لا تزال أفكار الأمس ووساوسه تتلاعبُ برأسهِ ، لم يذق طعم النوم ، ولم يغمض له جِفن ، ظلّ وراء البابِ جالسا فوقَ دِكتهِ المُتهالكة ، يفرك ألواحها المهترئة فركا ، فيتعالى نواح خشبها المُزّعج ، يملأ جدران بيته الطينيّ المُتهاوي ، اسلمَ نفسه لطرفهِ يُقلِّبه في ما حوله ، في سقفهِ وجريده الأسود الذي يخرّ سوسه فوق رأسهِ ، وقطع النخيل القديمة التي تُوشِك أن تتهاوى عليهِ سجودا ، لولا لطف الله ورحمته.
سريعا حوّل بصره ناحية الحيطان التي اغرقها السّواد من أثرِ دخانِ ( الكانون ) الذي توسّط البيت الذي ضاقَ بأهلهِ ، ورثه عن أبيهِ الذي ورثه عن أسلافهِ ، وهكذا إلى سابعِ جد ، ورثه كما ورث عنه فأسه الثقيلة ، تلك التي طالما تباهى تيها لحِدّتها بين الأنفارِ ، أجيرا يضرب في الحقولِ مُنذ صِباه ، وتلك المهنة هي أيضا من تركةِ الأسلافِ ارتضاها كما يرتضي المرء دينه ومعتقده ، لازال يذكر ساعة وفاة أبيه ، أشار إليها بيدٍ مرتعشةٍ ، وهي مركونة خلف الباب ، وكأنّه يحدد له مستقبله ، ويرسم له مآله ، أويحجز له مكانا في دنيا البؤس والشّقاء .
استبدّ الفكِر بهِ ، فركَ عينيه التي اغرورقت من أثرِ دخان الحطب المشتعل أمامه ، كان قد وضع براد الشّاي الصدئ القديم فوقه وتركه يهدر في غليانه ، تعبق رائحة مطبوخه المكان ، جهّز ( الجوزة ) بعد أن ملأ قارورتها الزجاج من ماءِ الزيرِ، تربّع فوق الأرض ساهم الطرف كاسف البال ، يمصمص شفتيه وينفخ من صدرهِ زفرات محرقة، افترش الأرض فوق جوالٍ بلاستيكي من تلك التي يُعبّأ فيها السِّماد ، بدأ يمسك بيدهِ جمرات الكوالح المشتعلة يرصّها فوق حجرِ المعسل ، ضحك بصوتٍ مرتفع اهتز في استهزاءٍ ، قال ساخرا : أبويا كان بيضرب بيه المثل في الناحية إنه الوحيد إللي بيمسك النار ولا يتحرقش .. ورثها لي هي والفاس والغلب وكسرة الضهر... يا ريت ورثتي قيراط طين .. الله يرحمك يا بويا.
ملأ كفه بالسكر ِ ثم دلقه في البرادِ ، وبدأ يُحرِّكه بملعقةٍ قديمة ، كانت مُلقاة بجوارِ( الكانون ) لكن ضرباته المتتالية وصلصلتها بعد ذلك داخلَ كوبهِ ، على ما يبدو كانت كفيلة لأن توقظ زوجته " محاسن " ، اقبلت نحوه تجرّ أردية الخمول والكسل ، تفرك عينيها وهي تتثاءب بصوتٍ مزعجٍ ، تحكّ تحت إبطها بقوةٍ حكاتٍ مروعة ، مدّت يدها تُحكِم ربطة رأسها ( قمطتها) السوداء البالية ، تلمّلم شعرها المفلفل المنتفش من حولها ، نظر نحوها في امتعاضٍ شديدٍ وقرف ، حول وجهه سريعا عنها وبدأ يسحب أنفاس (الجوزة ) بقوةٍ وغيظ ، ثم يطلق دخانها ، يتركه ينساب من فتحةِ أنفهِ الطويل ، ثم يمد يده في تراخي فيمتصّ مصات طويلة من كوبِ الشّاي ، بدى صوته مستفزا على غيرِ العادةِ ، لدرجةٍ ازعجت " محاسن " التي تسمّرت في مكانها منتصف الصالةِ، قالت وهي تُغالِب نعاسها : هو الفجر ادن يا مدكور ولا لسه.. أنت صاحي ليه كدا من النجمة .. ياك عندك يومية رايحها..؟!
