ظاهرة الإنترنت والمواقع الإلكترونية غدا المنع والحصار بلا جدوى، وهكذا بدأنا نلحظ طبعات أعمال الشاعر تتلاحق، ولاحظنا، أيضاً، عرضها في المكتبات وعلى أرصفة الشوارع، وثمة طبعات عديدة، صدرت في هذا البلد العربي أو ذاك، معتمدة على طبعة دار قنبر، تصويراً كما في الأرض المحتلة، أو إعادة طباعة، مع تغيير في شكل الحرف، وطبيعة الغلاف، ولم تكن هناك ضرورة لاقتناء هذه الطبعات، لأنها لم تضف إلى ما صدر في العام 1996 جديداً.
أحد قراء كتابي المذكور ـ وقد أدرجت أكثر فصوله على الإنترنت، وأعيدت طباعته في مصر عن دار مدبولي في العام 2002 ـ ارسل إليّ صيغتين أخريين لقصيدة "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة"، وطلب مني أن أدرس التغيرات فيها، ولم أُلبّ له، شخصياً، طلبه. هذا العام درست طلبة الماجستير أشعار النواب ومحمود درويش دراسة تكوينية ـ وفق المنهج التكويني ـ وطلبت من طالبين أن يكتبا عن التغيرات التي أجراها الشاعر على نصه، وقد اقترحت عليهما، بعد تصحيح ما كتبا، أن ينشرا ما قاما به على الإنترنت وعلى موقع مظفر النواب، ولا أدري إن كانا فعلا ذلك. وفي أثناء تدريسي الشاعرين، اقتنيت طبعات جديدة لأشعار الشاعر، ومختارات جديدة.
في العام 2011 كتبت في "الأيام" (16/11) مقالة عنوانها "مظفر النواب: طبعة جديدة وسبعون شيكلاً" أتيت فيها على ما قام به أوس داوود يعقوب الذي نشر كتاباً عنوانه "مظفر النواب، شاعر الثورات والشجن، قصائد تنشر لأول مرة" (2010)، ولم أر فيه قصائد جديدة تستحق أن يغامر المرء ويشتري طبعة جديدة من أشعار الشاعر، فما نشره أوس موجود جلّه في طبعة دار قنبر.
في العام 2012 اشتريت طبعة أشرف على نشرها، إسلام ابراهيم وعنوانها "الأعمال الكاملة: مظفر النواب" (دار فاروس)، وسأكتشف أنها لا تضم الأعمال الكاملة، فثمة قصائد عديدة لم تدرج فيها، أبرزها قصيدة "المسلخ الدولي" التي مطلعها:
تعلل فالهوى علل وصادف أنه ثمل.
ولم يكتب إسلام ابراهيم للطبعة التي أشرف عليها مقدمة تستحق أن يشتري المرء لأجلها الكتاب. ربما امتازت عن غيرها في أن مصدرها شكّل القصائد، فأراح القارئ قليلاً. وسيرى المرء أن إسلام أصدر مختارات لا أعمالاً كاملة. وثمة ملاحظات كثيرة يمكن أن تدون على مختاراته.
آخر ما اطلعت عليه من إصدارات الطبعة التي أصدرها الدكتور زياد أبو لبن عن دار اليازوري في عمان (2012)، وتضم مختارات من أشعار الشاعر، وأقر أبو لبن بأنها مختارات، وهو بذلك لم يخدع القارئ، والطريف أنه لم يكتب لمختاراته مقدمة تستحق أن يشتري المرء المختارات لأجلها، فما كتبه لا يتعدّى الثلاث صفحات، مثله مثل إسلام ابراهيم. ومطالع هذه المختارات ومختارات أوس ومختارات إسلام يتساءل عن السبب الذي حدا بهم إلى إصدار ما أصدروا، وما الذي أضافوه إلى الطبعات السابقة، وبم اختلفوا عنها في طبعتهم/ مختاراتهم؟ وهل لاحظوا أن الطبعات السابقة مثلاً تحفل بأخطاء تجاوزوها في طبعتهم؟
لم أشترِ طبعة د. زياد أبو لبن الذي لا أعرف عنه الكثير، تماماً كما أنني لا أعرف أي شيء عن أوس داوود يعقوب وعن إسلام ابراهيم. لقد حصلت على مختارات أبو لبن من مكتبة جامعة النجاح الوطنية التي أقامت معرضاً للكتاب عرضت فيه أحدث ما اقتنته من كتب، ودفعني الفضول والرغبة في مقارنة طبعات أشعار الشاعر ببعضها إلى الاطلاع على مختارات أبو لبن، فقد أعود وأدرّس الموضوع، لطلبة الماجستير، ثانية، فما وجدت؟
للحقيقة أذكر أنني لم أقرأ المختارات من ألفها إلى يائها.
وأنا ألقي نظرة على الفهرس لاحظت أخطاء طباعية وأخرى نحوية (وتريات ليلة) لا (ليلية)، وثلاثة أمنيات، لا ثلاث أمنيات، ومن الدفتر الخصوص، لا الخصوصي.. إلخ، وأخذت أقرأ قصيدة "باللون الرمادي" المقابلة لصفحة الفهرس، فلاحظت خطأً في العنوان، إذ حذف زياد حرف الجر وغدا العنوان "اللون الرمادي"، ولاحظت أربعة أخطاء في متن القصيدة التي لا يزيد عدد أبياتها على عشرين، فعبارة "سكران مغمضة عيني" تغدو "سكران مضغمة عيني" و"يا لا نحدار" تغدو "بالانحدار" وشطر "وأين كان غريب غير ذي قرح" وتغدو "ذي فرح" وعبارة "أصابح الليل مصلوباً" تغدو "مطلوباً" وقول مظفر "تهر خلفي كلاب الليل" تغدو "كلاب الحي".
هل واصلت تصفُّح الأعمال؟
ثمة قصيدة لمظفر عنوانها "رباعيات" لم تظهر في مختارات د. زياد على أنها رباعيات، وعدا هذا فهي لا تخلو من أخطاء قاتلة، إذ تبدو نتيجة لهذا، أحياناً، بلا معنى، فبيت مظفر:
يا ابن جيبين حراما، إنني أسكر كي أحتمل الدنيا التي فيها أراك يرد على النحو التالي:
يا ابن جيبين، حرام إنني أسكر كي أحتمل الدنيا التي فيها أراك، وثمة أخطاء أخرى واضحة في البيت الأخير.
فيما اطلعت عليه من طبعات أعمال كاملة للشاعر، ومن مختارات لاحظتُ أن أصحابها اغتالوا الشاعر شعرياً، والسؤال هو: لماذا لا يشرف مظفر النواب نفسُه على إصدار طبعة يعتمدها القرّاء؟
مظفر النواب .. طبعة جديدة وسبعون (شيكلاً)
فيما أعرف، صدرت أعمال مظفر النواب “الأعمال الشعرية الكاملة”، في ثلاث طبعات، أولاها الصادرة في العام 1996 عن دار نشر هي دار قنبر في لندن، وهي دار نشر وهمية، كما عرفت فيما بعد من خلال قراءة مقابلات أجريت مع الشاعر الذي لم يكن على دراية بأمر نشر أعماله كاملة. وثانيتها وثالثتها صادرتان عن طبعة دار قنبر، مع إضافات قليلة. طبعة صدرت في مصر، وأخرى في ليبيا. اختلف شكل الحرف، واختلف حجم الطبعة، ولم تختلف القصائد في ترتيبها، ولم يحقق أي من الناشرين الديوان.
مؤخراً، صدرت في الشام (2010) طبعة عن دار صفحات للدراسات والنشر، على غلافها اسم الشاعر، وأسفل الاسم صورة لمظفر، وأسفل الصورة العنوان: شاعر الثورات والشجن “قصائد تنشر لأول مرة”، وقد أشرف عليها أوس داوود يعقوب، وصدّرها بكتابة تقع في خمس وعشرين صفحة من الحجم الكبير (ص9 – ص23).
سأقف مطولاً أمام الطبعة الجديدة: أأشتريها أم لا أشتريها؟ لدي طبعة دار قنبر، وطبعة مصر، وما صدر له في الأرض المحتلة في العام 1977 وما بعد: وتريات ليلية، سفينة الحزن، أربع قصائد، عرس الانتفاضة. وعن منشورات الأرض المحتلة وطبعة دار قنبر التي صورت في الأرض المحتلة أصدرتُ كتاباً أعيدت طباعته في القاهرة، عن دار مدبولي، وأنجزت ثلاث دراسات: “مظفر النواب: طبعة الأعمال الكاملة” و”الاتصال والانفصال” في قصيدة” تعلل فالهوى علل” / المسلخ الدولي، والحذف والتغيير في أشعار سعدي يوسف ومظفر النواب، وقد أتبعت هذه كلها بمقالة عن تغييب مظفر النواب في دراسات النقد الأدبي في العالم العربي. هل أنا بحاجة لدفع سبعين (شيكلاً) للطبعة الجديدة؟
أنا أصغي لمظفر النواب وأقرأ قصائده مطبوعة، وأقارن بين الصيغ المختلفة لها، وقد درّست هذا، ذات نهار، في الجامعة في موضوع خاص في الأدب العربي الحديث. إنني أقرأ النصوص قراءة وفق المنهج التكويني، وهو منهج فرنسي يذكّرنا، أيضاً، بجهود المحققين العرب الذين قابلوا بين الصياغات المتعددة للنص الواحد.
