الجثة
مسرحية من مشهد واحد
(كُتبت هذه المسرحية في الأصل لمسرح الشارع، وهذه نسخة معدلة تعديلاً حوارياً وسينوغرافياً)..
أمل الكردفاني
المنظر:
حديقة منزلية، تتقدم واجهة المنزل وبوابته المقوسة، وعلى اليسار واليمين من البوابة تمثالان متوسطا الطول لأمرأتين أفريقيتين شبه عاريتين، والتمثالان متماثلان تماما ولكنهما متقابلان...
في منتصف الحديقة، مقعد ارتمى عليه جسد رجل عجوز، رأسه موجه نحو السماء وفمه مفتوح نصف فتحة وكذلك عيناه، يداه متدليتان بارتخاء واضح، قدما ممدتان ومائلتان إلى الخلف قليلاً.
يدخل شاب يرتدي بدلة وربطة عنق..يمسح عرقاً في جبهته:
الشاب: لماذا طلبت مني الحضور يا والدي..لا املك وقتاً لذلك...فلدي إجتماع هام بعد ساعة من الآن (يقف مواجها الجمهور) اليوم ستندمج الشركتان المصنعتان لمحركات السيارات الرياضية، وعلي أن أدير ذلك الاجتماع النهائي الحاسم. شركة حكومية وأخرى خاصة..هذا يعني أنني في لحظة مفصلية من حياتي..أكون أو لا اكون (يقترب من الأب) أنت نائم...لماذا عيناك نصف مفتوحتين؟... يا إلهي..إنك تبدو ميتاً...(يرفع يد العجوز ويحررها فتسقط متراخية) لا..ليس الآن..لن تموت في هذه اللحظة.. اللعنة..(يصفع وجه العجوز على خديه صفعات سريعة خفيفة) يا إلهي.. (يلتفت نحو الجمهور) أنت ميت حقاً...ماذا أفعل الآن..إن لم أحضر ذلك الإجتماع ستتم إقالتي من وظيفتي..ولو تمت إقالتي فسيجوع أبنائي..ولكن..ولكن هل أترك جثة والدي لتتعفن لمدة ست ساعات؟...(ينظر إلى ساعة يده) تبقت خمس وخمسون دقيقة على موعد الإجتماع..لا أستطيع التأخر أكثر من ذلك..(ينظر للجثة)..الحي أبقى من الميت..لن تخسر جثة أبي شيئاً..ولكن ابنائي سيموتون من الجوع إن لم أذهب إلى ذلك الإجتماع..أمضيت سبعة عشر عاماً أكدح في تلك الشركة من أجل هذا اليوم...وبحسبة تقريبية بسيطة..سبعة وثمانون ألف ساعة عمل.. آكل سندوتشاً صغيراً في الإفطار والغداء..وأنا أعمل..أتفاوض مع الشركات الأخرى..أجري مقابلات مع العملاء .. أبرم الصفقات..أسافر في الأسبوع لثلاث دول..أعود ومن طائرتي إلى الشركة ومن الشركة إلى سريري في المنزل لأرتاح اربع ساعات فقط ثم أعود للعمل حتى أيام العطلات..لقد أفنيت كل قوتي وشبابي من أجل هذه اللحظة الفارقة (ينظر لجثة والده) ثم تموت أنت الآن...الآن (بدهشة)..ماذا أفعل..ماذا افعل الآن..بالتأكيد لن أضيع الفرصة من أجل جثة.. بالتأكيد لن أفعل .. سأذهب الآن (يتحرك مغادراً المسرح ولكن يظهر له شبح شخص مغطى بملاءة بيضاء فيجزع) من أنت؟
الشبح الأبيض: أنا ضميرك..أنا قيمك الأخلاقية..
الشاب: لا لا..ليس هذا وقت ممارسة هذه اللعبة..
