1 : واسيني الأعرج: "مي ليالي إيزيس كوبيا/ ليالي العصفورية " :
اقرأ في هذه الأيام رواية واسيني الأعرج عن مي زيادة "مي ليالي إيزيس كوبيا "2018 وهي عن اللبنانية الفلسطينية ابنة الناصرة الأديبة والكاتبة مي زيادة.
اقرؤها ببساطة لأنني صرت أخشى على نفسي من مصير مشابه.يعني اقرؤها بقصد مسبق.
واسيني الأعرج زار فلسطين مرارا وغدت هناك صداقة ومحبة بينه وبين القراء الفلسطينيين.
زار الناصرة والأماكن التي عاشت فيها مي؛ بيتها ومدرستها ،وسافر إلى الأماكن الأخرى التي أقامت مي فيها ؛بيروت والقاهرة...الخ وتتبع حياة الكاتبة ليعيد لها الاعتبار.
عنصر التشويق في الرواية واضح. وقاريء الرواية سيخرج منها بأبعاد معرفية عن الكاتبة وعلاقتها بكتاب عصرها ،عدا أنه سيرى في ابن عمها جوزيف شخصا ينطبق عليه المثل"الأقارب عقارب ".
كنت التقيت بالكاتب في مجمع القاسمي في باقة الغربية حيث شاركنا في مؤتمر أدبي عن أعماله في 12/ 5/2018 وقدمت مداخلة عن القدس في روايته "سوناتا لاشباح القدس ".
2 :"دلالات الاسم ":"مي : إيزيس كوبيا ":
سألني أحد القراء السؤال الآتي:
ما دلالة الاسم إيزيس كوبيا؟
في الصفحة 206 تأتي مي/ المؤلف الضمني لمخطوطها على الأسماء المستعارة التي نشرت تحتها ، فقد كانت ، ابتداء ، تنشر تحت أسماء مستعارة ذكورية كثيرة ، فهناك من أراد إسكاتها متسائل: "من هذه الشرقية التي باعت أصولها وشرفها للغرب ؟"
كانت رغبة مي أن تكتب وأن تكون حرة وألا تخاف من أحد ، ولذلك كان عليها أن تخرج من دائرة البشر وتكتب باسم الآلهة :
"استعرت من ماري البداية والنهاية. من تصغير ماري عند الانجليز . إيزيس كوبيا يكاد يكون الترجمة الحرفية لماري زيادة. إيزيس أخت الإله وعروسه . ماري أم الابن وعروس البحر. كوبيا اللاتينية مرادفة لزيادة ، أي الشيء الفائض. " (206).
وأنا أقرأ الرواية وجدت نقاط تقاطع كثيرة بين ما يجري معي وبين ما جرى مع مي ، بل وبين ما جرى مع الشاعرة فدوى طوقان.
هناك من زعم بأن هناك من يكتب لها ، وكتبت فدوى في سيرتها "رحلة جبلية...رحلة صعبة "1985 إنها حين كانت تكتب أشعارها وتنشرها كانت معلمات زمنها يقلن: "أخوها ابراهيم يكتب لها الشعر ،وهي تنشره باسمها " وظل هناك من يقول العبارة حتى بعد وفاة أخيها ابراهيم. وأنا ،حتى الآن ،يحتارون في شيطاني الذي يكتب لي.
في 1995 كتبت مقالا عنوانه: "شيطاني الأنثى " وذهبت فيه إلى أن هناك امرأة تكتب لي. ومن العام 1990 والألمان والأردن والسلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية وهم يبحثون عن هذه الأنثى .
كثير من المبدعين في الشرق يشكك في انتاجهم ولعل قصة رواية "ذاكرة الجسد"لأحلام مستغانمي ماتزال عالقة في الذاكرة ، ولذلك تبدو صورة الشرق في الرواية قاتمة ،مع أن الرواية لا تخلو من نموذج غربي حصل معه ما حصل مع مي.
إن دراسة سمة التوازي في الرواية بين مي و (كامي كلوديل) تستحق وحدها دراسة.
في الصفحة 149 ضرب واضح من التناص ما بين الرواية والأدب العالمي. إن الرسالة التي كتبها (رودان ) ل (كامي ) شبيهة إلى حد كبير برسالة جوزيف إلى مي (ينظر: الرواية 149 ).
3 :" العناوين "
العنوان الرئيس لرواية واسيني هو"مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية "
وهناك ما يشبه المقدمة عنوانها "في ملابسات مخطوط "ليالي العصفورية " "( 7 - 45) تتكون من 14 رقما.
-ص47 هناك وسط الصفحة الآتي "مي زيادة (ايزيس كوبيا )".
-ص49 " ليالي العصفورية: تفاصيل مأساتي، من ربيع 1936 إلى خريف 1941
النسخة الكاملة التي تم العثور عليها في صحراء الجيزة، ودير عينطورة في بيروت
تحقيق وترتيب وتعليق
روز خليل وياسين الأبيض
Editions BNF Paris and et LRAL Montreal 2017 "
-ص51 بدء الليالي.
-ص53
1-مريمتك أنا يا الله، فلماذا تخليت عني؟
ليلة 16 أيار/ مايو 1936 وما تلاها.
-ص119
2-وانزويت تتأملني، كأنك لم تكن معنيا بآلامي
ليلة 2.حزيران/ يونيو 1936 وما تلاها.
-ص173
3-خصني بحضنك يا الله، لكي أعرف أنني منك
ليلة 14 أيلول/ سبتمبر 1936 وما تلاها
-ص217
3-سامحهم يا ربي، فهم لا يعلمون
ليلة 28 كانون الأول/ ديسمبر 1936 وما تلاها
-ص265
4-يا أبتاه...بين يديك، استودع روحي (1)
ليلة آذار/ مارس 1938 وما تلاها .
( 1 ) (لوقا 23:46.)
-ص301
اغسليني يا أمي من دمي، ودثريني بصدرك
ليلة 2شباط/ فيراير 1939 وما تلاها.
-ص327 اخر الصفحة-
-(انتهت يوميات ليالي العصفورية
تمت صباح يوم الأحد في 19 تشرين الأول/ اوكتوبر 1941 )
-ص331
هي لم تمت، لكنها شبهت لهم
ليلة أيلول/ سبتمبر 2017 وما تلاها.
- ص347
شكر.
فماذا يعني ما سبق؟
الكتابة تطول حول هذا وتحتاج إلى دراسة مفصلة.
ولكن:
لماذا كرر الكاتب ياسين الأبيض الرقم 3 مرتين؟
الليالي ثلاثمائة وليلة والمدة الزمنية للتواريخ المسجلة تفوق لياليها بكثير عدد الليالي المشار إليها.
كتب ياسين الأبيض في النهاية "يوميات" وهي ليال وفوق ما سبق لا نقرأ يوميات مؤرخة.ولو قرأنا يوميات من ربيع 1936 إلى خريف 1941 لوجب أن نقرأ ألفي ليلة وليلة/ يومية ويومية.
تحيلنا كلمة "ليالي "إلى ليالي " ألف ليلة وليلة " ،ويفترض أن يكون هناك مخاطب/ متكلم ومخاطب/مروي عليه ،وهذا غير موجود.
الاسئلة كثيرة والإجابات تحتاج ،كما ذكرت، إلى تأن وصبر و تأمل.
4 : " العنوان "
أسفل العنوان ، على غلاف الرواية ، كلمة "رواية"-يعني العقد بين الكاتب واسيني الأعرج والقاريء يقوم على أساس أن ما سيشتريه القاريء هو عمل روائي.
أول ما يتخطى القاريء الصفحات الثلاث التي تتكرر فيها المعلومات والتصدير ببعض عبارات مي وغيرها ، يقرأ عنوانا يقول لنا شيئا آخر.
العنوان الداخلي يقول إننا سنقرأ تحقيق مخطوط لمي ينجزه كاتب اسمه ياسين الأبيض ، لا رواية لواسيني: "من ملابسات مخطوط ليالي العصفورية ".
وفي ص 45 يكتب المحقق بحرف أسود بارز غامق: "
ليالي العصفورية..تفاصيل مأساتي، من ربيع 1936 إلى خريف 1941 " وفي صفحة 49 كتابة واضحة تقول لنا غير ما قرأناه على الغلاف "رواية" وتقول لنا الكتابة إننا سنقرأ ما كتبته مي زيادة عن تجربتها- يعني بعض سيرتها ، وسنكتشف أن الكتابة ليست عن ثلاثمائة ليلة وليلة ، بل وسنعرف أن ما نقرؤه يشمل كتابا ثانيا غير يوميات مي في العصفورية.
في الصفحة 291 نقرأ أن مي بعد كتابة يومياتها في العصفورية "بدأت تكتب كتابا آخر " عن إقامتها في بيروت وأنها دمجت كتابها الثاني في صلب "يومياتي وليالي في العصفورية" وهذه الإشارة توضح لنا الإشكالات الناجمة عن الأزمنة المشار إليها في العناوين الفرعية وأكثر.
على الغلاف المكررة معلوماته في الصفخة 3 نقرأ "ثلاثمائة ليلة وليلة " ولكننا في المتن نقرأ غير مرة دال "يوميات""يومياتي" كما في الصفحات 264/ 327 على سبيل المثال.
ثم إننا نفتقد تاريخ كل يوم كانت تدون فيه.
لقد خطر ببالي مثلا أن أعد الأرقام التي وضعت في المخطوط والكتاب الثاني لألحظ إن كان عددها حقا 301 .ولكنني متأكد من أن الأرقام لا يصل مجموعها إلى هذا الرقم ، وهذا يعني أن اليوميات لم تكن تكتب يوما يوما.
5 :" العنوان":
العناوين :التربية الدينية والله"
كان لترببة مي الدينية حيث درست في مدارس الراهبات وفي الأديرة ، وقرأت الإنجيل ، تأثير كبير على حياتها.
إن تأملنا العناوين الداخلية لكتابيها معا "ليالي العصفورية " وما تلاه من كتابة عن حياتها في بيروت ،فسوف نلحظ أنها عناوين تخاطب الرب ،وللرب حضور كبير في حياتها وكذلك للمسيح.
هناك أربعة كان لهم حضور كبير في الرواية غالبا ما كانت مي تستحضرهم وكان لفقدان قسم منهم إثر كبير في انهيارها العصبي ؛ الأب البيولوجي والأم البيولوجية والله وجبران خليل جبران ، ويحضر هؤلاء في الرواية من بداية المخطوط حتى نهايته .
شعرت مي في فترة بأن الله تخلى عنها ، ثم لما خرجت من العصفورية ووقف العدل إلى جانبها شعرت أن الله وقف إلى جانبها .
انعكست التربية الدينية لمي ليس على العناوين الفرعية- وإن كان هذا افتراضيا- بل على علاقتها بالعقاد.
كان العقاد يريد مي ويشتهيها ،كما لو أنه لا يرى فيها غير أنثى لا بد من اصطحابها إلى الفراش ، وكانت هي ترفض وتبرر لنا -في الرواية- رفضها . وقد أتت على هذا في غير مكان ،كما في الصفحات 212 /294/ 295 .
بقي أحد العناوين الذي كان من وضع ياسين الأبيض . إنه يتبنى الرؤية الاسلامية لنهاية المسيح ،على ما يبدو ، أو أنه قاريء للنص القرآني ،ولذلك يختار " هي لم تمت ، لكنها شبهت لهم "331 لتكون رؤيته لنهاية مي. وثمة ربط في الرواية بين تجربة مي وتجربة المسيح . كلاهما عانى ، وإذا كان أحد تلاميذ المسيح خانه وسلمه ،فإن من سلم مي إلى العصفورية هو جوزيف ابن عمها الذي أحبته واختارته وصيا على املاكها.
6: "ألف ليلة وليلة "و"ألف ليلة وليلتان "و....
كتب واسيني على غلاف روايته اسمه الأول فقط (واسيني ) بالعربية ،وكتبه كاملا بالحروف اللاتينية وبالحروف الكبيرة (WACINY LAREDJ )وتصدرت صورة مي التي كتب اسمها (مي) بالأسود لوحة الغلاف.
أسفل اسم مي الذي توسط الصفحة كتب باللون الأبيض بحروف سميكة ، الآتي :
"ليالي إيزيس كوبيا "وأسفل منها "ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية " وتحت هذه كتب دال "رواية "ومن ثم اسم دار النشر وشعارها.
طبعا قد يثير القاريء اسئلة عديدة منها : لماذا كتب الكاتب ، بالعربية ، اسمه الأول فقط ولم يفعل الشيء نفسه بالحروف اللاتينية؟ ولماذا أيضا فعل الشيء نفسه مع اسم بطلته؟
وعندما ينتهي المرء من قراءة الرواية يتساءل: لقد قال لنا الروائي في المتن إنه حقق مخطوطة لمي وهي أصلا يوميات ، فلماذا كتب "ثلاثمائة ليلة وليلة "؟
والأسئلة تجر أخرى ، فالمرء يقرأ ما افترض أن مي كتبته ، لا في ثلاثمائة ليلة وليلة ، بل يقرأ ما كتبته مي منذ زج بها في العصفورية حتى خروجها منها وإقامتها في مستشفى رابيز وفي شقة مستأجرة أيضا ، ثم ما كتبته عن عودتها إلى مصر وسفرها إلى إيطاليا وعودتها إلى مصر لتموت فيها ،وكما يرد في صفحة 49 :
" ليالي العصفورية
تفاصيل مأساتي من ربيع 1936 إلى خريف 1941 "-أي مدة خمس سنوات ونصف وتجيب الرواية في بعض صفحاتها عن هذا السؤال ، بل إننا نقرأ عن ليلة متأخرة جدا هي الليلة التي ظهرت فيها مي لياسين الأبيض.
في صفحة 331 نقرأ العنوان الآتي:
"هي لم تمت ، لكنها شبهت لهم
ليلة أيلول/ سبتمبر 2017 وما تلاها ".
ثم إن المرء يقرأ في المتن والهوامش لفظة"يوميات " لا لفظة "ليالي أو ليلة" ولا يقرأ كتابة يومية، وفي الصفحة نفسها يقرأ القاريء أن الجهد قام به اثنان لا واحد كما كتب على غلاف الرواية:
"تحقيق وترتيب وتعليق روز خليل وياسين الأبيض "2017.
إن لفظة "ثلاثمائة ليلة وليلة "تذكرنا بالكتاب الشهير "ألف ليلة وليلة "ولكننا لسنا أمام شهريار تقص على شهرزاد . شهريار هنا/مي تقص عما فعله شهرزاد/ جوزيف بها لا لأنها خدعته وخانته وإنما لأنه طمع في ثروتها ،فهو من خان حبها له وتزوج من فرنسية.
هل أراد جوزيف أن ينتقم لأخيه نعوم الذي خطبت مي له ورفضته؟ هل كان شهريار يقبع في أعماق جوزيف؟ ولكنه تزوج من فرنسية.
"ألف ليلة وليلتان " هو عنوان رواية للروائي السوري هاني الراهب.
7 :"ما بعد لعبة الشكل في الرواية العربية":
ما الذي يلفت في رواية واسيني الأعرج "مي ليالي إيزيس كوبيا..ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية "2018 :الحكاية أم روايتها؟
من الفروق الأساسية بين المنهجين ؛الاجتماعي الماركسي والبنيوي الشكلاني الالتفات إلى أولوية المحتوى وأولوية الشكل .
ليس المهم الحكاية . يقول البنيويون ، بل كيف تروى ؟ في حين يولي الماركسيون الأولوية لما يقال.
عقبت قارئة لإحدى خربشاتي بالآتي: أليست طريقة واسيني الأعرج في روايته مستهلكة ؟
ما شدني شخصيا وأنا أقرأ الرواية هو موضوعها أما طريقة البناء الروائي فقد أتيت عليها وأنا أدرس رواية الياس خوري "أولاد الغيتو .. اسمي آدم " ،وتحديدا حين كتبت عن صلة الرواية بالرواية العربية.
الجامعة الأردنية ستعقد في تموز مؤتمرا عن "المابعد" وفكرت شخصيا في أن اكتب عن "لعبة الشكل في الرواية العربية...المابعد" وسوف اتخذ ، في مقال لاحق لي ، في زاويتي ، من رواية واسيني مدخلا لمساءلة "المابعد"
وماذا بعد؟
ماذا بعد؟
"فجأة صاحت جندية
هو أنت ثانية
ألم أقتلك؟
قلت :قتلتني
ونسيت مثلك أن أموت "
8 : "البيت الأندلسي ":
ربما يقول لي واسيني الأعرج إنني ، في فكرة المخطوط والاتكاء عليه لإنجاز رواية ، أسبق بسنتين من عبد الرحيم لحبيبي . ربما.
من ضمن الروايات العشر رواية لواسيني نفسه هي رواية "البيت الأندلسي "2010 ،ومع ذلك يبدو التشابه بين "مي ليالي إيزيس كوبيا " و"تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية "2011/ طبعة 2/2014 أوضح من حيث التمهيد وتشابهه في الروايتين تقريبا.
لقد عدت شخصيا إلى نسختي من "البيت الأندلسي " ولاحظت أنني دونت أسماء روايات عديدة هي:
-"اسم الوردة" ل (امبرتو ايكو )
-"شيفرة دافنشي " ل (دان براون )
-"عزازيل" ليوسف زيدان ،ولطالما قيل عنها إنها النسخة العربية من "شيفرة دافنشي ".
-"خريطة للحب" لأهداف سويف .
-"العطر" ل (باتريك سوسكيند ).
والروايات المكتوبة بلغات غير عربية منقولة إلى العربية ، هذا إذا تناسينا أن واسيني يتقن الفرنسية.
لا بد من إعادة قراءة الصفحات الأولى من "البيت الأندلسي " 7 -25 وهي تحت عنوان "استخبار ماسيكا" وعموما فقد كنت وجهت طالبي حسني مليطات ، ليكتب عن صلة "البيت الأندلسي" بنصوص سابقة ، في رسالة الماجستير التي أعدها حول رواية واسيني.
9: "روايات عربية سابقة":
يجدر الوقوف مفصلا أمام ما لا يقل عن عشر روايات عربية ، في أثناء قراءة الصفحات الخمسة والاربعين الأولى ، والصفحات العشرين الأخيرة ، من رواية واسيني "مي ليالي إيزيس كوبيا ".
الصفحات مدرجة تحت عنوان "في ملابسات مخطوط ليالي العصفورية "( 7) حتى الصفحة (45 ) وتحت عنوان "هي لم تمت ، لكنها شبهت لهم -ليلة أيلول/ سبتمبر 2017 وما تلاها".
إنها تطرح سؤال "المابعد" في الرواية العربية.
الروايات العربية العشر هي:
-"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل "1974 لاميل حبيبي.
-"شرق المتوسط"1975 لعبد الرحمن منيف.
-"الآن هنا...أو شرق المتوسط مرة أخرى "1990 لمنيف أيضا.
-"خربشات ضمير المخاطب "1997 لعادل الأسطة.
-"مصابيح أورشليم..رواية عن ادوارد سعيد "2006 لعلي بدر.
-"عزازيل "2007 ليوسف زيدان.
-"ترمي بشرر 2009 لعبده خال.
-"مدينة الله"2009 لحسن حميد.
-"البيت الأندلسي "2010 لواسيني نفسه.
-"ساق البامبو "2013 لسعود السنعوسي.
-"أولاد الغيتو...اسمي آدم "2016 لالياس خوري.
نعم إنها تطرح سؤال "المابعد "في الرواية العربية ، وسؤال الجديد الذي يتحول إلى نمط ،الجديد غير المألوف الذي يغدو مع الأيام مألوفا ولا يرى فيه القاريء جديدا فيما يخص الشكل.
هل يمكن أن أكون جريئا وأتساءل:
-ماذا لو حذفنا الصفحات الأربعين الأولى والصفحات العشرين الأخيرة من رواية واسيني وتركنا محتواها له يعبر عنه في أثناء إلقائه شهادة في مؤتمر أو ندوة أو لمقابلة يجريها معه ناقد لمجلة أو صحيفة؟
وماذا لو فعلنا الشيء نفسه في رواية "عزازيل"و"تغريبة الحميرية "و"أولاد الغيتو "؟
الموضوع قابل للنقاش وللاجتهاد.
