الاهداء
الى الجيل العماني الحاضر الذي يحني رأسه للمأساة ، مأساة الشعب العربي في عمان ، فيعيش في عزة نفسيته وذل واقعيته سواء كان داخل الوطن او المهاجر التي آوتنا .
الى الشباب العماني الذي جارت عليه المتردية والنطيحة وما اكل السبع فقاوم هذا الجور بالكفاح في سبيل العيش والصمود من اجل الكرامة .
اقدم هذه القصة سجلا للحاضر المظلم ودعوة للمستقبل المشرق ، مستقبل عمان كجزء لا يتجزأ من الوطن العربي الاكبر .
***
لحظة قصيرة لو تركتها تذهب مع الاضواء المتنافرة بين حبات النافورة في ميدان التحرير لما امكن لهذه القصة مشاهد ولا كيان ، فقد تعودت ان اقضي امسياتي في القاهرة بميدان التحرير وبينما انا امشي بين حشائشه الخضراء اتطلع الى قطرات الماء المتلألئة بالاضواء الملونة اذا بي التفت الى يساري فانظر شابا اتخذ له مكانا في احد المقاعد ، ويجلبني هذا الشاب الى النظر اليه ، وأمعن النظر ، واحدق واصوب ، عجبا لكان دافعا يدفعني الى الجالس على هذا الكرسي ، وهو ايضا انه ينظر مصعدا ومصوبا ، انه فاضل ، ولكني كيف ابداه ؟ أنني لم اره منذ عام 1947 واني الان في عام 1956 ، لقد عهدته بزيه العربي ولحيته الصغيرة وها انا الان اراه بالزي الاوربي مهندما كأنه ذاهب الى عابدين او الاوبرج ، لادعه اذن ، سبحانه يخلق من الشبه اربعين ، قد يكون شخصا ذا مزاج حاد فلا يغتفر لي زلتي ، ولا كن لماذا لا أسأله ؟ انه لو كان ذا مزاج حاد لثار في وجهي على هذه النظرات ثم انه هو ايضا يتطلع الي ... واقتحمت الموقف ، اجل لم تفتني تلك اللحظة القصيرة وقلت : (( اسمح يا صاحبي ، الست انت السيد فاضل )) وانتفض الرجل وقام يقول (( الست خالد )) ؟ وتلاقت ايدينا لتتداخل في عناق طويل لم تقطعه حتى الاسئلة المتكررة .
وجلسنا على المقعد (( ما هذا يا خالد انها اعجوبة الاعاجيب ان التقي بك في القاهرة )) .
(( اجل يا صديقي لم يكف القاهرة ، ان تتركني مشدوها لما فيها من بنايات وشوارع وشعب باسل ، لم تتركني مشدوها فقط بحفلة المنشية وخطوة جمال في تأميم القنال ، فها انا التقي بك بعد تسع سنوات :
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ............... يظنان كل الطن ان لا تلاقيا
قال فضل (( هل تذكر القصيدة التي قرأتها علينا بمسقط علينا بمسقط ايام الحرب العالمية الثانية لمحمود حسن اسماعيل ؟ ))
ناداك مجدك فاستجيبي .................... وامشي له فوق اللهيب
يا مصريا انشودة الــــد .................. نيا واغنية الشعوب
الا ترى يا خال ان الشعراء يتنبأ ون ؟ الم تمش مصر فوق اللهيب بعد سنوات من قصيدة الشاعر ، اليست هي اليوم اغنية الشعوب ؟؟
وسألت فاضل عن احواله فعلمت انه استقر في الكويت يعمل موظفا بالمستشفى الاميري بعد ان قضى حياة قاسية ، فقد سافر من مسقط عندما ترك وظيفة بالمدرسة السعيدية وحاول ان يستقر في دبي فلم يوفق ثم عاد الى وطنه العراق ولكنه عانى فيه شظف العيش فوفد الى الكويت وبقي بها ثلاث سنوات يتنقل من عمل الى عمل حتى استقر الان بالمستشفى الاميري يسجل المرضى ..
وتبادلنا بعد ذلك اسئلة في جوانب متعددة من حياتنا ومن حياة وطني عمان ووطنه العراق ، عن اوطاننا العربية في الخليج ، عن مصر الجبارة وفي الاخير اقترح فاضل ان نذهب الى نقابة الصحفيين حيث يقيم الشعراء حفلة بمناسبة تأميم القناة وقال (( انها مناسبة رائعة سوف ترى فيها كثر شعراء مصر )) ولم اتردد ، بل ذهبنا سوية وهناك رأينا الشعراء واستمعنا الى اقوالهم ازاء عمل جمال ، وعلق فاضل يقول : لا تستهن يا صديقي بالاقوال ، لقد سمعت كيف تحقق قول محمود اسماعيل .
