منذ ظهور " كورونا " نهاية عام 2019، كانت الحاسة الأكثر تضرراً، والتنبه إلى خطورة استعمالها، هي حاسة اللمس. وسيلة الاتصال الأولى بالعالم الخارجي، لدى الطفل، الحاسة الأكثر تعبيراً عن الجسم، ولقيا الآخر، أصبحت تحت طائلة المسئولية، كما لو أن الإنسان بحواس أربع. لتغيب أو يتم تجنب أهم علاقة معبّرة عن الحميمية واشتهاء الآخر جرّاء ذلك: المصافحة والقبلة. أصبحت الأيدي محل شبهة، وللتعبير عن ذلك ظهرت القفازات الوسيلة المشدَّد على استعمالها عالمياً، عبر تغييبها داخلها. أصبحت القبلة أكثر إثارة للشبهة، وللتأكيد على خطر استفحال الخطر المميت على الجسم، شُدّد على ارتداء القناع، ليكون هذان المغيَّبان داخل أو وراء أداة قماشية أو فاعلة في إخفاء كل ملمس للأصابع، أو اتصال للشفتين.
اليد والفم بشفتيه، أصبحا في حالة إرجاء، وضعية التعامل الخاص جداً. صار التركيز على سلامة الجسد من خلالهما. أي محظور تعريض للجسم لخطر الموت. ليس هذا فقط، وإنما تعريض مجتمع بأكمله، العالم بأكمله، ولهذا شوهد الذين شدَّوا على هذين الظاهريْن، وهم يظهِرون للملأ كيفية الحفاظ على سلامة الجسم، عبر الغسيل المستمر لليدين، كيفية استعمال الأصابع في محاولة كل أثر لكورونا، وكيفية تغطية الفم بالقناع، ومن ثم كيفيه نزعه أو خلعه.
ربما لأول مرة في التاريخ، يقدَّم الإنسان بحواس أربع، لتكون الحاسة الخامسة الآنفة الذكر محك اختبار شاهدة على مدى حرص أولي أمر الصحة العالمية، والمحلية على سلامة الجسم، وخطورة الاستهانة بأمره. وليباشر من لهم صلة بأمور الصحة، وموقع اللمس بالنسبة للجسد، كمفهوم إنساني، أنشطتهم النظرية والعملية، من خلال كيفية الحفاظ على نشاط الجسم، عبر توزيع المهام التي كان اللمس يؤديها، أو يبرز من خلالها على بقية الحواس. يا للمفارقة الكبرى، ويا للتداعيات الكبرى على ظهور هذه الواقعة.
كيف يمكن للحواس المعلَن عنها أن تتقاسم أنشطة اللمس، حتى تعود الأمور إلى ما كانت عليه؟ كيف يمكن لأي حاسة من الحواس التي يُخشى منها هنا، أن تضيف جانباً من هذه المهمة اللمسية إليها، بغية الحفاظ على توازن الجسم، وسعياً إلى إبقاء الجسد الإنساني المعرَّض للخلل، في وضعية الصحة، وما في ذلك من إعلان الجاهزية الكاملة جسدياً ؟
اختفت اللقاءات، أو تلاشت، تيتمت المقاعد التي عرِفت بها الحدائق العامة، زوايا الشوارع ، منعطفاتها، المناسبات التي كان الناس يتداعون إليها، الساحات العامة التي خلت من كل أثر لهذا النوع من اللقاءات، المقاعد الخلفية للسيارات، التي كانت تشهد على هذا النوع من الحميمية بين العشاق، أو ضاربي المواعيد من نوع شديد الخصوصية. يا لمأساة بنات الهوى ممن كن يعرَفن في أمكنة خاصة بهن هنا وهناك في مدن العالم الكبرى، وعبر مواعيد مثبتة، يا لخسارة القوادين، وقد أرجىء نشاطهم كذلك إلى إشعار آخر.
أصبح القُرْب العبارة الأكثر تداولاً جهة التأكيد على خطورة اللمس. ملامسة الأيدي، ملامسة الشفتين، الهواء الذي ينقل فيروس كورونا، وحتى العين ذاتها، لم تُعف جانباً، من وجهة نظر طبية، وفي المحصلة يكون اللمس ومركزيته في الحالة هذه، وما يصل باللمس، حتى على مستوى الاتصال الجنسي، بين فئات عمرية معينة، وحتى بين الأزواج، بات مثار شبهة هو الآخر. ليصبح الشك قائماً ومفعلاً، والخطر ساري المفعول، ليصبح الجسم في عزلة لا سابقة لها.