10 : "ومن قال إن الرواية فن سهل؟ ( ص347 ):
يعيدنا الشكر الذي كتبه واسيني الأعرج ، في نهاية الرواية ، إلى الصفحات الأولى (من 7 حتى 45 ) وكانت تحت عنوان "في ملابسات مخطوط" ليالي العصفورية ".
يبذل ياسين الأبيض ، ومن ورائه واسيني الأعرج ، جهودا كبيرة في البحث عن المخطوطة يصل إلى ثلاث سنوات ، وكاد خلالها يفقد حياته ، ولكنه نجا بقدرة قادر ، فالطائرة التي كان يفترض أن يكون على متنها سقطت وتحطمت.
يقدم واسيني شكره لكل من قدم له مساعدة في إنجازه عمله الروائي وهم كثر.
ينهي واسيني شكره بالآتي: "
ما زلت أؤمن وأنا أنهي "ليالي إيزيس كوبيا " ، بأن الرواية أصبحت اليوم أهم سلاح في وجه طغيان النسيان وهزيمة الذاكرة ،لتحرير التمثال العالق منذ قرون ، بأعماق الصخرة الصماء "( ص350).
عبارته هذه تذكرنا برأي الروائي ( كارلوس فينتوس ) الذي ذهب إلى أن الرواية تقول ما يحجبه التاريخ ، وبرأي الناقد فيصل دراج الذي يرى أن الرواية هي ذاكرة المغلوبين.
بين رأي هؤلاء الثلاثة ؛واسيني و (فونتيس ) ودراج وبين رأي أساتذة جامعاتنا العباقرة الأفذاذ مسافة كبيرة إذ أكثر الاخيرين يرون في الرواية ثرثرة لا قيمة لها.
11 : "الأشياء تأتي متاخرة ":
لفت نظري في الصفحات الأولى من الرواية عبارة ذات دلالة جاءت عابرة ، ولكنها ، فيما أظن ، تعبر عن مكبوت صادق ، وهذه العبارة تخص علاقة ياسين الأبيض بروز خليل التي اشتركت معه في تأليف الرواية- هنا تحقيق المخطوط ؛ مخطوط "مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية".
يتذكر ياسين وهو في المطار لحظة بوح بينه وبين روز يأتيان فيها على العلاقة بينهما في أثناء البحث عن المخطوط
وفيها ترد العبارة الآتية:
"-لو التقينا قبل عشرين سنة لما كنا افترقنا أبدا " (42)
ترد روز:
"- لست نادمة على شيء. لقد اخترت عملي وحريتي. ابنتاي ميا وليلي ، تملآن حياتي ، من زواج لم يستمر طويلا ، من رجل جيد ،لكنه لا هو تحملني ولا أنا تحملته . الرجل الشرقي يخاف المرأة القوية ".
روز هنا تختلف عن سحر خليفة التي ابرزت صورة سلبية في المطلق لطليقها.
بعض النساء المطلقات يكن مثل روز وبعضهن مثل سحر وكذلك الرجال.
طبعا حين نقارن بين ياسين وأكثر الأدباء الذين أتت عليهم مي في "ليالي العصفورية"وما بعد ليالي العصفورية نجد الفرق واضحا ، وتحديدا بين صورة ياسين وصورة العقاد وطه حسين والرافعي . وكنت أتيت على هذا من قبل وإن بإيجاز . هل يرسم واسيني لنفسه صورة مختلفة، هو الذي أنصف مي ؟
ترى لو عاش ياسين في زمن مي وأقام علاقة معها كيف كان سيتصرف؟ هل سيكون مثل أمين الريحاني أم مثل العقاد وطه حسين والرافعي ؟
أعتقد أن شكل العلاقة بينه وبين مي هو ما سيحدد الأمر.
12 :"الرواية كوسيط معرفي":
غالبا ما أعود وأنا أقرأ الرواية إلى الكتب النظرية الخاصة بالفن الروائي ، ولا أتردد في العودة إلى المقدمة التي كتبها خليل بيدس لمجموعته القصصية "مسارح الأذهان "1924 وأتوقف أمام رأيه.
آخر الكتب التي اقتنيتها عن فن الرواية كتاب ترجمته لطفية الدليمي وكتبت له مقدمة. الكتاب ل ( روبرت ايغلستون ) "الرواية المعاصرة: مقدمة قصيرة جدا " ( دار المدى2017). وتذكر مقدمة لطفية بمقدمة بيدس وتتقاطع معها وتضيف إليها.
مما يرد في المقدمة أن الرواية تكتب للمتعة ،وكان بيدس قال هذا ،وتضيف كاتبة المقدمة نقاطا أخرى كثيرة منها أن الرواية وسيط معرفي . وهذا ما يتحقق ،بامتياز ، في رواية واسيني "مي ليالي إيزيس كوبيا ".
الرواية تطلعنا على قصة حياة كاتبة عربية ريادية مؤسسة وتطلعنا على أهم الصحف التي كانت تصدر في النصف الأول من القرن العشرين ،كما تعرفنا على علاقات الأدباء بمي ؛الذين التقوا بها ، مثل العفاد والرافعي وطه حسين ، والذين راسلتهم ولم تلتق بهم ، مثل جبران ، كما تلقي أضواء على بعض نتاج مي زيادة.
طبعا لا تخلو الرواية من تحقيق شرط المتعة ومن توفر عنصر التشويق فكاتبها صاحب خبرة في المجال الروائي ،وهنا أحيل ثانية إلى مقدمة لطفية الدليمي.
لا غبار في أن واسيني الأعرج كاتب محترف يتقن صنعته وإن كانت الرواية لا تخلو من هنات قليلة.
13 :"مي: سؤال الهوية":
تجيب مي طه حسين ، حين ينسب نفسه إلى أرض الكنانة ومي إلى " بلدها لبنان" بالآتي:
"لا سيد طه حسين ،أعطيت كل شيء لبلدي مصر ، أنا شامية صح ،لكن هذه البلاد أعطتني كل شيء وأنا عدت لأموت فيها واصطف بجانب والدي وأمي "( 319).
ووالد مي من لبنان وأمها من الناصرة ،وأقاموا في مصر ،فهل هي شامية أم مصرية؟
وبعد اتفاقية (سايكس- بيكو ) هل هي لبنانية أم فلسطينية؟
كان مصطلح "بلاد الشام "" في حينه شائعا وأخذ اسم فلسطين يشيع ، أكثر وأكثر ، منذ وعد بلفور .
في لبنان ، وهي في العصفورية، كان اللبنانيون ينعتونها ب"المجنونة المصرية" وهي كانت تنشد الخروج من العصفورية لتعود إلى مصر وتدفن إلى جانب والديها هناك.
كانت علاقة مي علاقة وثيقة بالأدباء والكتاب والمفكرين وفتحت صالونها لهم ولم تمانع في إقامة علاقة ودية مع العقاد أو مع الرافعي. ببساطة لم تلتفت إلى النزعة الإقليمية التي بدأت تظهر لدى بعض أدباء مصر ومنهم من دعا إلى دراسة الأدب اعتمادا على النزعة الإقليمية. هل مي مصرية أم شامية؟ وإذا كانت شامية فهل هي لبنانية أم فلسطينية؟
مي ،حسب اللغة ،كاتبة عربية .صحيح أنها كتبت بلغات أخرى ولكنها أقامت علاقات مع الأدب العربي والأدباء العرب وفضلت الموت في مصر.
14 :" التعاطف مع مي ":
يصدر واسيني روايته بعبارات ثلاث هي :" إني أموت ، لكني أتمنى أن يأتي بعدي من ينصفني " (ويعود إلى هذه العبارة في ص344 ) و" أراني في وطني تلك الغريبة الطريدة التي لا وطن لها " -وهما لمي زيادة - وعبارة ثالثة ل (كاميليا كلاودل ) كتبتها في 1934 وترجمتها كما في الهامش- إذ أوردها بالفرنسية- "تقول لي إن الله يعطف على المظلومين ، وإنه طيب...الخ لنسأل الهك الذي يترك البراءة تتعفن في ملجأ المجانين ".
وأظن أن المؤلف الضمني للرواية ياسين الأبيض الذي أتى بعد موت مي وأنهى تحقيقه لمخطوطتها وكتابها معا في العام 2017- أي بعد موت مي ب76 عاما- أظن أنه أنصف الكاتبة التي ظلمها عصرها.
في النقد الأدبي هناك نقد نصفه بالنقد المتعاطف- كما أكتب عن محمود درويش ومظفر النواب-
ونحن أمام رواية تعاطف فيها ياسين الأبيض ، ومن ورائه واسيني الأعرج ، مع بطلة روايته .
لقد أنفق ياسين ثلاث سنوات مع صديقته روز خليل في البحث عن المخطوطة/ افتراضا وتحقيقها ، وأرهقهما العمل لدرجة أنه وهو يغادر المكتبة تخيل مي تخاطبه ملخصة قصتها: "أبقاني عنده شهرين ونصف شهر على مضض مني ،وأنا أطالبه بالعودة. حتى استكمل برنامجه في أمري ،فأرسلني إلى العصفورية ،بحجة التغذية. وباسم الحياة ، ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل ".
وعموما فإن العبارات الثلاثة تقول الرواية ، بعد أن نفرغ من قراءتها ، أنها- أي العبارات- توجز مضمون الرواية والقصد من ورائها.
ينصف واسيني مي فيكتب روايتها/ قصتها ويفضح مثقفي عصرها ممن تخلوا عنها ويرسم صورة مقززة لأقاربها. وتعيش مي في وطنها غريبة طريدة كما لو أنه لا وطن لها ، فهي في لبنان ،وطن أبيها ،تنعت بالمجنونة المصرية ، ولعل سؤال الهوية سؤال أساس من أسئلة الرواية، ويحضر الله في الرواية حضورا لافتا وتظل مي تسأله وإن أنصفها في النهاية.
15 :"بؤس المثقفين...بؤسنا ":
في معرض الكتاب ، في رام الله ، بحثت عن رواية واسيني الأعرج "مي ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية "2018.
اشتريت طبعة دار الآداب التي عرضت في جناح دار الشروق/ فتحي البس ،وكنت قرأت مقالا أو مقالين عن الرواية.
في لقائي الروائي وناقدته المتخصصة فى أعماله ا.د.رزان ابراهيم أصغيت إلى رأيهما في الرواية . قال الكاتب عن علاقة مثقفي عصر مي بها إن اكثرهم كانوا كاذبين ، وهذا ما تبرزه عموما الرواية لأكثرهم.
تبدو صورة أدباء عصر مي وموقفهم من مأساتها ، إلا أقلهم ، صورة سلبية مظلمة ؛ من العقاد إلى طه حسين إلى الرافعي.
الصورة السلبية المظلمة لهم في الرواية ترد على لسان مي ،فالرواية بعد الصفحة ال 48 تقريبا تصاغ بأسلوب الترجمة الذاتية/ الضمير الأول.
شخصيا لم اتفاجأ من هذه الصورة لكبار الأدباء العرب . ببساطة لأن أكثرنا خرج من بيئة متخلفة ؛ من القرية أو الحارة أو المخيم ، وتجربتي الشخصية تقول ما تقوله تجربة مي ، وما قالته مي في الرواية.
ببساطة أكثر المتعلمين والأدباء بؤساء جدا. إن تتبع صورة هؤلاء في الرواية يبدو أمرا مجديا ، وقد تصدم صورتهم الكثيرين. ونحن في الرواية نقرأ وجهة نظر صاحبة المخطوطة وإن أصغينا قليلا إلى وجهات نظر قسم منهم بإيجاز .
الغيرة والحسد والجبن وتبني مواقف الآخرين دون التأكد منها ، ولكن هذا لا يعني أن مثقفي عصرها كلهم تشابهوا ،فثمة مثقفون وقفوا إلى جانبها.
جبن أكثر المثقفين ولكن أحد التجار من مدينة الأديبة "الناصرة " وهو التاجر مارون غانم يتبنى قضيتها ويوكل لها محاميا.
بخلاف العقاد وطه حسين والرافعي وقف أمين الريحاني، إلى جانب مي ، موقفا نبيلا. ومي التي كادت ترى في الآخرين جحيما عادت وذكرت بعض من وقف إلى جانبها وأعاد إليها الروح وبعث فيها الأمل.
عموما يمكن القول إن صورة المثقف العربي في الرواية العربية تبدو سلبية ،والموضوع لفت أنظار الدارسين ،وأتى عليه محمد عزام في كتابه عن إشكالية البطل في الرواية العربية.
قبل سنوات أصدر الروائي السوري خالد خليفة روايته "لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة "2013 وأبرز فيها صورة للمثقفين في نظام حكم شمولي وكانت الصورة مظلمة. والموضوع يحتاج إلى متابعة لا في رواية واسيني بل في الرواية العربية بشكل عام.
16 : أهو النسيان؟
طه حسين "في الشعر الجاهلي ":
وأنا أقرأ الرواية
لفت نظري اهتمام ياسين الأبيض بالمخطوطات.
مما ورد في المقطع 12 السطر 14 ص 39 من طبعة دار الآداب السطر الآتي:
"عثرت من خلالها على نص طه حسين الضائع :"في الشعر الجاهلي "، وغير المتداول اليوم فيه الكثير من الفقرات التي قام بنزعها هو نفسه ،قبل أن تعدم الكتاب كله الرقابة ،التي كانت ستغرقه في حياته بشأن القرآن والعقلانية العربية المريضة ...".
ربما يجب أن أذكر ياسين الأبيض ، ومن ورائه واسيني الأعرج ، أن مجلة "القاهرة"التي أشرف د.غالي شكري على إصدارها في 90 القرن العشرين أعادت ، في أحد أعدادها ، نشر الكتاب كما ظهر في طبعته الأصلية .
في أثناء قراءة الرواية التاريخية يجدر الالتفات إلى تأثير زمن الكتابة على الزمن الروائي . إن ما يراود الدارس ،وهو يقرأ رواية تاريخية ، هو: هل يعيش المؤلف في الزمن التاريخي ويتمثله كليا بحيث ينسى زمنه هو- أي الزمن الكتابي؟
ربما لم تبق نسخ من كتاب طه حسين في زمن مي زيادة .
في تتبع تأثير الزمن الكتابي على الزمن الروائي غالبا ما يحدث العكس . أعني غالبا ما يترك زمن الكتابة تأثيره على الزمن المسترجع ، وقد التبست علي شخصيا بعض الأمور وراجعت الكاتب فيها فأبدى لي وجهة نظره فيها.
والحق يقال إنني بذلت مجهودا للتأكد منها ،ومما لفت نظري مثلا الآتي:
-هل كان ال (ميك أب ) شائعا في زمن مي في العالم العربي؟
-هل استخدمت فرنسا الطائرات المروحية في لبنان في أثناء استعمارها لها؟
-هل استخدم لفظ صاحب السمو الملكي في مراسلات الأمير عبدالله الأول قبل تأسيس المملكة؟
وكانت إجابات الكاتب لي بأن نعم وأنه كان يقظا لهذا الجانب.
ومع ما ذهب إليه المؤلف ودفاعه عنه إلا أنني أحيانا كنت ألحظ تأثير زمن الكتابة على الزمن الروائي .والأمر يتطلب المزيد من الحفر.
17 :"تعدد اللهجات ":
شخوص واسيني في روايته هذه شخوص ينتمون إلى أقطار عربية مختلفة ؛بلاد الشام التي صارت ، منذ الانتداب ، أربع دول هي لبنان وفلسطين وسورية والأردن ، ويحضر أبناء هذه الدول والمقيمون فيها بنسب ، ومصر ويحضر ابناؤها في زمني الرواية ؛زمن مي وعصرها ، وزمن ياسين / واسيني ، ونسبة حضور كل زمن مختلفة عموما ، فالصفحات التي تغطي زمن ياسين تقتصر على الصفحات الأربعين الأولى والصفحات العشرين الأخيرة (331- 350).
يعني إننا أمام لغة زمن مي (1886- 1941 )ولغة زمن تأليف ياسين روايته (2014- 2017).
هكذا تحضر في الرواية لهجات بلاد الشام واللهجة المصرية والسؤال هو : هل استطاع ياسين تمثل تلك اللهجات تمثلا ناجحا؟
تجدر الإشارة إلى أن واسيني الأعرج درس في جامعة دمشق وأقام في المدينة ما لا يقل عن ثماني سنوات ،وعليه فإنه سمع اللهجات الشامية المتعددة والمختلفة.
لا أريد أن أطيل الكتابة في هذا الجانب هنا ،فقد أعود لآتي بامثلة توضيحية ولكني أرى أن المؤلف لم يتمثل لهجات شخوصه تمثلا تاما.
ما كنت أستغربه هو أن طه حسين ،على قلة عباراته في النص ،تكلم باللهجة لا بالفصيحة. هل استغرابي في محله.
اميل حبيبي و الياس خوري يكتبان بلغة عربية فصيحة وراقية ،بل إن لغة اميل تراثية فصيحة بامتياز ، ولكنه ومثله الياس يتكلمان بالعامية ولغة حديث الثاني مغرقة في عاميتها اللبنانية، ومع أن مي تكتب يومياتها وهي في لبنان إلا أن اللهجة اللبنانية التي نعرفها تبدو شبه غائبة.
ما لفت نظري هو أن ياسين الأبيض التقى بالأسطى عادل المصري ،وهذا يلثغ فينطق السين ثاء ولكنه ينطق الصاد صادا.
سؤالي هو :هل من ينطق السين ثاء ينطق الصاد صادا؟
أحيانا قليلة ينسى ياسين أن الأسطى عادل يلثغ فينطقه السين سينا . لو استشارني واسيني في لهجة الشخصيات لكان لي رأي تفصيلي.
18: "جنازة مي...جنازة المبدعين":
يتوقف ياسين الأبيض/ واسيني الأعرج وهو يكتب عن ملابسات مخطوط ليالي العصفورية أمام جنازة مي زيادة.
يبدي ، وهو يكتب عن جنازتها ، تعاطفه معها "لم يحدث لي أن أحسست بآلام امرأة مثلما أحسست بآلام مي ،لهذا أشعر كأني معني بقوة بهذه الآلام "( 38).
كنت كتبت أن واسيني يتعاطف مع مي . الفقرة المقتبسة دليل واضح. ويتساءل المؤلف إن كان بروايته أرجع إليها ما سرق منها أو بعضه ،ويعتقد أنها سعيدة هذه اللحظة "بعد حياة قاسية ، وجنازة حضرتها القطط برفقة ثلاثة أشخاص رافقوها حتى مثواها الأخير "( 39).
يتذكر المرء ، وهو يقرأ ما سبق ، جنازات مبدعين كثر لم يلتفت إليهم يوم موتهم .
قرأت ملاحظات كتاب عن جنازات علي حسين خلف و إحسان عباس و أحمد دحبور واللغوي العراقي ابراهيم السامرائي و...
وأظن أن طه حسين توفي في الحرب في (اكتوبر) 1973 وانشغل الناس عنه بأخبار الحرب.
هل تخيل محمود درويش أن جنازته ستكون على ما كانت عليه؟
في أشعاره سار مرة في جنازة "لا أعرف الشخص الغريب"ولكنه رأى جنازة فسار في ركابها وتخيل أن عدد من سيسيرون في جنازته سيكون قليلا ، مثل جنازة الرجل الغريب "والسائرون وراءه عشرون شخصا ما عداي" "وقد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي/ ،لكن أمرا الهيا يؤجلها/لأسباب عديدة.."
يعيش المثقف غريبا ويموت غريبا.
19 :"جوزيف زيادة وجوزيف. ك":
في أثناء قراءة "مي ليالي إيزيس كوبيا " يتذكر قاريء (فرانز كافكا ) روايته " المحكمة/ القضية" .
يذكر جوزيف/يوسف زيادة ب ( جوزيف. ك) ولكن معكوسا.
ثمة امرأة تشي ببطل رواية (كافكا ) تقوده إلى حبل المشنقة. كان (جوزيف.ك)ضحية المرأة.