الشبح الأبيض: تنسى كل تاريخكما المشترك مع هذا الرجل..هكذا فجأة..تاريخكما سوياً..منذ أن كنتَ طفلاً.. (يتراجع الشاب للخلف ببطء) تنسى عندما كان مريضاً ومع ذلك يحمل نفسه ويخرج ليعود لك باللعبة التي كنت تتمناها احتفاءً بيوم ميلادك...ألا تستطيع أن تمنحه القليل من ذلك الإهتمام يوم موته..
الشاب: ولكن..ولكن..
الشبح الأبيض: هل تنسى عندما كان يكد ويكدح من أجل شراء ملابس جديدة لك في كل عيد؟ أيها الولد العاق..
(يخرج شبح داخل ملاءة سوداء من الجهة المقابلة للمسرح)
الشبح الأسود:لا تسمع كلامه (يلتفت الشاب ناحية الشبح الأسود) إنه يضيع عليك فرصة العمر...ماذا سيحدث للجثة؟
الشاب: ومن أنت؟
الشبح الأسود: أنا طموحاتك وأحلامك..أنا كينونتك التي تقبع في قعر وجودك الميت..
الشاب: إنني أحب كلامك جداً أيها الشبح الأسود..
الشبح الأبيض: هراء... إن ضميرك هو كينونتك الحقيقية أيها الشاب..ضميرك وأخلاقك وليس طموحاتك..
الشبح الأسود: لا يخدعك...إن التاريخ كتبه أصحاب الطموحات لا أصحاب الضمائر...الملاحم..الحروب..الإمبراطوريات....القنسوات الحديديه ودروع الصدور المغطاه بالدماء..إتحاد المال والسلاح..السلطة..القوة وليس الضعف..
الشبح الأبيض: بل كتبه الأنبياء والمصلحون..كتبه الحب والوفاء..
الشاب: هذا غير صحيح أيها الشبح الأبيض..إنني لو خسرت وظيفتي هذا فلن يطعم الأنبياء والمصلحون أبنائي..لقد عشت داخل عش الدبابير...صارعت أصحاب الدسائس في شركتي لأجل هذا اليوم..أرجوك ابتعد عن طريقي..
الشبح الأبيض: أنت تساوي بينك وبين القوادين والمرابين الذين لا يمتلكون ذرة من الأخلاق..لذلك يكرههم الناس..هل تحبهم أنت..
الشاب: لا.. لا أعرف.. ولا أريد أن اعرف..لكن القوادين يأتون بالعاهرات لغيرهم..وغيرهم يقبلون بذلك..والفتيات أنفسهن يقبلن بذلك..فلماذا يتحمل القوادون كل الإثم..ثم من قال أن ذلك إثم..إنهم لا يختلفون عن الطبيب الذي يحصل على مال مقابل مداوات مريض..ويمتنع عن مداوات من لا يدفع...إن القواد لم يقتل أحداً لكن الطبيب يقتل..
الشبح الأبيض: (يرتبك) دعك من هذا التفلسف..فأنا ضمير..والضمير لا يخاطب العقل بل القلب...يخاطب إنسانيتك أولا وقبل كل شيء..وهذه جثة والدك..هل ستتركها تتعفن من أجل الوظيفة.. هل تقبل أن يفعل إبنك بجثتك نفس الشيء؟
الشاب: (يتراجع بجزع) جثتي؟!!!
الشبح الأبيض: نعم جثتك..
الشاب: إبني؟!!!
الشبح الأبيض: نعم إبنك..
الشبح الأسود: هااا..دعك من كلامه الأجوف هذا..اسأل نفسك فقط..ماذا لو كان والدك يعرف موقفك الآن..هل كان سيرغب في انهيار مستقبلك من أجل جثته التي لا مستقبل لها؟ ها؟.. بالتأكيد لا..أنت نفسك لم تنجب أبناءك ليعيشوا مدمرين بلا مستقبل..
الشاب: بالتأكيد..هذا صحيح..