حتى اللغة أُفقِرت على وقْع هذا التنبيه إلى مخاطر اللمس، لتصبح فوبيا اللمس معمَّمة حتى داخل البيت، ليتقدم التعقيم كل شيء قبل مد اليدين إليه، أو لمسه، داخل البيت نفسه، أما في الخارج، أما بالنسبة لمقابض الأبواب، فزيدَ في جرعة الحرص على ذلك، وهنا ضاعفت حاسة البصر نشاطها، في النظر إلى كل جسم خارجي، صحبة الذاكرة التعليمية الموجَّهة. هنا بالمقابل، لم يعد في مقدور الشم أن يفصح عن وظيفته كما كانت، حيث انخفضت النسبة، فالروائح ذاتها محل اشتباه، والهواء المشموم ذاته لا يؤمَن جانبه، لهذا يجري التنفس بحذر شديد، وبما يسد " رمق " الحياة. لقد غاب التنفس بعمق، لم يعد للرائحة في المحلات العامة، مثلاً، من جاذبية، لم يعد هناك من رائحة الشواء التي كانت المطاعم المعروفة بخبرتها في إطلاق العنان لروائح أطعمتها خارجاً جذباً للرواد أو الزبائن، أو حتى بالنسبة للنساء اللواتي كن يعطّرن أنفسهن، وما في ذلك من عنصر غواية، أو لتعزيز علاقة جانبية، عبر اللمس تحديداً .
الذوق نفسه خف أثره في حمّى التشديد على خطر كورونا عبر اللمس، بما أن الفواكه، بما أن الخضار، بات التعامل معها، هي الأخرى ، من خلال قواعد سلامة جسمية في غاية الدقة، فاعلية الإقبال على تناول أي مما ذكرت، الجلوس إلى مائدة الطعام، النظر إلى المقابل، وتناول فاكهة معينة، أو حتى مشروب معين، عبر وسيط مادي... كل ذلك أفقد الجسم الكثير مما كان يتحلى به، أو يحفّز فيه مخياله الجسدي، وتلك المتعة المتأتية من حاسة اللمس .
ليست العزلة، إلا رد الفعل الأول على كيفية لجم نشاط اللمس، لا بل إزاحته جانباً. إن الحجْر الصحي لا يعدو أن يكون تعطيلاً مؤقتاً لوظائف اللمس، وليس وظيفته، لحظة النظر في علاماته، عبر أعضاء الجسم وما يصل الجسم بالجسم الآخر، في العناق، في الاحتضان، في الوصال الجنسي، في الحميمية المعبّرة عن طبيعة العلاقة أو نوعيتها بين اثنين في أمكنة مختلفة، في حالات مختلفة. لقد أصبح الإفقار عالمياً، وأي خرق لهذا المحظور، ولو من شخص واحد، ولأولمرة في التاريخ، يشكل تهديداً لعموم العالم. أي طالما أن هناك مصاباً واحداً بكورونا، يكون اللمس تحت المراقبة .
هذا الإقصاء الوظيفي، أبرز مشهديات غير مسبوقة على مستوى العالم الذي توحد عبر ارتداء القفازات والأقنعة، جهة التباعد الاجتماعي الذي يعني: تجنب اللمس طبعاً، أضعف العلاقات الاجتماعية، أنزل بها من شامخ عال إلى خفض، إن جاز القول.
أكثر من ذلك، لم يعد في مقدور أي منا، حتى إن يمنح ثقته للمسه الذاتي، مخافة الإصابة بكورونا. فكم نقتصد في لمس أعضاء جسمنا، أصبح اشتباه العضو في العضو الآخر قائماً، والتباعد بينهما مسلكاً إجرائياً صحياً قائماً. كم نلتزم الحذر الشديد في هذه المعايشة الذاتية مع الجسم: ألا نلامس وجهنا، أن نبقي اليدين على مبعدة عن ملامس أي جانب من الجسم، أن نشدد في النظر إلى اليدين وكيف تتحركان، كيف تلامسان الأشياءفي العالم الخارجي، كيف يتم التبضع ودورهما في ذلك، وما في ذلك من إرهاق لعموم الجسم، من خلال الغسيل المستمر، من خلال تعقيم كل ما يقع تحت النظر. صارت الملعقة والشوكة ذاتهما محل اشتباه، وصحن الطعام الخاص. لأول مرة تحولت فوبيا النظافة إلى فاعل صحي مرغوب فيه، لا بل ومشدد عليه . لقد تغيرت النظرة إلى الجسد كلياً .