في رواية واسيني يقود جوزيف مي زيادة ابنة عمه إلى العصفورية والجنون والمرض ، وفي الرواية هامش يشير إلى أن مي ماتت مسممة.( ص 334)
تتساءل مي عن مثقفي الشرق وعن جوزيف الذي درس الطب في فرنسا كيف فعل بها ما فعل؟ وإلى أين قاده طمعه هو الشخص الذي أحبته وفضلته على أكثر مثقفي عصرها ممن اقتربوا منها وطلبوا ودها.
مي التي ضعفت وألم بها انهيار عصبي استدعت ابن عمها جوزيف إلى القاهرة ووقعت له على ورقة توكله بحرية التصرف بأموالها ،وكانت ، كما تعترف ، غبية ،يقودها جوزيف إلى مشفى الأمراض العقلية ويحجر عليها فتكاد تصاب بالجنون وتفكر بالانتحار.
20 :"اللغة الفرنسية ":
لا يلجأ واسيني في روايته إلى ما يلجأ إليه الشاعر الغنائي الذي يكتب بالفصيحة -استثني الشاعر الشعبي الذي يكتب بالعامية أصلا - أعني لا يدخل لغته في مياه نهر ( ليثي) لتكون لغته ذات مستوى واحد .
كنت أتيت على اللهجات وتعددها في الرواية ،ولم ألتفت إلى الفصيحة واللغات الأخرى ، ولا اعتراض على لغة السرد لديه ، فهي فصيحة سليمة .
ما لفت نظري هو العبارات الفرنسية التي وردت في ثمانية مواضع على الأقل .
وقد يكون ورود هذه العبارات ضرورة فنية- أعني قد يكون ورودها مبررا فنيا ؛ فقسم منها يرد إلى مي من شخصيات فرنسية.
أحيانا كان واسيني يورد العبارات كما هي ،بلغتها الأصلية ، ويورد في الهامش ترجمتها ،وأحيانا كان يكتبها ولا يورد ترجمتها. هل ينسى الروائي أن الفرنسية لا يعرفها أكثر القراء وأن ايرادها يؤثر على فهم القاريء واستيعابه؟
لا يعرف قراء الرواية كلهم الفرنسية ، وهي لكثيرين ليست اللغة الأجنبية التي تعلموها.
ويمكن أن يوجه السؤال الآتي إلى الروائي:
-لماذا لم تنهج النهج نفسه في الرواية كلها؟
وردت عبارات فرنسية في الصفحات الآتية: 60/78/105/124/126/144/177/ 184/ 263.
والصحيح أن هذه الملاحظة لا تقتصر على هذه الرواية لواسيني وحسب .
كنت قبل سنوات اقرأ رواية "شرفات بحر الشمال" 2006 (طبعة دار الآداب ) ولاحظت الشيء نفسه ،وفي هذه ترد فقرات بالفرنسية ما جعلني أثير السؤال نفسه. ص41/ 74 على سبيل المثال لا الحصر.
ومن المؤكد أن دارسي نتاج الكاتب توقفوا أمام هذه الظاهرة.
21 : "النموذج والنمط":
في أثناء تتبع موقف مي من المثقفين والجرائد يكاد المرء يخرج بانطباع هو أنها كفرت أو كادت تكفر بالجميع ،ولا يقتصر هذا على البشر ،فهي أحيانا تخاطب الله كما لو أنه تخلى عنها.
ولكن القاريء الذي يمكن أن يتفهم ، احيانا ، هذا الميل إلى التعميم ، سرعان ما يلحظ أن مي ،منذ البداية ، تميز بين شخصية وأخرى ، فهي في العصفورية تميز بين ممرضة وأخرى ؛ بين متسلطة جلفة وثانية تتفهم مي وتقف إلى جانبها منذ زج بها في العصفورية ، مثل سوزان (بلوهارت) هذه التي ظلت إلى جانب مي حتى تعافيها وبراءتها.
يمكن قول الشيء نفسه عن الأدباء والكتاب والمفكرين الذين عرفوها وترددوا على صالونها.
في البداية أخذت مي ترى جميع من عرفتهم قد تخلى عنها ، ثم زارها أمين الريحاني ، بعد عودته إلى لبنان ، ووقف إلى جانبها وقفة مشرفة جدا.
الريحاني وبعض الجرائد وأصحابها وقفوا إلى جانب الكاتبة ما جعلها تتخفف من إطلاق أحكام تعميمية ،وكما ذكرت فإن موقفها من الله اختلف إذ عادت وشعرت بأنه وقف إلى جانبها.
تبدو صورة المجتمع قاسية ومثلها صورة المثقفين والأقارب ، والأخيرون- أي الأقارب- بدت صورتهم سوداوية مظلمة والرواية/ المخطوط كتب أصلا لفضحهم حيث كان الظلم الواقع من طرفهم ،على مي ، كبيرا وغير متوقع.
لقد أنت على مي لحظات عصيبة كادت فيها تسبق (سارتر ) في قوله "الآخرون هم الجحيم".
22 : "أولوية المحتوى ":
فيما كتبته عن "مي ليالي إيزيس " ركزت كثيرا على الشكل الفني وعلاقته بالرواية العربية ، والإشارة العابرة للرواية العالمية "اسم الوردة "و "شيفرة دافنتشي" ويمكن إضافة رواية "أهداف سويف "خريطة للحب" وبعض الكتاب يذكر أمين معلوف "سمرقند"-للأسف لم أطلع عليها- .
وأنا أتابع اهتمام القراء بما أكتب ألحظ التفاتا قليلا إلى ما أكتبه عن الشكل .
أمس كتبت عن مي والكتاب والمفكرين في عصرها وعن علاقتها بعائلتها ، ولاحظت التفات واسيني نفسه إلى ما كتبت حيث عقب ذاهبا إلى أنني الآن دخلت إلى عمق النص ،وما لاحظته أيضا أنه لم يلتفت كثيرا إلى ما كتبته عن ظواهر شكلية إلا فيما يخص دقة المعلومات وما ابديته من ملاحظات.
كما لو أن واسيني يرى أن أهمية روايته لا تكمن في ملاحظات تخص الشكل ،وإنما تكمن الأهمية في محتوى الرواية حيث يقدم لنا قصة أديبة ظلمت وتمنت أن تنصف ذات يوم .
ومن المؤكد أن الأفكار تمس وترا حساسا لدى الروائي وإن كان يختار لها الشكل المناسب ، ولأنه يكتب رواية عن شخصية إشكالية كتبت نصوصا في فترة حرجة وضاع بعض ما كتبت ؛أحرق أو دفن ، فإنه اختار اللجوء إلى حيلة البحث ،وكما ذكرت ،وأنا أكتب تحت عنوان "البيت الأندلسي "فإن البناء الفني للرواية الجديدة 2018 يتقاطع كثيرا ورواية "البيت الأندلسي "2010 وهذه أيضا رواية تجمع بين أزمنة مختلفة ،فهي تقص قصة بيت بني قبل مئات السنين وله حكاية مكتوبة ،في مخطوط مفتقد ،وهذا شغل ذهن (ماسيكا).
وأنا أقرأ ،من جديد ، الصفحات الأولى من "البيت الأندلسي " وجدت تقاطعات عديدة بين الروايتين في المقدمات التي أتت على قصة المخطوط والبحث عنه.
وما أريد أن أخلص إليه في هذا أن قاريء رواية "مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية " سيلتفت أكثر إلى موضوعها لا إلى شكلها وحيلتها الفنية المطروقة التي غدت مألوفة.
23 : "الشرق البائس":
تحضر في رواية واسيني ثنائية الشرق والغرب ،وهذه الثنائية تكاد تكون فكرة رئيسة في الأدب العربي ،ولقد أنجزت حولها دراسات وكتب عديدة وبغير لغة ،وكان لبعض الأدباء الذين ورد ذكرهم في الرواية موقف واضح منها. هنا أخص طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر".
حين تتهم مي في عقلها وسلوكها تدافع عن نفسها وتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.
يستكثر عليها قسم من معاصريها أنها تنجز ما أنجزت "وهناك من يتخفى ورائي ويكتب لي " (204)
مرة يقولون إنه أبوها وثانية إنه عشيقها الذي لم يحصل لها شرف اللقاء به.
"أن تكون رجلا يكتب ،فهذا تحصيل حاصل ،أن تكتب امرأة لا بد من أن يكون لها ظل"( 204 ) هنا تكتب مي:
"لا شيء في هذا الشرق الذي أخفق في كل شيء ،حتى في أن يكون هو ،خسر شرقيته، وأخفق في أن يكون غربا"(204).
والصحيح أنه يمكن التعمق في متابعة هذه الثنائية.
في موطن آخر تأتي مي على جوزيف الذي درس في باريس وحين عاد إلى الشرق عاد شرقيا . إن مي تتساءل بمرارة أيعقل أن يكون درس في باريس؟:
"ظننته كبيرا ومتنورا وحساسا ، وعاشقا للحياة في صفائها . تعلم كل العادات اللطيفة في باريس .لكنه فجأة تخلى عنها ،و أصبح يشبه الآخرين. شككني في كل يقينياتي .( 203 ).
والطريف أن مي تعرف قصة (كامي كلوديل ) و (رودان) بل إنها تتواصل معها ،وحصل مع (كامي) ما حصل وهي في الغرب.
وأنا أقرأ ما قالته مي في الشرق تذكرت رجب في رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط " :"هذا الشرق لا يلد إلا المسوخ ".
عانت مي من ظلم الآخرين واتهمت بعقلها وأنفقت أشهرا في العصفورية ،وأنفق رجب سنوات في سراديب شرق المتوسط لرأي سياسي.
لقد لفتت صورة الشرق المظلمة نظري في أثناء قراءة رواية منيف فأنجزت عنها مقالة طويلة.
ذكرتني عبارة مي بعبارة رجب.
24 :" الشرق /الذكورة":
حين درس الناقد جورج طرابيشي العلاقة بين الشرق والغرب في الرواية العربية في القرن العشرين ،وتناول أسماء معروفة هي توفيق الحكيم "عصفور من الشرق " ، ويحيى حقى "قنديل أم هاشم " ، وسهيل ادريس "الحي اللاتيني" ، والطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" اختار لكتابه عنوان "شرق وغرب، رجولة وأنوثة ".
يفتخر الشرقيون وهم في الغرب برجولتهم ،ولأنهم مهزومون أمام الغرب الذي غزاهم في عقر دارهم ،فإن الرجال الشرقيين في أوروبا يغزون النساء الأوروبيات ، وهذا ما بدا واضحا لدى مصطفى سعيد بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال ".
لا نلحظ سلوكا مشابها لسلوك مصطفى في رواية واسيني ،ولكن اقتران الشرق بالذكورة يبدو لافتا في غير مكان من الرواية.
إن الأدباء الشرقيين الوارد ذكرهم في الرواية يبدون في تعاملهم مع مي شرقيين بامتياز .
الوحيد من الأدباء الذي سلوكه مشابه لسلوك مصطفى سعيد هو جبران الذي تذكر مي أسماء عشيقاته.
إن شرقية الرجال الشرقيين وذكورتهم تبدو في علاقتهم مع المرأة ومع مي نفسها ، وهذا ما سأتوسع فيه في مقالة خاصة.
"في هذه الناحية ،يكاد كلهم لا يصلحون ،لا أحد منهم كان قادرا على رؤية نفسه في مرآة العمر الهارب ،مزهوا بثقافته التي وضعته في الصفوف الأولى ، وذكورته السخية
-هي هزيمة متنكرة في جلباب الذكورة المنكسرة.
"(112).
25 : "العائلة ":
الصورة التي تظهر في رواية واسيني لعائلة مي تتخذ شكلين ؛ الأول علاقة مي بوالديها ، وهي علاقة ودية جدا تقوم على المحبة والعطف والحنان والتقدير ، وحين تفقد والديها ينهار عالمها ، ويظل للوالدين حضور طاغ ، وكلما عانت مي من ضيم أو ظلم ، وما أكثر ما تعرضت له ، تذكرت أباها وأمها وشعرت بحاجتها الماسة إليهما.
والثاني علاقتها بعائلتها الواسعة الممتدة وكانت في بدايتها علاقة عادية ، ولكنها اختلفت بعد وفاة والدي مي ، وبعد أن آلت الثروة التي تركها الأب إليها .
طمع الأقارب بالثروة واستغلوا انهيار مي العصبي ليتهموها بالجنون وليزجوا بها في العصفورية بلعبة مدبرة شاركت فيها العائلة كلها واول أفرادها جوزيف/يوسف الذي أحبته ووثقت به وفضلته على أدباء عصرها كلهم " ظلموني يا بلوهارت. ظلموني جدا لدرجة أن حولوني إلى مجنونة. إلى الآن لست مؤمنة بأن ما حدث لي هو مجرد صدفة. ترتيب جوزيف لم يكن عبثا. لقد استولت العائلة على كل شيء "(146)"
-لا تظن أنني أهذي بروفيسور؟ أنا هنا عن طريق الصدفة ، وربما الغلط. متأكدة من ذلك . قصتي لا تتعلق بالجنون ،ولكن بمجموعة من الأخطاء ،انتهت بي إلى السقوط في شرك لعبة قاسية ،أكبر مني. لقد استولى بعض أقاربي على مالي وبيتي العائلي و أراضينا ،وحجزوا علي ،ثم رموني هنا من خلال سلسلة من التواطؤات السرية، صفقة لا أملك كل خيوطها ،من داخل هذه العصفورية نفسها، وإلا كيف استمعوا إلى جوزيف ساعات طويلة، ولم يسألني أحد عن الجرح الذي يصعب أن يندمل"(160) .
كان نعوم خطب مي وأراد الزواج منها ، ولكنها مالت إلى أخيه جوزيف ، وفشل زواجها من نعوم الذي كان صديقه يكتب له رسائل الحب إليها.
تخلى جوزيف عن حب مي وسافر إلى باريس وتزوج من فرنسية أكبر منه بعشرين عاما ،وظلت مي تحبه وتكتب له الرسائل ، وحين انهارت عصبيا وكلته بأملاكها فزج بها في العصفورية وهذا آخر ما توقعته.
وأنا أكتب تحت عنوان "الشرق البائس "أتيت على استغراب مي مما فعله جوزيف الذي درس في باريس معها. عاد من باريس وكأنه لم يقم فيها. حاله حال طه حسين ورواد الحداثة الذين ظل موقفهم من المرأة موقف مجتمعهم منها.
كانت مي قررت أن تكتب يومياتها لكي تفضح العائلة وما فعلته معها. ربما لهذا ضاعت يوميات مي ومخطوطاتها التي سعى ياسين الأبيض/ واسيني الأعرج للبحث عنها.
26 : "رب أخ لك لم تلده أمك ":
لم يكن لمي أخ أو أخت يشاركانها في الميراث ،فقد كانت وحيدة والديها: "إني وحيدة والدي ، وإن تعددت ألقابي"( 59).ولو كان لها إخوة لشاركوها في الميراث ولما اتصلت بابن عمها جوزيف ووكلته بأملاكها وأموالها ،ولما كانت غبية ، كما أقرت لاحقا ، فيما أقدمت عليه لحظة وقعت على ورقة الوكالة.
زج بها أقاربها في العصفورية وقليلون منهم من زاروها هناك ،وحين كانت تشكو لهم أنها ليست مجنونة كانوا يقولون لها إنما فعلوا هذا لصالحها حتى تتعافى.
فيما جرى مع مي لاحقا يستحضر المرء المثل "رب أخ لك لم تلده أمك " ويستحضر أيضا تحوير محمود درويش له "رب عدو لك ولدته أمك " والمثل الذي أوردته من قبل "الأقارب عقارب".
كان التاجر مارون غانم ابن الناصرة المنقذ لمي ،وهو شخصية ثانوية فاعلة من شخصيات الرواية ، وكان من قراء أدب مي ومن المعجبين بكتابتها ،ولما سمع بقصتها أقسم بأن يتحول إلى جندي مجهول يقف في صفها ويسخر ماله وكل أملاكه من أجل إخراجها من العصفورية (183 )(194) ولقد وعد وأوفى ووكل لها محاميا فثانيا وأسفرت جهود المحامي بإخراج مي من العصفورية.
لقد أعاد المحامي وممرضتان أخريان وزيارات أمين الريحاني الحياة إلى مي ،بل إنهم أعادوا لها ثقتها بنفسها و بعض الأمل ،بعد أن كادت تفقد الثقة بالآخرين كلهم ومنهم الله.
"رب أخ لك لم تلده أمك "ورب تاجر يختلف عن تجار كثر آخرين.
في روايتها "قلادة فينوس تورد أماني الجنيدي المثل الآتي في التجار "لا أسفل من تاجر" ومارون غانم قال إن هناك تجارا استثناء.
27 :"حشرة (كافكا)":
كنت أتيت على جوزيف.ك في رواية (كافكا) وجوزيف زيادة في رواية واسيني.
في بعض مواطن الرواية يتذكر القاريء قصة (كافكا )"التحول/ المسخ".
يتحول غريغوري في "التحول "إلى حشرة ولا يتعاطف معه والداه ، وتشعر معه أخته ، ويتخلى عنه صاحب العمل .
حين يصاب الإنسان بمس أو مرض قد لا يجد من يقف إلى جانبه ، وفي مجتمع راسمالي يقدر فيه الفرد بمقدار ما يقدم قد يعامل المرء كما لو أنه حشرة يرغب الآخرون في التخلص منها .
لا شك أن هناك دلالات رمزية لقصة (كافكا) -أو على الأقل هكذا فسرها النقاد الماركسيون: إن (كافكا ) يفضح المجتمع الرأسمالي.
يصحو (غريغوري) فيجد نفسه وقد تحول إلى حشرة ، فينفر منه الآخرون ، وتصاب مي بانهيار عصبي فتنعت بالمجنونة ويرسلها أقاربها إلى مستشفى المجانين/ العصفورية.
هناك تشعر مي بأنها ليست سوى حشرة: "بحجة التغذية وباسم الحياة ،ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين ، أحتضر على مهل وأموت شيئا فشيئا كحشرة"( 59) "-يا ناااااااااااس.لست مجنونة. يا ناس. أنا مصابة فقط باكتئاب بسبب الفقدان ، لكني ما ضيعت عقلي "(60).
ترى ما الفرق في النهاية بين تخلي والدي (غربغوري ) عنه وبين تخلي أقارب مي عنها؟
إنه المال والمصلحة ، فحين كان والدا شخصية ( كافكا) يستفيدان منه كانا يرحبان به ، وحين ألم به عطب تخليا عنه.
كانت مي تملك المال والأملاك ولما أصابها انهيار عصبي وضعها أقاربها في العصفورية ورفضوا الاعتناء بها ولم يزرها إلا أقلهم.
هل ذهبت بعيدا في إجراء المقارنة؟
العالم ل(كافكا)كان قاتما وأسود، وحين درس طه حسين أدب (كافكا ) درسه تحت عنوان "الأدب الأسود ".هل يمكن إدراج رواية واسيني هذه تحت العنوان نفسه؟
كانت حياة مي في سنواتها الخمس الأخيرة 1936- 1941 قاسية وقاسية جدا، وفي مواطن كثيرة من الرواية يستحضر المرء (كافكا) و بعض أعماله . مثلا حين تعرض مي على اللجنة يتذكر المرء الأجواء الكابوسية لدى (كافكا ) ، ولربما استحضر المرء قصة زكريا تامر "الجريمة" ورواية صنع الله ابراهيم "اللجنة "التي تحفل أيضا بمشاهد كافكاوية.
28 : "الحب الأول ":
يتذكر المرء وهو يقرأ الصفحتين252 و253 قول أبي تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى/
ما الحب إلا للحبيب الأول/
كم منزل في الأرض يألفه الفتى/
وحنينه أبدا لأول منزل.
يتذكره فيما يخص البيت الأول ولا يتذكره فيما يخص البيت الثاني.
حب مي الأول هو ابن عمها جوزيف ، ومكانها الأول هو الناصرة.