الشبح الأسود: إذاً...إمضِ في طريقك إلى المجد..ثم عُد إلى جثة والدك لتؤدي واجباتك نحو جثته فيما بعد..
الشاب: هذا عين العقل..
الشبح الأبيض: يا إلهي.. هل فقدت كل ذرة من الأخلاق أيها الشاب لتترك جثة والدك ملقاة هكذا حتى تنتفخ وتتعفن..إنك حتى لم تفكر في دفنه.. إنك حتى لم تذرف عليه دمعة واحدة..وكأنما لم يكن بينكما أي رابط معنوي..وكأنه لم يكن سوى مجرد كلب متشرد قابلته بالصدفة في زقاق ضيق..
الشاب: اللعنة..ولكن..ولكن..
الشبح الأبيض: لا يوجد لكن..إن الرجل الحقيقي هو رجل المواقف الصعبة.. المواقف التي يضحي فيها بكل شيء من أجل قيمه العليا..
الشبح الأسود: (يقهقه بسخرية) كم هذا مضحك.. هل تعلم أيها الشاب..أن العظماء هم من كانوا دوماً يقدسون أنفسهم ومصالحهم .. هل تصدق مثلاً أن الاسكندر الأكبر قد قاتل من أجل الآخرين.. أو أن القديسين لم يكونوا سعداء بتقديس الناس لهم...هل تصدق ذلك الهراء الذي يقال عن الأخلاق فعلاً..ماهي الأخلاق؟ إن هذا العالم البشري مؤسس تاريخياً على نفي كل قيمة للآخر..
الشبح الأبيض: هذا غير صحيح..إن الحياة ليست مادة فقط..وإلا فما الفرق بين مُرُوج الزهور وبين أكوام القمامة..
الشاب: على رسلكما..فلم يبق من وقتي الكثير..ألا يمكنكما رعاية جثة والدي ريثما أعود..
الشبح الأبيض: كيف سنرعى جثة والدك..هل سنرضعه مثلاً؟!!!..
الشاب: لا أعرف..ولكن..ولكن مستقبلي سيضيع لو بقيت أكثر من ذلك..
الشبح الأسود: لقد مات والدك...عليك الآن أن تفكر في أولادك الذين لا زالوا أحياء..هذا هو العقل..لو مرض أحدهم مرضاً عضالاً وأنت مفلس وبلا عمل..فلن تجد من يدفع لهم ثمن الدواء...نحن في عالم قاسٍ..يتطلب منا التفكير بحكمة وبتروٍ .. وبعقلانية لا بمثالية..إذهب أيها الفتى ولا تضيع زمنك...
(يسمع رنين هاتف الشاب فيخرجه من جيبه)
الشاب: ألو؟
صوت رجل: لقد اقتربت مواعيد الإجتماع وأنت لم تظهر حتى الآن..يجب أن تكون هنا في أسرع وقت لكي تشرف على الترتيبات..لا نريد إحراج السيد الوزير..
الشاب: كارثة يا عزيزي..كارثة..لقد توفى والدي الآن..أرجوك حاول إيجاد مخرج لي..
الصوت: لوالدك الرحمة..لكن الوضع هنا لا يتحمل مزيداً من التأخير..
الشاب: وجثة والدي؟
الصوت: اتركها لتتعفن وتعال بسرعة..
الشاب: أرجوك..
الصوت: لا مجال للمجاملة..إنه يوم تاريخي ولحظة فارقة..لا يوجد مزيد من الوقت..تعال بسرعة..
(ينغلق الهاتف بصوت تكة خفيفة فينظر الشاب لهاتفه بوجه جزع)
الشاب: (يلتفت نحو جثة والده) أما كان بإمكانك أن تموت في يوم آخر...(ينظر نحو الجمهور بأسى) مع ذلك..فلن أتحمل تركك هنا...كما لم تكن تتحمل تركي عارياً في البرد..من أقحم في نفوسنا تلك العاطفة الحمقاء التي تربط بيننا وبين الآخرين...