إنها بلبلة من نوع آخر تماماً، حيث لا يعود في مقدور المرء أن يدخل في علاقة جسدية مع نفسه، أو ذاته، أن يتأمل جسمه في الحمّام، كما كان سابقاً، أن يقبل على نشوة يتهيأ لها جسمه دون خوف. الجسم ذاته أصبح ملغوماً. نعم، إنه حقل ألغام، وحقل الألأغام هذا تعمم عالمياً. واللغم ما تحت الجلد، وعبر اللمس يعرَف بنفسه. لكم بات أحدنا يكره النظر إلى جسمه عبر المرآة المنصوبة في الحمام وخارج الحمام. لقد تضاءل حضور النرجسية أو الاستعراض الجسدي بالتالي. أي قيمة باتت للجسم وقد اقتطعت منه هذه الأعضاء على مستوى وظيفي، ووضعها تحت المراقبة الشديدة. إنها حرب الجسم على الجسم، في معركة أكثر من كونها علنية، فثم دائماً ما ليس في الحسبان: الخوف مما لم يؤخَذ له حساب.
كثيرون دفعوا ثمناً غالياً، خسروا حياتهم إثر خرق بسيط، أو هكذا قدّر، في لمس عرَضي، أو غير مفكَّر فيه، لجسم خارجي، أو تجاهل التعليمات ذات الصلة، في لمسة يد من يحب مثلاً، أو قبلة خاطفة، ليكون هو المختطَف الأبدي تالياً من الحياة. صار الجميع يراقب الجميع، خوفا الجميع من الجميع أرهق الجميع، ووضع الجميع في سفينة تيتانيك بنتيجتها المروّعة .
حرب الجسم على الجسم هذه لازالت قائمة، والحنين إلى الجسم في كليته لازال قائماً، سوى أن غلبة المخاوف على الجسم جرّاء الأخبار المتواصلة عن إصابات كورونا وضحايا كورنا، وأن الدواء الفعال لكورونا لم يكتَشف بعد، نحّت الجسم المألوف سابقاً، لحساب الجسم شبه المعطل، الجسم الذي يُتعامَل معه في وضعية الضرورة القصوى: لا شراب إلا بحذر، لا طعام إلا بحذر، لا جلوس إلا بحذر، لا نوم إلا بحذر، لا استمتاع بالشيء إلا بحذر مضاعف. لقد غابت المتعة أو غيّبت وهي لمسية النَّسب، ونشوة الجسد بالذات لم يعد لها أثر يُذكر. لقد أصبحنا في عهدة جسم من نوع آخر، وإدارة جسدية بعائدها الإنساني من نوع آخر. أصبح الجلد هذا المؤثر فينا كثيراً بطبقته الرقيقة، بمساماته، تحت الضوء الكاشف، في المختبرات وخارجها. جلدنا الذي يصلنا بالعالم الخارجي، بأنفسنا، ونحن نتأمله، ونحن نحرص على سلامته، حرصاً على السلامة العامة للجسم، ربما هو ذاته في وضعية هجران، أبعد من كونه الجلد الذي كان يتقلص أو يتمدد، يعرَف بقشعريرة معينة، أو مأخوذ بسريان فعل تيار متعة معينة عبر لقاء حميم يستغرق الجسم، هو ذاته أفرِغ من قائمة الشحنات، وزُجَّ به في نطاق اقتصاد الكفاف .
حتى النوستالجيا اللمسية عينها لم تعد بعلامتها الجسدية المسجلة والتليدة تاريخياً وعلى صعيد المعايشة الجسمية محل اهتمام، على وقْع الوباء الكوروني. كما لو أن هناك تواطؤاً بين هذه الجائحة واللمس: كلما تمادى اللمس، تنشطت الجائحة الكورونية أكثر، وجلبت ميتات أكثر. النوستالجيا اللمسية ذاتها ضعف التعامل بها في ضوء الجاري .
لم يعد للخيال ذاته من قيمة دلالية، من اعتبار وظيفي بالنسبة للفنان أو الشاعر، وهو يعيش وضعية معينة، خشية نسيان المحظور، والخروج إلى ما لا يباح به، أو يُسمح بتفعيل أثره عبر اتصال معين .