وفي 15 سبتمبر غادرة القاهرة ورفيقي العزيز متجهين الى بيروت ، بيروت التي كانت اغاني لتأميم القتال ، ثم اتجهنا الى دمشق وهنالك وجدنا الشعور القومي ينطق مسمعا كل اصم . وفي دمشق ايضا دعينا لحفلات متعددة من بينها حفلة النادي العربي واشتركنا في نقاش حول العلاقة الزعيم بالشعب ومن منهما يكون الاخر ، وكان على كل شخص يتكلم ان يذكر اسمه واسم بلده ، وقلت انني من عمان وازاء استغراب الجميع لهذه المصادفة وتكاثر سؤالهم عن عمان تحولت كلمتي الى تعريف لعمان ثم ابديت رأيي مستشهدا ببسمارك وكافور اللذين وحدا شعبيهما في المانيا وايطاليا .
(( الرفيق قبل الطريق )) لكم لمست حقيقة هذا المثل وانا اقضي رحلتي مع فاضل ولكني اوشكت ان افقد مرافقة فاضل ، لقد صمم على ان يذهب بالطائرة الى الكويت وصممت انا ان اذهب الى العراق ثم الى الكويت وعبثا حاولت ان اقنع فاضل ، وكدت اعتب عليه باعتباره عراقيا فلا يرافقني وانا ازور العراق . واخيرا قال فاضل (( اخشى يا صديقي ان ينالني سوء ، فان الحكومة العراقية حكومة نوري السعيد تطارد أختي منذ ازمة حلف بغداد وقد هربت من الديوانية حيث عينت مدرسة وحيث عانت الكثير من الرقاية وجاءت الى الكويت وانت تعلم انهم ربما اخذوني (( بجريمة ايوائها )) . وفهمت كل شيء وقلت : (( الحمد لله يافضل ، لقد شاء الله ان تعيش مع اختك بعد ان قضيت زهرة شبابك مشردا بين نزوى ومسقط ودبي والكويت ))
وودعته على موعد ان ازوره بالكويت ، والتقينا بعد عشرة ايام من افترقنا .
وفي مساء يوم وصولي كنت في بيت فاضل اتناول العشاء ولم يشعرني بالغربة فلقد جلست معنا زوجته واخته وعلمت من حديثنا على المائدة ان اخته وداد ممرضة في المستشفى الاميري بالكويت وبعد ان تناولنا العشاء عدنا الى الحديث عن وداد فقد كان الحديث ملذا وكانت وداد تقص علينا كيف تخرجت من دار المعلمات وعينت مدرسة باحدى مدارس البنات في منطقة الاعظمية وكيف عاشت سعيدة مع امها واخوتها الصغار تكافح من اجلهم في سبيل القوت حتى دعاها عام 1954 الى الكفاح في سبيل الوطن وعند ذلك حلت الكارثة على هذه العائلة الوادعة المطمئنة فقد خرجت وداد في مظاهرة نسائية تهتف ضد حلف بغداد وما ان عادت ظهرا الى المنزل حتى كان رجال الشرطة يطرقون الباب ويطلبون ان تصحبهم وداد في سيارة الجيب الى التوقيف ولم تعارض وداد فقد استلمت صامتة وتركت الصياح والضجيج لامها واخوتها الصغار وفي الموقف استقبلها الضابط المؤول يقول :
(( يا هلا ... يا هلا بالزعيمة ، يا هلا بجاندارك )) .
- عفوا ، لا انا زعيمة ولا افرنسية ...
- انت جاندارك العرب ، انت زعيمة صوت العرب ، واخيرا هل ستعترفين؟
- بماذا اعترف ؟؟
- بمعارضتك حلف بغداد وقيادتك الحركة النسائية في الاعظمية ....... وباعتناقك الشيوعية .
ولم تخف وداد من التهمتين الاوليتين ، قالت انهما كانتا شرفا لا تعرف هي عنه شيئا ..
فمعارضة حلف بغداد كانت شعورا لدى كل عراقي وعراقية وقيادة الحركة النسائية في الاعظمية لا تدعيه فمثلها كثيرات ولكنها صعقت لتهمة الشيوعية وانكرت بكل شدة ولاكن لا فائدة من المجادلة فقد امر الضابط بوضعها في المعتقل لوحدها، وفي الصباح اليوم الثاني اتاها احد افراد الشرطة برسالة من وزارة المعارف تتضمن امرا اداريا بنقلها الى احدى مدارس الديوانية ولم تستغرب وداد ذلك ، لقد كانت تترقب محاكمة وسجنا ولكنهم اكتفوا بنقلها .. لقد هانت المصيبة وعليها ان تقبل ذلك دون اعتراض وعندما عرضوا عليها ان تعود الى بيتها لتأخذ حاجيتها فضلت ان تمتنع عن ذلك خشية ان تتأثر امها ، حسب الام والصغار وما هم فيه من حالة فعلام تعيد اليهم منظر الشرطة وسيارة الجيب؟
وفي الساعة السادسة دوت صفارة القطار واخرجت وداد من الحجز بالمحطة وفي الطريق فوجئت بأمها تبكي وتهتف (( وداد ، عيني وين رايحة ، وين تخلينا )) ولم تتمالك دمعها وتعانقت الام والابنة ولكن القطار يكاد ان يتحرك ففرقهما الشرطي ووجد القطار متنفسا عن النار المشتعلة بالدخان المتصاعد من مدخنته في حين كان قلبان متوهجان لا يجدان لحزنهما غير الدمع والاهات .