مرّر نظره فيها عاليا ، تجمّدت عيناه فوق قدمها العريضِ، وكعبها اليابس الذي برزت تشققاته بوضوحٍ ، وساقها الرفيع الطويل الذي يُشبه سوق الرِّجال ، توالت نظراته الحادة ، أعادت عليه سؤالها ، لكنّه شُغِل عنها بضحكةٍ سمجةٍ غاب َفيها ، توالت دون انقطاعٍ، ألقى ما بيدهِ مستلقيا فوق الأرضِ في نهنهةٍ وتراخي ، مرّر يده فوق أنفهِ الذي سال ، وعينيهِ التي لا تزال تفيض بالدّمعِ، كان دخان (الكانون) قد عبّق المكان من حولهِ، تراصت سحبه وتكاثفت حول ( اللمبةِ) نمرة عشرة ، الوحيدة التي بدت كنجمٍ يضئ عن بُعدٍ.
هدأ قليلا ، استوى في جلسته ، لفّه الصمت قبل أن يشرع في تعنيفها : أنت كمان يا ست الحسن والجمال .. مراث ورثته من أبويا .. زيك زي الفاس والكانون..
كانت المرأة قد انتهت لتوّها من غسلِ وجهها من ماءِ الزير ، المُسند فوق أحجارهِ خلف الباب ، مسحت بطرفِ كمها بقايا الماء المتقاطر فوق ذقنها المُدبب ، برّقت فيه ، اقتربت منه وقالت في غلظةٍ : مالك الليلة .. مكنت بعقلك جرا لك إيه.؟!
هبّ من مكانه ضجِرا، وبدأ يجول في المكانِ ثائرا ، يرمي بطرفهِ يمينا وشمالا ، مدّ يده فتح باب الحوش ( الزريبة) ألقى بنظرةٍ طويلة ، قبل أن تزعجه أصوات عنزاته العِجاف ، اغلق الباب سريعا ، تحسس المكان وكأنّه يراه لأولِ مرةٍ ، أخيرا ضرب بيدهِ الجُدران ، ثم علت وجهه ابتسامة مشرقة، اطرق بعدها برأسهِ مليا ، وكأنّما يسمّع هاتفا يهتف فيه ، ثم عاد إلى مجلسهِ كما كان يهزّ رأسه في انشراحٍ ، عاد يرصّ ( كوالح) الجمر فوق ( الجوزة ) ، ليغيب من جديد في دخانهِ الكثيف المُتصاعِد من فمهِ والمنساب من أنفهِ بغزارةٍ ، ضربت المرأة كفا بكفٍ ، ثم حدجته في استغراب ٍ، كان نور الفجر قد انبثق في الأفقِ المظلم ، المخيم فوق البيوتِ يمشي وسط الدّروبِ.
زاد الصّمت بين الصّاخبين قليلا ، اقتربت منه، ثم وصعت يدها فوق كتفهِ ؛ تستجلي ما أهمّه ، حادثته بلطفٍ ، وداعبته بكلامٍ رقيق ، عسى أن يرتاح له قلبه، وتجري معه مجهتهِ، مصمص شفتيهِ دون اكتراثٍ ، ثم مرّر طرف جِلبابهِ فوق وجهه المعرق، وقال في حسمٍ : هو الفقر دا قدر ولا قلة حيله..؟!
استفزت كلماته المرأة ، ساورتها الشكوك ، فهي لم تتعوّد منه مثل هذه النّغمة ، فكُلّ يومٍ يستيقظ فيه ينفض عنه غبار كسله ، مستعينا بالله قاصدا أبواب الحلال بلا تململٍ ، هذا دأبه حتى قبل أن يتزوجا ، همست إليهِ في حنوٍ : دي أرزاق ومقسّمة يا ابن عمي ، وكل واحد له لقمة مكتوبة له .. السعي مطلوب ايوه بس بالحلال والعقل .
هزّ رأسه ساخرا : الحلال .. الحلال .. هو الحلال دا اتعمل للغلابة بس .. علشان ضربة الفاس والأجرة اللي مش بتكفي العيش الحاف.