تُرى، كم سيُكتَب، وماذا سنشهد من آثار سمعية وبصرية على تماس مباشر باللمس، لحظة الإعلان عن إنه في مقدور العالم العودة إلى ما كان عليه سابقاً، وما يتطلبه الإعلان هذا هنا وهناك، من فاصل زمني/ وقتي، ليرمم الجسم نفسه، أو يتفحص نفسه، ويصالح بعضه بعضاً، ويعيد للمس مهامه، حيث ينفتح الداخل على الخارج دونما مخاوف ؟
اليد والفم بشفتيه، أصبحا في حالة إرجاء، وضعية التعامل الخاص جداً. صار التركيز على سلامة الجسد من خلالهما. أي محظور تعريض للجسم لخطر الموت. ليس هذا فقط، وإنما تعريض مجتمع بأكمله، العالم بأكمله، ولهذا شوهد الذين شدَّوا على هذين الظاهريْن، وهم يظهِرون للملأ كيفية الحفاظ على سلامة الجسم، عبر الغسيل المستمر لليدين، كيفية استعمال الأصابع في محاولة كل أثر لكورونا، وكيفية تغطية الفم بالقناع، ومن ثم كيفيه نزعه أو خلعه.
ربما لأول مرة في التاريخ، يقدَّم الإنسان بحواس أربع، لتكون الحاسة الخامسة الآنفة الذكر محك اختبار شاهدة على مدى حرص أولي أمر الصحة العالمية، والمحلية على سلامة الجسم، وخطورة الاستهانة بأمره. وليباشر من لهم صلة بأمور الصحة، وموقع اللمس بالنسبة للجسد، كمفهوم إنساني، أنشطتهم النظرية والعملية، من خلال كيفية الحفاظ على نشاط الجسم، عبر توزيع المهام التي كان اللمس يؤديها، أو يبرز من خلالها على بقية الحواس. يا للمفارقة الكبرى، ويا للتداعيات الكبرى على ظهور هذه الواقعة.
كيف يمكن للحواس المعلَن عنها أن تتقاسم أنشطة اللمس، حتى تعود الأمور إلى ما كانت عليه؟ كيف يمكن لأي حاسة من الحواس التي يُخشى منها هنا، أن تضيف جانباً من هذه المهمة اللمسية إليها، بغية الحفاظ على توازن الجسم، وسعياً إلى إبقاء الجسد الإنساني المعرَّض للخلل، في وضعية الصحة، وما في ذلك من إعلان الجاهزية الكاملة جسدياً ؟
اختفت اللقاءات، أو تلاشت، تيتمت المقاعد التي عرِفت بها الحدائق العامة، زوايا الشوارع ، منعطفاتها، المناسبات التي كان الناس يتداعون إليها، الساحات العامة التي خلت من كل أثر لهذا النوع من اللقاءات، المقاعد الخلفية للسيارات، التي كانت تشهد على هذا النوع من الحميمية بين العشاق، أو ضاربي المواعيد من نوع شديد الخصوصية. يا لمأساة بنات الهوى ممن كن يعرَفن في أمكنة خاصة بهن هنا وهناك في مدن العالم الكبرى، وعبر مواعيد مثبتة، يا لخسارة القوادين، وقد أرجىء نشاطهم كذلك إلى إشعار آخر.
أصبح القُرْب العبارة الأكثر تداولاً جهة التأكيد على خطورة اللمس. ملامسة الأيدي، ملامسة الشفتين، الهواء الذي ينقل فيروس كورونا، وحتى العين ذاتها، لم تُعف جانباً، من وجهة نظر طبية، وفي المحصلة يكون اللمس ومركزيته في الحالة هذه، وما يصل باللمس، حتى على مستوى الاتصال الجنسي، بين فئات عمرية معينة، وحتى بين الأزواج، بات مثار شبهة هو الآخر. ليصبح الشك قائماً ومفعلاً، والخطر ساري المفعول، ليصبح الجسم في عزلة لا سابقة لها.