الشبح الأسود: لا تكن أحمقاً..
الشاب: اغرب عن وجهي..
(يتراجع الشبحان الأبيض والأسود ويختفيان خلف الكواليس)
(يسمع صوت رنين الهاتف)
الشاب: ألو...لن استطيع حضور الاجتماع..أنا آسف..
الصوت: لا حاجة لذلك..لقد تم تأجيل الاجتماع..
الشاب: ماذا؟
الصوت: نعم..لقد توفى والد الوزير اليوم...فاعتذر وتم تأجيل الاجتماع..
الشاب: مات والد الوزير فتم تأجيل الإجتماع...من ليس له ظهر في هذه الحياة لا قيمة لحياته..
الشبح الأسود: (يخرج رأسه من الكواليس) ألم أقل لك..
الشاب: أغرب عن وجهي (يغلق الهاتف ويتجه نحو جثة والده محاولاً رفعه من الكرسي)..
(تصدر حشرجة من حنجرة والده)
الشاب: ما هذا الصوت؟
(يفتح والده عينيه بصعوبة ويتثاءب)
الأب: لقد نمت نومة طويييلة..
(يتمطى)
الشاب: أنت حي؟
الأب: (ينظر لولده بحنق) ماذا تقصد يا ولد..ألا زال عقلك غبياً كما كان..
الشاب: يا إلهي..
الأب: هل حفظت جدول الضرب؟
الشاب: لا يا أبي..لم احفظه أبداً..ولن استطيع حفظه..
الأب: لذلك ستعيش بلا مستقبل.. أنت دائماً بلا همة وبلا طموح..يا لله..لماذا أنجبت أحمقاً مثلك...(يتثاءب) لقد نمت نوماً طويلاً..وحلمت أحلاما سعيدة..حلمت بجارتنا الأرملة التي تسكن في المنزل الرابع..مات زوجها قبل بضعة أشهر..سيدة جميلة ورقيقة.. آه..أعتقد أن حضورها في منامي علامة من السماء على ضرورة اتخاذ موقف حاسم من حبي لها..
الشاب: حبك لها؟
الأب: نعم حبي لها؟ هل لديك اعتراض..
الشاب: لا..
الأب: (ينهض من الكرسي ويتحرك خارج المسرح) لن أخسر دقيقة أخرى مقابل سعادتي.. هيا يا ولد..هيا أيها العاق واتبعني..
الشاب: إلى أين يا والدي؟
الأب: سنذهب فوراً إلى منزل الأرملة لأخطبها..بل وأعقد قراني عليها فوراً..هل معك بطاقتك..
الشاب: بالتأكيد معي..
الأب: إذا هيا بنا نحو المغامرة (يقهقه بجزل) مرحى مرحى...تعلم من والدك الطموح ايها القرد الأحمق...
(يخرجان)
(ستار)
مسرحية من مشهد واحد
(كُتبت هذه المسرحية في الأصل لمسرح الشارع، وهذه نسخة معدلة تعديلاً حوارياً وسينوغرافياً)..
أمل الكردفاني
المنظر:
حديقة منزلية، تتقدم واجهة المنزل وبوابته المقوسة، وعلى اليسار واليمين من البوابة تمثالان متوسطا الطول لأمرأتين أفريقيتين شبه عاريتين، والتمثالان متماثلان تماما ولكنهما متقابلان...
في منتصف الحديقة، مقعد ارتمى عليه جسد رجل عجوز، رأسه موجه نحو السماء وفمه مفتوح نصف فتحة وكذلك عيناه، يداه متدليتان بارتخاء واضح، قدما ممدتان ومائلتان إلى الخلف قليلاً.