اقتربت منه في فزعٍ ، وقالت : احمد ربنا على نعمته .
فزعَ من مكانهِ، وهو ينفض جِلبابهِ البالي ، نظر إليها بغضبٍ ، جاوبها قبل أن تُكمل : يعني إللي عند العُمدة دا حلال كله .. حلال مصفي .. وهو كمان ابن خلال .. لكن حلالي أنا لازم يكسر الضهر زي ما كسر ضهر ابويا.
ثم انسابت من عينيهِ دمعة حارة تروي الوجنات، مشت نحوه وضمّته إليها في وجلٍ، تهدئ من روعهِ ، طلبت منه أن يستعيذ بالله من للشيطانِ الرّجيم.
في هاتهِ السّاعةِ كانت الحقول لا تزال مغمورة في لُججٍ من الظلامِ ، تناجي البيوت في سكونها وأساها، وكأن البيوت هي الأخرى تتوجع من حديثها ، وتُردد صدى أنينها الموجع، دقائق وطرق الباب ، إنّه صاحبه " عويس" مقاول الأنفار جاءه يوقظه ، فعما قليلٍ يتحرّك الرّكب لغيطِ الحاج " عسكر" كبير الناحية ، لكنّه تعلّل بمرضهِ المفاجئ ، شخصت إليهِ ببصرها الزّائغ منزعجة ، فهذا موسم يجنح الناس في مثلِ هذه الأيام إلى الحقولِ يجمعون غلتهم، تتضاعف اليومية معه ، وهم بحاجةٍ إليها ؛ فالأفواه الجائعة والبطون الخاوية لن تصبر على تقاعسهِ ، هزّ رأسه ، وقال مُتحمّسا : احنا هنبقى أغنيا.. يومية إيه وشقا إيه..
زاد عبوسها ، قطبت جبينها اليابس ، قالت له وفي نفسها خليط من مظاهرةِ الشّفقةِ : إزاي..؟!
عاد ثانيةً إلى دِكّتهِ المُتهالِكة ، وصرير ألواحها الذي لا ينقطع يئن من جديد ، قائلا : الكنز .. الدهب .. هنبحت على الكنز .. إنت مدرتيش مش تحت بيتنا كنز.. فيه شيخ مغربي اتفقت أنا و"سيد الحصري " نجيبه.. وبالنص .
عاودت النّظر نحوه في هيئتهِ الصّامتة ، فلعلّ مسّا من الجنونِ أصابه، غير أنّها وجدت من عزمهِ وتصميمه ، ما جعلها تفترش الأرض خلف البابِ في كمدٍ تندب حظها المائل ، وضعت يدها فوق وجهها وبدأ نواحها ، مشى نحوها في ثقةٍ ، جلسَ القُرفصاء وضع يده على الأرضِ ، وضرب بيده ، وقال : هنا الدهب .. اللقية .. هتبقي ست الكل . نعيم إيه وعز إيه ولا حرام علينا وحلال لغيرنا ..
توسّلت إليهِ ؛ أن يخرج إلى عملهِ مع الرِّجالِ ، ويفعل بعدها ما يشاء ، وقفَ مُنتصبا ، يُعدِّل ياقة جِلبابهِ المهترئ في خُيلاءٍ ، تحرّك يدكّ الأرض َ بقدمهِ الحافي ، ومن فتحةٍ صغيرة في سقف البيتِ ، رفع رأسه عاليا يُقلِّب وجهه في السّماءِ، وكأنّه يُساهِر كواكبها ونجومها ، طفق يلثم الحيطان ، كما يلثم العابد المتبتّل ستائر معبده.
مضت الأيام وصاحبنا يتهيأ لأمرهِ ، اقترض بالأجلِ من الخواجا " ليشع " مُرابي المركز المعروف ، وبمرورِ الوقت كانت كلماته قد أثمرت في نفسها ، بعد أن لامست مواطن الحاجة والشّقاء في نفسها ، كما يُلامس الماء وجه التربة العطشى ، انجذبت المرأة نحوه وشاركته اطماعه ، بل وزادت في أحيانٍ عنه ، وهي ترى نفسها في لباسِ النعمةِ والأبّهةِ ، اندفعت بلا تمهّلٍ ، عسى أن تُنسيها هذه الآمال مرارة الماضي الحزين .