لم يكن يشغل بال وداد الا تفكيرها في امها واخوتها الثلاثة ، وكيف علمت الام بترحيلها وعندما وصلت الحلة اقترب الشرطي من طيبة النفس وبدا يشعر بثقل الوظيفة التي ساقته اليها الظروف قال لها : (( ان الضابط ارسل احد الشرطة الى امها لاخبارها وان احد رفاقه عارضه في ذلك بحجة ان وداد بنفسها لم ترغب في المسير الى الاعظمية خشية ازعاج امها ثم ما ذنب الام في ان نزعجها بالمجيء على ذلك الحال السيء من الاعظمية الى الكرخ ؟ ولكن الضابط اجاب : (( انها التعليمات ، واصحاب التعليمات يقولون ان هذا العمل كفيل بتنبيه الاباء والامهات بعدم السماح لبناتهم بالاشتراك في المظاهرات )) ..
وصلت الى الديوانية ، ولكنها سلمت الى مركز الشرطة ايضا ، لم يطلق سراحها ، لم تذهب الى مدرستها ، لم تقابل ولا مسؤولا واحدا من المعارف ، ماذا يريدون بالتردد بها من مركز المتصرف الى مركز الشرطة الى مركز اخر للشرطة وهي تمشى ومن ورائها شرطيان . حاولت وداد ان تجد لذلك تفسيرا معقولا فلم تكتشفه ، وبرمت بذلك بعد ان قضت في التردد خمسة ايام من السجن الى المتصرف فالى مركز الشرطة . وفي اليوم السادس بينما كانت تمشي في الشارع وورائها الشرطيان سمعت من يقول (( يلعن بنات ها الزمن )) انظر ، هاربة من اهلها في بغداد فقبضوا عليها في الديوانية يا للعار .. والتفتت وداد دون وعي لترد على القائل ولكنها فوجئت حين امعنت النظر اليه فعرفت نه احد رجال الشرطة يلبس لباسا مدنيا ، عند ذلك ادركت ماذا يراد بها ، ادركت لماذا لا تحضر الى المركز في سيارة ، ادركت لماذا تتردد من مركز الى مركز ، ادركت ان القصد هو تشويه سمعتها فما هو موقفها مع زميلاتها في المدرسة ، مع تلميذاتها ، مع الجيران الذين ستسكن بقربهم ؟؟ وطلبت وداد مقابلة الضابط المسؤول وسردت له قصتها كاملة من يوم المظاهرة الى كلمة الشرطي – المدني – وطالبته في الاخير بوضع حد لقضيتها ، ليكن السجن ، ليكن اي شيء على ان يكون شيئا واضحا معينا .
وفي اليوم الثاني دعاها الضابط الى غرفته واخبرها انها مطلقة السراح وان وزارة المعارف تفي بأمرها الاداري ولكنها ما تزال معرضة للخطر في اي موقف مخالف يبدر منها وان عليها ان تنزل في منزل يكفلها صاحبها ... وتردد وداد قليلا ، وحاولت ان تقول انها لا تعرف احدا في الديوانية ولكنها عادت ففكرت انها ستسأل عن المدينة التي تعرف فيها احدا وقالت في نفسها : (( كفاية سمعتي سوداء في مدينة واحدة ، كفاية والفرج على الله )) .. وقالت للضابط (( انني اولا لا اعرف احدا هنا يضمن عني ولا في اي بلد غير بغداد ولاكن لي طلبا واحدا هو ان اعيش في القسم الداخلي ولك مني عهد ان لا اخرج الا الى المدرسة وعليكم مراقبتي في القسم )).
واستراحت وداد بهذا من رؤية الذين شاهدوها وهي تذرع الشوارع سمعت عنها آذانهم مختلف الاخبار واستراحت ايضا من ان تحمل غيرها مسؤوليتها فيما اذا نفذت ما عزمت عليه وهو الالتحاق بأخيها في الكويت .
وانضمت وداد الى القسم الداخلي ولشد ما كان موقفها محرجا وهي تجلس مع المعلمات على طاولة الطعام ومع المعلمات بالمدرسة ومع الطالبات في الصف ، لقد كانت تفكر ان كل مدرسة وتلميذة تعرف عن الرواية التي نسجها الشرطي، تصورت وجهها مغطى بالعار ، تصورت نظرات المعلمات والطالبات احجارا ترجمها لتتحمل ثمن الخطيئة وعاشت في هذا الجو القنق اياما ولكنها لم تجد علامة لسوء الظن من المعلمات او الطالبات بل وجدت منتهى التقدير والرعاية وهان عليها الامر الى حد ولكنها ظلت ممتنعة عن الخروج الى الشارع .
بقيت الرسائل مستمرة بينها وبين امها وسهل عليها الانفاق على المنزل في بغداد بمعيشتها في القسم وعندما حلت العطلة الربيعية طلبت ان يسمح لها بالسفر الى بغداد او ان يسمح لامها واخوتها بالمجيء الى الديوانية وكرر عليها الضابط : (( انت مازلت تحت مراقبة الشرطة )) ..