هل كان مظفر قرأ كتابي عنه، وكتب المقطع التالي لي: ؟!
“يا قارئ كلماتي بالعرض
وقارئ كلماتي بالطول
لا تبحث عن شيء عندي يدعى المعقول
إني معترف بجنون كلامي
بالجملة والتفصيل
ولهذا لا تتعب عقلك أبداً
بالجرح وبالتعديل
وبنقد المتن وبالتأويل”؟
إنني الناقد الوحيد، فيما أعلم وأعرف، الذي درس قصائد مظفر متعباً عقله بالجرح وبالتعديل.
أحياناً يخيّل إلي أنني أتسلل إلى عقل الشاعر الذي أنقده، ما يجعلني حاضراً في ذهنه حين يكتب، وقد يكتب قصيدة يوجهها لي، وأظن أن الشاعر محمود درويش حين كتب قصيدته “إلى ناقد”، التي ظهرت في ديوانه “حالة حصار”، كان يكتبها لي أنا شخصياً، فقد طلب مني ألاّ أفسر كلامه بملعقة شاي.
نعم، سأقف مطولاً أمام الطبعة الجديدة لأشعار مظفر: أأشتريها أم لا أشتريها، وعندي طبعتان كاملتان له؟ وسأجد نفسي آخذ النسخة وأقول لصاحب المكتبة: سأنظر فيها، فقد أرى فيها شيئاً جديداً.
سأقرأ مقدمة الطبعة، وسألحظ أنها كلها مأخوذة من الكتب التي أنجزت عن مظفر: باقر ياسين، عبد القادر الحصيني وهاني الخير، وعادل الأسطة ــ أي أنا ــ وكتب أخرى.
وسألحظ أن ما لا يقل عن خمس صفحات من المقدمة مأخوذة من دراساتي عن مظفر، وتحديداً تلك التي حللت فيها قصيدة مظفر عن الشهيد أبي جهاد: خليل الوزير.
لا أستطيع الزعم أن أوس داوود يعقوب سرق دراستي، فقد أشار إلى كتابي وأشاد به، واعتبر ما كتبته عن مظفر هو الأفضل، وعرّف بي، وأورد نبذة عني. هذا كلام قد يفرح، فها هي دراساتي تنتشر في الشام ويشاد بها ويفضلها الدارسون على غيرها من دراسات دارسي العالم العربي. نعم، هذا كلام قد يفرح، ولكنني حقاً لم أفرح كثيراً، علماً أنني نقدت صاحب المكتبة سبعين شيكلاً ثمن النسخة الوحيدة التي بحوزته. لماذا؟ لأسباب عديدة، فالدارس أوس لم يكن يلتفت إلى علامات التنصيص حتى يميّز كلامه من كلام الدارسين، وثمة كلام لهؤلاء أورده وكأنه كلامه هو. كأنه ليس دارساً أكاديمياً أبداً! كأنه لا يتقن أسس البحث العلمي، فلا هو ينصص ولا هو يوثق ولا هو يميز بين ما للدارسين وما له. إن كثيراً مما اقتبسه من دراساتي نسبه إلى كتابي، علماً أنه اقتبسه من دراسات أخرى لي لم ترد في الكتاب. هذا سبب، وهناك أسباب أخرى لعدم الفرح.
كتب أوس على غلاف الطبعة التي أشرف عليها: “قصائد تُنشَر لأول مرة”. والعبارة توحي للقارئ أن ما في الديوان/ المختارات جديد كله، ولن يعثر القارئ إلا على قصائد قليلة جداً جديدة، بالإضافة إلى ديوان “للريل وحمد”، وهو قصائد بالعامية العراقية كانت نشرت في فترة مبكرة جداً. ولا تضم مختارات أوس سوى أربع قصائد فصيحة جديدة، وهناك غيرها كثير لم يظهر في الطبعات السابقة لطبعة أوس، وكان يمكن أن يضيفها، مثل قصائد “لحظة في حمام امرأة أموية ساخنة” و”رقم هاتف قديم” و”عجب.. عجب” و”هدية للإمام الحسين عليه السلام” و”بداية الصيف في غرفة بغي عجوز” و.. و... و...
ولم يرتب أوس قصائد الديوان الذي أشرف عليه كما رتبه المشرفون على الطبعات السابقة، فقدم وأخر دون أن يبدي سبباً لهذا، بل إنه حين نشر وتريات ليلية نشرها كما لو أنها أربع قصائد، لا قصيدة من حركتين، عدا أنها، في طبعته، تداخلت مع قصائد أخرى، لأنه فرغها عن أشرطة استمع إليها. فهو، مثلاً، يذكر في هامش ص43: “حذف الشاعر مظفر النواب فقرات كاملة من هذه القصيدة عندما ألقاها في معرض كتاب أبو ظبي (نيسان 2005)، وقد آثرنا نشر القصيدة كما قرأها النواب”، ولم يلتفت إلى أن الشاعر يقرأ مختارات من مطولاته، ما أوقعه ــ أي الجامع ــ في أخطاء شنيعة.
وبدلاً من أن تكون الطبعة الجديدة لأشعار مظفر طبعة تيسر على الدارسين، زادت الأمر تعقيداً، ولا أدري إن كان أوس اطلع على دراستي: “مظفر النواب: إشكالات الأعمال الشعرية الكاملة”، وهي منشورة في مواقع كثيرة، وكانت نشرت في مجلة “الشعراء” (رام الله، عدد 17 (2002) ص 290-296)، وهي دراسة أزعم أنها الأهم لمن يريد أن يصدر أعمال مظفر النواب، ففيها ملاحظات تفيد قرّاء شعر مظفر إفادة كبرى، ويوم نشرتها كنت أظن أن مظفر هو الذي أشرف على طباعة أعماله الصادرة عن دار قنبر (لندن 1996)، ولم أكن أعرف أنه لم يكن على علم بالأمر.
القصائد التي أضافها أوس للطبعات السابقة، عدا نشر الشعر الشعبي لمظفر “للريل وحمد”، هي: فعل مبني للمجهول، وكانت نشرت تحت عنوان “كفرت بإسرائيل”، وافضحهم، وقمم، و”أنت الحال الذي لا يباع: إلى محمد الدرة”، وقد لا تكون هناك قصائد أخرى غيرها.
هل طبعة أعمال مظفر الجديدة طبعة يشاد بها؟ هل تثري دارس أشعار الشاعر، وهل تيسر له الأمر؟ وهل هي جديرة بأن يدفع المرء ثمنها سبعين (شيكلاً)؟ أسئلة أعتقد أنني قدمت إجابات لها في الأسطر السابقة، لكن السؤال الأهم هو: لماذا لا يشرف مظفر نفسه على إصدار أعماله، كما كان يفعل محمود درويش؟ ترى هل تكمن إجابته في مقطعه الذي أوردته:
“يا قارئ كلماتي بالعرض
وقارئ كلماتي بالطول
لا تبحث عن شيء عندي يدعى المعقول”؟؟
الأمر متروك لمظفر على أية حال، ولكن على المهتمين به أن يراعوا أحوال القرّاء وأن يقدموا لهم شيئاً جديداً يستحق ما يدفع من ثمن مقابله!!.
هامش: محمود درويش ومظفر النواب، ومثلهما أمل دنقل، شعراء أحب أشعارهم، وقد أنجزت أفضل دراساتي ومقالاتي عن درويش والنواب، كانت تروق لهما كتاباتي، وأحياناً لا تروق. ألست المخاطب في قول درويش: “[إلى ناقد:] لا تفسر كلامي / بملعقة الشاي أو بفخاخ الطيور!/ يحاصرني في عتابي كلامي،/ كلامي الذي لم أقله،/ ويكتبني ثم يتركني باحثاً/ عن بقايا منامي.
قد يغيب عن ذهن الشاعرين، وقد لا يغيب، مقولات نظرية التلقي، قد، قد.
https://www.facebook.com/adel.osta.9/posts/997879260280912
و تثير المقالة بعض التساؤلات حول سر هذا التغييب . و هي لا تطمح إلى أكثر من ذلك ، والى لفت أنظار الدارسين إلى ما يشوب دراساتهم من اغفالٍ ، بوعيٍ أو دون وعي ، بحسن نيةٍ أو سوء نية ، لأمر يدركونه أو لأسباب خارجة عن إرادتهم.
كان مظفر النواب وما زال ، يشكلُ ظاهرة شعرية فريدةً في الشعر العربي المعاصر ، ولا أظنُ أنَّ هناكَ شاعراً آخرَ ، في تاريخ الشعر العربي كله منذ امرئ القيس حتى محمود درويش يشبه صوته ؛ صوت مظفر في فرادته واختلافه ، وان تشابه صوته أحيانا و أصوات شعراء المعارضة والاحتجاج مثل ابن مفرغ الحميري وأبي الطيب المتنبي وبشار بن برد . يتشابه صوته الشعري وأصوات هؤلاء ولكنه يختلف عنهم في أنه ؛ في هجائه ؛ بلغ مدى لم يبلغه أي منهم في حدود ما اعرف ، ويختلف عن بعض هؤلاء ، في أنهُ – حتى الآن – لم يمدح حاكما من الحكام . ولئن كان مظفر يستعيرُ من المتنبي مفرداته القاسية لهجاء الحكام ليهجوَ بها الحكام المعاصرين ، فإنه ينميها ويزيد عليها ، وفي الوقت نفسه لا يمدح هؤلاء إن وعدوه ببعض العطايا.