تظل مي تتذكر جوزيف مع ما فعله فيها ، وعلى الرغم من أنها ترفض ، لاحقا ، رؤيته ، إلا أنها تأتي على سيرته وتناقش في الحب الأول ، وحين تخرج من العصفورية وتتعافى وتعاد إليها حريتها التي كان لابن الناصرة دور فيها ، لا تعود إلى مكانها الأول ؛ مكان ولادتها الناصرة ، وتفضل العودة الى مصر ،مع أن الأدباء هناك تخلوا في محنتها عنها.
هل يصدق في قصتها قول أبي تمام عن المكان الأول؟
ما لم يصدق عن المكان الأول وعلاقة مي به ،نقرأ ما يغايره عن الحب الأول ؛ نقرأ كلاما كأنما يؤكد أن لا حب إلا للحبيب الأول ،وأنا شخصيا لست مع هذا إطلاقا ، وليس المهم رأيي ، فالأهم هو ما يرد في الرواية.
في الصفحتين المشار إليهما أعلاه حوار بين مي ويوسف الحويك ، ويوسف هذا هو من كان يكتب رسائل نعوم خطيب مي إليها.
كان نعوم عاديا وكانت الرسائل تعبر عن حرقة.
يعترف يوسف لمي ، لاحقا ، بأنه كان يكتب الرسائل إلى نفسه أصلا ، لا إلى مي نيابة عن نعوم "لأني وقتها كنت على حافة الانتحار بسبب خسراني للمرأة التي أحببت ."(252)
تعقب مي على إعتذار يوسف المتأخر عما قام به ، مبدية رأيها في الحب الأول:
"- لا مشكلة يا يوسف ، الحب الأول ، موت بطيء يظل حيا للأسف . لم يكن جوزيف في النهاية إلا آلة للقتل المنظم "(253).
تعترف مي بأن جوزيف كان حبها الأول وأن لا رجل غيره استطاع أن يهزها من أعماقها ،وتقر بأنها أحبته فهو من أزال عنها ألبستها السوداء الثقيلة التي ما يزال بها عطر الكنائس والأديرة "كان جوزي وقتها يصنع لي سجن الحب الأول ، الذي لم أخرج منه حتى اليوم . الحب الأول لا ينسى . يستمر فينا حتى يحرقنا ويحولنا إلى رماد ، لا أحد يستطيع لملمته ".
هذا ما تقوله مي ، وربما وجبت دراسة الموضوع دراسة تقوم على إجراء استفتاء.
وفي مواطن محددة من الرواية تذكر مي أنها نسيت جوزيف كليا. صحيح أنها حين ساءت أحواله لم تحقد عليه ،ولكنها حزنت لما آل إليه ،وقد قيل لها إنه كان ضحية الأنسباء حين أقدم على ما أقدم عليه. ( 286).
شخصيا لا أذكر الحبيب الأول ولا يخطر ببالي إطلاقا .
الكلام السابق ورد روائيا على لسان مي ، فهل يعبر عن رأي واسيني الأعرج؟
29 :" هل كانت مي مثلية؟ ":
إن لم تخني الذاكرة ، وإن كنت ركزت جيدا في أثناء لقائي بالكاتب في يومي 11و12 من أيار ،في معهد القاسمي في باقة الغربية ، فإنني سمعت من واسيني ما يشير إلى ميول مثلية لدى مي.
في تقديمها لنفسها ، في بداية المخطوطة الافتراضية ، تأتي مي على تعلمها في مدارس الراهبات وفي الأديرة ، وترى أن أهلها حين أرسلوها لتتعلم هناك قتلوا الحياة فيها وقتلوها "لقد قتلني أهلي "(56) .
أرادت مي أن تحيا حياة طبيعية لا تخضع لأوامر دينية متشددة تقمع فيها رغبات الجسد الذي كان في بداية تفتحه "كنت أريد لهذا النهد أن يكبر بسرعة ، وينام في كف غير كفي "(57).
من مدرسة اليوسفيات في الناصرة إلى داخلية مدرسة راهبات الزيارة في عينطورة ، كانت ترى وجهها وشفتيها وتتحسس نهديها المتفتحتين "ونهود صديقاتي النافرة ، وهي تهتز بغواية وشهوة ،باستدارات متقنة كأنها خرجت من بين يدي فنان "(57) وتستطرد مي- افتراضا- في الوصف والحديث عن حياة الفتيات في الدير والحرص عليهن من "أية لمسة ذكورية" .
الحرص على الفتيات من أية لمسة ذكورية ،وابتعاد الراهبات عن عالم الرجل ،أدى إلى الميل المثلي فوقعت بعض الراهبات في عشق الصغيرات.
في صفحات لاحقة (151-157) تأتي مي على الراهبة هيلينا وتقص عما جرى بينهما.
كانت الحياة في الدير تقوم على أن تكون لكل طالبة صغيرة أم ترعاها ، ولقد رعت هيلينا مي واهتمت بها وأخذت تعلمها العزف على البيانو ،ثم وقعت في حبها وأرادتها حبيبة قلبها في السرير :"
-أنا أمك في الدير ، وحبيبة قلبك في السرير.
-أنت أمي في الدير "( 154).
كانت هيلينا تضغط ، وهي تعلم مي العزف ، على أصابعها ثم أخذت تمصها ،وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك ،فحممت مي واستلقت معها في السرير إلى أن ضبطتا معا ،ما أدى إلى طرد هيلينا من الدير ، وستعرف مي ، في وقت لاحق ، أن هيلينا انتحرت .
رفضت مي في البداية أن تكون لهيلينا في الليل في السرير ولما كانت تشتاق إلى حنان أمها فقد استسلمت.
هل أدى هذا إلى ميول مثلية لدى مي؟
تتذكر مي هيلينا وقصتهما معا حين ترى الممرضة سوزان/ بلوهارت ولكن علاقتهما معا ظلت علاقة احترام.
ثمة موطن في الرواية تعبر فيه مي عن علاقتها بالممرضة سوزان يشير إلى ميل مثلي لمي ، وإن كان الدافع لرغبة مي هو بحثها عن الحنان المفتقد:
"نظرت بلوهارت إلى وجهي البارد فامتلأ دفئا. مدت لي يدها الناعمة .تلمستها . تشتهيت تقبيلها. الوحيدة في هذا العالم الأصم من يهتم بي . .... أحب أصابع المرأة لأن بها شيئا من اللغة الخفية . لا أحب كثيرا أيدي الرجال لأني لا أرى فيها أية نعومة ،سوى المزيد من اليقين والخوف ، والعنف المبطن في شكل قبضة حديدية"( 123).
30 : "مي وأدباء عصرها":
تبدو الصورة التي ترسمها الرواية لأدباء عصر مي ومفكريه صورة سلبية ، ولا تبرز هذه الصورة في مكان واحد من الرواية . إنها تتكرر في غير موقع ،حتى ليمكن القول إن هذا التكرار ضخم حجم الرواية ، ولكن الروائي قد يدافع عنه لغير سبب ، من ذلك حاجة مي للدفاع عن نفسها في أيام حرجة اتهمت فيها بالجنون والفصام ولم يقتصر الأمر على الاتهام ،بل تجاوزه إلى الزج بها في مشفى المجانين وقضاء أشهر فيه ، دون أن تجد من رواد صالونها الأدبي من يدافع عنها ، فلقد تخلى الجميع عنها .
كانت مي تراسل جبران وكانت تعرف أنه يعيش بين جيش نسائه ، فهو في عالم آخر . وكانت هي في المقابل تعيش بين جيش من الرجال طلبوا ودها وأخذوا يغارون من بعضهم عليها ، وبلغت الغيرة أن غار العقاد لا من الرافعي ومن كان في مصر ، بل من جبران خليل جبران الذي كان يفصل بينه وبين مي محيطات .
تختصر مي رأيها في أدباء عصرها أكثرهم بالعبارة الآتية:
"كلما اقتربت منهم ،صغر الكثير منهم"( 143).
كانت مي ،كما يرد على لسانها في الصفحة نفسها ، تدرك لعبة الشهوة لديهم ، واكتشفت ، وهي بينهم في الصالون "أن هذا العالم الجديد الذي كانوا يبشرون به ليلا نهارا ، محكوم عليه بالموت اختناقا ، اليوم أو غدا أو بعد مائة سنة ،ما دامت المرأة لا سلطان لها فيه ،ولا تشترك في صناعته " وتتمنى مي لو تصرخ بالآتي حتى تتقطع حبالها الصوتية :"أيها الرجل ،لقد أذللتني ، فكنت ذليلا ، حررني تكن حرا"( 143) .
ولولا أن واسيني الأعرج يوثق عبارات مي ، في الهامش ،لكنا تساءلنا السؤال الآتي : هل الكلام الذي يرد على لسان مي هو كلامها أم كلام واسيني ومؤلفه الضمني ياسين.
لعل مما قد يلفت النظر -بل لعله لفت النظر- في هذه الرواية هو مقدار التداخل في الآراء بين مي وواسيني.
إن كثيرا من القراء قد يقولون إن ما نطقت به مي هو ما ينطق به واسيني نفسه ،بخاصة فيما يمس الموقف من أدباء عصر مي ومفكريه .
والطريف أن بعض قراء الرواية انطلت عليهم الحيلة الفنية ، واعتقدوا أن مي هي صاحبة المخطوطة وأن ياسين/ واسيني هو مجرد محقق لها .
وعلى الرغم مما سبق فإن قسما من القراء سيظل يتساءل عن مقدار كلام مي ومقدار كلام واسيني فيما يرد على لسان مي في المخطوطة الافتراضية.
هل رأي مي في المخطوطة في أدباء عصرها ومفكريه هو رأي واسيني أيضا؟
يبقى السؤال مشروعا ، وتتطلب الإجابة عليه العودة إلى كتب مي وكتب من كتب عنها ومن جمع تراثها ليفحص ما نطقت به أو كتبته وما صدر عن الروائي نفسه ، علما بأن نقادا كثيرين يرون أن الرواية التاريخية عمل تخييلي.
في تعقيبات بعض القراء على الكتابات السابقة ما يعزز ما أذهب إليه .
ببساطة وبعبارة نقدية أثير السؤال الآتي : ما التأثير الذي تركه الزمن الكتابي/ زمن واسيني ، على الزمن الروائي/ زمن مي؟
31 :" مثلية مي ثانية":
أعادتني قصة مي وهيلينا إلى نصوص أدبية قديمة .
قصة مي وهيلينا جرت في مدرسة عينطورة للراهبات ،ويفترض أن تسود تلك البيئة الأخلاق الدينية المسيحية القائمة على العفة . هذا ما يفترض دينيا وأخلاقيا ، ولكن الجسد له أيضا احتياجاته التي قد تكون عنيفة ، والصحيح أن انحرافات رجال الدين ونسائه حاضرة في النصوص القديمة أيضا.
ليس غريبا أن تقع هيلينا في غرام مي ، وأن تميل إليها عاطفيا . إن قصص الرهبان في هذا متداولة ، ولعل منتجي أفلام (البورنو) الذين يصورون علاقات مثلية بين راهبتين أو بين راهبة وراهب لم تأت من فراغ.
قبل شيوع أفلام (البورنو) التي تصور شبقا جنسيا لدى بعض المترهبنين التفت الأدباء إلى هذا وكتبوا عنه قصصا وطرائف.
لعل من الكتب المهمة في تصوير حياة الرهبان وبعض سلوكاتهم الشاذة كتاب (جيوفاني بوكاشيو) "الديكاميرون" ( انظر الطبعة العربية الصادرة عن دار المدى/ دمشق 2006 ترجمة صالح علماني ).
في تراثنا العربي هناك حكايات وطرائف أيضا.
إن شعر التغزل بالغلمان شغل حيزا لا بأس به في ديوان أبي نواس ، بل إن كتاب أبي حيان التوحيدي "الإمتاع والمؤانسة " ، وهو كتاب جاد رزين ذو بعد أدبي ثقافي فلسفي لا يخلو من هزل ودعابة. في الليلة التاسعة عشرة مثلا يتماجن الوزير والحضور ويروون النكت الجنسية ، وواحدة منها تأتي على شيخ منحرف جنسيا ،ولطالما رويت حكايات أيضا عن بعض الشيوخ.
في "الليلة التاسعة عشرة" أبيات فاضحة :
شيخ يصلي قاعدا و...عشرا من قيام
ويعاف....الغانيات ويشتهي....الغلام .
هل اتهام مي بميول مثلية - ربما تكونت في بيئة متشددة - يبدو مستغربا؟
ابتداء أشير إلى أن ما تقوله روح الرواية هو أن مي كانت ضحية الام الثانية- أي الراهبة هيلينا ، وأن مي البعيدة عن أمها صمتت على سلوك الراهبة لشعورها بحاجتها إلى الأم ، وأنها حين أبدت رغبة في مص أصابع الممرضة بلوهارت فإنما أرادت أن تعبر عن خوفها من غدر الرجال . ومي لم تقدم شخصيا على تبادل علاقة مع أنثى. لقد عبرت عن رغبة فقط.
في الرواية العربية المعاصرة يمكن الإشارة إلى رواية خالد خليفة "لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة " ، فقد حضرت فيها ظاهرة المثلية الذكورية ،كما لم تحضر في رواية عربية سابقة ، حسب ما قرأت شخصيا.
32 :"الإبداع والجنون ":
في تعقيب أحد طلابي في الماجستير ،وهو ياسر جوابرة ، استشهد برأي لسلمى الحفار الكزبري، فحواه أن جنون مي هو جنون الإبداع .
لم اقرأ شخصيا ما كتبته سلمى الحفار الكزبري ، ولا أعرف إن كان هناك دارسون آخرون ممن درسوا مي وآدابها ربطوا بين ما ألم بها وبين الإبداع- أي أن سر جنونها يعود إلى كونها مبدعة -إن أقررنا بأنها كانت بالفعل مجنونة ، علما بأنها برئت.
كانت مي ، في الرواية ، أتت على أنها مصابة بانهيار عصبي وأنها لا تعاني من الجنون ، فهو فرية من أقاربها ليس أكثر ، طمعا في مالها .
إن الإشارات على لسان مي ، بخصوص الطمع ، جعلها تكرر مرارا أنها ضحية لعبة ، وأن ما ألم بها من انهيار عصبي إنما مرده فقدان والديها.
إن ربط الفن بالجنون ، والأصح بالعصاب ، فكرة أخذ بها ( فرويد ) وطبقها في نقده الناقد ( ادموند ولسون) وقد أتيت عليها شخصيا في مقالاتي في جريدة الأيام الفلسطينية مرارا (25/3/2018 ) .
يربط الاثنان المذكوران بين الفن والعصاب ويريان أن الفنان يدفع ثمن رؤاه الخلاقة مرضا ،فهل الحالة التي ألمت بمي كانت من هذا القبيل ، كما فهمت من كلام ياسر جوابرة ، اعتمادا على رأي سلمى؟
إن رأي الناقدين (فرويد )و ( ولسون) ورد في كتاب (ديفيد ديتشس )"مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق" ولكن هذا الرأي يجد من النقاد من لا يأخذ به ، مثل الناقد (ليونل ترلنج) الذي لا يعزو الإبداع إلى العصاب ، فالعصاب يشمل كثيرين من الناجحين والمخفقين .
هل نأخذ برأي سلمى؟
أحيانا يصاب المجتمع جله بالجنون ، وكما يقول مثلنا الشعبي "إذا انجن ربعك ، ما بنفعك عقلك".
يرد في الرواية ،على لسان الممرضة سوزان بلوهارت المثل الشعبي " الجمل عندما ينخ ، يكثر ذباحوه " ( 149).
في إحدى صفحات الرواية يرد الآتي على لسان مي :
" ما الذي يمنعه يا سيدي في مجتمع يسير بالمال الوسخ والأهواء السرية والأقاويل التي جعلت مني امرأة شاذة . لو كان فيه قانون ما قال عني ما قاله "( 200).
(لقد عدت إلى التعقيبات أبحث عن تعقيب ياسر جوابرة فما عثرت عليه ).
33 : "العصفورية: مكان للمجانين أم مكان للعاقلين؟ ":
تصر مي على أنها لا تعاني من الجنون الذي اتهمت به . وتقر بأنها ، بعد موت أمها وأبيها ، أصيبت بالاكتئاب وانهارت عصبيا ، وتعيد ما قاله لها بعض الأطباء ممن زعموا أنها مصابة بالفصام/ الشيزوفرينيا ، وهي تصر في مواطن كثيرة أنها عاقلة ولا تعاني من الجنون.
وتسرد بعض حواراتها مع الممرضات والزوار والأدباء أيضا مثل امين الريحاني ، ممن شهدوا لها بسلامة عقلها ، وقد تأكد هذا بعد المحاضرة التي ألقتها في قاعة الجامعة الأميركية في بيروت حيث برئت من التهمة التي ألصقت بها .
المواطن التي كررت فيها رأيها كثيرة ، ولكي تدين من اتهمها بالجنون و تفضح مجتمع النفاق المتمثل في مثقفين كثر وفي أقاربها أيضا وفي عالم السياسة ، تأتي على نزلاء العصفورية وتذكر بعض قصصهم.
إن الإتيان على قصص بعض من اتهموا بالجنون لهو جانب من جوانب الدفاع عن النفس وعما ألصق بها . ويستطيع القاريء أن يرصد قصص بعض من اتهم بالجنون ليعرف مدى إدانة مي لمجتمعها ولما هو أبعد من مجتمعها أيضا.
تأتي بعض الممرضات على قصص بعض نزلاء العصفورية ممن كانوا ضحية للتخلف الاجتماعي أو للمعارضة السياسية ،وتذهب أحيانا إلى ما هو أبعد من ذلك ، فبعض من اتهم بالجنون كان ضحية مرض نفسي لأشخاص أعماهم البحث عن مجد شخصي.
النماذج عديدة ويمكن عدها وتبيان قصة كل نموذج منها .أحيانا ترد القصة موجزة وأحيانا تقص بقدر من التفصيل .
"الظاهر أن كل من يزعجهم ،يصبح مجنونا "( 63) تقول الممرضة لمي وهي تأتي على قصة نزيل انتحر . كان شابا مليئا بالحياة وكان رجلا سياسيا كبيرا . لقد كان من رافضي الحماية الفرنسية ، وهو من منظمي ثوار الأرز ، ولقد اغتالوه وزعموا أنه انتحر.
قصة مريم قصة مختلفة. إنها امرأة طبيعية عرفت أن زوجها يخونها فقطعت له عضوه الذكري وزج بها في العصفورية ، واتهمت بالجنون . وأما ماجدة فأرادت أن تكون مع زوجها ليلة زفافها رومانسية فتصرف كوحش.
القصة الموازية لقصة مي هي قصة امرأة غربية هي (كامي كلوديل ).
كامي أحبت الرسام (رودان) ولكنه اتخذها سلما للوصول نحو مجد شخصي . إن (رودان) هذا يشبه جوزيف ، تماما كما أن (كامي) تتوازى قصتها مع قصة مي . كلتاهما أحبتا شخصا تخلى عن المرأة التي أحبته ودفعها إلى الانتحار أو إلى العصفورية ، ولطالما فكرت مي بالانتحار . إن دال الانتحار يرد على لسان مي بكثرة ، فلقد فكرت في الانتحار مرارا .
تكرر مي في غير موطن من يومياتها الافتراضية سبب انهيارها (88/89/91/99/110/ 150 على سبيل المثال) ،وتفكيرها في الانتحار (75/96/125/213) .
وكما كتبت من قبل ، فلقد شعرت أن الجميع تخلى عنها ،حتى الذات الإلهية .
وأعتقد أن ما أوردت من قصص ،أو ما أوردته على لسان شخصيات أخر ، جاء في معرض الدفاع عن الذات ورد تهمة الجنون عنها ، واتهام المجتمع بأنه هو المسؤول عن حالات كثيرة ممن اتهم أصحابها بالجنون .
يدفعوننا إلى الجنون وهم حقا السبب . أعتقد شخصيا هذا جازما.
https://www.facebook.com/adel.osta.9/posts/1700133816722116
اقرأ في هذه الأيام رواية واسيني الأعرج عن مي زيادة "مي ليالي إيزيس كوبيا "2018 وهي عن اللبنانية الفلسطينية ابنة الناصرة الأديبة والكاتبة مي زيادة.