وفي الصباح وقفت وداد الى حل مقبل ، لقد عزمت ان تذهب الى البصرة ولم تعارض الشرطة هذا ولم يطالبوها الا باثبات وجودها كل جمعة في مركز وربما كان ذلك لموقفها المتروي طيلة العام ، فذهبت وداد الى البصرة ومن هناك خرجت مع احد اصدقاء اخيها على انها زوجته ووصلت الى الكويت وتخلصت من السجن الكبير .
وعندما عدت الى غرفتي في الفندق كانت وداد تملأ فكري ، فتاة عانت تعسف الظالمين في بغداد ، فتاة شمرت عن ساعديها لكسب العيش ، لم تهمل وسائل الاعتماد على النفس سواء كانت في بغداد او الكويت ، فتاة حملت المسئولية العائلية بعد ان هاجر اخوها فقامت بشؤون اخوتها الصغار وامها عندما كان اخوها يتحمل شظف العيش في عمان . وبقيت جالسا على كرسي بالحجرة افكر في وداد ، حسن استقبالها ، هدوئها ، رزنتها ، ابتسامتها واخلاقها ، وساءلت نفسي : (( ما الذي يمنعني من الزواج بها (( البعد ؟ ان اخاها يعرفني في بلادي ... وجودي انا في قطر؟ انني مستقر بوظيفتي ، وتحسست قلبي بيدي فاذا به وجيب عجيب . لقد شعرت ن وداد قد احتلت به مكانا احسست ان هذه الافكار وان هذه الجلسة الطويلة على الكرسي ، ليست الا من علامات حبي لوداد وكدت ان انظر في المرآة لارقب قول الشاعر :
وللحب آيات تبين بالفتى ............شحوب وتعرى من يديه الاشاجع
واخير قلت لنفسي : لم تمر عليك الا ليلة واحدة فكيف ياتيك الشحوب ؟ وبقيت افكر ، ثم تناولت كراسة مذكراتي وبدأت اراجع بعض ما كتبته خلال رحلتي ، ووقعت عيني على تعليمات الامير صالح بن عيسى الحارثي لي ، وقمت فجأة من الكراسي ومشيت في جوانب الغرفة وعدت الى الكرسي مرة ثانية وانا اقول : (( مالك يا خالد؟ ان عليك واجب يفرض عليك ان تترك وداد الان ، عليك ان تعيش لوحدك )) وقد كان ذلك حقا .
لقد تم الاتفاق مع الزعيم على ان اتحرك الى الوجهة التي يحددها في الوقت الذي يعينه هو . اذن فانا غير مستقر بوظيفتي ولا في قطر ايضا ، اذن انا امام واجب هام يقف بيني وبين حب وداد . ولكن هل يمنعني هذا الواجب من حب وداد ؟ هل يمنعني من الزواج بها ؟ ان امرت بالذهاب الى ساحة القتال فان وداد ممرضة وبامكانها ان تشاركنا في جهادنا بعمل لا يقل عن عمل الجندي وربما كان اكثر من ذلك فقد تكون هي الممرضة الوحيدة لدينا . وان كانت مهمتي في الخارج فمن الممكن ان اعيش بسعادة كاملة .
وكدت ان اصمم على مفاتحة فاضل في الصباح ولكنني لم اقرر رأيا ثابتا وقضيت ليلتي في افكار حلوة جميلة حتى استلمت الى نوم عميق . وفي الصباح تلقيت هاتفيا من فاضل يسأل عن صحتي ويؤكد علي تناول الغداء معه فاعتذرت بموعد سابق واتفقنا على العشاء ومرة ثانية جلست على مائدة العشاء مع وداد وفاضل وزوجته ، جلست وايماني يزداد ان وداد قد خلقت لي واني خلقت لها وبقيت صامتا ، رغم ان كل عرق من عروقي يكاد ان ينطق بكلمة ، كلمة خفيفة في لفظها زهيدة في حروفها ، كلمة حب ، وحسبها ان تشغل كيان انسان .
ولكن فاضل تدارك صمتي وربما نسبة للخجل فأخذ يسألني عن خروجي من مسقط واخذ يتابع السؤال حتى التقينا في ميدان التحرير ، وكنت انا اندفع لاخباره بصراحة وتفصيل فقد كان هنالك دافع يدفعني ، كنت أريد ان تعرف وداد عن كل دقائق حياتي فاذا ما تقدمت لخطبتها كانت لديها فكرة شاملة عني .
انك تذكر يا فاضل كيف عشنا مدرسين بالمدرسة في مسقط ، وتذكر كيف كنت اكمل على راتبي لقطع قيمة بطاقة التموين ، تذكر ان راتبي كان ستا وخمسين روبية وان بطاقة التموين تكلفني ثمانين روبية وذلك للسكر والحنطة والارز ليس غير ، فبماذا اسد باقي مطالب الحياة ، ولكنه لطف الله ، فقد عين السيد عبد الباري الزواوي مدير التموين فكان يعرف حاجات ابناء وطنه من الموظفين خاصة ، وكنت احد هؤلاء فكان يرسل لي بين حين واخر بطاقة تموين ابيعها في السوق لاحد التجار فاوفي بذلك ما تجمع علي من ديون ، ولكن الى متى تمشي الحال على هذا المنوال ؟؟
الى الجيل العماني الحاضر الذي يحني رأسه للمأساة ، مأساة الشعب العربي في عمان ، فيعيش في عزة نفسيته وذل واقعيته سواء كان داخل الوطن او المهاجر التي آوتنا .