والذي لا شك فيه هو أن مظفرا ليس شاعر هجاء وحسب ، فأشعاره لا تخلو من قصائد يتغزل فيها بالخمر ، وأخرى يعبر فيها عن حبه لهذه المدينة أو تلك . وهو فوق هذا ذو خيال شعري يضاهي خيالَ كبارِ شعراءِ العربيةِ المعاصرينَ ، إذ غالبا ما يلجأُ إلى التعبير من خلال الصورة ، أو من خلال استعارةِ رموزٍ تاريخيةٍ لها في الواقع المعاصرِ ما يشبهها تجربة أو سلوكا ، وهو في هذا يبتعدُ عن المباشرة في القول ، ويُغني نصه الشعري ليصبحَ من النصوصِ الممتلئةِ التي يقفُ أمامها المرءُ طويلا ؛ ويقول فيها الشيء الكثير . و إذا ما التفتنا إلى لغته وجدنا أنفسنا أمام لغة شاعر قرأ تراثه و تأثرَ بِه وكتب بلغة على قدرٍ من الفصاحةِ حتى ليَجِد فيها القارئُ – غير المطلعِ جيدا على التراث ؛ لغة لا تخلو من صعوبة.
وعلى الرغم من أن مظفرا واحدٌ من أكبر شعراء العرب المعاصرين إلا أنه أكثر شاعر مغيّب في الدراسات التي تناولت الشعرَ العربي المعاصر ، تماما كما أنه مغيّبٌ عن المختاراتِ الشعرية العربيةِ المعاصرةِ ، ويُلاحظ الشيءُ نفسه أيضا مع كتب السير والسير الذاتية ، حيثُ لم يرد – في أكثر هذه – نبذةٌ عن حياته تُعَرفُ به.
ويتساءلُ المرءُ عن سرِ هذا التّغَييب ، أيعود مثلا إلى قسوة الشاعرِ في نصوصه على الأنظمة العربية و هجائها هجاء مرا دفعها إلى تغييب نصوصه في بلدانها ؟ ونحنُ نعرفُ أن أشعار الشاعر مطبوعةً غير متوفرة في كثير من البلدان العربية ، وقد صدرت في بيروت والأرض المحتلة وليبيا وباريس ولندن . وما من شك في أن الأسباب المفترضة الأخرى متعلقة في السبب المذكور . فالأكاديميون والمثقفون الذين يوجدون في هذا البلد العربي أو ذاك ، لا يجرؤون عن الكتابة عن شاعر هجا الحاكم ، فكتابتهم قد تكلفهم أشياءَ كثيرة ؛ أقلها المساءلة عن السبب الذي حدا بهم إلى اختيار هذا الشاعر للكتابة عنه .
إن نظرةً على المجلات العراقية الصادرة – منذ بزغَ نجمُ هذا الشاعر ، تُري كم هو مُغَيَّبٌ عنها ؛ ولكن المرء لا يفاجأ ، فالنواب شاعر معارضة ، وكان ينتمي إلى الحزب الشيوعي الذي كان على خلاف مع حزب البعث ، ولم يكن – أي النواب – يتوانى لحظةً واحدة في هجاء الخصوم ، وحزب البعث تحديدا ، وهناك مقاطع عديدة في شعره يبدو فيها هجومه العنيف على الحزب المذكور الذي قال بالوحدة وأضاف القطرية ذيلا قبليا ، بل إنه ذكر بعض القادة تصريحا ، ومن لم يصرح باسمه لمح إليه بمفردات تغني عن التصريح . و لكن المرء يفاجأ حين يلقي نظرة على مجلة " فصول المصرية " ، وبالتحديد على أعدادها التي تناولت الشعر العربي المعاصر ، أو تلك التي خصصتها للرموز الشعرية العربية مثل : شوقي وحافظ وصلاح عبد الصبور ، ف " فصول " لم تدرج أيه دراسة تختص بالنواب ، والسؤال الذي يثيره الدارس هوَ : أيعودُ السبب إلى الدارسين أنفسهم أم إلى هيئة تحرير المجلة ؟ وهل امتنعت الأخيرة عن نشر دراسات وصلت إليها أم أن أي دارس لم يخص النواب منذ عام 1980 بأية دراسة ؟ أو أن الدارسين تبنوا رأي الشاعر مريد البرغوثي الذي قاله مؤخرا في نابلس ، وهو رأي يرى في النواب " شاعرا عابرا أو شاعر مرحلة و شاعر موضة"؟
سوف أشير إلى بعض الدراسات التي تناولت حركة الشعر العربي المعاصر ، وأتوقف أمام بعض جوانبها وأشير إلى قصائد مظفر النواب ، لأوضحَ أن ما صدر عنه لا يقل قيمة عما صدر عن غيره ، وأن إهماله لم يكن لقزامة مكانته الشعرية ، وسوف أشير أيضا إلى بعض المختارات الشعرية وبعض المعاجم الأدبية أو الشعرية لأوضح الغبنَ الذي لحق بالشاعر.
أولا : دراسات لم يؤتَ فيها على ذكر النواب:
الدراسة الأولى التي أرغب في الإتيان عليها هي دراسة الدكتور احسان عباس " اتجاهات الشعر العربي المعاصر " ( 1977 ط 1 – 1992 ط 2 – 2001 ط 3). والدكتور عباس أحد أبرز دارسي الشعر العربي قديمه وحديثه ، وله باع طويل في التأليف ، وهذا ما لا يخفى على أي دارس . وهوَ ، بالإضافة إلى قراءاته الطويلة ، التقى – بحكم إقامته ؛ سابقا – في بيروت وتدريسه في الجامعة الأمريكية فيها ، بالعديد من الشعراء ، ولا أظن أنه فوّت على نفسه الذهاب إلى أمسيات الشعراء ، حين كان هؤلاء يزورون بيروت ليلقوا قصائدهم فيها.
وقد تشكل كتاب الدكتور عباس من : تمهيد و ثمانية فصول وملحق ، ألقى في الأول نظرة تاريخية موجزة ، وعالج في الثاني دلالة البواكير الأولى وتحدث في الثالث عن العوامل التي تحدد الاتجاهات الشعرية وعالج في بقية الفصول موقف الشعراء من الزمن والمدينة و التراث و الحب والمجتمع ، و ضم الملحق قصائد لنازك الملائكة والسياب و البياتي و القاسم وخليل حاوي و ادونيس ، و أشار في ملحقه إلى أنه ليس مختارات من الشعر المعاصر ، وإنما يضم بعض القصائد التي وقف عندها ، حتى يستطيعَ القارئ ، أن يربط بينها وبين ما قاله عنها في متن الكتاب.
وقد خلت الدراسة من تناول النواب أو التمثيل بشعره . فهل اكتفى عباس بثلاثة شعراء عراقيين هم البياتي والسياب والملائكة ؟ إن قراءة الكتاب تشير إلى انه أتى على غيرهم مثل حميد سعيد ، والسؤال الذي يثار هنا هوَ : لماذا لم يأت د . عباس على شعر مظفر النواب ؟ أيعودُ ذلك إلى أنه لا يرى فيه شاعرا كبيرا ؟ أم انه رأى في الإتيان على شعر النواب مجازفة خطرة ، قد تسبب له – وهو الأكاديمي الذي لا يرى في ذاته عقائديا يلتزم بأيديولوجية ما تحتم عليه اتخاذ موقف حاد يترتب عليه إشكالات ما – تسبب له إشكالات عديدة؟
طبعا علينا أن لا نغفل اللحظة الزمنية التي أنجز فيها عباس دراسته – أي عام 1977 – ولم يكن تاريخ النواب الشعري مساويا لتاريخ أولئك الذين درسهم ، فقد بدأ الثلاثة المذكورون كتابتهم الشعر ، قبل أن يصبح النواب شاعرا ، بعشرين عاما . ربما يكون هذا سببا ، ولكن علينا في المقابل ألا ننسى أن النواب لفت الأنظار إليه منذ كتب قصيدته الأولى عام 1969 ، وأنه أصبح في أوائل السبعينات الشاعر الأخطر في حركة الشعر العربي ، وقد صدرت له في هذه الأثناء مجموعة ” وتريات ليلية ” ، وكانت بيروت هي الحاضنة لها ، فهل غابت عن الدكتور عباس؟!