كان " سيد الحصري " قد انهى اتفاقه مع المغربي ، بعد أن ضرب َ لهم موعدا في أولِ الشّهرِ ، فللعملِ حساباتهِ الفلكية ، وطقوسه الرّوحانية ، على عجلٍ مضت إلى أبيها تطلب إليه ، شراء حصّتها من ميراثها في بيتِ أُمها القديم ، فزوجها بحاجةٍ ماسةٍ للمالِ دون أن تُسمي أو تُطلِعه على سرّها ، اجتمع في يدهِ مبلغا لا بأس بهِ ، بعد أن اعطاه " الحصري " تحويشة العمر ، أيام قلائل وحضر المغربي ، اُغلقت الأبواب ، وسُدّت النوافذ ، وسكنت الحركة ، وتُرِكَ المجال لخيوطِ البخورِ المُتصاعدة من المجمرةِ ، وطرقعة الفحم وشرره المتناثر في المكانِ ، وتمتمة الشيخ وهمهمتهِ الغريبة وسط ذهولِ القوم ، أخذ صاحبنا يلوح بيدهِ في الهواء ، ويصيح ويصرخ ، ويأمر وينذر ، ويتوسل ويتحنن بأسماءِ ملوك الجان ، وعظماء جنِ سليمان ، وهو ينثر حفنات البخور بروائحهِ النفاذة ، يرسم في " كاغدٍ" أحمر خطوطا متعرجة وأشكالا مختلفة ، ثم يرمي بها في النار ِ ، استمرت عزيمته لساعاتٍ ، لكنّه انزوى فجأة في زاويةٍ من زوايا المكان ، وبدى عليهِ الارتياب ، سأله " مدكور " في فضولٍ : جرى إيه يا مولانا .. خير؟!
ردّ صاحبنا والأنظار هائمة حوله تكاد تنتهبه انتهابا : الرصد العنيد .. خادم الكنز .. عايز بخور غريب .. بخور نادر مش موجود غير في مكان بعيد .. بعيد الجرام منه يساوي كتير ..
توسل إليهِ " الحصري " بانكسارِ عينيهِ ، وقد ترقرق الدّمع فيهما : طلباتك أوامر وطلبات الأسياد كمان بس نخلص ..
اندفعت هي ، احضرت صرة المال ، رمتها في حجِرِ الشيخ دفعةً واحدة ، برقت عين صاحبنا ، وابتسم ابتسامة خبيثة ، قال مُتظاهِرا : أيه دا يا بنتي ..؟! ردّت وهي تُناولهُ كوب الشاي : دا اللي حيلتنا .. اعمل ما بدالك..
امسك الرجل بالمالِ ، وهزّه في دهاءٍ ، وقال : هاعمل واعمل . ودي عايزه مشورة؟!
ذهب صاحبنا ليحضر البخور ، ولكنّه لم يعد ، استبدّ بالقومِ القلق ، وبدأت الحيرة تأكلهم ، ولكن لا فائدة من الانتظارِ ، طلب " مدكور " من " الحصري" الذهاب لبيتِ الشيخ يعرف سبب تأخيره ، لم يكذب صاحبنا خبرا ، وما إن اقترب من منزلهِ ، حتى رآه في القيودِ ورجال الشرطة يقودونه في إهانةٍ ، صمت طويلا ولا يعلم إلا الله أين سبحت نفسه ، ابتلعَ ريقه وتمالك ما تبقى من قوتهِ ، ليستوقف أحد المارة يسأله ، أجابه بأن الحكومة داهمت منزل " بشلة" النصاب واخذوه" الكراكرن" دارت الأرض بهِ وهو يرى أحلامه تتبخر من أمامهِ ، عاد صاحبنا صِفر اليدين من كُلِّ شيءٍ حتى من آماله وأمانيه ، لم تتحمل " محاسن " الصدمة ، فقد طاش عقلها ، هاجت في البيتِ ، اشعلت النيران في المجمرةِ ، وبدأت تُلقي البخور ، تتوسل إلى الأسياد أن ينجزوا وعدهم ، ويزيحوا الرّصد اللعين من فوقِ الكنز ، أمّا " مدكور " فنظر إلى فأسهِ المركونة خلف البابِ ، انحنى عليها وامسك هراوتها ، ووضعها فوق كتفهِ ، وعادَ ثانيةً يدبّ في الأرضِ بين الأجرية ..