الى الشباب العماني الذي جارت عليه المتردية والنطيحة وما اكل السبع فقاوم هذا الجور بالكفاح في سبيل العيش والصمود من اجل الكرامة .
اقدم هذه القصة سجلا للحاضر المظلم ودعوة للمستقبل المشرق ، مستقبل عمان كجزء لا يتجزأ من الوطن العربي الاكبر .
***
لحظة قصيرة لو تركتها تذهب مع الاضواء المتنافرة بين حبات النافورة في ميدان التحرير لما امكن لهذه القصة مشاهد ولا كيان ، فقد تعودت ان اقضي امسياتي في القاهرة بميدان التحرير وبينما انا امشي بين حشائشه الخضراء اتطلع الى قطرات الماء المتلألئة بالاضواء الملونة اذا بي التفت الى يساري فانظر شابا اتخذ له مكانا في احد المقاعد ، ويجلبني هذا الشاب الى النظر اليه ، وأمعن النظر ، واحدق واصوب ، عجبا لكان دافعا يدفعني الى الجالس على هذا الكرسي ، وهو ايضا انه ينظر مصعدا ومصوبا ، انه فاضل ، ولكني كيف ابداه ؟ أنني لم اره منذ عام 1947 واني الان في عام 1956 ، لقد عهدته بزيه العربي ولحيته الصغيرة وها انا الان اراه بالزي الاوربي مهندما كأنه ذاهب الى عابدين او الاوبرج ، لادعه اذن ، سبحانه يخلق من الشبه اربعين ، قد يكون شخصا ذا مزاج حاد فلا يغتفر لي زلتي ، ولا كن لماذا لا أسأله ؟ انه لو كان ذا مزاج حاد لثار في وجهي على هذه النظرات ثم انه هو ايضا يتطلع الي ... واقتحمت الموقف ، اجل لم تفتني تلك اللحظة القصيرة وقلت : (( اسمح يا صاحبي ، الست انت السيد فاضل )) وانتفض الرجل وقام يقول (( الست خالد )) ؟ وتلاقت ايدينا لتتداخل في عناق طويل لم تقطعه حتى الاسئلة المتكررة .
وجلسنا على المقعد (( ما هذا يا خالد انها اعجوبة الاعاجيب ان التقي بك في القاهرة )) .
(( اجل يا صديقي لم يكف القاهرة ، ان تتركني مشدوها لما فيها من بنايات وشوارع وشعب باسل ، لم تتركني مشدوها فقط بحفلة المنشية وخطوة جمال في تأميم القنال ، فها انا التقي بك بعد تسع سنوات :
وقد يجمع الله الشتيتين بعدما ............... يظنان كل الطن ان لا تلاقيا
قال فضل (( هل تذكر القصيدة التي قرأتها علينا بمسقط علينا بمسقط ايام الحرب العالمية الثانية لمحمود حسن اسماعيل ؟ ))
ناداك مجدك فاستجيبي .................... وامشي له فوق اللهيب
يا مصريا انشودة الــــد .................. نيا واغنية الشعوب
الا ترى يا خال ان الشعراء يتنبأ ون ؟ الم تمش مصر فوق اللهيب بعد سنوات من قصيدة الشاعر ، اليست هي اليوم اغنية الشعوب ؟؟
وسألت فاضل عن احواله فعلمت انه استقر في الكويت يعمل موظفا بالمستشفى الاميري بعد ان قضى حياة قاسية ، فقد سافر من مسقط عندما ترك وظيفة بالمدرسة السعيدية وحاول ان يستقر في دبي فلم يوفق ثم عاد الى وطنه العراق ولكنه عانى فيه شظف العيش فوفد الى الكويت وبقي بها ثلاث سنوات يتنقل من عمل الى عمل حتى استقر الان بالمستشفى الاميري يسجل المرضى ..
وتبادلنا بعد ذلك اسئلة في جوانب متعددة من حياتنا ومن حياة وطني عمان ووطنه العراق ، عن اوطاننا العربية في الخليج ، عن مصر الجبارة وفي الاخير اقترح فاضل ان نذهب الى نقابة الصحفيين حيث يقيم الشعراء حفلة بمناسبة تأميم القناة وقال (( انها مناسبة رائعة سوف ترى فيها كثر شعراء مصر )) ولم اتردد ، بل ذهبنا سوية وهناك رأينا الشعراء واستمعنا الى اقوالهم ازاء عمل جمال ، وعلق فاضل يقول : لا تستهن يا صديقي بالاقوال ، لقد سمعت كيف تحقق قول محمود اسماعيل .