وما ليس الشك فيه أن الموضوعات التي أتى عليها المؤلف كانت ذات حضور في أشعار النواب ، وإتيان هذا على القدس وتصويرها على أنها عروس مغتصبة اشتهر أكثر من اشتهار المقطع الذي استشهد به د . عباس لحميد سعيد . وهنا نأتي على التساؤل الثاني : لعل المؤلف رأى في مقطع النواب مقطعا خطيرا والاستشهاد به يشكل مجازفة خطرة قد تمنع الكتاب الذي صدر في الكويت من رؤية النور ومن دخول أكثر البلدان العربية ، وقد يترتب على هذا اشكالات تمس الدكتور عباس نفسه ، فيمنع بدوره من دخول بعض الأقطار العربية . و أرى أيضا أن موقف النواب من المدينة ومن التراث برز في أشعاره ، حتى عام 1977 ، بروزا لافتا للنظر ، بروزا يضاهي بروز الموضوعين في أشعار الشعراء الذين استشهد المؤلف بقصائدهم ، إن لم يفق النواب الآخرين ، في هذا الجانب . و ” قراءة في دفتر المطر ” ( 1969 ) ، و “ وتريات ليلية ” ( 1973 ) يعدان مثالا جيدا.
الدراسة الثانية التي تجدر إليها دراسة د . علي عشري زايد ” استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر ” – ( 1977 ط1 – 1997 ط 2 ) و تُظهر لنا نظرة على فهرس الشعراء والقصائد المعاينة ( ص 296 – ص 307 ) غياب اسم النواب نهائيا ، فلم تعاين قصائده التي نشرت في الصحف والمجلات . ولعل الدكتور زايد ، حين يقرأ النواب يدرك أنه تجاوز شاعرا كان له في توظيف التراث باع طويل ، وكان له منه – أي التراث – موقف يستوقف الدارس . و لا نريد أن نظلم الدارس فقد اعتمد في دراسته على نصوص صدر أكثرها قبل عام 1972 ، ولم يكن اسم النواب في حينه ، شائعا . غير أن ما يلفت النظر هو أن الدارس في طبعته الثانية ( 1997 ) لم يجر أي تغيير ، وبالتالي فلم يذكر النواب إطلاقا . و هنا يمكن الإشارة إلى دراسة د.خالد الكركي في هذا المجال ، لقد أتى في كتابه ” الرموز التراثية في الشعر العربي الحديث ” ( 1989 ) على ذكر مظفر ، ولكنه لم يوضح إن كان توظيف النواب للتراث توظيفا جزئيا أو كليا ، لقد كتب الكركي عن النواب في أثناء الكتابة عن استحضار الرموز التراثية الثائرة ” الأفراد الثوار ” ، ومع أن المؤلف اعتمد على ديوانين للشاعر هما ” وتريات ليلية ” و ” أربع قصائد ” ، وهما مجموعتان تحفلان بالرموز التراثية إلا أنه لم يورد الكثير عن هذا الجانب في أشعار النواب . و يتساءل المرء هنا عن السبب : أيعودُ إلى طبيعة دراسة المؤلف التي تأتي على هذه الظاهرة ظاهرة توظيف الرموز التراثية ، بشكل عام ، وأنه لم يدرس نصا واحدا دراسة تحليلية مفصلة ؟ أم يعود السبب إلى أن الكركي أراد أن يقدم لنا دليلا على جرأته التي لم تبلغ مداها ؟ أم أنه أراد أن يقول – بطريقة غير مباشرة – إن ثمة حرية في الأردن ، و ها أنا أتناول شاعرا هجا النظام في شخص رأسه الأول؟
في كتابه ” جدل الحداثة في الشعر ” ( 1985 ) يتناول المؤلف وفيق خنسة النواب لينتقص منه . لقد صدّر هذا الشاعر السوري كتابه بمقولات لماركس ولينين و الشيوعي اللبناني محمد دكروب ، وتناول مفهوم الحداثة و درس شعراء عديدين منهم أحمد عبد المعطي حجازي و عبد العزيز المقالح و محمد الفيتوري وأدونيس . ومن المؤكد أن المرء لا يفاجأ بأحكام الشاعر ، فما دام مؤيدا لأحزاب شيوعية عربية ، وما دام معجبا بأدونيس إعجابا كبيرا عبر عنه بالعبارات التالية:
” أن تقرأ أدونيس يعني أن تتهيأ لأنك مدعو لطقس جديد … أنت مطالب بكل الحضور وكل التذوق وكل الإقبال في احتفال بهي للقصيدة .. أنت لا تستطيع أن تقرأ أدونيس وأنت تدير ظهرك للكيمياء ، لأن الجمالية لدى ادونيس تتأسس على انفتاح اللغة الشعرية ، على خلع أبواب القابلية .. ” ( 125 ) .
فإن المرء لا يفاجأ وهو يقرأ التالي عن النواب:
” إن وتريات ليلية نهاية منهج شعري وقمته بآن واحد ، ولكن هذا الاتجاه خرب جمالية القصيدة ، وهدر الكثير من موهبة الشاعر دون مقابل ” ( ص 43).
ويعقب على مقطع النواب:
” يا حكاما مهزومين
ويا جمهورا مهزوما ..
ما أوسخنا ..
لا أستثني أحدا “
قائلا :
” بوضوح هذا الكلام ليس شعرا ، إنه شتائم رخيصة وسوقية ” ( ص 42 ) ، ويتساءل المؤلف قائلا:
” ترى هل صحيح أننا وسخون ، أبناء الأعداء ، بدءا بالثورة الفلسطينية ، وانتهاء بالثوار الذين يسقطون شهداءً بالعشرات كل يوم في الوطن العربي ؟”( ص 42 ).
وعلى الرغم من أن النواب كتب الوتريات ما بين ( 72 – 1975 ) ، وعلى الرغم من انه كتب بعدها قصائد يمجد فيها الفدائي ، مثل قصيدة " تل الزعتر " التي يخاطب فيها الحكام:
” أتحدى أن يرفع أحد منكم عينيه أمام حذاء فدائي يا قردة..“
إلا أن الخنسة لم يشر إلى هذا التغير في موقف النواب . إن بحث المؤلف عن جمالية القصيدة وحداثتها جعله يثمن دور ادونيس هذا التثمين ، وحتى لا يشتم بأنه رجعي صدّر كتابه بعبارة لينين:
” حتى نستطيع تقريب الفن من الشعب ، و تقريب الشعب من الفن ، ينبغي علينا ، في البداية ، رفع المستوى التعليمي والثقافي العام ” ( ص 7 ) . ونزول النواب إلى مستوى الجماهير وكتابته شعرا ينتقل فيه الشاعر مباشرة إلى : نثرية هي أقل جمالا من الصياغة الصحفية اليومية ” هو ما جعل منه في نظر المؤلف ، نهاية مرحلة شعرية في آن ، ولم يتساءل الدارس لماذا تمنع الأنظمة العربية أشعار مظفر ولا تمنع أشعار أدونيس التي ترحب بها ؟ ولا أريد أن أقدم على هذا السؤال ، السؤال التالي : لماذا تصغي الجماهير إلى مظفر ولا تقرأ أشعار ادونيس ؟ ولا شك أن الخنسة سيجيب : اقرأ مقولة ” لينين ” التي صُدِّر بها الكتاب .
دراسة أخرى أرغب في الإتيان عليها هي دراسة الدكتور خالد الكركي ” حماسة الشهداء : رؤية الشهادة والشهيد في الشعر العربي الحديث دراسة ومختارات ” ( 1998 ) .
يُعد هذا الكتاب أطول دراسة درست موضوع الشهادة والشهيد في الشعر العربي الحديث ، وهو أيضا أحدثها ؛ أحدث الدراسات . وليس هناك تاريخ يوضح متى بدأ الدارس في انجاز دراسته التي قدم لها د . إحسان عباس في كانون الثاني 1998 ، أي أنها كانت أُنجزت في عام 1997 ، وقبل هذا العام بعام ، صدرت من لندن ، الأعمال الكاملة لمظفر النواب ، وقد خلت قائمة مراجع الكتاب من الإشارة إليها ، وهذا يعني أن المؤلف لم يطلع عليها ، وان كان أتى بإيجاز على موضوع الشهيد في أشعار مظفر ، معتمدا على بعض القصائد التي وردت كتاب باقر ياسين ” مظفر النواب : حياته وشعره ” ( 1988 ) . وفي العودة إلى كتاب د.الكركي ” الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث ” ( 1989 ) , نلحظ أنه يمتلك ” وتريات ليلية ” و”أربع قصائد ” ، وهما مجموعتان تخلوان عموما من قصائد رثى فيها الشاعر الشهداء . وعليه فإن المرء للوهلة الأولى ، يتجاوز إهمال المؤلف لدراسة قصائد النواب التي خصصت للشهداء . وحين يمعن المرء النظر في كتاب باقر ياسين ، ويقرأ الملحق الخاص الذي أفرده المؤلف لبعض قصائد النواب ، يستغرب المرء لماذا لم يورد الدارس إحدى هاتين في الملحق الذي اتبع فيه دراسته ، ولماذا لم يقف أمامهما ، أبضا ، وقفة متأنية ؟ وما أراه هو أن صورة الشهيد في أشعار مظفر النواب تحتاج – بعد إلى إصدار أعماله الكاملة – إلى دراسة . فأعماله تضم العديد من القصائد التي رثى فيها الشهداء ، وتقدم صورة تبدو – إلى حد ما -مختلفة ، وربما تبدو على قدر من المبالغة التي ينفر منها بعض المسلمين .