سريعا حوّل بصره ناحية الحيطان التي اغرقها السّواد من أثرِ دخانِ ( الكانون ) الذي توسّط البيت الذي ضاقَ بأهلهِ ، ورثه عن أبيهِ الذي ورثه عن أسلافهِ ، وهكذا إلى سابعِ جد ، ورثه كما ورث عنه فأسه الثقيلة ، تلك التي طالما تباهى تيها لحِدّتها بين الأنفارِ ، أجيرا يضرب في الحقولِ مُنذ صِباه ، وتلك المهنة هي أيضا من تركةِ الأسلافِ ارتضاها كما يرتضي المرء دينه ومعتقده ، لازال يذكر ساعة وفاة أبيه ، أشار إليها بيدٍ مرتعشةٍ ، وهي مركونة خلف الباب ، وكأنّه يحدد له مستقبله ، ويرسم له مآله ، أويحجز له مكانا في دنيا البؤس والشّقاء .
استبدّ الفكِر بهِ ، فركَ عينيه التي اغرورقت من أثرِ دخان الحطب المشتعل أمامه ، كان قد وضع براد الشّاي الصدئ القديم فوقه وتركه يهدر في غليانه ، تعبق رائحة مطبوخه المكان ، جهّز ( الجوزة ) بعد أن ملأ قارورتها الزجاج من ماءِ الزيرِ، تربّع فوق الأرض ساهم الطرف كاسف البال ، يمصمص شفتيه وينفخ من صدرهِ زفرات محرقة، افترش الأرض فوق جوالٍ بلاستيكي من تلك التي يُعبّأ فيها السِّماد ، بدأ يمسك بيدهِ جمرات الكوالح المشتعلة يرصّها فوق حجرِ المعسل ، ضحك بصوتٍ مرتفع اهتز في استهزاءٍ ، قال ساخرا : أبويا كان بيضرب بيه المثل في الناحية إنه الوحيد إللي بيمسك النار ولا يتحرقش .. ورثها لي هي والفاس والغلب وكسرة الضهر... يا ريت ورثتي قيراط طين .. الله يرحمك يا بويا.
ملأ كفه بالسكر ِ ثم دلقه في البرادِ ، وبدأ يُحرِّكه بملعقةٍ قديمة ، كانت مُلقاة بجوارِ( الكانون ) لكن ضرباته المتتالية وصلصلتها بعد ذلك داخلَ كوبهِ ، على ما يبدو كانت كفيلة لأن توقظ زوجته " محاسن " ، اقبلت نحوه تجرّ أردية الخمول والكسل ، تفرك عينيها وهي تتثاءب بصوتٍ مزعجٍ ، تحكّ تحت إبطها بقوةٍ حكاتٍ مروعة ، مدّت يدها تُحكِم ربطة رأسها ( قمطتها) السوداء البالية ، تلمّلم شعرها المفلفل المنتفش من حولها ، نظر نحوها في امتعاضٍ شديدٍ وقرف ، حول وجهه سريعا عنها وبدأ يسحب أنفاس (الجوزة ) بقوةٍ وغيظ ، ثم يطلق دخانها ، يتركه ينساب من فتحةِ أنفهِ الطويل ، ثم يمد يده في تراخي فيمتصّ مصات طويلة من كوبِ الشّاي ، بدى صوته مستفزا على غيرِ العادةِ ، لدرجةٍ ازعجت " محاسن " التي تسمّرت في مكانها منتصف الصالةِ، قالت وهي تُغالِب نعاسها : هو الفجر ادن يا مدكور ولا لسه.. أنت صاحي ليه كدا من النجمة .. ياك عندك يومية رايحها..؟!