وفي 15 سبتمبر غادرة القاهرة ورفيقي العزيز متجهين الى بيروت ، بيروت التي كانت اغاني لتأميم القتال ، ثم اتجهنا الى دمشق وهنالك وجدنا الشعور القومي ينطق مسمعا كل اصم . وفي دمشق ايضا دعينا لحفلات متعددة من بينها حفلة النادي العربي واشتركنا في نقاش حول العلاقة الزعيم بالشعب ومن منهما يكون الاخر ، وكان على كل شخص يتكلم ان يذكر اسمه واسم بلده ، وقلت انني من عمان وازاء استغراب الجميع لهذه المصادفة وتكاثر سؤالهم عن عمان تحولت كلمتي الى تعريف لعمان ثم ابديت رأيي مستشهدا ببسمارك وكافور اللذين وحدا شعبيهما في المانيا وايطاليا .
(( الرفيق قبل الطريق )) لكم لمست حقيقة هذا المثل وانا اقضي رحلتي مع فاضل ولكني اوشكت ان افقد مرافقة فاضل ، لقد صمم على ان يذهب بالطائرة الى الكويت وصممت انا ان اذهب الى العراق ثم الى الكويت وعبثا حاولت ان اقنع فاضل ، وكدت اعتب عليه باعتباره عراقيا فلا يرافقني وانا ازور العراق . واخيرا قال فاضل (( اخشى يا صديقي ان ينالني سوء ، فان الحكومة العراقية حكومة نوري السعيد تطارد أختي منذ ازمة حلف بغداد وقد هربت من الديوانية حيث عينت مدرسة وحيث عانت الكثير من الرقاية وجاءت الى الكويت وانت تعلم انهم ربما اخذوني (( بجريمة ايوائها )) . وفهمت كل شيء وقلت : (( الحمد لله يافضل ، لقد شاء الله ان تعيش مع اختك بعد ان قضيت زهرة شبابك مشردا بين نزوى ومسقط ودبي والكويت ))
وودعته على موعد ان ازوره بالكويت ، والتقينا بعد عشرة ايام من افترقنا .
وفي مساء يوم وصولي كنت في بيت فاضل اتناول العشاء ولم يشعرني بالغربة فلقد جلست معنا زوجته واخته وعلمت من حديثنا على المائدة ان اخته وداد ممرضة في المستشفى الاميري بالكويت وبعد ان تناولنا العشاء عدنا الى الحديث عن وداد فقد كان الحديث ملذا وكانت وداد تقص علينا كيف تخرجت من دار المعلمات وعينت مدرسة باحدى مدارس البنات في منطقة الاعظمية وكيف عاشت سعيدة مع امها واخوتها الصغار تكافح من اجلهم في سبيل القوت حتى دعاها عام 1954 الى الكفاح في سبيل الوطن وعند ذلك حلت الكارثة على هذه العائلة الوادعة المطمئنة فقد خرجت وداد في مظاهرة نسائية تهتف ضد حلف بغداد وما ان عادت ظهرا الى المنزل حتى كان رجال الشرطة يطرقون الباب ويطلبون ان تصحبهم وداد في سيارة الجيب الى التوقيف ولم تعارض وداد فقد استلمت صامتة وتركت الصياح والضجيج لامها واخوتها الصغار وفي الموقف استقبلها الضابط المؤول يقول :
(( يا هلا ... يا هلا بالزعيمة ، يا هلا بجاندارك )) .
- عفوا ، لا انا زعيمة ولا افرنسية ...
- انت جاندارك العرب ، انت زعيمة صوت العرب ، واخيرا هل ستعترفين؟
- بماذا اعترف ؟؟
- بمعارضتك حلف بغداد وقيادتك الحركة النسائية في الاعظمية ....... وباعتناقك الشيوعية .
ولم تخف وداد من التهمتين الاوليتين ، قالت انهما كانتا شرفا لا تعرف هي عنه شيئا ..
فمعارضة حلف بغداد كانت شعورا لدى كل عراقي وعراقية وقيادة الحركة النسائية في الاعظمية لا تدعيه فمثلها كثيرات ولكنها صعقت لتهمة الشيوعية وانكرت بكل شدة ولاكن لا فائدة من المجادلة فقد امر الضابط بوضعها في المعتقل لوحدها، وفي الصباح اليوم الثاني اتاها احد افراد الشرطة برسالة من وزارة المعارف تتضمن امرا اداريا بنقلها الى احدى مدارس الديوانية ولم تستغرب وداد ذلك ، لقد كانت تترقب محاكمة وسجنا ولكنهم اكتفوا بنقلها .. لقد هانت المصيبة وعليها ان تقبل ذلك دون اعتراض وعندما عرضوا عليها ان تعود الى بيتها لتأخذ حاجيتها فضلت ان تمتنع عن ذلك خشية ان تتأثر امها ، حسب الام والصغار وما هم فيه من حالة فعلام تعيد اليهم منظر الشرطة وسيارة الجيب؟
وفي الساعة السادسة دوت صفارة القطار واخرجت وداد من الحجز بالمحطة وفي الطريق فوجئت بأمها تبكي وتهتف (( وداد ، عيني وين رايحة ، وين تخلينا )) ولم تتمالك دمعها وتعانقت الام والابنة ولكن القطار يكاد ان يتحرك ففرقهما الشرطي ووجد القطار متنفسا عن النار المشتعلة بالدخان المتصاعد من مدخنته في حين كان قلبان متوهجان لا يجدان لحزنهما غير الدمع والاهات .