يختار الدكتور صلاح فضل في كتابه ” أساليب الشعرية المعاصرة ” ، يختار شعراء مشهورين ليدرس بعض قصائدهم ، يختار أدونيس ونزار قباني و محمود درويش وسعدي يوسف والسياب و الماغوط وعفيفي مطر والبياتي وصلاح عبد الصبور . وتمثيل شعراء العراق كما هو واضح ، تمثيل جيد ، ويقر المؤلف بأن رضا الشعراء غاية لا يمكن أن تنال ، وكان اختياره للشعراء عائدا إلى ما يمتاز به كل واحد من المدروسين ، فلكل منهم نهج ما يجمع ما بين التعبير والتجريد .
وإذا أتينا على دراسات بعض الدارسين العراقيين ، ألفينا بعضهم لا يشير إليه ، في حين يقر آخرون بشاعريته وتميزه .
يخلو كتاب حاتم الصكر ” كتابة الذات : دراسات في وقائعية الشعر ” ( 1994) من أية إشارة للنواب . وربما يعود السبب في ذلك إلى أن الصكر الذي نشر كتابه في الأردن ما يزال يقيم في بغداد ، وبالتالي فإن موقعه يؤثر على موقفه . والنواب ، كما تعرف ، شخص غير مرغوب فيه في العراق . حقا إن الصكر كتب عن البياتي ، وهذا أيضا لم يُقِم ، منذ فترة طويلة في العراق ، إلا أننا نعرف ، من خلال قراءة شعر النواب والبياتي ، أن ثمة فارقا بينهما في نغمة الخطاب ومباشرة القصائد وابتعادها عن المباشرة . ويرى د . علي جعفر العلاق في كتابه“ الشعر والتلقي ” ( 1997
أن النواب “ يُعتبر بنبرته الحارة ولغته الواخزة ، واحدا من الأصوات الشعرية المتميزة في الشعر العراقي الحديث ” ( ص 28 ) . ولكنه يرى أن مجد النواب الحقيقي ” يكمن ، ربما ، في أرض أخرى : القصيدة العامية ” (ص 28 ) . ولا يفرد العلاق صفحات يدرس فيها أشعار النواب ويوضح ما ذهب إليه . إنه يكتفي بالإشارة إليه في فقرة لا تتجاوز عشرة أسطر .
وكما أشرت في التمهيد ، فإن هذه المقالة لا تدعي الإحاطة والشمول . إنها ليست أكثر من مدخل لظاهرة تعامل الدارسين مع شاعر شكل علامة بارزة من علامات الشعر العربي في الثلاثين سنة الأخيرة . وبقي أن أشير هنا إلى كتابين صدرا عن النواب من دمشق وهما : كتاب باقر ياسين ” مظفر النواب حياته وشعره ” ( 1988) ، وكتاب عبد القادر الحسيني وهاني الخير ” مظفر النواب شاعر المعارضة السياسية ” ( 1996 ) .
ثانيا التغييب عن المختارات وكتب التراجم .
في كتاب ” أعلام الأدب العربي المعاصر : سير وسير ذاتية ” (1996) ، وهو كتاب أعده الأب روبرت .ب . كامبل اليسوعي سيّر ل 380 أديبا عربيا معاصرا ، ليس النواب واحدا منهم ، وربما يكمن سبب استبعاده في أنه نشر أشعاره في كراسات و نشرات متفرقة ، فلم تكن أعماله الكاملة ، في أثناء إعداد الكتاب الضخم ، قد صدرت . ولعل الإشارة التي صدر بها المشرف على الكتاب كتابه تعفينا من محاكمته واتهامه بالتحيز ” فلم نلتفت عند الاختيار إلا لما ظهر في كتاب مطبوع ، دون المقالات المنفردة أو المراجعات أو الكراسات التي نشرت متفرقة ، إلا إذا أعيد طبعها مجموعة في كتاب ” ( ص 8 و 9 ) .
ولا أرى د.ميشال خليل جحا – فيما ذهب إليه في كتابه ” الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش ” ( 1999 ) – محقا حين كتب واقفا أمام كتاب كامبل اليسوعي :
” فكيف يسمح شخص ( أجنبي ) لنفسه بأن يتناول الأدباء والشعراء العرب المعاصرين ، في كل البلدان العربية ؟! فهل باستطاعته أن يطلع على جميع هؤلاء في دنيا العرب ؟! وهل يستطيع شخص فرد ، مهما أوتي من خبرة ومعرفة واطلاع ، أن يدعي معرفة كل الأدباء والشعراء في اليمن أو السودان أو موريتانيا مثلا … ؟! “(ص 7 ) .
ولعل اغفال الأب روبرت كامبل أسماء شعراء مثل صلاح لبكي وبشارة الخوري وشفيق المعلوف والشاعر القروي رشيد سليم هو سبب هذه اللهجة الحادة .
ولم يخل كتاب د . جحا من الكتابة عن النواب وحسب , فلم يدرجه ضمن الشعراء الستة والعشرين المختارين ، و إنما قائمة مصادره ومراجعه التي وقعت في خمس عشرة صفحة ( من 493 – 507 ) من أية إشارة للنواب ، وحين يبرر اختياره لشعراء عراقيين يكتب : ” أما العراق ، فإن الشاعر جميل صدقي الزهاوي ( 1863 – 1936 ) ومعروف الرصافي ( 1872 – 1945 ) و أحمد صافي النجفي ( 1895 - 1977 ) كممثل للشعر السياسي والاجتماعي الذي يصور واقع العراق الحديث . أو بلند الحيدري ( 1916 – 1996 ) الذي فضلت عليه عبد الوهاب البياتي .” ( ص 9 ) .
إن الشعراء الذين اختارهم يمثلون في رأيه ” أهم وأبرز شعراء الطبقة الأولى من المعاصرين في العالم العربي والأكثر تمثيلا لطبقتهم ” ( ص 8 ) .
وإذا ما ألقينا نظرة على معجم البابطين الشعري ( 1995 ) لاحظنا أن النواب كان غائبا عنه . ولعل المرء يتساءل عن السبب أيعود إلى المشرفين على المعجم أم يعود إلى النواب نفسه !!
ولا أريد أن أجازف وأتعجل القول ، فلربما يكون النواب نفسه عزف عن المشاركة في المعجم .
لم يغب النواب عن السير الذاتية أو المعاجم الشعرية وحسب ، بل غاب أيضا عن المختارات الشعرية التي أشرف على إنجازها بعض الدارسين العرب ، ومع أنني غير مطلع على المختارات جميعها إلا أنني أعطي مثلا على ذلك . أصدر الأديب التونسي محمد علي اليوسفي كتابا عن الانتفاضة عنوانه ” أبجدية الحجارة ” ( 1990) , ويضم الكتاب العديد من المقالات الأدبية وقصائد لشعراء عرب وعالميين ، ولكنه لم يدرج قصيدة مظفر النواب ” عرس الانتفاضة ” التي صدرت ، ابتداء ، في كراس ثم ظهرت في أعماله الكاملة . حقا إن الناشر كتب في المقدمة أن المختارات تقدم عينات كافية ، وأن جهده ” لا يطمح أساسا إلى حصر كل ما كتب من نصوص ، بمقدار توجهه إلى رصد ظاهرة متأنية من فعل الواقع المحتدم في الشاعر …” ( ص 5 وما بعدها ) . إلا أن الأسماء التي احتفل بها وأدرجت لها نصوص شعرية لم تقدم جميعها نصوصا شعرية متميزة تفوق نص النواب .
بقي أن أشير إلى ن إنصاف النواب دراسة وطباعة أعمال إنما تم في الأرض العربية الخارجة عن سلطة النظام العربي ، باستثناء النظام السوري والليبي ، فقد صدر عنه في سوريا كتابان ( 1988) و ( 1996 ) ، وأذيعت قصائده من ليبيا مرارا ، واحتفل به الفلسطينيون احتفالا يوازي بقضيتهم .
آمل أن تكون هذه المقالة التي لا تدعي الإحاطة والشمول لفتة , ولو بسيطة وعابرة ، للانتباه إلى هذا الشاعر الذي سيشغل شعره الناس ، ذات نهار ، كما شغلهم شعر المتنبي .
المراجع :
1- احسان عباس , اتجاهات الشعر العربي المعاصر , عمان , دار الشروق
2- باقر ياسين , مظفر النواب : حياته وشعره , دمشق , الناشر هو المؤلف , دمشق , 1988
3- حاتم الصكر , كتابة الذات : دراسات في وقائعية الشعر , عمان , دار الشروق , 1994
4- خالد الكركي , الرموز التراثية العربية في الشعر العربي الحديث , بيروت , دار الجيل , 1989 .
5- خالد الكركي , حماسة الشهداء : رؤية الشهادة والشهيد في الشعر العربي الحديث , بيروت, المؤسسة العربية للدراسات والنشر , 1998 .
6- صلاح فضل , أساليب الشعرية المعاصرة , بيروت , دار الأدب , 1995 .
7- عبد القادر الحصيني وهاني الخير , مظفر النواب : شاعر المعارضة السياسية , قراءة في تجربته الشعرية , دمشق , المنارة , 1996
8 – علي جعفر العلاق , الشعر والتلقي , دراسات نقدية , عمان , دار شروق .
9- علي عشري زايد , استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر , الكويت , دار الفكر العربي , 1997 ط 2 , ط1 1977 .