مرّر نظره فيها عاليا ، تجمّدت عيناه فوق قدمها العريضِ، وكعبها اليابس الذي برزت تشققاته بوضوحٍ ، وساقها الرفيع الطويل الذي يُشبه سوق الرِّجال ، توالت نظراته الحادة ، أعادت عليه سؤالها ، لكنّه شُغِل عنها بضحكةٍ سمجةٍ غاب َفيها ، توالت دون انقطاعٍ، ألقى ما بيدهِ مستلقيا فوق الأرضِ في نهنهةٍ وتراخي ، مرّر يده فوق أنفهِ الذي سال ، وعينيهِ التي لا تزال تفيض بالدّمعِ، كان دخان (الكانون) قد عبّق المكان من حولهِ، تراصت سحبه وتكاثفت حول ( اللمبةِ) نمرة عشرة ، الوحيدة التي بدت كنجمٍ يضئ عن بُعدٍ.
هدأ قليلا ، استوى في جلسته ، لفّه الصمت قبل أن يشرع في تعنيفها : أنت كمان يا ست الحسن والجمال .. مراث ورثته من أبويا .. زيك زي الفاس والكانون..
كانت المرأة قد انتهت لتوّها من غسلِ وجهها من ماءِ الزير ، المُسند فوق أحجارهِ خلف الباب ، مسحت بطرفِ كمها بقايا الماء المتقاطر فوق ذقنها المُدبب ، برّقت فيه ، اقتربت منه وقالت في غلظةٍ : مالك الليلة .. مكنت بعقلك جرا لك إيه.؟!
هبّ من مكانه ضجِرا، وبدأ يجول في المكانِ ثائرا ، يرمي بطرفهِ يمينا وشمالا ، مدّ يده فتح باب الحوش ( الزريبة) ألقى بنظرةٍ طويلة ، قبل أن تزعجه أصوات عنزاته العِجاف ، اغلق الباب سريعا ، تحسس المكان وكأنّه يراه لأولِ مرةٍ ، أخيرا ضرب بيدهِ الجُدران ، ثم علت وجهه ابتسامة مشرقة، اطرق بعدها برأسهِ مليا ، وكأنّما يسمّع هاتفا يهتف فيه ، ثم عاد إلى مجلسهِ كما كان يهزّ رأسه في انشراحٍ ، عاد يرصّ ( كوالح) الجمر فوق ( الجوزة ) ، ليغيب من جديد في دخانهِ الكثيف المُتصاعِد من فمهِ والمنساب من أنفهِ بغزارةٍ ، ضربت المرأة كفا بكفٍ ، ثم حدجته في استغراب ٍ، كان نور الفجر قد انبثق في الأفقِ المظلم ، المخيم فوق البيوتِ يمشي وسط الدّروبِ.
زاد الصّمت بين الصّاخبين قليلا ، اقتربت منه، ثم وصعت يدها فوق كتفهِ ؛ تستجلي ما أهمّه ، حادثته بلطفٍ ، وداعبته بكلامٍ رقيق ، عسى أن يرتاح له قلبه، وتجري معه مجهتهِ، مصمص شفتيهِ دون اكتراثٍ ، ثم مرّر طرف جِلبابهِ فوق وجهه المعرق، وقال في حسمٍ : هو الفقر دا قدر ولا قلة حيله..؟!
استفزت كلماته المرأة ، ساورتها الشكوك ، فهي لم تتعوّد منه مثل هذه النّغمة ، فكُلّ يومٍ يستيقظ فيه ينفض عنه غبار كسله ، مستعينا بالله قاصدا أبواب الحلال بلا تململٍ ، هذا دأبه حتى قبل أن يتزوجا ، همست إليهِ في حنوٍ : دي أرزاق ومقسّمة يا ابن عمي ، وكل واحد له لقمة مكتوبة له .. السعي مطلوب ايوه بس بالحلال والعقل .
هزّ رأسه ساخرا : الحلال .. الحلال .. هو الحلال دا اتعمل للغلابة بس .. علشان ضربة الفاس والأجرة اللي مش بتكفي العيش الحاف.
اقتربت منه في فزعٍ ، وقالت : احمد ربنا على نعمته .
فزعَ من مكانهِ، وهو ينفض جِلبابهِ البالي ، نظر إليها بغضبٍ ، جاوبها قبل أن تُكمل : يعني إللي عند العُمدة دا حلال كله .. حلال مصفي .. وهو كمان ابن خلال .. لكن حلالي أنا لازم يكسر الضهر زي ما كسر ضهر ابويا.