اقرؤها ببساطة لأنني صرت أخشى على نفسي من مصير مشابه.يعني اقرؤها بقصد مسبق.
واسيني الأعرج زار فلسطين مرارا وغدت هناك صداقة ومحبة بينه وبين القراء الفلسطينيين.
زار الناصرة والأماكن التي عاشت فيها مي؛ بيتها ومدرستها ،وسافر إلى الأماكن الأخرى التي أقامت مي فيها ؛بيروت والقاهرة...الخ وتتبع حياة الكاتبة ليعيد لها الاعتبار.
عنصر التشويق في الرواية واضح. وقاريء الرواية سيخرج منها بأبعاد معرفية عن الكاتبة وعلاقتها بكتاب عصرها ،عدا أنه سيرى في ابن عمها جوزيف شخصا ينطبق عليه المثل"الأقارب عقارب ".
كنت التقيت بالكاتب في مجمع القاسمي في باقة الغربية حيث شاركنا في مؤتمر أدبي عن أعماله في 12/ 5/2018 وقدمت مداخلة عن القدس في روايته "سوناتا لاشباح القدس ".
2 :"دلالات الاسم ":"مي : إيزيس كوبيا ":
سألني أحد القراء السؤال الآتي:
ما دلالة الاسم إيزيس كوبيا؟
في الصفحة 206 تأتي مي/ المؤلف الضمني لمخطوطها على الأسماء المستعارة التي نشرت تحتها ، فقد كانت ، ابتداء ، تنشر تحت أسماء مستعارة ذكورية كثيرة ، فهناك من أراد إسكاتها متسائل: "من هذه الشرقية التي باعت أصولها وشرفها للغرب ؟"
كانت رغبة مي أن تكتب وأن تكون حرة وألا تخاف من أحد ، ولذلك كان عليها أن تخرج من دائرة البشر وتكتب باسم الآلهة :
"استعرت من ماري البداية والنهاية. من تصغير ماري عند الانجليز . إيزيس كوبيا يكاد يكون الترجمة الحرفية لماري زيادة. إيزيس أخت الإله وعروسه . ماري أم الابن وعروس البحر. كوبيا اللاتينية مرادفة لزيادة ، أي الشيء الفائض. " (206).
وأنا أقرأ الرواية وجدت نقاط تقاطع كثيرة بين ما يجري معي وبين ما جرى مع مي ، بل وبين ما جرى مع الشاعرة فدوى طوقان.
هناك من زعم بأن هناك من يكتب لها ، وكتبت فدوى في سيرتها "رحلة جبلية...رحلة صعبة "1985 إنها حين كانت تكتب أشعارها وتنشرها كانت معلمات زمنها يقلن: "أخوها ابراهيم يكتب لها الشعر ،وهي تنشره باسمها " وظل هناك من يقول العبارة حتى بعد وفاة أخيها ابراهيم. وأنا ،حتى الآن ،يحتارون في شيطاني الذي يكتب لي.
في 1995 كتبت مقالا عنوانه: "شيطاني الأنثى " وذهبت فيه إلى أن هناك امرأة تكتب لي. ومن العام 1990 والألمان والأردن والسلطة الفلسطينية والفصائل الفلسطينية وهم يبحثون عن هذه الأنثى .
كثير من المبدعين في الشرق يشكك في انتاجهم ولعل قصة رواية "ذاكرة الجسد"لأحلام مستغانمي ماتزال عالقة في الذاكرة ، ولذلك تبدو صورة الشرق في الرواية قاتمة ،مع أن الرواية لا تخلو من نموذج غربي حصل معه ما حصل مع مي.
إن دراسة سمة التوازي في الرواية بين مي و (كامي كلوديل) تستحق وحدها دراسة.
في الصفحة 149 ضرب واضح من التناص ما بين الرواية والأدب العالمي. إن الرسالة التي كتبها (رودان ) ل (كامي ) شبيهة إلى حد كبير برسالة جوزيف إلى مي (ينظر: الرواية 149 ).
3 :" العناوين "
العنوان الرئيس لرواية واسيني هو"مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية "
وهناك ما يشبه المقدمة عنوانها "في ملابسات مخطوط "ليالي العصفورية " "( 7 - 45) تتكون من 14 رقما.
-ص47 هناك وسط الصفحة الآتي "مي زيادة (ايزيس كوبيا )".
-ص49 " ليالي العصفورية: تفاصيل مأساتي، من ربيع 1936 إلى خريف 1941
النسخة الكاملة التي تم العثور عليها في صحراء الجيزة، ودير عينطورة في بيروت
تحقيق وترتيب وتعليق
روز خليل وياسين الأبيض
Editions BNF Paris and et LRAL Montreal 2017 "
-ص51 بدء الليالي.
-ص53
1-مريمتك أنا يا الله، فلماذا تخليت عني؟
ليلة 16 أيار/ مايو 1936 وما تلاها.
-ص119
2-وانزويت تتأملني، كأنك لم تكن معنيا بآلامي
ليلة 2.حزيران/ يونيو 1936 وما تلاها.
-ص173
3-خصني بحضنك يا الله، لكي أعرف أنني منك
ليلة 14 أيلول/ سبتمبر 1936 وما تلاها
-ص217
3-سامحهم يا ربي، فهم لا يعلمون
ليلة 28 كانون الأول/ ديسمبر 1936 وما تلاها
-ص265
4-يا أبتاه...بين يديك، استودع روحي (1)
ليلة آذار/ مارس 1938 وما تلاها .
( 1 ) (لوقا 23:46.)
-ص301
اغسليني يا أمي من دمي، ودثريني بصدرك
ليلة 2شباط/ فيراير 1939 وما تلاها.
-ص327 اخر الصفحة-
-(انتهت يوميات ليالي العصفورية
تمت صباح يوم الأحد في 19 تشرين الأول/ اوكتوبر 1941 )
-ص331
هي لم تمت، لكنها شبهت لهم
ليلة أيلول/ سبتمبر 2017 وما تلاها.
- ص347
شكر.
فماذا يعني ما سبق؟
الكتابة تطول حول هذا وتحتاج إلى دراسة مفصلة.
ولكن:
لماذا كرر الكاتب ياسين الأبيض الرقم 3 مرتين؟
الليالي ثلاثمائة وليلة والمدة الزمنية للتواريخ المسجلة تفوق لياليها بكثير عدد الليالي المشار إليها.
كتب ياسين الأبيض في النهاية "يوميات" وهي ليال وفوق ما سبق لا نقرأ يوميات مؤرخة.ولو قرأنا يوميات من ربيع 1936 إلى خريف 1941 لوجب أن نقرأ ألفي ليلة وليلة/ يومية ويومية.
تحيلنا كلمة "ليالي "إلى ليالي " ألف ليلة وليلة " ،ويفترض أن يكون هناك مخاطب/ متكلم ومخاطب/مروي عليه ،وهذا غير موجود.
الاسئلة كثيرة والإجابات تحتاج ،كما ذكرت، إلى تأن وصبر و تأمل.
4 : " العنوان "
أسفل العنوان ، على غلاف الرواية ، كلمة "رواية"-يعني العقد بين الكاتب واسيني الأعرج والقاريء يقوم على أساس أن ما سيشتريه القاريء هو عمل روائي.
أول ما يتخطى القاريء الصفحات الثلاث التي تتكرر فيها المعلومات والتصدير ببعض عبارات مي وغيرها ، يقرأ عنوانا يقول لنا شيئا آخر.
العنوان الداخلي يقول إننا سنقرأ تحقيق مخطوط لمي ينجزه كاتب اسمه ياسين الأبيض ، لا رواية لواسيني: "من ملابسات مخطوط ليالي العصفورية ".
وفي ص 45 يكتب المحقق بحرف أسود بارز غامق: "
ليالي العصفورية..تفاصيل مأساتي، من ربيع 1936 إلى خريف 1941 " وفي صفحة 49 كتابة واضحة تقول لنا غير ما قرأناه على الغلاف "رواية" وتقول لنا الكتابة إننا سنقرأ ما كتبته مي زيادة عن تجربتها- يعني بعض سيرتها ، وسنكتشف أن الكتابة ليست عن ثلاثمائة ليلة وليلة ، بل وسنعرف أن ما نقرؤه يشمل كتابا ثانيا غير يوميات مي في العصفورية.
في الصفحة 291 نقرأ أن مي بعد كتابة يومياتها في العصفورية "بدأت تكتب كتابا آخر " عن إقامتها في بيروت وأنها دمجت كتابها الثاني في صلب "يومياتي وليالي في العصفورية" وهذه الإشارة توضح لنا الإشكالات الناجمة عن الأزمنة المشار إليها في العناوين الفرعية وأكثر.
على الغلاف المكررة معلوماته في الصفخة 3 نقرأ "ثلاثمائة ليلة وليلة " ولكننا في المتن نقرأ غير مرة دال "يوميات""يومياتي" كما في الصفحات 264/ 327 على سبيل المثال.
ثم إننا نفتقد تاريخ كل يوم كانت تدون فيه.
لقد خطر ببالي مثلا أن أعد الأرقام التي وضعت في المخطوط والكتاب الثاني لألحظ إن كان عددها حقا 301 .ولكنني متأكد من أن الأرقام لا يصل مجموعها إلى هذا الرقم ، وهذا يعني أن اليوميات لم تكن تكتب يوما يوما.
5 :" العنوان":
العناوين :التربية الدينية والله"
كان لترببة مي الدينية حيث درست في مدارس الراهبات وفي الأديرة ، وقرأت الإنجيل ، تأثير كبير على حياتها.
إن تأملنا العناوين الداخلية لكتابيها معا "ليالي العصفورية " وما تلاه من كتابة عن حياتها في بيروت ،فسوف نلحظ أنها عناوين تخاطب الرب ،وللرب حضور كبير في حياتها وكذلك للمسيح.
هناك أربعة كان لهم حضور كبير في الرواية غالبا ما كانت مي تستحضرهم وكان لفقدان قسم منهم إثر كبير في انهيارها العصبي ؛ الأب البيولوجي والأم البيولوجية والله وجبران خليل جبران ، ويحضر هؤلاء في الرواية من بداية المخطوط حتى نهايته .
شعرت مي في فترة بأن الله تخلى عنها ، ثم لما خرجت من العصفورية ووقف العدل إلى جانبها شعرت أن الله وقف إلى جانبها .
انعكست التربية الدينية لمي ليس على العناوين الفرعية- وإن كان هذا افتراضيا- بل على علاقتها بالعقاد.
كان العقاد يريد مي ويشتهيها ،كما لو أنه لا يرى فيها غير أنثى لا بد من اصطحابها إلى الفراش ، وكانت هي ترفض وتبرر لنا -في الرواية- رفضها . وقد أتت على هذا في غير مكان ،كما في الصفحات 212 /294/ 295 .
بقي أحد العناوين الذي كان من وضع ياسين الأبيض . إنه يتبنى الرؤية الاسلامية لنهاية المسيح ،على ما يبدو ، أو أنه قاريء للنص القرآني ،ولذلك يختار " هي لم تمت ، لكنها شبهت لهم "331 لتكون رؤيته لنهاية مي. وثمة ربط في الرواية بين تجربة مي وتجربة المسيح . كلاهما عانى ، وإذا كان أحد تلاميذ المسيح خانه وسلمه ،فإن من سلم مي إلى العصفورية هو جوزيف ابن عمها الذي أحبته واختارته وصيا على املاكها.
6: "ألف ليلة وليلة "و"ألف ليلة وليلتان "و....
كتب واسيني على غلاف روايته اسمه الأول فقط (واسيني ) بالعربية ،وكتبه كاملا بالحروف اللاتينية وبالحروف الكبيرة (WACINY LAREDJ )وتصدرت صورة مي التي كتب اسمها (مي) بالأسود لوحة الغلاف.
أسفل اسم مي الذي توسط الصفحة كتب باللون الأبيض بحروف سميكة ، الآتي :
"ليالي إيزيس كوبيا "وأسفل منها "ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية " وتحت هذه كتب دال "رواية "ومن ثم اسم دار النشر وشعارها.
طبعا قد يثير القاريء اسئلة عديدة منها : لماذا كتب الكاتب ، بالعربية ، اسمه الأول فقط ولم يفعل الشيء نفسه بالحروف اللاتينية؟ ولماذا أيضا فعل الشيء نفسه مع اسم بطلته؟
وعندما ينتهي المرء من قراءة الرواية يتساءل: لقد قال لنا الروائي في المتن إنه حقق مخطوطة لمي وهي أصلا يوميات ، فلماذا كتب "ثلاثمائة ليلة وليلة "؟
والأسئلة تجر أخرى ، فالمرء يقرأ ما افترض أن مي كتبته ، لا في ثلاثمائة ليلة وليلة ، بل يقرأ ما كتبته مي منذ زج بها في العصفورية حتى خروجها منها وإقامتها في مستشفى رابيز وفي شقة مستأجرة أيضا ، ثم ما كتبته عن عودتها إلى مصر وسفرها إلى إيطاليا وعودتها إلى مصر لتموت فيها ،وكما يرد في صفحة 49 :
" ليالي العصفورية
تفاصيل مأساتي من ربيع 1936 إلى خريف 1941 "-أي مدة خمس سنوات ونصف وتجيب الرواية في بعض صفحاتها عن هذا السؤال ، بل إننا نقرأ عن ليلة متأخرة جدا هي الليلة التي ظهرت فيها مي لياسين الأبيض.
في صفحة 331 نقرأ العنوان الآتي:
"هي لم تمت ، لكنها شبهت لهم
ليلة أيلول/ سبتمبر 2017 وما تلاها ".
ثم إن المرء يقرأ في المتن والهوامش لفظة"يوميات " لا لفظة "ليالي أو ليلة" ولا يقرأ كتابة يومية، وفي الصفحة نفسها يقرأ القاريء أن الجهد قام به اثنان لا واحد كما كتب على غلاف الرواية:
"تحقيق وترتيب وتعليق روز خليل وياسين الأبيض "2017.
إن لفظة "ثلاثمائة ليلة وليلة "تذكرنا بالكتاب الشهير "ألف ليلة وليلة "ولكننا لسنا أمام شهريار تقص على شهرزاد . شهريار هنا/مي تقص عما فعله شهرزاد/ جوزيف بها لا لأنها خدعته وخانته وإنما لأنه طمع في ثروتها ،فهو من خان حبها له وتزوج من فرنسية.
هل أراد جوزيف أن ينتقم لأخيه نعوم الذي خطبت مي له ورفضته؟ هل كان شهريار يقبع في أعماق جوزيف؟ ولكنه تزوج من فرنسية.
"ألف ليلة وليلتان " هو عنوان رواية للروائي السوري هاني الراهب.
7 :"ما بعد لعبة الشكل في الرواية العربية":
ما الذي يلفت في رواية واسيني الأعرج "مي ليالي إيزيس كوبيا..ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية "2018 :الحكاية أم روايتها؟
من الفروق الأساسية بين المنهجين ؛الاجتماعي الماركسي والبنيوي الشكلاني الالتفات إلى أولوية المحتوى وأولوية الشكل .
ليس المهم الحكاية . يقول البنيويون ، بل كيف تروى ؟ في حين يولي الماركسيون الأولوية لما يقال.
عقبت قارئة لإحدى خربشاتي بالآتي: أليست طريقة واسيني الأعرج في روايته مستهلكة ؟
ما شدني شخصيا وأنا أقرأ الرواية هو موضوعها أما طريقة البناء الروائي فقد أتيت عليها وأنا أدرس رواية الياس خوري "أولاد الغيتو .. اسمي آدم " ،وتحديدا حين كتبت عن صلة الرواية بالرواية العربية.
الجامعة الأردنية ستعقد في تموز مؤتمرا عن "المابعد" وفكرت شخصيا في أن اكتب عن "لعبة الشكل في الرواية العربية...المابعد" وسوف اتخذ ، في مقال لاحق لي ، في زاويتي ، من رواية واسيني مدخلا لمساءلة "المابعد"
وماذا بعد؟
ماذا بعد؟
"فجأة صاحت جندية
هو أنت ثانية
ألم أقتلك؟
قلت :قتلتني
ونسيت مثلك أن أموت "
8 : "البيت الأندلسي ":
ربما يقول لي واسيني الأعرج إنني ، في فكرة المخطوط والاتكاء عليه لإنجاز رواية ، أسبق بسنتين من عبد الرحيم لحبيبي . ربما.
من ضمن الروايات العشر رواية لواسيني نفسه هي رواية "البيت الأندلسي "2010 ،ومع ذلك يبدو التشابه بين "مي ليالي إيزيس كوبيا " و"تغريبة العبدي المشهور بولد الحمرية "2011/ طبعة 2/2014 أوضح من حيث التمهيد وتشابهه في الروايتين تقريبا.
لقد عدت شخصيا إلى نسختي من "البيت الأندلسي " ولاحظت أنني دونت أسماء روايات عديدة هي:
-"اسم الوردة" ل (امبرتو ايكو )
-"شيفرة دافنشي " ل (دان براون )
-"عزازيل" ليوسف زيدان ،ولطالما قيل عنها إنها النسخة العربية من "شيفرة دافنشي ".
-"خريطة للحب" لأهداف سويف .
-"العطر" ل (باتريك سوسكيند ).
والروايات المكتوبة بلغات غير عربية منقولة إلى العربية ، هذا إذا تناسينا أن واسيني يتقن الفرنسية.
لا بد من إعادة قراءة الصفحات الأولى من "البيت الأندلسي " 7 -25 وهي تحت عنوان "استخبار ماسيكا" وعموما فقد كنت وجهت طالبي حسني مليطات ، ليكتب عن صلة "البيت الأندلسي" بنصوص سابقة ، في رسالة الماجستير التي أعدها حول رواية واسيني.
9: "روايات عربية سابقة":
يجدر الوقوف مفصلا أمام ما لا يقل عن عشر روايات عربية ، في أثناء قراءة الصفحات الخمسة والاربعين الأولى ، والصفحات العشرين الأخيرة ، من رواية واسيني "مي ليالي إيزيس كوبيا ".
الصفحات مدرجة تحت عنوان "في ملابسات مخطوط ليالي العصفورية "( 7) حتى الصفحة (45 ) وتحت عنوان "هي لم تمت ، لكنها شبهت لهم -ليلة أيلول/ سبتمبر 2017 وما تلاها".
إنها تطرح سؤال "المابعد" في الرواية العربية.
الروايات العربية العشر هي:
-"الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل "1974 لاميل حبيبي.
-"شرق المتوسط"1975 لعبد الرحمن منيف.
-"الآن هنا...أو شرق المتوسط مرة أخرى "1990 لمنيف أيضا.
-"خربشات ضمير المخاطب "1997 لعادل الأسطة.
-"مصابيح أورشليم..رواية عن ادوارد سعيد "2006 لعلي بدر.
-"عزازيل "2007 ليوسف زيدان.
-"ترمي بشرر 2009 لعبده خال.
-"مدينة الله"2009 لحسن حميد.
-"البيت الأندلسي "2010 لواسيني نفسه.
-"ساق البامبو "2013 لسعود السنعوسي.
-"أولاد الغيتو...اسمي آدم "2016 لالياس خوري.
نعم إنها تطرح سؤال "المابعد "في الرواية العربية ، وسؤال الجديد الذي يتحول إلى نمط ،الجديد غير المألوف الذي يغدو مع الأيام مألوفا ولا يرى فيه القاريء جديدا فيما يخص الشكل.
هل يمكن أن أكون جريئا وأتساءل:
-ماذا لو حذفنا الصفحات الأربعين الأولى والصفحات العشرين الأخيرة من رواية واسيني وتركنا محتواها له يعبر عنه في أثناء إلقائه شهادة في مؤتمر أو ندوة أو لمقابلة يجريها معه ناقد لمجلة أو صحيفة؟
وماذا لو فعلنا الشيء نفسه في رواية "عزازيل"و"تغريبة الحميرية "و"أولاد الغيتو "؟
الموضوع قابل للنقاش وللاجتهاد.