10. محمد علي مقلد , الشعر والصراع الأيديولوجي , بيروت , دار الأدب , 1996 .
11- محمد علي اليوسفي , أبجدية الحجارة , باقة الغربية , منشورات شمس , 1993 ط2 , ط1 1990 .
12 – ميشال خليل جحا , الشعر العربي الحديث من أحمد شوقي إلى محمود درويش , بيروت , دار العودة , 1999 .
13 – وفيق الخنسة , جدل الحداثة في الشعر , بيروت ودمشق , دار الحقائق , 1985 .
فبركة القصائد
2013-04-07 للشاعر نجوان درويش قصيدة عنوانها "فبركة". مرّة أصغيت إليه يقرؤها في احتفالية فلسطين للأدب، الاحتفالية التي تشرف عليها الروائية المصرية أهداف سويف، وثانية قرأتها على صفحات "أيّام الثقافة" في جريدة "الأيام". وأظنّ أنني عقبت عليها ذات نهار، فأشعار نجوان يروق لي قسم منها. القصيدة فيها ميل هادئ لسخرية هادئة مما يجري في عالمنا، وفي عالمنا العربي والفلسطيني. كل شيء فبركة في فبركة. دولة إسرائيل فبركة. المخيمات الفلسطينية فبركة. مجازر صبرا وشاتيلا فبركة.. كل شيء.. كل شيء فبركة في فبركة على الرغم من أنه حقيقة واقعة.
في "أيام الثقافة" (18/12/2012) نشرت مقالة للكاتب صقر أبو فخر عنوانها "عن فبركة القصائد والوثائق والنصوص.. الكلمات يمكنها أن تقتل، أيضاً، أتى فيها على قصائد نسبت للشاعرين محمود درويش ومظفر النواب، وذهب صقر إلى أنه اتصل بالشاعرين يسألهما إن كان بعض ما نسب إليهما من قصائد ركيكة هو حقاً من كتابتهما، فأنكرا.
بعد هزيمة حزيران 1967 شاعت قصيدة مطلعها:
غنّت فيروز مُغرِّدة وقلوب الشعب لها تسمع
الآن، الآن وليس غداً أجراس العودة فلتقرع
ومنها:
من أين العودة فيروز والعودة يلزمها مدفع
والمدفع يلهو مُنْهَمِكَاً في إستِ الشعبِ له مرتع
و.. و.. وتنتهي القصيدة يقول صاحبها:
عفواً فيروز ومعذرة أجراس العودة لن تقرع
وحتى اللحظة لا أعرف شخصياً من هو صاحب القصيدة. عزيت القصيدة لنزار قبّاني، وقيل إن كاتبها هو طالب طب في جامعة دمشق.
القصيدة التي عزيت لمحمود درويش، وما زلت أملك نصّها، مطلعها:
لهفي على القدس الشريف يلوغ بها ......... .
وهي قصيدة تسخر من اتفاقات (أوسلو) ومُوقِّعِيها، ولا أظنّ أنها من نظم محمود درويش إطلاقاً. ويبدو أن الذي عزاها له أراد أن يُروِّجها، علماً بأنها ستُرَوَّج لأسبابٍ عديدة منها أنها ضد (أوسلو)، ومنها أنها قصيدة عمودية، ومنها أنها تسخر من رموز بعضها ليس محبوباً من الناس، ناس الانتفاضة الأولى التي أعقبتها اتفاقات (أوسلو).
والقصيدة التي عزيت لمظفر النواب عنوانها "كفرت بإسرائيل" وقد نشرت، أيضاً، تحت عنوان آخر هو "فعل مبني للمجهول"، وقد أكون شخصياً ذهبت إلى أنها له ـ أي للنوّاب ـ لأنه خاطب فيها القارئ/ الناقد الذي يقارن صيغ قصائده في طبعات أعماله/ النواب المختلفة.
يرد في القصيدة المقطع التالي:
"يا قارئ كلماتي بالعرض
وقارئ كلماتي بالطول
لا تبحث عن شيءٍ عندي
يُدعَى المعقول
إني مُعترفٌ بجنونِ كلامي
بالجملة والتفصيل
ولهذا
لا تتعب عقلك بالجرح وبالتعديل
وبنقد المتنِ .. وبالتأويل
خذها مني تلك الكلمات
وصدقها دون دليل"
ويذكر قراء كتابي "الصوت والصدى: مظفر النواب وحضوره في الأرض المحتلة (1999 نابلس/ القاهرة/ دار مدبولي 2002) أنني درست قصيدة النواب "بحار البحارين" دراسة أفقية/ بالعرض، ودراسة عمودية/ بالطول، وقارنت بين صيغتها في طبعة الأرض المحتلة/ دار العامل، وفي طبعة لندن الصادرة عن دار قنبر في العام 1996، واهتممت بالجرح وبالتعديل.
عندما قرأت مقال الكاتب صخر أبو فخر قلت: إن كان مظفر ليس كاتب القصيدة، فقد ذهبت أنا بعيداً وشططت، أيضاً، حين رأيت نفسي المخاطب في الفقرة الشعرية الواردة أعلاه.
قارئ القصيدة المعزوة إلى محمود درويش "الحكم الذاتي" يكتشف بسهولة أنها ليست من نظم درويش ـ عنوان القصيدة بالضبط هو "سلطة الذات" ـ فلا اللغة ولا التعابير ولا الموقف من بعض الرموز الفلسطينية يقول هذا.
هل يمكن قول الشيء نفسه عن قصيدة النواب؟
أغلب الظنّ أن الأمر قد يلتبس على القارئ، فالموقف السياسي فيها من دولة إسرائيل يقوله لنا باقي شعره، وبعض الصور التي وردت فيها، وما جرى على لسان الحيوان، نعثر عليه في بعض قصائده، وما قاله صاحبها عن الجرح والتعديل، والتأويل يجعلني شخصياً لا أشك في أنها عُزِيَت إلى النواب. هل القصيدة لمظفر النواب أم أنها ليست له؟
في مقالته يذهب صقر أبو فخر إلى أن الشاعر أنكر أن تكون القصيدة من كتابته، والسؤال هو: لماذا أدرجها بعد معدّي مختارات مظفر النواب في مختاراتهم؟
يصدر أوس داوود يعقوب مختاراته، بعد المقدمة التي كتبها ـ واعتمد في أكثرها على دراساتي عن النواب ـ، يصدر مختاراته بقصيدة "كفرت بإسرائيل"/ فعل مبني للمجهول.
وأما إسلام إبراهيم الذي ذهب إلى أن ما أنجزه هو أعمال كاملة لمظفر النواب ـ علماً بأنها ليست أعمالاً كاملة ـ فإنه لا يورد القصيدة، لكنه يختار منها المقطع الذي أوردته آنفاً، ويطبعه على صفحة الغلاف الأخيرة.
في العام 2012 سيصدر د. زياد أبو لبن مختارات من أشعار مظفر النواب، وسيورد القصيدة كاملة. وأنا طبعاً سأقع في حيرة من أمري، وسأتساءل: هل القصيدة لمظفر النواب أم أنها ليست له؟
ما زال الشاعر على قيد الحياة، وبإمكان الفضائيات أن تجري معه غير مقابلة، وأن تسأله فيها إن كانت القصيدة من كتابته. طبعاً يمكن لأبي عادل/ مظفر النواب أن يشرف على طبعة جديدة لأشعاره يكون هو مسؤولاً عنها، فيريح القراء ويرتاح، أيضاً.
مع بداية "الربيع العربي" راجت أشعار مظفر النواب طباعةً كما لم ترج من قبل، وربما فاقت في رواجها رواج أشعار الشعراء نزار قباني ومحمود درويش وأحمد مطر.. بل والمتنبي، وجعلها "الربيع العربي" تنتشر انتشار النار في الهشيم، فقد ظل مظفر النواب شاعراً رسولياً مبشراً بالتغيير، ولم يحبط كما أحبط محمود درويش في فترات من حياته [ما نفع القصيدة/ لست النبي لأدعي وحياً/ لم أجد جدوى من الكلمات إلاّ رغبة الكلمات في تغيير صاحبها... إلخ].
مؤخراً قرأت مقالة للشاعر اللبناني شوقي بزيع نشرها في العام 2009 في "الحوار المتمدّن" يرى فيها أن النواب منذ 90 ق2 ما عاد لافتاً كما كان، ولا أدري ماذا يقول الشاعر اللبناني الآن، وهو يرى طبعات أشعار مظفر تتوالى؟!
اغتيال مظفر النواب.. شعرياً
لا أدري كم طبعة صدرت، حتى هذه اللحظة، للأعمال الكاملة للشاعر العراقي مظفر النواب، ولا أدري، أيضاً، كم مختارات اختارها أكثر من واحد وطبعوها ووزعوها في الأسواق. في العام 1996 صدرت في لندن طبعة، تحت عنوان "الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العربي المناضل"، عن دار قنبر. وقد أعيدت طباعتها في الأرض المحتلة، ما دفعني يومها لكتابة مراجعة لها تحت عنوان "إشكالات الأعمال الشعرية الكاملة للشاعر العراقي مظفر النواب. وعرفت فيما بعد أن الشاعر لم يكن المشرف عليها، بل إنه لم يكن يعرف شيئاً عن دار قنبر، وحين سأل عنها قيل له إنها دار نشر وهمية. وفي مقالات، لي، لاحقة أملت أن يقوم الشاعر نفسه بإصدار طبعة يشرف هو عليها، ذلك أن قارئ ما يصدر له يعاني الكثير لأسباب عديدة: ترتيب القصائد وعدم تشكيلها ووضع علامات ترقيم لأسطرها وعباراتها.