يدخل شاب يرتدي بدلة وربطة عنق..يمسح عرقاً في جبهته:
الشاب: لماذا طلبت مني الحضور يا والدي..لا املك وقتاً لذلك...فلدي إجتماع هام بعد ساعة من الآن (يقف مواجها الجمهور) اليوم ستندمج الشركتان المصنعتان لمحركات السيارات الرياضية، وعلي أن أدير ذلك الاجتماع النهائي الحاسم. شركة حكومية وأخرى خاصة..هذا يعني أنني في لحظة مفصلية من حياتي..أكون أو لا اكون (يقترب من الأب) أنت نائم...لماذا عيناك نصف مفتوحتين؟... يا إلهي..إنك تبدو ميتاً...(يرفع يد العجوز ويحررها فتسقط متراخية) لا..ليس الآن..لن تموت في هذه اللحظة.. اللعنة..(يصفع وجه العجوز على خديه صفعات سريعة خفيفة) يا إلهي.. (يلتفت نحو الجمهور) أنت ميت حقاً...ماذا أفعل الآن..إن لم أحضر ذلك الإجتماع ستتم إقالتي من وظيفتي..ولو تمت إقالتي فسيجوع أبنائي..ولكن..ولكن هل أترك جثة والدي لتتعفن لمدة ست ساعات؟...(ينظر إلى ساعة يده) تبقت خمس وخمسون دقيقة على موعد الإجتماع..لا أستطيع التأخر أكثر من ذلك..(ينظر للجثة)..الحي أبقى من الميت..لن تخسر جثة أبي شيئاً..ولكن ابنائي سيموتون من الجوع إن لم أذهب إلى ذلك الإجتماع..أمضيت سبعة عشر عاماً أكدح في تلك الشركة من أجل هذا اليوم...وبحسبة تقريبية بسيطة..سبعة وثمانون ألف ساعة عمل.. آكل سندوتشاً صغيراً في الإفطار والغداء..وأنا أعمل..أتفاوض مع الشركات الأخرى..أجري مقابلات مع العملاء .. أبرم الصفقات..أسافر في الأسبوع لثلاث دول..أعود ومن طائرتي إلى الشركة ومن الشركة إلى سريري في المنزل لأرتاح اربع ساعات فقط ثم أعود للعمل حتى أيام العطلات..لقد أفنيت كل قوتي وشبابي من أجل هذه اللحظة الفارقة (ينظر لجثة والده) ثم تموت أنت الآن...الآن (بدهشة)..ماذا أفعل..ماذا افعل الآن..بالتأكيد لن أضيع الفرصة من أجل جثة.. بالتأكيد لن أفعل .. سأذهب الآن (يتحرك مغادراً المسرح ولكن يظهر له شبح شخص مغطى بملاءة بيضاء فيجزع) من أنت؟
الشبح الأبيض: أنا ضميرك..أنا قيمك الأخلاقية..
الشاب: لا لا..ليس هذا وقت ممارسة هذه اللعبة..
الشبح الأبيض: تنسى كل تاريخكما المشترك مع هذا الرجل..هكذا فجأة..تاريخكما سوياً..منذ أن كنتَ طفلاً.. (يتراجع الشاب للخلف ببطء) تنسى عندما كان مريضاً ومع ذلك يحمل نفسه ويخرج ليعود لك باللعبة التي كنت تتمناها احتفاءً بيوم ميلادك...ألا تستطيع أن تمنحه القليل من ذلك الإهتمام يوم موته..
الشاب: ولكن..ولكن..
الشبح الأبيض: هل تنسى عندما كان يكد ويكدح من أجل شراء ملابس جديدة لك في كل عيد؟ أيها الولد العاق..
(يخرج شبح داخل ملاءة سوداء من الجهة المقابلة للمسرح)
الشبح الأسود:لا تسمع كلامه (يلتفت الشاب ناحية الشبح الأسود) إنه يضيع عليك فرصة العمر...ماذا سيحدث للجثة؟
الشاب: ومن أنت؟
الشبح الأسود: أنا طموحاتك وأحلامك..أنا كينونتك التي تقبع في قعر وجودك الميت..