حتى اللغة أُفقِرت على وقْع هذا التنبيه إلى مخاطر اللمس، لتصبح فوبيا اللمس معمَّمة حتى داخل البيت، ليتقدم التعقيم كل شيء قبل مد اليدين إليه، أو لمسه، داخل البيت نفسه، أما في الخارج، أما بالنسبة لمقابض الأبواب، فزيدَ في جرعة الحرص على ذلك، وهنا ضاعفت حاسة البصر نشاطها، في النظر إلى كل جسم خارجي، صحبة الذاكرة التعليمية الموجَّهة. هنا بالمقابل، لم يعد في مقدور الشم أن يفصح عن وظيفته كما كانت، حيث انخفضت النسبة، فالروائح ذاتها محل اشتباه، والهواء المشموم ذاته لا يؤمَن جانبه، لهذا يجري التنفس بحذر شديد، وبما يسد " رمق " الحياة. لقد غاب التنفس بعمق، لم يعد للرائحة في المحلات العامة، مثلاً، من جاذبية، لم يعد هناك من رائحة الشواء التي كانت المطاعم المعروفة بخبرتها في إطلاق العنان لروائح أطعمتها خارجاً جذباً للرواد أو الزبائن، أو حتى بالنسبة للنساء اللواتي كن يعطّرن أنفسهن، وما في ذلك من عنصر غواية، أو لتعزيز علاقة جانبية، عبر اللمس تحديداً .
الذوق نفسه خف أثره في حمّى التشديد على خطر كورونا عبر اللمس، بما أن الفواكه، بما أن الخضار، بات التعامل معها، هي الأخرى ، من خلال قواعد سلامة جسمية في غاية الدقة، فاعلية الإقبال على تناول أي مما ذكرت، الجلوس إلى مائدة الطعام، النظر إلى المقابل، وتناول فاكهة معينة، أو حتى مشروب معين، عبر وسيط مادي... كل ذلك أفقد الجسم الكثير مما كان يتحلى به، أو يحفّز فيه مخياله الجسدي، وتلك المتعة المتأتية من حاسة اللمس .
ليست العزلة، إلا رد الفعل الأول على كيفية لجم نشاط اللمس، لا بل إزاحته جانباً. إن الحجْر الصحي لا يعدو أن يكون تعطيلاً مؤقتاً لوظائف اللمس، وليس وظيفته، لحظة النظر في علاماته، عبر أعضاء الجسم وما يصل الجسم بالجسم الآخر، في العناق، في الاحتضان، في الوصال الجنسي، في الحميمية المعبّرة عن طبيعة العلاقة أو نوعيتها بين اثنين في أمكنة مختلفة، في حالات مختلفة. لقد أصبح الإفقار عالمياً، وأي خرق لهذا المحظور، ولو من شخص واحد، ولأولمرة في التاريخ، يشكل تهديداً لعموم العالم. أي طالما أن هناك مصاباً واحداً بكورونا، يكون اللمس تحت المراقبة .
هذا الإقصاء الوظيفي، أبرز مشهديات غير مسبوقة على مستوى العالم الذي توحد عبر ارتداء القفازات والأقنعة، جهة التباعد الاجتماعي الذي يعني: تجنب اللمس طبعاً، أضعف العلاقات الاجتماعية، أنزل بها من شامخ عال إلى خفض، إن جاز القول.
أكثر من ذلك، لم يعد في مقدور أي منا، حتى إن يمنح ثقته للمسه الذاتي، مخافة الإصابة بكورونا. فكم نقتصد في لمس أعضاء جسمنا، أصبح اشتباه العضو في العضو الآخر قائماً، والتباعد بينهما مسلكاً إجرائياً صحياً قائماً. كم نلتزم الحذر الشديد في هذه المعايشة الذاتية مع الجسم: ألا نلامس وجهنا، أن نبقي اليدين على مبعدة عن ملامس أي جانب من الجسم، أن نشدد في النظر إلى اليدين وكيف تتحركان، كيف تلامسان الأشياءفي العالم الخارجي، كيف يتم التبضع ودورهما في ذلك، وما في ذلك من إرهاق لعموم الجسم، من خلال الغسيل المستمر، من خلال تعقيم كل ما يقع تحت النظر. صارت الملعقة والشوكة ذاتهما محل اشتباه، وصحن الطعام الخاص. لأول مرة تحولت فوبيا النظافة إلى فاعل صحي مرغوب فيه، لا بل ومشدد عليه . لقد تغيرت النظرة إلى الجسد كلياً .