في العام 1999 أصدرت كتابي "الصوت والصدى: مظفر النواب وحضوره في الأرض المحتلة، ودرست فيه قصيدة "بحار البحارين" دراسة تكوينية، فقد قارنت بين صيغتها في طبعة الأرض المحتلة ـ طبعة دار العامل ـ وفي طبعة الأعمال الكاملة، ولاحظت الخلاف في مواطن كثيرة. وحتى ذلك التاريخ لم تكن طبعات جديدة لأشعار الشاعر قد صدرت، فقد ظلت أشعار الشاعر محاصرة في كثير من بلدان الوطن العربي. ومع انتشار ظاهرة الإنترنت والمواقع الإلكترونية غدا المنع والحصار بلا جدوى، وهكذا بدأنا نلحظ طبعات أعمال الشاعر تتلاحق، ولاحظنا، أيضاً، عرضها في المكتبات وعلى أرصفة الشوارع، وثمة طبعات عديدة، صدرت في هذا البلد العربي أو ذاك، معتمدة على طبعة دار قنبر، تصويراً كما في الأرض المحتلة، أو إعادة طباعة، مع تغيير في شكل الحرف، وطبيعة الغلاف، ولم تكن هناك ضرورة لاقتناء هذه الطبعات، لأنها لم تضف إلى ما صدر في العام 1996 جديداً.
أحد قراء كتابي المذكور ـ وقد أدرجت أكثر فصوله على الإنترنت، وأعيدت طباعته في مصر عن دار مدبولي في العام 2002 ـ ارسل إليّ صيغتين أخريين لقصيدة "ثلاث أمنيات على بوابة السنة الجديدة"، وطلب مني أن أدرس التغيرات فيها، ولم أُلبّ له، شخصياً، طلبه. هذا العام درست طلبة الماجستير أشعار النواب ومحمود درويش دراسة تكوينية ـ وفق المنهج التكويني ـ وطلبت من طالبين أن يكتبا عن التغيرات التي أجراها الشاعر على نصه، وقد اقترحت عليهما، بعد تصحيح ما كتبا، أن ينشرا ما قاما به على الإنترنت وعلى موقع مظفر النواب، ولا أدري إن كانا فعلا ذلك. وفي أثناء تدريسي الشاعرين، اقتنيت طبعات جديدة لأشعار الشاعر، ومختارات جديدة.
في العام 2011 كتبت في "الأيام" (16/11) مقالة عنوانها "مظفر النواب: طبعة جديدة وسبعون شيكلاً" أتيت فيها على ما قام به أوس داوود يعقوب الذي نشر كتاباً عنوانه "مظفر النواب، شاعر الثورات والشجن، قصائد تنشر لأول مرة" (2010)، ولم أر فيه قصائد جديدة تستحق أن يغامر المرء ويشتري طبعة جديدة من أشعار الشاعر، فما نشره أوس موجود جلّه في طبعة دار قنبر.
في العام 2012 اشتريت طبعة أشرف على نشرها، إسلام ابراهيم وعنوانها "الأعمال الكاملة: مظفر النواب" (دار فاروس)، وسأكتشف أنها لا تضم الأعمال الكاملة، فثمة قصائد عديدة لم تدرج فيها، أبرزها قصيدة "المسلخ الدولي" التي مطلعها:
تعلل فالهوى علل وصادف أنه ثمل.
ولم يكتب إسلام ابراهيم للطبعة التي أشرف عليها مقدمة تستحق أن يشتري المرء لأجلها الكتاب. ربما امتازت عن غيرها في أن مصدرها شكّل القصائد، فأراح القارئ قليلاً. وسيرى المرء أن إسلام أصدر مختارات لا أعمالاً كاملة. وثمة ملاحظات كثيرة يمكن أن تدون على مختاراته.
آخر ما اطلعت عليه من إصدارات الطبعة التي أصدرها الدكتور زياد أبو لبن عن دار اليازوري في عمان (2012)، وتضم مختارات من أشعار الشاعر، وأقر أبو لبن بأنها مختارات، وهو بذلك لم يخدع القارئ، والطريف أنه لم يكتب لمختاراته مقدمة تستحق أن يشتري المرء المختارات لأجلها، فما كتبه لا يتعدّى الثلاث صفحات، مثله مثل إسلام ابراهيم. ومطالع هذه المختارات ومختارات أوس ومختارات إسلام يتساءل عن السبب الذي حدا بهم إلى إصدار ما أصدروا، وما الذي أضافوه إلى الطبعات السابقة، وبم اختلفوا عنها في طبعتهم/ مختاراتهم؟ وهل لاحظوا أن الطبعات السابقة مثلاً تحفل بأخطاء تجاوزوها في طبعتهم؟
لم أشترِ طبعة د. زياد أبو لبن الذي لا أعرف عنه الكثير، تماماً كما أنني لا أعرف أي شيء عن أوس داوود يعقوب وعن إسلام ابراهيم. لقد حصلت على مختارات أبو لبن من مكتبة جامعة النجاح الوطنية التي أقامت معرضاً للكتاب عرضت فيه أحدث ما اقتنته من كتب، ودفعني الفضول والرغبة في مقارنة طبعات أشعار الشاعر ببعضها إلى الاطلاع على مختارات أبو لبن، فقد أعود وأدرّس الموضوع، لطلبة الماجستير، ثانية، فما وجدت؟
للحقيقة أذكر أنني لم أقرأ المختارات من ألفها إلى يائها.
وأنا ألقي نظرة على الفهرس لاحظت أخطاء طباعية وأخرى نحوية (وتريات ليلة) لا (ليلية)، وثلاثة أمنيات، لا ثلاث أمنيات، ومن الدفتر الخصوص، لا الخصوصي.. إلخ، وأخذت أقرأ قصيدة "باللون الرمادي" المقابلة لصفحة الفهرس، فلاحظت خطأً في العنوان، إذ حذف زياد حرف الجر وغدا العنوان "اللون الرمادي"، ولاحظت أربعة أخطاء في متن القصيدة التي لا يزيد عدد أبياتها على عشرين، فعبارة "سكران مغمضة عيني" تغدو "سكران مضغمة عيني" و"يا لا نحدار" تغدو "بالانحدار" وشطر "وأين كان غريب غير ذي قرح" وتغدو "ذي فرح" وعبارة "أصابح الليل مصلوباً" تغدو "مطلوباً" وقول مظفر "تهر خلفي كلاب الليل" تغدو "كلاب الحي".
هل واصلت تصفُّح الأعمال؟
ثمة قصيدة لمظفر عنوانها "رباعيات" لم تظهر في مختارات د. زياد على أنها رباعيات، وعدا هذا فهي لا تخلو من أخطاء قاتلة، إذ تبدو نتيجة لهذا، أحياناً، بلا معنى، فبيت مظفر:
يا ابن جيبين حراما، إنني أسكر كي أحتمل الدنيا التي فيها أراك يرد على النحو التالي:
يا ابن جيبين، حرام إنني أسكر كي أحتمل الدنيا التي فيها أراك، وثمة أخطاء أخرى واضحة في البيت الأخير.
فيما اطلعت عليه من طبعات أعمال كاملة للشاعر، ومن مختارات لاحظتُ أن أصحابها اغتالوا الشاعر شعرياً، والسؤال هو: لماذا لا يشرف مظفر النواب نفسُه على إصدار طبعة يعتمدها القرّاء؟
مظفر النواب .. طبعة جديدة وسبعون (شيكلاً)
فيما أعرف، صدرت أعمال مظفر النواب “الأعمال الشعرية الكاملة”، في ثلاث طبعات، أولاها الصادرة في العام 1996 عن دار نشر هي دار قنبر في لندن، وهي دار نشر وهمية، كما عرفت فيما بعد من خلال قراءة مقابلات أجريت مع الشاعر الذي لم يكن على دراية بأمر نشر أعماله كاملة. وثانيتها وثالثتها صادرتان عن طبعة دار قنبر، مع إضافات قليلة. طبعة صدرت في مصر، وأخرى في ليبيا. اختلف شكل الحرف، واختلف حجم الطبعة، ولم تختلف القصائد في ترتيبها، ولم يحقق أي من الناشرين الديوان.
مؤخراً، صدرت في الشام (2010) طبعة عن دار صفحات للدراسات والنشر، على غلافها اسم الشاعر، وأسفل الاسم صورة لمظفر، وأسفل الصورة العنوان: شاعر الثورات والشجن “قصائد تنشر لأول مرة”، وقد أشرف عليها أوس داوود يعقوب، وصدّرها بكتابة تقع في خمس وعشرين صفحة من الحجم الكبير (ص9 – ص23).