ثم انسابت من عينيهِ دمعة حارة تروي الوجنات، مشت نحوه وضمّته إليها في وجلٍ، تهدئ من روعهِ ، طلبت منه أن يستعيذ بالله من للشيطانِ الرّجيم.
في هاتهِ السّاعةِ كانت الحقول لا تزال مغمورة في لُججٍ من الظلامِ ، تناجي البيوت في سكونها وأساها، وكأن البيوت هي الأخرى تتوجع من حديثها ، وتُردد صدى أنينها الموجع، دقائق وطرق الباب ، إنّه صاحبه " عويس" مقاول الأنفار جاءه يوقظه ، فعما قليلٍ يتحرّك الرّكب لغيطِ الحاج " عسكر" كبير الناحية ، لكنّه تعلّل بمرضهِ المفاجئ ، شخصت إليهِ ببصرها الزّائغ منزعجة ، فهذا موسم يجنح الناس في مثلِ هذه الأيام إلى الحقولِ يجمعون غلتهم، تتضاعف اليومية معه ، وهم بحاجةٍ إليها ؛ فالأفواه الجائعة والبطون الخاوية لن تصبر على تقاعسهِ ، هزّ رأسه ، وقال مُتحمّسا : احنا هنبقى أغنيا.. يومية إيه وشقا إيه..
زاد عبوسها ، قطبت جبينها اليابس ، قالت له وفي نفسها خليط من مظاهرةِ الشّفقةِ : إزاي..؟!
عاد ثانيةً إلى دِكّتهِ المُتهالِكة ، وصرير ألواحها الذي لا ينقطع يئن من جديد ، قائلا : الكنز .. الدهب .. هنبحت على الكنز .. إنت مدرتيش مش تحت بيتنا كنز.. فيه شيخ مغربي اتفقت أنا و"سيد الحصري " نجيبه.. وبالنص .
عاودت النّظر نحوه في هيئتهِ الصّامتة ، فلعلّ مسّا من الجنونِ أصابه، غير أنّها وجدت من عزمهِ وتصميمه ، ما جعلها تفترش الأرض خلف البابِ في كمدٍ تندب حظها المائل ، وضعت يدها فوق وجهها وبدأ نواحها ، مشى نحوها في ثقةٍ ، جلسَ القُرفصاء وضع يده على الأرضِ ، وضرب بيده ، وقال : هنا الدهب .. اللقية .. هتبقي ست الكل . نعيم إيه وعز إيه ولا حرام علينا وحلال لغيرنا ..
توسّلت إليهِ ؛ أن يخرج إلى عملهِ مع الرِّجالِ ، ويفعل بعدها ما يشاء ، وقفَ مُنتصبا ، يُعدِّل ياقة جِلبابهِ المهترئ في خُيلاءٍ ، تحرّك يدكّ الأرض َ بقدمهِ الحافي ، ومن فتحةٍ صغيرة في سقف البيتِ ، رفع رأسه عاليا يُقلِّب وجهه في السّماءِ، وكأنّه يُساهِر كواكبها ونجومها ، طفق يلثم الحيطان ، كما يلثم العابد المتبتّل ستائر معبده.
مضت الأيام وصاحبنا يتهيأ لأمرهِ ، اقترض بالأجلِ من الخواجا " ليشع " مُرابي المركز المعروف ، وبمرورِ الوقت كانت كلماته قد أثمرت في نفسها ، بعد أن لامست مواطن الحاجة والشّقاء في نفسها ، كما يُلامس الماء وجه التربة العطشى ، انجذبت المرأة نحوه وشاركته اطماعه ، بل وزادت في أحيانٍ عنه ، وهي ترى نفسها في لباسِ النعمةِ والأبّهةِ ، اندفعت بلا تمهّلٍ ، عسى أن تُنسيها هذه الآمال مرارة الماضي الحزين .