إنها بلبلة من نوع آخر تماماً، حيث لا يعود في مقدور المرء أن يدخل في علاقة جسدية مع نفسه، أو ذاته، أن يتأمل جسمه في الحمّام، كما كان سابقاً، أن يقبل على نشوة يتهيأ لها جسمه دون خوف. الجسم ذاته أصبح ملغوماً. نعم، إنه حقل ألغام، وحقل الألأغام هذا تعمم عالمياً. واللغم ما تحت الجلد، وعبر اللمس يعرَف بنفسه. لكم بات أحدنا يكره النظر إلى جسمه عبر المرآة المنصوبة في الحمام وخارج الحمام. لقد تضاءل حضور النرجسية أو الاستعراض الجسدي بالتالي. أي قيمة باتت للجسم وقد اقتطعت منه هذه الأعضاء على مستوى وظيفي، ووضعها تحت المراقبة الشديدة. إنها حرب الجسم على الجسم، في معركة أكثر من كونها علنية، فثم دائماً ما ليس في الحسبان: الخوف مما لم يؤخَذ له حساب.
كثيرون دفعوا ثمناً غالياً، خسروا حياتهم إثر خرق بسيط، أو هكذا قدّر، في لمس عرَضي، أو غير مفكَّر فيه، لجسم خارجي، أو تجاهل التعليمات ذات الصلة، في لمسة يد من يحب مثلاً، أو قبلة خاطفة، ليكون هو المختطَف الأبدي تالياً من الحياة. صار الجميع يراقب الجميع، خوفا الجميع من الجميع أرهق الجميع، ووضع الجميع في سفينة تيتانيك بنتيجتها المروّعة .
حرب الجسم على الجسم هذه لازالت قائمة، والحنين إلى الجسم في كليته لازال قائماً، سوى أن غلبة المخاوف على الجسم جرّاء الأخبار المتواصلة عن إصابات كورونا وضحايا كورنا، وأن الدواء الفعال لكورونا لم يكتَشف بعد، نحّت الجسم المألوف سابقاً، لحساب الجسم شبه المعطل، الجسم الذي يُتعامَل معه في وضعية الضرورة القصوى: لا شراب إلا بحذر، لا طعام إلا بحذر، لا جلوس إلا بحذر، لا نوم إلا بحذر، لا استمتاع بالشيء إلا بحذر مضاعف. لقد غابت المتعة أو غيّبت وهي لمسية النَّسب، ونشوة الجسد بالذات لم يعد لها أثر يُذكر. لقد أصبحنا في عهدة جسم من نوع آخر، وإدارة جسدية بعائدها الإنساني من نوع آخر. أصبح الجلد هذا المؤثر فينا كثيراً بطبقته الرقيقة، بمساماته، تحت الضوء الكاشف، في المختبرات وخارجها. جلدنا الذي يصلنا بالعالم الخارجي، بأنفسنا، ونحن نتأمله، ونحن نحرص على سلامته، حرصاً على السلامة العامة للجسم، ربما هو ذاته في وضعية هجران، أبعد من كونه الجلد الذي كان يتقلص أو يتمدد، يعرَف بقشعريرة معينة، أو مأخوذ بسريان فعل تيار متعة معينة عبر لقاء حميم يستغرق الجسم، هو ذاته أفرِغ من قائمة الشحنات، وزُجَّ به في نطاق اقتصاد الكفاف .
حتى النوستالجيا اللمسية عينها لم تعد بعلامتها الجسدية المسجلة والتليدة تاريخياً وعلى صعيد المعايشة الجسمية محل اهتمام، على وقْع الوباء الكوروني. كما لو أن هناك تواطؤاً بين هذه الجائحة واللمس: كلما تمادى اللمس، تنشطت الجائحة الكورونية أكثر، وجلبت ميتات أكثر. النوستالجيا اللمسية ذاتها ضعف التعامل بها في ضوء الجاري .
لم يعد للخيال ذاته من قيمة دلالية، من اعتبار وظيفي بالنسبة للفنان أو الشاعر، وهو يعيش وضعية معينة، خشية نسيان المحظور، والخروج إلى ما لا يباح به، أو يُسمح بتفعيل أثره عبر اتصال معين .
تُرى، كم سيُكتَب، وماذا سنشهد من آثار سمعية وبصرية على تماس مباشر باللمس، لحظة الإعلان عن إنه في مقدور العالم العودة إلى ما كان عليه سابقاً، وما يتطلبه الإعلان هذا هنا وهناك، من فاصل زمني/ وقتي، ليرمم الجسم نفسه، أو يتفحص نفسه، ويصالح بعضه بعضاً، ويعيد للمس مهامه، حيث ينفتح الداخل على الخارج دونما مخاوف ؟