لم يكن يشغل بال وداد الا تفكيرها في امها واخوتها الثلاثة ، وكيف علمت الام بترحيلها وعندما وصلت الحلة اقترب الشرطي من طيبة النفس وبدا يشعر بثقل الوظيفة التي ساقته اليها الظروف قال لها : (( ان الضابط ارسل احد الشرطة الى امها لاخبارها وان احد رفاقه عارضه في ذلك بحجة ان وداد بنفسها لم ترغب في المسير الى الاعظمية خشية ازعاج امها ثم ما ذنب الام في ان نزعجها بالمجيء على ذلك الحال السيء من الاعظمية الى الكرخ ؟ ولكن الضابط اجاب : (( انها التعليمات ، واصحاب التعليمات يقولون ان هذا العمل كفيل بتنبيه الاباء والامهات بعدم السماح لبناتهم بالاشتراك في المظاهرات )) ..
وصلت الى الديوانية ، ولكنها سلمت الى مركز الشرطة ايضا ، لم يطلق سراحها ، لم تذهب الى مدرستها ، لم تقابل ولا مسؤولا واحدا من المعارف ، ماذا يريدون بالتردد بها من مركز المتصرف الى مركز الشرطة الى مركز اخر للشرطة وهي تمشى ومن ورائها شرطيان . حاولت وداد ان تجد لذلك تفسيرا معقولا فلم تكتشفه ، وبرمت بذلك بعد ان قضت في التردد خمسة ايام من السجن الى المتصرف فالى مركز الشرطة . وفي اليوم السادس بينما كانت تمشي في الشارع وورائها الشرطيان سمعت من يقول (( يلعن بنات ها الزمن )) انظر ، هاربة من اهلها في بغداد فقبضوا عليها في الديوانية يا للعار .. والتفتت وداد دون وعي لترد على القائل ولكنها فوجئت حين امعنت النظر اليه فعرفت نه احد رجال الشرطة يلبس لباسا مدنيا ، عند ذلك ادركت ماذا يراد بها ، ادركت لماذا لا تحضر الى المركز في سيارة ، ادركت لماذا تتردد من مركز الى مركز ، ادركت ان القصد هو تشويه سمعتها فما هو موقفها مع زميلاتها في المدرسة ، مع تلميذاتها ، مع الجيران الذين ستسكن بقربهم ؟؟ وطلبت وداد مقابلة الضابط المسؤول وسردت له قصتها كاملة من يوم المظاهرة الى كلمة الشرطي – المدني – وطالبته في الاخير بوضع حد لقضيتها ، ليكن السجن ، ليكن اي شيء على ان يكون شيئا واضحا معينا .
وفي اليوم الثاني دعاها الضابط الى غرفته واخبرها انها مطلقة السراح وان وزارة المعارف تفي بأمرها الاداري ولكنها ما تزال معرضة للخطر في اي موقف مخالف يبدر منها وان عليها ان تنزل في منزل يكفلها صاحبها ... وتردد وداد قليلا ، وحاولت ان تقول انها لا تعرف احدا في الديوانية ولكنها عادت ففكرت انها ستسأل عن المدينة التي تعرف فيها احدا وقالت في نفسها : (( كفاية سمعتي سوداء في مدينة واحدة ، كفاية والفرج على الله )) .. وقالت للضابط (( انني اولا لا اعرف احدا هنا يضمن عني ولا في اي بلد غير بغداد ولاكن لي طلبا واحدا هو ان اعيش في القسم الداخلي ولك مني عهد ان لا اخرج الا الى المدرسة وعليكم مراقبتي في القسم )).
واستراحت وداد بهذا من رؤية الذين شاهدوها وهي تذرع الشوارع سمعت عنها آذانهم مختلف الاخبار واستراحت ايضا من ان تحمل غيرها مسؤوليتها فيما اذا نفذت ما عزمت عليه وهو الالتحاق بأخيها في الكويت .
وانضمت وداد الى القسم الداخلي ولشد ما كان موقفها محرجا وهي تجلس مع المعلمات على طاولة الطعام ومع المعلمات بالمدرسة ومع الطالبات في الصف ، لقد كانت تفكر ان كل مدرسة وتلميذة تعرف عن الرواية التي نسجها الشرطي، تصورت وجهها مغطى بالعار ، تصورت نظرات المعلمات والطالبات احجارا ترجمها لتتحمل ثمن الخطيئة وعاشت في هذا الجو القنق اياما ولكنها لم تجد علامة لسوء الظن من المعلمات او الطالبات بل وجدت منتهى التقدير والرعاية وهان عليها الامر الى حد ولكنها ظلت ممتنعة عن الخروج الى الشارع .
بقيت الرسائل مستمرة بينها وبين امها وسهل عليها الانفاق على المنزل في بغداد بمعيشتها في القسم وعندما حلت العطلة الربيعية طلبت ان يسمح لها بالسفر الى بغداد او ان يسمح لامها واخوتها بالمجيء الى الديوانية وكرر عليها الضابط : (( انت مازلت تحت مراقبة الشرطة )) ..