كان " سيد الحصري " قد انهى اتفاقه مع المغربي ، بعد أن ضرب َ لهم موعدا في أولِ الشّهرِ ، فللعملِ حساباتهِ الفلكية ، وطقوسه الرّوحانية ، على عجلٍ مضت إلى أبيها تطلب إليه ، شراء حصّتها من ميراثها في بيتِ أُمها القديم ، فزوجها بحاجةٍ ماسةٍ للمالِ دون أن تُسمي أو تُطلِعه على سرّها ، اجتمع في يدهِ مبلغا لا بأس بهِ ، بعد أن اعطاه " الحصري " تحويشة العمر ، أيام قلائل وحضر المغربي ، اُغلقت الأبواب ، وسُدّت النوافذ ، وسكنت الحركة ، وتُرِكَ المجال لخيوطِ البخورِ المُتصاعدة من المجمرةِ ، وطرقعة الفحم وشرره المتناثر في المكانِ ، وتمتمة الشيخ وهمهمتهِ الغريبة وسط ذهولِ القوم ، أخذ صاحبنا يلوح بيدهِ في الهواء ، ويصيح ويصرخ ، ويأمر وينذر ، ويتوسل ويتحنن بأسماءِ ملوك الجان ، وعظماء جنِ سليمان ، وهو ينثر حفنات البخور بروائحهِ النفاذة ، يرسم في " كاغدٍ" أحمر خطوطا متعرجة وأشكالا مختلفة ، ثم يرمي بها في النار ِ ، استمرت عزيمته لساعاتٍ ، لكنّه انزوى فجأة في زاويةٍ من زوايا المكان ، وبدى عليهِ الارتياب ، سأله " مدكور " في فضولٍ : جرى إيه يا مولانا .. خير؟!
ردّ صاحبنا والأنظار هائمة حوله تكاد تنتهبه انتهابا : الرصد العنيد .. خادم الكنز .. عايز بخور غريب .. بخور نادر مش موجود غير في مكان بعيد .. بعيد الجرام منه يساوي كتير ..
توسل إليهِ " الحصري " بانكسارِ عينيهِ ، وقد ترقرق الدّمع فيهما : طلباتك أوامر وطلبات الأسياد كمان بس نخلص ..
اندفعت هي ، احضرت صرة المال ، رمتها في حجِرِ الشيخ دفعةً واحدة ، برقت عين صاحبنا ، وابتسم ابتسامة خبيثة ، قال مُتظاهِرا : أيه دا يا بنتي ..؟! ردّت وهي تُناولهُ كوب الشاي : دا اللي حيلتنا .. اعمل ما بدالك..
امسك الرجل بالمالِ ، وهزّه في دهاءٍ ، وقال : هاعمل واعمل . ودي عايزه مشورة؟!
ذهب صاحبنا ليحضر البخور ، ولكنّه لم يعد ، استبدّ بالقومِ القلق ، وبدأت الحيرة تأكلهم ، ولكن لا فائدة من الانتظارِ ، طلب " مدكور " من " الحصري" الذهاب لبيتِ الشيخ يعرف سبب تأخيره ، لم يكذب صاحبنا خبرا ، وما إن اقترب من منزلهِ ، حتى رآه في القيودِ ورجال الشرطة يقودونه في إهانةٍ ، صمت طويلا ولا يعلم إلا الله أين سبحت نفسه ، ابتلعَ ريقه وتمالك ما تبقى من قوتهِ ، ليستوقف أحد المارة يسأله ، أجابه بأن الحكومة داهمت منزل " بشلة" النصاب واخذوه" الكراكرن" دارت الأرض بهِ وهو يرى أحلامه تتبخر من أمامهِ ، عاد صاحبنا صِفر اليدين من كُلِّ شيءٍ حتى من آماله وأمانيه ، لم تتحمل " محاسن " الصدمة ، فقد طاش عقلها ، هاجت في البيتِ ، اشعلت النيران في المجمرةِ ، وبدأت تُلقي البخور ، تتوسل إلى الأسياد أن ينجزوا وعدهم ، ويزيحوا الرّصد اللعين من فوقِ الكنز ، أمّا " مدكور " فنظر إلى فأسهِ المركونة خلف البابِ ، انحنى عليها وامسك هراوتها ، ووضعها فوق كتفهِ ، وعادَ ثانيةً يدبّ في الأرضِ بين الأجرية ..
Bei Facebook anmelden
Melde dich bei Facebook an, um dich mit deinen Freunden, deiner Familie und Personen, die du kennst, zu verbinden und Inhalte zu teilen.
www.facebook.com