سأقف مطولاً أمام الطبعة الجديدة: أأشتريها أم لا أشتريها؟ لدي طبعة دار قنبر، وطبعة مصر، وما صدر له في الأرض المحتلة في العام 1977 وما بعد: وتريات ليلية، سفينة الحزن، أربع قصائد، عرس الانتفاضة. وعن منشورات الأرض المحتلة وطبعة دار قنبر التي صورت في الأرض المحتلة أصدرتُ كتاباً أعيدت طباعته في القاهرة، عن دار مدبولي، وأنجزت ثلاث دراسات: “مظفر النواب: طبعة الأعمال الكاملة” و”الاتصال والانفصال” في قصيدة” تعلل فالهوى علل” / المسلخ الدولي، والحذف والتغيير في أشعار سعدي يوسف ومظفر النواب، وقد أتبعت هذه كلها بمقالة عن تغييب مظفر النواب في دراسات النقد الأدبي في العالم العربي. هل أنا بحاجة لدفع سبعين (شيكلاً) للطبعة الجديدة؟
أنا أصغي لمظفر النواب وأقرأ قصائده مطبوعة، وأقارن بين الصيغ المختلفة لها، وقد درّست هذا، ذات نهار، في الجامعة في موضوع خاص في الأدب العربي الحديث. إنني أقرأ النصوص قراءة وفق المنهج التكويني، وهو منهج فرنسي يذكّرنا، أيضاً، بجهود المحققين العرب الذين قابلوا بين الصياغات المتعددة للنص الواحد.
هل كان مظفر قرأ كتابي عنه، وكتب المقطع التالي لي: ؟!
“يا قارئ كلماتي بالعرض
وقارئ كلماتي بالطول
لا تبحث عن شيء عندي يدعى المعقول
إني معترف بجنون كلامي
بالجملة والتفصيل
ولهذا لا تتعب عقلك أبداً
بالجرح وبالتعديل
وبنقد المتن وبالتأويل”؟
إنني الناقد الوحيد، فيما أعلم وأعرف، الذي درس قصائد مظفر متعباً عقله بالجرح وبالتعديل.
أحياناً يخيّل إلي أنني أتسلل إلى عقل الشاعر الذي أنقده، ما يجعلني حاضراً في ذهنه حين يكتب، وقد يكتب قصيدة يوجهها لي، وأظن أن الشاعر محمود درويش حين كتب قصيدته “إلى ناقد”، التي ظهرت في ديوانه “حالة حصار”، كان يكتبها لي أنا شخصياً، فقد طلب مني ألاّ أفسر كلامه بملعقة شاي.
نعم، سأقف مطولاً أمام الطبعة الجديدة لأشعار مظفر: أأشتريها أم لا أشتريها، وعندي طبعتان كاملتان له؟ وسأجد نفسي آخذ النسخة وأقول لصاحب المكتبة: سأنظر فيها، فقد أرى فيها شيئاً جديداً.
سأقرأ مقدمة الطبعة، وسألحظ أنها كلها مأخوذة من الكتب التي أنجزت عن مظفر: باقر ياسين، عبد القادر الحصيني وهاني الخير، وعادل الأسطة ــ أي أنا ــ وكتب أخرى.
وسألحظ أن ما لا يقل عن خمس صفحات من المقدمة مأخوذة من دراساتي عن مظفر، وتحديداً تلك التي حللت فيها قصيدة مظفر عن الشهيد أبي جهاد: خليل الوزير.
لا أستطيع الزعم أن أوس داوود يعقوب سرق دراستي، فقد أشار إلى كتابي وأشاد به، واعتبر ما كتبته عن مظفر هو الأفضل، وعرّف بي، وأورد نبذة عني. هذا كلام قد يفرح، فها هي دراساتي تنتشر في الشام ويشاد بها ويفضلها الدارسون على غيرها من دراسات دارسي العالم العربي. نعم، هذا كلام قد يفرح، ولكنني حقاً لم أفرح كثيراً، علماً أنني نقدت صاحب المكتبة سبعين شيكلاً ثمن النسخة الوحيدة التي بحوزته. لماذا؟ لأسباب عديدة، فالدارس أوس لم يكن يلتفت إلى علامات التنصيص حتى يميّز كلامه من كلام الدارسين، وثمة كلام لهؤلاء أورده وكأنه كلامه هو. كأنه ليس دارساً أكاديمياً أبداً! كأنه لا يتقن أسس البحث العلمي، فلا هو ينصص ولا هو يوثق ولا هو يميز بين ما للدارسين وما له. إن كثيراً مما اقتبسه من دراساتي نسبه إلى كتابي، علماً أنه اقتبسه من دراسات أخرى لي لم ترد في الكتاب. هذا سبب، وهناك أسباب أخرى لعدم الفرح.
كتب أوس على غلاف الطبعة التي أشرف عليها: “قصائد تُنشَر لأول مرة”. والعبارة توحي للقارئ أن ما في الديوان/ المختارات جديد كله، ولن يعثر القارئ إلا على قصائد قليلة جداً جديدة، بالإضافة إلى ديوان “للريل وحمد”، وهو قصائد بالعامية العراقية كانت نشرت في فترة مبكرة جداً. ولا تضم مختارات أوس سوى أربع قصائد فصيحة جديدة، وهناك غيرها كثير لم يظهر في الطبعات السابقة لطبعة أوس، وكان يمكن أن يضيفها، مثل قصائد “لحظة في حمام امرأة أموية ساخنة” و”رقم هاتف قديم” و”عجب.. عجب” و”هدية للإمام الحسين عليه السلام” و”بداية الصيف في غرفة بغي عجوز” و.. و... و...
ولم يرتب أوس قصائد الديوان الذي أشرف عليه كما رتبه المشرفون على الطبعات السابقة، فقدم وأخر دون أن يبدي سبباً لهذا، بل إنه حين نشر وتريات ليلية نشرها كما لو أنها أربع قصائد، لا قصيدة من حركتين، عدا أنها، في طبعته، تداخلت مع قصائد أخرى، لأنه فرغها عن أشرطة استمع إليها. فهو، مثلاً، يذكر في هامش ص43: “حذف الشاعر مظفر النواب فقرات كاملة من هذه القصيدة عندما ألقاها في معرض كتاب أبو ظبي (نيسان 2005)، وقد آثرنا نشر القصيدة كما قرأها النواب”، ولم يلتفت إلى أن الشاعر يقرأ مختارات من مطولاته، ما أوقعه ــ أي الجامع ــ في أخطاء شنيعة.
وبدلاً من أن تكون الطبعة الجديدة لأشعار مظفر طبعة تيسر على الدارسين، زادت الأمر تعقيداً، ولا أدري إن كان أوس اطلع على دراستي: “مظفر النواب: إشكالات الأعمال الشعرية الكاملة”، وهي منشورة في مواقع كثيرة، وكانت نشرت في مجلة “الشعراء” (رام الله، عدد 17 (2002) ص 290-296)، وهي دراسة أزعم أنها الأهم لمن يريد أن يصدر أعمال مظفر النواب، ففيها ملاحظات تفيد قرّاء شعر مظفر إفادة كبرى، ويوم نشرتها كنت أظن أن مظفر هو الذي أشرف على طباعة أعماله الصادرة عن دار قنبر (لندن 1996)، ولم أكن أعرف أنه لم يكن على علم بالأمر.
القصائد التي أضافها أوس للطبعات السابقة، عدا نشر الشعر الشعبي لمظفر “للريل وحمد”، هي: فعل مبني للمجهول، وكانت نشرت تحت عنوان “كفرت بإسرائيل”، وافضحهم، وقمم، و”أنت الحال الذي لا يباع: إلى محمد الدرة”، وقد لا تكون هناك قصائد أخرى غيرها.
هل طبعة أعمال مظفر الجديدة طبعة يشاد بها؟ هل تثري دارس أشعار الشاعر، وهل تيسر له الأمر؟ وهل هي جديرة بأن يدفع المرء ثمنها سبعين (شيكلاً)؟ أسئلة أعتقد أنني قدمت إجابات لها في الأسطر السابقة، لكن السؤال الأهم هو: لماذا لا يشرف مظفر نفسه على إصدار أعماله، كما كان يفعل محمود درويش؟ ترى هل تكمن إجابته في مقطعه الذي أوردته:
“يا قارئ كلماتي بالعرض
وقارئ كلماتي بالطول
لا تبحث عن شيء عندي يدعى المعقول”؟؟
الأمر متروك لمظفر على أية حال، ولكن على المهتمين به أن يراعوا أحوال القرّاء وأن يقدموا لهم شيئاً جديداً يستحق ما يدفع من ثمن مقابله!!.
هامش: محمود درويش ومظفر النواب، ومثلهما أمل دنقل، شعراء أحب أشعارهم، وقد أنجزت أفضل دراساتي ومقالاتي عن درويش والنواب، كانت تروق لهما كتاباتي، وأحياناً لا تروق. ألست المخاطب في قول درويش: “[إلى ناقد:] لا تفسر كلامي / بملعقة الشاي أو بفخاخ الطيور!/ يحاصرني في عتابي كلامي،/ كلامي الذي لم أقله،/ ويكتبني ثم يتركني باحثاً/ عن بقايا منامي.
قد يغيب عن ذهن الشاعرين، وقد لا يغيب، مقولات نظرية التلقي، قد، قد.
https://www.facebook.com/adel.osta.9/posts/997879260280912