10 : "ومن قال إن الرواية فن سهل؟ ( ص347 ):
يعيدنا الشكر الذي كتبه واسيني الأعرج ، في نهاية الرواية ، إلى الصفحات الأولى (من 7 حتى 45 ) وكانت تحت عنوان "في ملابسات مخطوط" ليالي العصفورية ".
يبذل ياسين الأبيض ، ومن ورائه واسيني الأعرج ، جهودا كبيرة في البحث عن المخطوطة يصل إلى ثلاث سنوات ، وكاد خلالها يفقد حياته ، ولكنه نجا بقدرة قادر ، فالطائرة التي كان يفترض أن يكون على متنها سقطت وتحطمت.
يقدم واسيني شكره لكل من قدم له مساعدة في إنجازه عمله الروائي وهم كثر.
ينهي واسيني شكره بالآتي: "
ما زلت أؤمن وأنا أنهي "ليالي إيزيس كوبيا " ، بأن الرواية أصبحت اليوم أهم سلاح في وجه طغيان النسيان وهزيمة الذاكرة ،لتحرير التمثال العالق منذ قرون ، بأعماق الصخرة الصماء "( ص350).
عبارته هذه تذكرنا برأي الروائي ( كارلوس فينتوس ) الذي ذهب إلى أن الرواية تقول ما يحجبه التاريخ ، وبرأي الناقد فيصل دراج الذي يرى أن الرواية هي ذاكرة المغلوبين.
بين رأي هؤلاء الثلاثة ؛واسيني و (فونتيس ) ودراج وبين رأي أساتذة جامعاتنا العباقرة الأفذاذ مسافة كبيرة إذ أكثر الاخيرين يرون في الرواية ثرثرة لا قيمة لها.
11 : "الأشياء تأتي متاخرة ":
لفت نظري في الصفحات الأولى من الرواية عبارة ذات دلالة جاءت عابرة ، ولكنها ، فيما أظن ، تعبر عن مكبوت صادق ، وهذه العبارة تخص علاقة ياسين الأبيض بروز خليل التي اشتركت معه في تأليف الرواية- هنا تحقيق المخطوط ؛ مخطوط "مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية".
يتذكر ياسين وهو في المطار لحظة بوح بينه وبين روز يأتيان فيها على العلاقة بينهما في أثناء البحث عن المخطوط
وفيها ترد العبارة الآتية:
"-لو التقينا قبل عشرين سنة لما كنا افترقنا أبدا " (42)
ترد روز:
"- لست نادمة على شيء. لقد اخترت عملي وحريتي. ابنتاي ميا وليلي ، تملآن حياتي ، من زواج لم يستمر طويلا ، من رجل جيد ،لكنه لا هو تحملني ولا أنا تحملته . الرجل الشرقي يخاف المرأة القوية ".
روز هنا تختلف عن سحر خليفة التي ابرزت صورة سلبية في المطلق لطليقها.
بعض النساء المطلقات يكن مثل روز وبعضهن مثل سحر وكذلك الرجال.
طبعا حين نقارن بين ياسين وأكثر الأدباء الذين أتت عليهم مي في "ليالي العصفورية"وما بعد ليالي العصفورية نجد الفرق واضحا ، وتحديدا بين صورة ياسين وصورة العقاد وطه حسين والرافعي . وكنت أتيت على هذا من قبل وإن بإيجاز . هل يرسم واسيني لنفسه صورة مختلفة، هو الذي أنصف مي ؟
ترى لو عاش ياسين في زمن مي وأقام علاقة معها كيف كان سيتصرف؟ هل سيكون مثل أمين الريحاني أم مثل العقاد وطه حسين والرافعي ؟
أعتقد أن شكل العلاقة بينه وبين مي هو ما سيحدد الأمر.
12 :"الرواية كوسيط معرفي":
غالبا ما أعود وأنا أقرأ الرواية إلى الكتب النظرية الخاصة بالفن الروائي ، ولا أتردد في العودة إلى المقدمة التي كتبها خليل بيدس لمجموعته القصصية "مسارح الأذهان "1924 وأتوقف أمام رأيه.
آخر الكتب التي اقتنيتها عن فن الرواية كتاب ترجمته لطفية الدليمي وكتبت له مقدمة. الكتاب ل ( روبرت ايغلستون ) "الرواية المعاصرة: مقدمة قصيرة جدا " ( دار المدى2017). وتذكر مقدمة لطفية بمقدمة بيدس وتتقاطع معها وتضيف إليها.
مما يرد في المقدمة أن الرواية تكتب للمتعة ،وكان بيدس قال هذا ،وتضيف كاتبة المقدمة نقاطا أخرى كثيرة منها أن الرواية وسيط معرفي . وهذا ما يتحقق ،بامتياز ، في رواية واسيني "مي ليالي إيزيس كوبيا ".
الرواية تطلعنا على قصة حياة كاتبة عربية ريادية مؤسسة وتطلعنا على أهم الصحف التي كانت تصدر في النصف الأول من القرن العشرين ،كما تعرفنا على علاقات الأدباء بمي ؛الذين التقوا بها ، مثل العفاد والرافعي وطه حسين ، والذين راسلتهم ولم تلتق بهم ، مثل جبران ، كما تلقي أضواء على بعض نتاج مي زيادة.
طبعا لا تخلو الرواية من تحقيق شرط المتعة ومن توفر عنصر التشويق فكاتبها صاحب خبرة في المجال الروائي ،وهنا أحيل ثانية إلى مقدمة لطفية الدليمي.
لا غبار في أن واسيني الأعرج كاتب محترف يتقن صنعته وإن كانت الرواية لا تخلو من هنات قليلة.
13 :"مي: سؤال الهوية":
تجيب مي طه حسين ، حين ينسب نفسه إلى أرض الكنانة ومي إلى " بلدها لبنان" بالآتي:
"لا سيد طه حسين ،أعطيت كل شيء لبلدي مصر ، أنا شامية صح ،لكن هذه البلاد أعطتني كل شيء وأنا عدت لأموت فيها واصطف بجانب والدي وأمي "( 319).
ووالد مي من لبنان وأمها من الناصرة ،وأقاموا في مصر ،فهل هي شامية أم مصرية؟
وبعد اتفاقية (سايكس- بيكو ) هل هي لبنانية أم فلسطينية؟
كان مصطلح "بلاد الشام "" في حينه شائعا وأخذ اسم فلسطين يشيع ، أكثر وأكثر ، منذ وعد بلفور .
في لبنان ، وهي في العصفورية، كان اللبنانيون ينعتونها ب"المجنونة المصرية" وهي كانت تنشد الخروج من العصفورية لتعود إلى مصر وتدفن إلى جانب والديها هناك.
كانت علاقة مي علاقة وثيقة بالأدباء والكتاب والمفكرين وفتحت صالونها لهم ولم تمانع في إقامة علاقة ودية مع العقاد أو مع الرافعي. ببساطة لم تلتفت إلى النزعة الإقليمية التي بدأت تظهر لدى بعض أدباء مصر ومنهم من دعا إلى دراسة الأدب اعتمادا على النزعة الإقليمية. هل مي مصرية أم شامية؟ وإذا كانت شامية فهل هي لبنانية أم فلسطينية؟
مي ،حسب اللغة ،كاتبة عربية .صحيح أنها كتبت بلغات أخرى ولكنها أقامت علاقات مع الأدب العربي والأدباء العرب وفضلت الموت في مصر.
14 :" التعاطف مع مي ":
يصدر واسيني روايته بعبارات ثلاث هي :" إني أموت ، لكني أتمنى أن يأتي بعدي من ينصفني " (ويعود إلى هذه العبارة في ص344 ) و" أراني في وطني تلك الغريبة الطريدة التي لا وطن لها " -وهما لمي زيادة - وعبارة ثالثة ل (كاميليا كلاودل ) كتبتها في 1934 وترجمتها كما في الهامش- إذ أوردها بالفرنسية- "تقول لي إن الله يعطف على المظلومين ، وإنه طيب...الخ لنسأل الهك الذي يترك البراءة تتعفن في ملجأ المجانين ".
وأظن أن المؤلف الضمني للرواية ياسين الأبيض الذي أتى بعد موت مي وأنهى تحقيقه لمخطوطتها وكتابها معا في العام 2017- أي بعد موت مي ب76 عاما- أظن أنه أنصف الكاتبة التي ظلمها عصرها.
في النقد الأدبي هناك نقد نصفه بالنقد المتعاطف- كما أكتب عن محمود درويش ومظفر النواب-
ونحن أمام رواية تعاطف فيها ياسين الأبيض ، ومن ورائه واسيني الأعرج ، مع بطلة روايته .
لقد أنفق ياسين ثلاث سنوات مع صديقته روز خليل في البحث عن المخطوطة/ افتراضا وتحقيقها ، وأرهقهما العمل لدرجة أنه وهو يغادر المكتبة تخيل مي تخاطبه ملخصة قصتها: "أبقاني عنده شهرين ونصف شهر على مضض مني ،وأنا أطالبه بالعودة. حتى استكمل برنامجه في أمري ،فأرسلني إلى العصفورية ،بحجة التغذية. وباسم الحياة ، ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين أحتضر على مهل ".
وعموما فإن العبارات الثلاثة تقول الرواية ، بعد أن نفرغ من قراءتها ، أنها- أي العبارات- توجز مضمون الرواية والقصد من ورائها.
ينصف واسيني مي فيكتب روايتها/ قصتها ويفضح مثقفي عصرها ممن تخلوا عنها ويرسم صورة مقززة لأقاربها. وتعيش مي في وطنها غريبة طريدة كما لو أنه لا وطن لها ، فهي في لبنان ،وطن أبيها ،تنعت بالمجنونة المصرية ، ولعل سؤال الهوية سؤال أساس من أسئلة الرواية، ويحضر الله في الرواية حضورا لافتا وتظل مي تسأله وإن أنصفها في النهاية.
15 :"بؤس المثقفين...بؤسنا ":
في معرض الكتاب ، في رام الله ، بحثت عن رواية واسيني الأعرج "مي ليالي إيزيس كوبيا: ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية "2018.
اشتريت طبعة دار الآداب التي عرضت في جناح دار الشروق/ فتحي البس ،وكنت قرأت مقالا أو مقالين عن الرواية.
في لقائي الروائي وناقدته المتخصصة فى أعماله ا.د.رزان ابراهيم أصغيت إلى رأيهما في الرواية . قال الكاتب عن علاقة مثقفي عصر مي بها إن اكثرهم كانوا كاذبين ، وهذا ما تبرزه عموما الرواية لأكثرهم.
تبدو صورة أدباء عصر مي وموقفهم من مأساتها ، إلا أقلهم ، صورة سلبية مظلمة ؛ من العقاد إلى طه حسين إلى الرافعي.
الصورة السلبية المظلمة لهم في الرواية ترد على لسان مي ،فالرواية بعد الصفحة ال 48 تقريبا تصاغ بأسلوب الترجمة الذاتية/ الضمير الأول.
شخصيا لم اتفاجأ من هذه الصورة لكبار الأدباء العرب . ببساطة لأن أكثرنا خرج من بيئة متخلفة ؛ من القرية أو الحارة أو المخيم ، وتجربتي الشخصية تقول ما تقوله تجربة مي ، وما قالته مي في الرواية.
ببساطة أكثر المتعلمين والأدباء بؤساء جدا. إن تتبع صورة هؤلاء في الرواية يبدو أمرا مجديا ، وقد تصدم صورتهم الكثيرين. ونحن في الرواية نقرأ وجهة نظر صاحبة المخطوطة وإن أصغينا قليلا إلى وجهات نظر قسم منهم بإيجاز .
الغيرة والحسد والجبن وتبني مواقف الآخرين دون التأكد منها ، ولكن هذا لا يعني أن مثقفي عصرها كلهم تشابهوا ،فثمة مثقفون وقفوا إلى جانبها.
جبن أكثر المثقفين ولكن أحد التجار من مدينة الأديبة "الناصرة " وهو التاجر مارون غانم يتبنى قضيتها ويوكل لها محاميا.
بخلاف العقاد وطه حسين والرافعي وقف أمين الريحاني، إلى جانب مي ، موقفا نبيلا. ومي التي كادت ترى في الآخرين جحيما عادت وذكرت بعض من وقف إلى جانبها وأعاد إليها الروح وبعث فيها الأمل.
عموما يمكن القول إن صورة المثقف العربي في الرواية العربية تبدو سلبية ،والموضوع لفت أنظار الدارسين ،وأتى عليه محمد عزام في كتابه عن إشكالية البطل في الرواية العربية.
قبل سنوات أصدر الروائي السوري خالد خليفة روايته "لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة "2013 وأبرز فيها صورة للمثقفين في نظام حكم شمولي وكانت الصورة مظلمة. والموضوع يحتاج إلى متابعة لا في رواية واسيني بل في الرواية العربية بشكل عام.
16 : أهو النسيان؟
طه حسين "في الشعر الجاهلي ":
وأنا أقرأ الرواية
لفت نظري اهتمام ياسين الأبيض بالمخطوطات.
مما ورد في المقطع 12 السطر 14 ص 39 من طبعة دار الآداب السطر الآتي:
"عثرت من خلالها على نص طه حسين الضائع :"في الشعر الجاهلي "، وغير المتداول اليوم فيه الكثير من الفقرات التي قام بنزعها هو نفسه ،قبل أن تعدم الكتاب كله الرقابة ،التي كانت ستغرقه في حياته بشأن القرآن والعقلانية العربية المريضة ...".
ربما يجب أن أذكر ياسين الأبيض ، ومن ورائه واسيني الأعرج ، أن مجلة "القاهرة"التي أشرف د.غالي شكري على إصدارها في 90 القرن العشرين أعادت ، في أحد أعدادها ، نشر الكتاب كما ظهر في طبعته الأصلية .
في أثناء قراءة الرواية التاريخية يجدر الالتفات إلى تأثير زمن الكتابة على الزمن الروائي . إن ما يراود الدارس ،وهو يقرأ رواية تاريخية ، هو: هل يعيش المؤلف في الزمن التاريخي ويتمثله كليا بحيث ينسى زمنه هو- أي الزمن الكتابي؟
ربما لم تبق نسخ من كتاب طه حسين في زمن مي زيادة .
في تتبع تأثير الزمن الكتابي على الزمن الروائي غالبا ما يحدث العكس . أعني غالبا ما يترك زمن الكتابة تأثيره على الزمن المسترجع ، وقد التبست علي شخصيا بعض الأمور وراجعت الكاتب فيها فأبدى لي وجهة نظره فيها.
والحق يقال إنني بذلت مجهودا للتأكد منها ،ومما لفت نظري مثلا الآتي:
-هل كان ال (ميك أب ) شائعا في زمن مي في العالم العربي؟
-هل استخدمت فرنسا الطائرات المروحية في لبنان في أثناء استعمارها لها؟
-هل استخدم لفظ صاحب السمو الملكي في مراسلات الأمير عبدالله الأول قبل تأسيس المملكة؟
وكانت إجابات الكاتب لي بأن نعم وأنه كان يقظا لهذا الجانب.
ومع ما ذهب إليه المؤلف ودفاعه عنه إلا أنني أحيانا كنت ألحظ تأثير زمن الكتابة على الزمن الروائي .والأمر يتطلب المزيد من الحفر.
17 :"تعدد اللهجات ":
شخوص واسيني في روايته هذه شخوص ينتمون إلى أقطار عربية مختلفة ؛بلاد الشام التي صارت ، منذ الانتداب ، أربع دول هي لبنان وفلسطين وسورية والأردن ، ويحضر أبناء هذه الدول والمقيمون فيها بنسب ، ومصر ويحضر ابناؤها في زمني الرواية ؛زمن مي وعصرها ، وزمن ياسين / واسيني ، ونسبة حضور كل زمن مختلفة عموما ، فالصفحات التي تغطي زمن ياسين تقتصر على الصفحات الأربعين الأولى والصفحات العشرين الأخيرة (331- 350).
يعني إننا أمام لغة زمن مي (1886- 1941 )ولغة زمن تأليف ياسين روايته (2014- 2017).
هكذا تحضر في الرواية لهجات بلاد الشام واللهجة المصرية والسؤال هو : هل استطاع ياسين تمثل تلك اللهجات تمثلا ناجحا؟
تجدر الإشارة إلى أن واسيني الأعرج درس في جامعة دمشق وأقام في المدينة ما لا يقل عن ثماني سنوات ،وعليه فإنه سمع اللهجات الشامية المتعددة والمختلفة.
لا أريد أن أطيل الكتابة في هذا الجانب هنا ،فقد أعود لآتي بامثلة توضيحية ولكني أرى أن المؤلف لم يتمثل لهجات شخوصه تمثلا تاما.
ما كنت أستغربه هو أن طه حسين ،على قلة عباراته في النص ،تكلم باللهجة لا بالفصيحة. هل استغرابي في محله.
اميل حبيبي و الياس خوري يكتبان بلغة عربية فصيحة وراقية ،بل إن لغة اميل تراثية فصيحة بامتياز ، ولكنه ومثله الياس يتكلمان بالعامية ولغة حديث الثاني مغرقة في عاميتها اللبنانية، ومع أن مي تكتب يومياتها وهي في لبنان إلا أن اللهجة اللبنانية التي نعرفها تبدو شبه غائبة.
ما لفت نظري هو أن ياسين الأبيض التقى بالأسطى عادل المصري ،وهذا يلثغ فينطق السين ثاء ولكنه ينطق الصاد صادا.
سؤالي هو :هل من ينطق السين ثاء ينطق الصاد صادا؟
أحيانا قليلة ينسى ياسين أن الأسطى عادل يلثغ فينطقه السين سينا . لو استشارني واسيني في لهجة الشخصيات لكان لي رأي تفصيلي.
18: "جنازة مي...جنازة المبدعين":
يتوقف ياسين الأبيض/ واسيني الأعرج وهو يكتب عن ملابسات مخطوط ليالي العصفورية أمام جنازة مي زيادة.
يبدي ، وهو يكتب عن جنازتها ، تعاطفه معها "لم يحدث لي أن أحسست بآلام امرأة مثلما أحسست بآلام مي ،لهذا أشعر كأني معني بقوة بهذه الآلام "( 38).
كنت كتبت أن واسيني يتعاطف مع مي . الفقرة المقتبسة دليل واضح. ويتساءل المؤلف إن كان بروايته أرجع إليها ما سرق منها أو بعضه ،ويعتقد أنها سعيدة هذه اللحظة "بعد حياة قاسية ، وجنازة حضرتها القطط برفقة ثلاثة أشخاص رافقوها حتى مثواها الأخير "( 39).
يتذكر المرء ، وهو يقرأ ما سبق ، جنازات مبدعين كثر لم يلتفت إليهم يوم موتهم .
قرأت ملاحظات كتاب عن جنازات علي حسين خلف و إحسان عباس و أحمد دحبور واللغوي العراقي ابراهيم السامرائي و...
وأظن أن طه حسين توفي في الحرب في (اكتوبر) 1973 وانشغل الناس عنه بأخبار الحرب.
هل تخيل محمود درويش أن جنازته ستكون على ما كانت عليه؟
في أشعاره سار مرة في جنازة "لا أعرف الشخص الغريب"ولكنه رأى جنازة فسار في ركابها وتخيل أن عدد من سيسيرون في جنازته سيكون قليلا ، مثل جنازة الرجل الغريب "والسائرون وراءه عشرون شخصا ما عداي" "وقد تكون جنازة الشخص الغريب جنازتي/ ،لكن أمرا الهيا يؤجلها/لأسباب عديدة.."
يعيش المثقف غريبا ويموت غريبا.
19 :"جوزيف زيادة وجوزيف. ك":
في أثناء قراءة "مي ليالي إيزيس كوبيا " يتذكر قاريء (فرانز كافكا ) روايته " المحكمة/ القضية" .
يذكر جوزيف/يوسف زيادة ب ( جوزيف. ك) ولكن معكوسا.
ثمة امرأة تشي ببطل رواية (كافكا ) تقوده إلى حبل المشنقة. كان (جوزيف.ك)ضحية المرأة.