وفي الصباح وقفت وداد الى حل مقبل ، لقد عزمت ان تذهب الى البصرة ولم تعارض الشرطة هذا ولم يطالبوها الا باثبات وجودها كل جمعة في مركز وربما كان ذلك لموقفها المتروي طيلة العام ، فذهبت وداد الى البصرة ومن هناك خرجت مع احد اصدقاء اخيها على انها زوجته ووصلت الى الكويت وتخلصت من السجن الكبير .
وعندما عدت الى غرفتي في الفندق كانت وداد تملأ فكري ، فتاة عانت تعسف الظالمين في بغداد ، فتاة شمرت عن ساعديها لكسب العيش ، لم تهمل وسائل الاعتماد على النفس سواء كانت في بغداد او الكويت ، فتاة حملت المسئولية العائلية بعد ان هاجر اخوها فقامت بشؤون اخوتها الصغار وامها عندما كان اخوها يتحمل شظف العيش في عمان . وبقيت جالسا على كرسي بالحجرة افكر في وداد ، حسن استقبالها ، هدوئها ، رزنتها ، ابتسامتها واخلاقها ، وساءلت نفسي : (( ما الذي يمنعني من الزواج بها (( البعد ؟ ان اخاها يعرفني في بلادي ... وجودي انا في قطر؟ انني مستقر بوظيفتي ، وتحسست قلبي بيدي فاذا به وجيب عجيب . لقد شعرت ن وداد قد احتلت به مكانا احسست ان هذه الافكار وان هذه الجلسة الطويلة على الكرسي ، ليست الا من علامات حبي لوداد وكدت ان انظر في المرآة لارقب قول الشاعر :
وللحب آيات تبين بالفتى ............شحوب وتعرى من يديه الاشاجع
واخير قلت لنفسي : لم تمر عليك الا ليلة واحدة فكيف ياتيك الشحوب ؟ وبقيت افكر ، ثم تناولت كراسة مذكراتي وبدأت اراجع بعض ما كتبته خلال رحلتي ، ووقعت عيني على تعليمات الامير صالح بن عيسى الحارثي لي ، وقمت فجأة من الكراسي ومشيت في جوانب الغرفة وعدت الى الكرسي مرة ثانية وانا اقول : (( مالك يا خالد؟ ان عليك واجب يفرض عليك ان تترك وداد الان ، عليك ان تعيش لوحدك )) وقد كان ذلك حقا .
لقد تم الاتفاق مع الزعيم على ان اتحرك الى الوجهة التي يحددها في الوقت الذي يعينه هو . اذن فانا غير مستقر بوظيفتي ولا في قطر ايضا ، اذن انا امام واجب هام يقف بيني وبين حب وداد . ولكن هل يمنعني هذا الواجب من حب وداد ؟ هل يمنعني من الزواج بها ؟ ان امرت بالذهاب الى ساحة القتال فان وداد ممرضة وبامكانها ان تشاركنا في جهادنا بعمل لا يقل عن عمل الجندي وربما كان اكثر من ذلك فقد تكون هي الممرضة الوحيدة لدينا . وان كانت مهمتي في الخارج فمن الممكن ان اعيش بسعادة كاملة .
وكدت ان اصمم على مفاتحة فاضل في الصباح ولكنني لم اقرر رأيا ثابتا وقضيت ليلتي في افكار حلوة جميلة حتى استلمت الى نوم عميق . وفي الصباح تلقيت هاتفيا من فاضل يسأل عن صحتي ويؤكد علي تناول الغداء معه فاعتذرت بموعد سابق واتفقنا على العشاء ومرة ثانية جلست على مائدة العشاء مع وداد وفاضل وزوجته ، جلست وايماني يزداد ان وداد قد خلقت لي واني خلقت لها وبقيت صامتا ، رغم ان كل عرق من عروقي يكاد ان ينطق بكلمة ، كلمة خفيفة في لفظها زهيدة في حروفها ، كلمة حب ، وحسبها ان تشغل كيان انسان .
ولكن فاضل تدارك صمتي وربما نسبة للخجل فأخذ يسألني عن خروجي من مسقط واخذ يتابع السؤال حتى التقينا في ميدان التحرير ، وكنت انا اندفع لاخباره بصراحة وتفصيل فقد كان هنالك دافع يدفعني ، كنت أريد ان تعرف وداد عن كل دقائق حياتي فاذا ما تقدمت لخطبتها كانت لديها فكرة شاملة عني .
انك تذكر يا فاضل كيف عشنا مدرسين بالمدرسة في مسقط ، وتذكر كيف كنت اكمل على راتبي لقطع قيمة بطاقة التموين ، تذكر ان راتبي كان ستا وخمسين روبية وان بطاقة التموين تكلفني ثمانين روبية وذلك للسكر والحنطة والارز ليس غير ، فبماذا اسد باقي مطالب الحياة ، ولكنه لطف الله ، فقد عين السيد عبد الباري الزواوي مدير التموين فكان يعرف حاجات ابناء وطنه من الموظفين خاصة ، وكنت احد هؤلاء فكان يرسل لي بين حين واخر بطاقة تموين ابيعها في السوق لاحد التجار فاوفي بذلك ما تجمع علي من ديون ، ولكن الى متى تمشي الحال على هذا المنوال ؟؟