في رواية واسيني يقود جوزيف مي زيادة ابنة عمه إلى العصفورية والجنون والمرض ، وفي الرواية هامش يشير إلى أن مي ماتت مسممة.( ص 334)
تتساءل مي عن مثقفي الشرق وعن جوزيف الذي درس الطب في فرنسا كيف فعل بها ما فعل؟ وإلى أين قاده طمعه هو الشخص الذي أحبته وفضلته على أكثر مثقفي عصرها ممن اقتربوا منها وطلبوا ودها.
مي التي ضعفت وألم بها انهيار عصبي استدعت ابن عمها جوزيف إلى القاهرة ووقعت له على ورقة توكله بحرية التصرف بأموالها ،وكانت ، كما تعترف ، غبية ،يقودها جوزيف إلى مشفى الأمراض العقلية ويحجر عليها فتكاد تصاب بالجنون وتفكر بالانتحار.
20 :"اللغة الفرنسية ":
لا يلجأ واسيني في روايته إلى ما يلجأ إليه الشاعر الغنائي الذي يكتب بالفصيحة -استثني الشاعر الشعبي الذي يكتب بالعامية أصلا - أعني لا يدخل لغته في مياه نهر ( ليثي) لتكون لغته ذات مستوى واحد .
كنت أتيت على اللهجات وتعددها في الرواية ،ولم ألتفت إلى الفصيحة واللغات الأخرى ، ولا اعتراض على لغة السرد لديه ، فهي فصيحة سليمة .
ما لفت نظري هو العبارات الفرنسية التي وردت في ثمانية مواضع على الأقل .
وقد يكون ورود هذه العبارات ضرورة فنية- أعني قد يكون ورودها مبررا فنيا ؛ فقسم منها يرد إلى مي من شخصيات فرنسية.
أحيانا كان واسيني يورد العبارات كما هي ،بلغتها الأصلية ، ويورد في الهامش ترجمتها ،وأحيانا كان يكتبها ولا يورد ترجمتها. هل ينسى الروائي أن الفرنسية لا يعرفها أكثر القراء وأن ايرادها يؤثر على فهم القاريء واستيعابه؟
لا يعرف قراء الرواية كلهم الفرنسية ، وهي لكثيرين ليست اللغة الأجنبية التي تعلموها.
ويمكن أن يوجه السؤال الآتي إلى الروائي:
-لماذا لم تنهج النهج نفسه في الرواية كلها؟
وردت عبارات فرنسية في الصفحات الآتية: 60/78/105/124/126/144/177/ 184/ 263.
والصحيح أن هذه الملاحظة لا تقتصر على هذه الرواية لواسيني وحسب .
كنت قبل سنوات اقرأ رواية "شرفات بحر الشمال" 2006 (طبعة دار الآداب ) ولاحظت الشيء نفسه ،وفي هذه ترد فقرات بالفرنسية ما جعلني أثير السؤال نفسه. ص41/ 74 على سبيل المثال لا الحصر.
ومن المؤكد أن دارسي نتاج الكاتب توقفوا أمام هذه الظاهرة.
21 : "النموذج والنمط":
في أثناء تتبع موقف مي من المثقفين والجرائد يكاد المرء يخرج بانطباع هو أنها كفرت أو كادت تكفر بالجميع ،ولا يقتصر هذا على البشر ،فهي أحيانا تخاطب الله كما لو أنه تخلى عنها.
ولكن القاريء الذي يمكن أن يتفهم ، احيانا ، هذا الميل إلى التعميم ، سرعان ما يلحظ أن مي ،منذ البداية ، تميز بين شخصية وأخرى ، فهي في العصفورية تميز بين ممرضة وأخرى ؛ بين متسلطة جلفة وثانية تتفهم مي وتقف إلى جانبها منذ زج بها في العصفورية ، مثل سوزان (بلوهارت) هذه التي ظلت إلى جانب مي حتى تعافيها وبراءتها.
يمكن قول الشيء نفسه عن الأدباء والكتاب والمفكرين الذين عرفوها وترددوا على صالونها.
في البداية أخذت مي ترى جميع من عرفتهم قد تخلى عنها ، ثم زارها أمين الريحاني ، بعد عودته إلى لبنان ، ووقف إلى جانبها وقفة مشرفة جدا.
الريحاني وبعض الجرائد وأصحابها وقفوا إلى جانب الكاتبة ما جعلها تتخفف من إطلاق أحكام تعميمية ،وكما ذكرت فإن موقفها من الله اختلف إذ عادت وشعرت بأنه وقف إلى جانبها.
تبدو صورة المجتمع قاسية ومثلها صورة المثقفين والأقارب ، والأخيرون- أي الأقارب- بدت صورتهم سوداوية مظلمة والرواية/ المخطوط كتب أصلا لفضحهم حيث كان الظلم الواقع من طرفهم ،على مي ، كبيرا وغير متوقع.
لقد أنت على مي لحظات عصيبة كادت فيها تسبق (سارتر ) في قوله "الآخرون هم الجحيم".
22 : "أولوية المحتوى ":
فيما كتبته عن "مي ليالي إيزيس " ركزت كثيرا على الشكل الفني وعلاقته بالرواية العربية ، والإشارة العابرة للرواية العالمية "اسم الوردة "و "شيفرة دافنتشي" ويمكن إضافة رواية "أهداف سويف "خريطة للحب" وبعض الكتاب يذكر أمين معلوف "سمرقند"-للأسف لم أطلع عليها- .
وأنا أتابع اهتمام القراء بما أكتب ألحظ التفاتا قليلا إلى ما أكتبه عن الشكل .
أمس كتبت عن مي والكتاب والمفكرين في عصرها وعن علاقتها بعائلتها ، ولاحظت التفات واسيني نفسه إلى ما كتبت حيث عقب ذاهبا إلى أنني الآن دخلت إلى عمق النص ،وما لاحظته أيضا أنه لم يلتفت كثيرا إلى ما كتبته عن ظواهر شكلية إلا فيما يخص دقة المعلومات وما ابديته من ملاحظات.
كما لو أن واسيني يرى أن أهمية روايته لا تكمن في ملاحظات تخص الشكل ،وإنما تكمن الأهمية في محتوى الرواية حيث يقدم لنا قصة أديبة ظلمت وتمنت أن تنصف ذات يوم .
ومن المؤكد أن الأفكار تمس وترا حساسا لدى الروائي وإن كان يختار لها الشكل المناسب ، ولأنه يكتب رواية عن شخصية إشكالية كتبت نصوصا في فترة حرجة وضاع بعض ما كتبت ؛أحرق أو دفن ، فإنه اختار اللجوء إلى حيلة البحث ،وكما ذكرت ،وأنا أكتب تحت عنوان "البيت الأندلسي "فإن البناء الفني للرواية الجديدة 2018 يتقاطع كثيرا ورواية "البيت الأندلسي "2010 وهذه أيضا رواية تجمع بين أزمنة مختلفة ،فهي تقص قصة بيت بني قبل مئات السنين وله حكاية مكتوبة ،في مخطوط مفتقد ،وهذا شغل ذهن (ماسيكا).
وأنا أقرأ ،من جديد ، الصفحات الأولى من "البيت الأندلسي " وجدت تقاطعات عديدة بين الروايتين في المقدمات التي أتت على قصة المخطوط والبحث عنه.
وما أريد أن أخلص إليه في هذا أن قاريء رواية "مي ليالي إيزيس كوبيا ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفورية " سيلتفت أكثر إلى موضوعها لا إلى شكلها وحيلتها الفنية المطروقة التي غدت مألوفة.
23 : "الشرق البائس":
تحضر في رواية واسيني ثنائية الشرق والغرب ،وهذه الثنائية تكاد تكون فكرة رئيسة في الأدب العربي ،ولقد أنجزت حولها دراسات وكتب عديدة وبغير لغة ،وكان لبعض الأدباء الذين ورد ذكرهم في الرواية موقف واضح منها. هنا أخص طه حسين في كتابه "مستقبل الثقافة في مصر".
حين تتهم مي في عقلها وسلوكها تدافع عن نفسها وتذهب إلى ما هو أبعد من ذلك.
يستكثر عليها قسم من معاصريها أنها تنجز ما أنجزت "وهناك من يتخفى ورائي ويكتب لي " (204)
مرة يقولون إنه أبوها وثانية إنه عشيقها الذي لم يحصل لها شرف اللقاء به.
"أن تكون رجلا يكتب ،فهذا تحصيل حاصل ،أن تكتب امرأة لا بد من أن يكون لها ظل"( 204 ) هنا تكتب مي:
"لا شيء في هذا الشرق الذي أخفق في كل شيء ،حتى في أن يكون هو ،خسر شرقيته، وأخفق في أن يكون غربا"(204).
والصحيح أنه يمكن التعمق في متابعة هذه الثنائية.
في موطن آخر تأتي مي على جوزيف الذي درس في باريس وحين عاد إلى الشرق عاد شرقيا . إن مي تتساءل بمرارة أيعقل أن يكون درس في باريس؟:
"ظننته كبيرا ومتنورا وحساسا ، وعاشقا للحياة في صفائها . تعلم كل العادات اللطيفة في باريس .لكنه فجأة تخلى عنها ،و أصبح يشبه الآخرين. شككني في كل يقينياتي .( 203 ).
والطريف أن مي تعرف قصة (كامي كلوديل ) و (رودان) بل إنها تتواصل معها ،وحصل مع (كامي) ما حصل وهي في الغرب.
وأنا أقرأ ما قالته مي في الشرق تذكرت رجب في رواية عبد الرحمن منيف "شرق المتوسط " :"هذا الشرق لا يلد إلا المسوخ ".
عانت مي من ظلم الآخرين واتهمت بعقلها وأنفقت أشهرا في العصفورية ،وأنفق رجب سنوات في سراديب شرق المتوسط لرأي سياسي.
لقد لفتت صورة الشرق المظلمة نظري في أثناء قراءة رواية منيف فأنجزت عنها مقالة طويلة.
ذكرتني عبارة مي بعبارة رجب.
24 :" الشرق /الذكورة":
حين درس الناقد جورج طرابيشي العلاقة بين الشرق والغرب في الرواية العربية في القرن العشرين ،وتناول أسماء معروفة هي توفيق الحكيم "عصفور من الشرق " ، ويحيى حقى "قنديل أم هاشم " ، وسهيل ادريس "الحي اللاتيني" ، والطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" اختار لكتابه عنوان "شرق وغرب، رجولة وأنوثة ".
يفتخر الشرقيون وهم في الغرب برجولتهم ،ولأنهم مهزومون أمام الغرب الذي غزاهم في عقر دارهم ،فإن الرجال الشرقيين في أوروبا يغزون النساء الأوروبيات ، وهذا ما بدا واضحا لدى مصطفى سعيد بطل رواية "موسم الهجرة إلى الشمال ".
لا نلحظ سلوكا مشابها لسلوك مصطفى في رواية واسيني ،ولكن اقتران الشرق بالذكورة يبدو لافتا في غير مكان من الرواية.
إن الأدباء الشرقيين الوارد ذكرهم في الرواية يبدون في تعاملهم مع مي شرقيين بامتياز .
الوحيد من الأدباء الذي سلوكه مشابه لسلوك مصطفى سعيد هو جبران الذي تذكر مي أسماء عشيقاته.
إن شرقية الرجال الشرقيين وذكورتهم تبدو في علاقتهم مع المرأة ومع مي نفسها ، وهذا ما سأتوسع فيه في مقالة خاصة.
"في هذه الناحية ،يكاد كلهم لا يصلحون ،لا أحد منهم كان قادرا على رؤية نفسه في مرآة العمر الهارب ،مزهوا بثقافته التي وضعته في الصفوف الأولى ، وذكورته السخية
-هي هزيمة متنكرة في جلباب الذكورة المنكسرة.
"(112).
25 : "العائلة ":
الصورة التي تظهر في رواية واسيني لعائلة مي تتخذ شكلين ؛ الأول علاقة مي بوالديها ، وهي علاقة ودية جدا تقوم على المحبة والعطف والحنان والتقدير ، وحين تفقد والديها ينهار عالمها ، ويظل للوالدين حضور طاغ ، وكلما عانت مي من ضيم أو ظلم ، وما أكثر ما تعرضت له ، تذكرت أباها وأمها وشعرت بحاجتها الماسة إليهما.
والثاني علاقتها بعائلتها الواسعة الممتدة وكانت في بدايتها علاقة عادية ، ولكنها اختلفت بعد وفاة والدي مي ، وبعد أن آلت الثروة التي تركها الأب إليها .
طمع الأقارب بالثروة واستغلوا انهيار مي العصبي ليتهموها بالجنون وليزجوا بها في العصفورية بلعبة مدبرة شاركت فيها العائلة كلها واول أفرادها جوزيف/يوسف الذي أحبته ووثقت به وفضلته على أدباء عصرها كلهم " ظلموني يا بلوهارت. ظلموني جدا لدرجة أن حولوني إلى مجنونة. إلى الآن لست مؤمنة بأن ما حدث لي هو مجرد صدفة. ترتيب جوزيف لم يكن عبثا. لقد استولت العائلة على كل شيء "(146)"
-لا تظن أنني أهذي بروفيسور؟ أنا هنا عن طريق الصدفة ، وربما الغلط. متأكدة من ذلك . قصتي لا تتعلق بالجنون ،ولكن بمجموعة من الأخطاء ،انتهت بي إلى السقوط في شرك لعبة قاسية ،أكبر مني. لقد استولى بعض أقاربي على مالي وبيتي العائلي و أراضينا ،وحجزوا علي ،ثم رموني هنا من خلال سلسلة من التواطؤات السرية، صفقة لا أملك كل خيوطها ،من داخل هذه العصفورية نفسها، وإلا كيف استمعوا إلى جوزيف ساعات طويلة، ولم يسألني أحد عن الجرح الذي يصعب أن يندمل"(160) .
كان نعوم خطب مي وأراد الزواج منها ، ولكنها مالت إلى أخيه جوزيف ، وفشل زواجها من نعوم الذي كان صديقه يكتب له رسائل الحب إليها.
تخلى جوزيف عن حب مي وسافر إلى باريس وتزوج من فرنسية أكبر منه بعشرين عاما ،وظلت مي تحبه وتكتب له الرسائل ، وحين انهارت عصبيا وكلته بأملاكها فزج بها في العصفورية وهذا آخر ما توقعته.
وأنا أكتب تحت عنوان "الشرق البائس "أتيت على استغراب مي مما فعله جوزيف الذي درس في باريس معها. عاد من باريس وكأنه لم يقم فيها. حاله حال طه حسين ورواد الحداثة الذين ظل موقفهم من المرأة موقف مجتمعهم منها.
كانت مي قررت أن تكتب يومياتها لكي تفضح العائلة وما فعلته معها. ربما لهذا ضاعت يوميات مي ومخطوطاتها التي سعى ياسين الأبيض/ واسيني الأعرج للبحث عنها.
26 : "رب أخ لك لم تلده أمك ":
لم يكن لمي أخ أو أخت يشاركانها في الميراث ،فقد كانت وحيدة والديها: "إني وحيدة والدي ، وإن تعددت ألقابي"( 59).ولو كان لها إخوة لشاركوها في الميراث ولما اتصلت بابن عمها جوزيف ووكلته بأملاكها وأموالها ،ولما كانت غبية ، كما أقرت لاحقا ، فيما أقدمت عليه لحظة وقعت على ورقة الوكالة.
زج بها أقاربها في العصفورية وقليلون منهم من زاروها هناك ،وحين كانت تشكو لهم أنها ليست مجنونة كانوا يقولون لها إنما فعلوا هذا لصالحها حتى تتعافى.
فيما جرى مع مي لاحقا يستحضر المرء المثل "رب أخ لك لم تلده أمك " ويستحضر أيضا تحوير محمود درويش له "رب عدو لك ولدته أمك " والمثل الذي أوردته من قبل "الأقارب عقارب".
كان التاجر مارون غانم ابن الناصرة المنقذ لمي ،وهو شخصية ثانوية فاعلة من شخصيات الرواية ، وكان من قراء أدب مي ومن المعجبين بكتابتها ،ولما سمع بقصتها أقسم بأن يتحول إلى جندي مجهول يقف في صفها ويسخر ماله وكل أملاكه من أجل إخراجها من العصفورية (183 )(194) ولقد وعد وأوفى ووكل لها محاميا فثانيا وأسفرت جهود المحامي بإخراج مي من العصفورية.
لقد أعاد المحامي وممرضتان أخريان وزيارات أمين الريحاني الحياة إلى مي ،بل إنهم أعادوا لها ثقتها بنفسها و بعض الأمل ،بعد أن كادت تفقد الثقة بالآخرين كلهم ومنهم الله.
"رب أخ لك لم تلده أمك "ورب تاجر يختلف عن تجار كثر آخرين.
في روايتها "قلادة فينوس تورد أماني الجنيدي المثل الآتي في التجار "لا أسفل من تاجر" ومارون غانم قال إن هناك تجارا استثناء.
27 :"حشرة (كافكا)":
كنت أتيت على جوزيف.ك في رواية (كافكا) وجوزيف زيادة في رواية واسيني.
في بعض مواطن الرواية يتذكر القاريء قصة (كافكا )"التحول/ المسخ".
يتحول غريغوري في "التحول "إلى حشرة ولا يتعاطف معه والداه ، وتشعر معه أخته ، ويتخلى عنه صاحب العمل .
حين يصاب الإنسان بمس أو مرض قد لا يجد من يقف إلى جانبه ، وفي مجتمع راسمالي يقدر فيه الفرد بمقدار ما يقدم قد يعامل المرء كما لو أنه حشرة يرغب الآخرون في التخلص منها .
لا شك أن هناك دلالات رمزية لقصة (كافكا) -أو على الأقل هكذا فسرها النقاد الماركسيون: إن (كافكا ) يفضح المجتمع الرأسمالي.
يصحو (غريغوري) فيجد نفسه وقد تحول إلى حشرة ، فينفر منه الآخرون ، وتصاب مي بانهيار عصبي فتنعت بالمجنونة ويرسلها أقاربها إلى مستشفى المجانين/ العصفورية.
هناك تشعر مي بأنها ليست سوى حشرة: "بحجة التغذية وباسم الحياة ،ألقاني أولئك الأقارب في دار المجانين ، أحتضر على مهل وأموت شيئا فشيئا كحشرة"( 59) "-يا ناااااااااااس.لست مجنونة. يا ناس. أنا مصابة فقط باكتئاب بسبب الفقدان ، لكني ما ضيعت عقلي "(60).
ترى ما الفرق في النهاية بين تخلي والدي (غربغوري ) عنه وبين تخلي أقارب مي عنها؟
إنه المال والمصلحة ، فحين كان والدا شخصية ( كافكا) يستفيدان منه كانا يرحبان به ، وحين ألم به عطب تخليا عنه.
كانت مي تملك المال والأملاك ولما أصابها انهيار عصبي وضعها أقاربها في العصفورية ورفضوا الاعتناء بها ولم يزرها إلا أقلهم.
هل ذهبت بعيدا في إجراء المقارنة؟
العالم ل(كافكا)كان قاتما وأسود، وحين درس طه حسين أدب (كافكا ) درسه تحت عنوان "الأدب الأسود ".هل يمكن إدراج رواية واسيني هذه تحت العنوان نفسه؟
كانت حياة مي في سنواتها الخمس الأخيرة 1936- 1941 قاسية وقاسية جدا، وفي مواطن كثيرة من الرواية يستحضر المرء (كافكا) و بعض أعماله . مثلا حين تعرض مي على اللجنة يتذكر المرء الأجواء الكابوسية لدى (كافكا ) ، ولربما استحضر المرء قصة زكريا تامر "الجريمة" ورواية صنع الله ابراهيم "اللجنة "التي تحفل أيضا بمشاهد كافكاوية.
28 : "الحب الأول ":
يتذكر المرء وهو يقرأ الصفحتين252 و253 قول أبي تمام:
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى/
ما الحب إلا للحبيب الأول/
كم منزل في الأرض يألفه الفتى/
وحنينه أبدا لأول منزل.
يتذكره فيما يخص البيت الأول ولا يتذكره فيما يخص البيت الثاني.
حب مي الأول هو ابن عمها جوزيف ، ومكانها الأول هو الناصرة.
تظل مي تتذكر جوزيف مع ما فعله فيها ، وعلى الرغم من أنها ترفض ، لاحقا ، رؤيته ، إلا أنها تأتي على سيرته وتناقش في الحب الأول ، وحين تخرج من العصفورية وتتعافى وتعاد إليها حريتها التي كان لابن الناصرة دور فيها ، لا تعود إلى مكانها الأول ؛ مكان ولادتها الناصرة ، وتفضل العودة الى مصر ،مع أن الأدباء هناك تخلوا في محنتها عنها.
هل يصدق في قصتها قول أبي تمام عن المكان الأول؟
ما لم يصدق عن المكان الأول وعلاقة مي به ،نقرأ ما يغايره عن الحب الأول ؛ نقرأ كلاما كأنما يؤكد أن لا حب إلا للحبيب الأول ،وأنا شخصيا لست مع هذا إطلاقا ، وليس المهم رأيي ، فالأهم هو ما يرد في الرواية.
في الصفحتين المشار إليهما أعلاه حوار بين مي ويوسف الحويك ، ويوسف هذا هو من كان يكتب رسائل نعوم خطيب مي إليها.
كان نعوم عاديا وكانت الرسائل تعبر عن حرقة.
يعترف يوسف لمي ، لاحقا ، بأنه كان يكتب الرسائل إلى نفسه أصلا ، لا إلى مي نيابة عن نعوم "لأني وقتها كنت على حافة الانتحار بسبب خسراني للمرأة التي أحببت ."(252)
تعقب مي على إعتذار يوسف المتأخر عما قام به ، مبدية رأيها في الحب الأول:
"- لا مشكلة يا يوسف ، الحب الأول ، موت بطيء يظل حيا للأسف . لم يكن جوزيف في النهاية إلا آلة للقتل المنظم "(253).
تعترف مي بأن جوزيف كان حبها الأول وأن لا رجل غيره استطاع أن يهزها من أعماقها ،وتقر بأنها أحبته فهو من أزال عنها ألبستها السوداء الثقيلة التي ما يزال بها عطر الكنائس والأديرة "كان جوزي وقتها يصنع لي سجن الحب الأول ، الذي لم أخرج منه حتى اليوم . الحب الأول لا ينسى . يستمر فينا حتى يحرقنا ويحولنا إلى رماد ، لا أحد يستطيع لملمته ".
هذا ما تقوله مي ، وربما وجبت دراسة الموضوع دراسة تقوم على إجراء استفتاء.
وفي مواطن محددة من الرواية تذكر مي أنها نسيت جوزيف كليا. صحيح أنها حين ساءت أحواله لم تحقد عليه ،ولكنها حزنت لما آل إليه ،وقد قيل لها إنه كان ضحية الأنسباء حين أقدم على ما أقدم عليه. ( 286).
شخصيا لا أذكر الحبيب الأول ولا يخطر ببالي إطلاقا .
الكلام السابق ورد روائيا على لسان مي ، فهل يعبر عن رأي واسيني الأعرج؟
29 :" هل كانت مي مثلية؟ ":
إن لم تخني الذاكرة ، وإن كنت ركزت جيدا في أثناء لقائي بالكاتب في يومي 11و12 من أيار ،في معهد القاسمي في باقة الغربية ، فإنني سمعت من واسيني ما يشير إلى ميول مثلية لدى مي.
في تقديمها لنفسها ، في بداية المخطوطة الافتراضية ، تأتي مي على تعلمها في مدارس الراهبات وفي الأديرة ، وترى أن أهلها حين أرسلوها لتتعلم هناك قتلوا الحياة فيها وقتلوها "لقد قتلني أهلي "(56) .
أرادت مي أن تحيا حياة طبيعية لا تخضع لأوامر دينية متشددة تقمع فيها رغبات الجسد الذي كان في بداية تفتحه "كنت أريد لهذا النهد أن يكبر بسرعة ، وينام في كف غير كفي "(57).
من مدرسة اليوسفيات في الناصرة إلى داخلية مدرسة راهبات الزيارة في عينطورة ، كانت ترى وجهها وشفتيها وتتحسس نهديها المتفتحتين "ونهود صديقاتي النافرة ، وهي تهتز بغواية وشهوة ،باستدارات متقنة كأنها خرجت من بين يدي فنان "(57) وتستطرد مي- افتراضا- في الوصف والحديث عن حياة الفتيات في الدير والحرص عليهن من "أية لمسة ذكورية" .
الحرص على الفتيات من أية لمسة ذكورية ،وابتعاد الراهبات عن عالم الرجل ،أدى إلى الميل المثلي فوقعت بعض الراهبات في عشق الصغيرات.
في صفحات لاحقة (151-157) تأتي مي على الراهبة هيلينا وتقص عما جرى بينهما.
كانت الحياة في الدير تقوم على أن تكون لكل طالبة صغيرة أم ترعاها ، ولقد رعت هيلينا مي واهتمت بها وأخذت تعلمها العزف على البيانو ،ثم وقعت في حبها وأرادتها حبيبة قلبها في السرير :"
-أنا أمك في الدير ، وحبيبة قلبك في السرير.
-أنت أمي في الدير "( 154).
كانت هيلينا تضغط ، وهي تعلم مي العزف ، على أصابعها ثم أخذت تمصها ،وذهبت إلى ما هو أبعد من ذلك ،فحممت مي واستلقت معها في السرير إلى أن ضبطتا معا ،ما أدى إلى طرد هيلينا من الدير ، وستعرف مي ، في وقت لاحق ، أن هيلينا انتحرت .
رفضت مي في البداية أن تكون لهيلينا في الليل في السرير ولما كانت تشتاق إلى حنان أمها فقد استسلمت.
هل أدى هذا إلى ميول مثلية لدى مي؟
تتذكر مي هيلينا وقصتهما معا حين ترى الممرضة سوزان/ بلوهارت ولكن علاقتهما معا ظلت علاقة احترام.
ثمة موطن في الرواية تعبر فيه مي عن علاقتها بالممرضة سوزان يشير إلى ميل مثلي لمي ، وإن كان الدافع لرغبة مي هو بحثها عن الحنان المفتقد:
"نظرت بلوهارت إلى وجهي البارد فامتلأ دفئا. مدت لي يدها الناعمة .تلمستها . تشتهيت تقبيلها. الوحيدة في هذا العالم الأصم من يهتم بي . .... أحب أصابع المرأة لأن بها شيئا من اللغة الخفية . لا أحب كثيرا أيدي الرجال لأني لا أرى فيها أية نعومة ،سوى المزيد من اليقين والخوف ، والعنف المبطن في شكل قبضة حديدية"( 123).
30 : "مي وأدباء عصرها":
تبدو الصورة التي ترسمها الرواية لأدباء عصر مي ومفكريه صورة سلبية ، ولا تبرز هذه الصورة في مكان واحد من الرواية . إنها تتكرر في غير موقع ،حتى ليمكن القول إن هذا التكرار ضخم حجم الرواية ، ولكن الروائي قد يدافع عنه لغير سبب ، من ذلك حاجة مي للدفاع عن نفسها في أيام حرجة اتهمت فيها بالجنون والفصام ولم يقتصر الأمر على الاتهام ،بل تجاوزه إلى الزج بها في مشفى المجانين وقضاء أشهر فيه ، دون أن تجد من رواد صالونها الأدبي من يدافع عنها ، فلقد تخلى الجميع عنها .
كانت مي تراسل جبران وكانت تعرف أنه يعيش بين جيش نسائه ، فهو في عالم آخر . وكانت هي في المقابل تعيش بين جيش من الرجال طلبوا ودها وأخذوا يغارون من بعضهم عليها ، وبلغت الغيرة أن غار العقاد لا من الرافعي ومن كان في مصر ، بل من جبران خليل جبران الذي كان يفصل بينه وبين مي محيطات .
تختصر مي رأيها في أدباء عصرها أكثرهم بالعبارة الآتية:
"كلما اقتربت منهم ،صغر الكثير منهم"( 143).
كانت مي ،كما يرد على لسانها في الصفحة نفسها ، تدرك لعبة الشهوة لديهم ، واكتشفت ، وهي بينهم في الصالون "أن هذا العالم الجديد الذي كانوا يبشرون به ليلا نهارا ، محكوم عليه بالموت اختناقا ، اليوم أو غدا أو بعد مائة سنة ،ما دامت المرأة لا سلطان لها فيه ،ولا تشترك في صناعته " وتتمنى مي لو تصرخ بالآتي حتى تتقطع حبالها الصوتية :"أيها الرجل ،لقد أذللتني ، فكنت ذليلا ، حررني تكن حرا"( 143) .
ولولا أن واسيني الأعرج يوثق عبارات مي ، في الهامش ،لكنا تساءلنا السؤال الآتي : هل الكلام الذي يرد على لسان مي هو كلامها أم كلام واسيني ومؤلفه الضمني ياسين.
لعل مما قد يلفت النظر -بل لعله لفت النظر- في هذه الرواية هو مقدار التداخل في الآراء بين مي وواسيني.
إن كثيرا من القراء قد يقولون إن ما نطقت به مي هو ما ينطق به واسيني نفسه ،بخاصة فيما يمس الموقف من أدباء عصر مي ومفكريه .
والطريف أن بعض قراء الرواية انطلت عليهم الحيلة الفنية ، واعتقدوا أن مي هي صاحبة المخطوطة وأن ياسين/ واسيني هو مجرد محقق لها .
وعلى الرغم مما سبق فإن قسما من القراء سيظل يتساءل عن مقدار كلام مي ومقدار كلام واسيني فيما يرد على لسان مي في المخطوطة الافتراضية.
هل رأي مي في المخطوطة في أدباء عصرها ومفكريه هو رأي واسيني أيضا؟
يبقى السؤال مشروعا ، وتتطلب الإجابة عليه العودة إلى كتب مي وكتب من كتب عنها ومن جمع تراثها ليفحص ما نطقت به أو كتبته وما صدر عن الروائي نفسه ، علما بأن نقادا كثيرين يرون أن الرواية التاريخية عمل تخييلي.
في تعقيبات بعض القراء على الكتابات السابقة ما يعزز ما أذهب إليه .
ببساطة وبعبارة نقدية أثير السؤال الآتي : ما التأثير الذي تركه الزمن الكتابي/ زمن واسيني ، على الزمن الروائي/ زمن مي؟
31 :" مثلية مي ثانية":
أعادتني قصة مي وهيلينا إلى نصوص أدبية قديمة .
قصة مي وهيلينا جرت في مدرسة عينطورة للراهبات ،ويفترض أن تسود تلك البيئة الأخلاق الدينية المسيحية القائمة على العفة . هذا ما يفترض دينيا وأخلاقيا ، ولكن الجسد له أيضا احتياجاته التي قد تكون عنيفة ، والصحيح أن انحرافات رجال الدين ونسائه حاضرة في النصوص القديمة أيضا.
ليس غريبا أن تقع هيلينا في غرام مي ، وأن تميل إليها عاطفيا . إن قصص الرهبان في هذا متداولة ، ولعل منتجي أفلام (البورنو) الذين يصورون علاقات مثلية بين راهبتين أو بين راهبة وراهب لم تأت من فراغ.
قبل شيوع أفلام (البورنو) التي تصور شبقا جنسيا لدى بعض المترهبنين التفت الأدباء إلى هذا وكتبوا عنه قصصا وطرائف.
لعل من الكتب المهمة في تصوير حياة الرهبان وبعض سلوكاتهم الشاذة كتاب (جيوفاني بوكاشيو) "الديكاميرون" ( انظر الطبعة العربية الصادرة عن دار المدى/ دمشق 2006 ترجمة صالح علماني ).
في تراثنا العربي هناك حكايات وطرائف أيضا.
إن شعر التغزل بالغلمان شغل حيزا لا بأس به في ديوان أبي نواس ، بل إن كتاب أبي حيان التوحيدي "الإمتاع والمؤانسة " ، وهو كتاب جاد رزين ذو بعد أدبي ثقافي فلسفي لا يخلو من هزل ودعابة. في الليلة التاسعة عشرة مثلا يتماجن الوزير والحضور ويروون النكت الجنسية ، وواحدة منها تأتي على شيخ منحرف جنسيا ،ولطالما رويت حكايات أيضا عن بعض الشيوخ.
في "الليلة التاسعة عشرة" أبيات فاضحة :
شيخ يصلي قاعدا و...عشرا من قيام
ويعاف....الغانيات ويشتهي....الغلام .
هل اتهام مي بميول مثلية - ربما تكونت في بيئة متشددة - يبدو مستغربا؟
ابتداء أشير إلى أن ما تقوله روح الرواية هو أن مي كانت ضحية الام الثانية- أي الراهبة هيلينا ، وأن مي البعيدة عن أمها صمتت على سلوك الراهبة لشعورها بحاجتها إلى الأم ، وأنها حين أبدت رغبة في مص أصابع الممرضة بلوهارت فإنما أرادت أن تعبر عن خوفها من غدر الرجال . ومي لم تقدم شخصيا على تبادل علاقة مع أنثى. لقد عبرت عن رغبة فقط.
في الرواية العربية المعاصرة يمكن الإشارة إلى رواية خالد خليفة "لا سكاكين في مطابخ هذي المدينة " ، فقد حضرت فيها ظاهرة المثلية الذكورية ،كما لم تحضر في رواية عربية سابقة ، حسب ما قرأت شخصيا.
32 :"الإبداع والجنون ":
في تعقيب أحد طلابي في الماجستير ،وهو ياسر جوابرة ، استشهد برأي لسلمى الحفار الكزبري، فحواه أن جنون مي هو جنون الإبداع .
لم اقرأ شخصيا ما كتبته سلمى الحفار الكزبري ، ولا أعرف إن كان هناك دارسون آخرون ممن درسوا مي وآدابها ربطوا بين ما ألم بها وبين الإبداع- أي أن سر جنونها يعود إلى كونها مبدعة -إن أقررنا بأنها كانت بالفعل مجنونة ، علما بأنها برئت.
كانت مي ، في الرواية ، أتت على أنها مصابة بانهيار عصبي وأنها لا تعاني من الجنون ، فهو فرية من أقاربها ليس أكثر ، طمعا في مالها .
إن الإشارات على لسان مي ، بخصوص الطمع ، جعلها تكرر مرارا أنها ضحية لعبة ، وأن ما ألم بها من انهيار عصبي إنما مرده فقدان والديها.
إن ربط الفن بالجنون ، والأصح بالعصاب ، فكرة أخذ بها ( فرويد ) وطبقها في نقده الناقد ( ادموند ولسون) وقد أتيت عليها شخصيا في مقالاتي في جريدة الأيام الفلسطينية مرارا (25/3/2018 ) .
يربط الاثنان المذكوران بين الفن والعصاب ويريان أن الفنان يدفع ثمن رؤاه الخلاقة مرضا ،فهل الحالة التي ألمت بمي كانت من هذا القبيل ، كما فهمت من كلام ياسر جوابرة ، اعتمادا على رأي سلمى؟
إن رأي الناقدين (فرويد )و ( ولسون) ورد في كتاب (ديفيد ديتشس )"مناهج النقد الأدبي بين النظرية والتطبيق" ولكن هذا الرأي يجد من النقاد من لا يأخذ به ، مثل الناقد (ليونل ترلنج) الذي لا يعزو الإبداع إلى العصاب ، فالعصاب يشمل كثيرين من الناجحين والمخفقين .
هل نأخذ برأي سلمى؟
أحيانا يصاب المجتمع جله بالجنون ، وكما يقول مثلنا الشعبي "إذا انجن ربعك ، ما بنفعك عقلك".
يرد في الرواية ،على لسان الممرضة سوزان بلوهارت المثل الشعبي " الجمل عندما ينخ ، يكثر ذباحوه " ( 149).
في إحدى صفحات الرواية يرد الآتي على لسان مي :
" ما الذي يمنعه يا سيدي في مجتمع يسير بالمال الوسخ والأهواء السرية والأقاويل التي جعلت مني امرأة شاذة . لو كان فيه قانون ما قال عني ما قاله "( 200).
(لقد عدت إلى التعقيبات أبحث عن تعقيب ياسر جوابرة فما عثرت عليه ).
33 : "العصفورية: مكان للمجانين أم مكان للعاقلين؟ ":
تصر مي على أنها لا تعاني من الجنون الذي اتهمت به . وتقر بأنها ، بعد موت أمها وأبيها ، أصيبت بالاكتئاب وانهارت عصبيا ، وتعيد ما قاله لها بعض الأطباء ممن زعموا أنها مصابة بالفصام/ الشيزوفرينيا ، وهي تصر في مواطن كثيرة أنها عاقلة ولا تعاني من الجنون.
وتسرد بعض حواراتها مع الممرضات والزوار والأدباء أيضا مثل امين الريحاني ، ممن شهدوا لها بسلامة عقلها ، وقد تأكد هذا بعد المحاضرة التي ألقتها في قاعة الجامعة الأميركية في بيروت حيث برئت من التهمة التي ألصقت بها .
المواطن التي كررت فيها رأيها كثيرة ، ولكي تدين من اتهمها بالجنون و تفضح مجتمع النفاق المتمثل في مثقفين كثر وفي أقاربها أيضا وفي عالم السياسة ، تأتي على نزلاء العصفورية وتذكر بعض قصصهم.
إن الإتيان على قصص بعض من اتهموا بالجنون لهو جانب من جوانب الدفاع عن النفس وعما ألصق بها . ويستطيع القاريء أن يرصد قصص بعض من اتهم بالجنون ليعرف مدى إدانة مي لمجتمعها ولما هو أبعد من مجتمعها أيضا.
تأتي بعض الممرضات على قصص بعض نزلاء العصفورية ممن كانوا ضحية للتخلف الاجتماعي أو للمعارضة السياسية ،وتذهب أحيانا إلى ما هو أبعد من ذلك ، فبعض من اتهم بالجنون كان ضحية مرض نفسي لأشخاص أعماهم البحث عن مجد شخصي.
النماذج عديدة ويمكن عدها وتبيان قصة كل نموذج منها .أحيانا ترد القصة موجزة وأحيانا تقص بقدر من التفصيل .
"الظاهر أن كل من يزعجهم ،يصبح مجنونا "( 63) تقول الممرضة لمي وهي تأتي على قصة نزيل انتحر . كان شابا مليئا بالحياة وكان رجلا سياسيا كبيرا . لقد كان من رافضي الحماية الفرنسية ، وهو من منظمي ثوار الأرز ، ولقد اغتالوه وزعموا أنه انتحر.
قصة مريم قصة مختلفة. إنها امرأة طبيعية عرفت أن زوجها يخونها فقطعت له عضوه الذكري وزج بها في العصفورية ، واتهمت بالجنون . وأما ماجدة فأرادت أن تكون مع زوجها ليلة زفافها رومانسية فتصرف كوحش.
القصة الموازية لقصة مي هي قصة امرأة غربية هي (كامي كلوديل ).
كامي أحبت الرسام (رودان) ولكنه اتخذها سلما للوصول نحو مجد شخصي . إن (رودان) هذا يشبه جوزيف ، تماما كما أن (كامي) تتوازى قصتها مع قصة مي . كلتاهما أحبتا شخصا تخلى عن المرأة التي أحبته ودفعها إلى الانتحار أو إلى العصفورية ، ولطالما فكرت مي بالانتحار . إن دال الانتحار يرد على لسان مي بكثرة ، فلقد فكرت في الانتحار مرارا .
تكرر مي في غير موطن من يومياتها الافتراضية سبب انهيارها (88/89/91/99/110/ 150 على سبيل المثال) ،وتفكيرها في الانتحار (75/96/125/213) .
وكما كتبت من قبل ، فلقد شعرت أن الجميع تخلى عنها ،حتى الذات الإلهية .
وأعتقد أن ما أوردت من قصص ،أو ما أوردته على لسان شخصيات أخر ، جاء في معرض الدفاع عن الذات ورد تهمة الجنون عنها ، واتهام المجتمع بأنه هو المسؤول عن حالات كثيرة ممن اتهم أصحابها بالجنون .
يدفعوننا إلى الجنون وهم حقا السبب . أعتقد شخصيا هذا جازما.
https://www.facebook.com/adel.osta.9/posts/1700133816722116