الشاب: إنني أحب كلامك جداً أيها الشبح الأسود..
الشبح الأبيض: هراء... إن ضميرك هو كينونتك الحقيقية أيها الشاب..ضميرك وأخلاقك وليس طموحاتك..
الشبح الأسود: لا يخدعك...إن التاريخ كتبه أصحاب الطموحات لا أصحاب الضمائر...الملاحم..الحروب..الإمبراطوريات....القنسوات الحديديه ودروع الصدور المغطاه بالدماء..إتحاد المال والسلاح..السلطة..القوة وليس الضعف..
الشبح الأبيض: بل كتبه الأنبياء والمصلحون..كتبه الحب والوفاء..
الشاب: هذا غير صحيح أيها الشبح الأبيض..إنني لو خسرت وظيفتي هذا فلن يطعم الأنبياء والمصلحون أبنائي..لقد عشت داخل عش الدبابير...صارعت أصحاب الدسائس في شركتي لأجل هذا اليوم..أرجوك ابتعد عن طريقي..
الشبح الأبيض: أنت تساوي بينك وبين القوادين والمرابين الذين لا يمتلكون ذرة من الأخلاق..لذلك يكرههم الناس..هل تحبهم أنت..
الشاب: لا.. لا أعرف.. ولا أريد أن اعرف..لكن القوادين يأتون بالعاهرات لغيرهم..وغيرهم يقبلون بذلك..والفتيات أنفسهن يقبلن بذلك..فلماذا يتحمل القوادون كل الإثم..ثم من قال أن ذلك إثم..إنهم لا يختلفون عن الطبيب الذي يحصل على مال مقابل مداوات مريض..ويمتنع عن مداوات من لا يدفع...إن القواد لم يقتل أحداً لكن الطبيب يقتل..
الشبح الأبيض: (يرتبك) دعك من هذا التفلسف..فأنا ضمير..والضمير لا يخاطب العقل بل القلب...يخاطب إنسانيتك أولا وقبل كل شيء..وهذه جثة والدك..هل ستتركها تتعفن من أجل الوظيفة.. هل تقبل أن يفعل إبنك بجثتك نفس الشيء؟
الشاب: (يتراجع بجزع) جثتي؟!!!
الشبح الأبيض: نعم جثتك..
الشاب: إبني؟!!!
الشبح الأبيض: نعم إبنك..
الشبح الأسود: هااا..دعك من كلامه الأجوف هذا..اسأل نفسك فقط..ماذا لو كان والدك يعرف موقفك الآن..هل كان سيرغب في انهيار مستقبلك من أجل جثته التي لا مستقبل لها؟ ها؟.. بالتأكيد لا..أنت نفسك لم تنجب أبناءك ليعيشوا مدمرين بلا مستقبل..
الشاب: بالتأكيد..هذا صحيح..
الشبح الأسود: إذاً...إمضِ في طريقك إلى المجد..ثم عُد إلى جثة والدك لتؤدي واجباتك نحو جثته فيما بعد..
الشاب: هذا عين العقل..
الشبح الأبيض: يا إلهي.. هل فقدت كل ذرة من الأخلاق أيها الشاب لتترك جثة والدك ملقاة هكذا حتى تنتفخ وتتعفن..إنك حتى لم تفكر في دفنه.. إنك حتى لم تذرف عليه دمعة واحدة..وكأنما لم يكن بينكما أي رابط معنوي..وكأنه لم يكن سوى مجرد كلب متشرد قابلته بالصدفة في زقاق ضيق..
الشاب: اللعنة..ولكن..ولكن..
الشبح الأبيض: لا يوجد لكن..إن الرجل الحقيقي هو رجل المواقف الصعبة.. المواقف التي يضحي فيها بكل شيء من أجل قيمه العليا..
الشبح الأسود: (يقهقه بسخرية) كم هذا مضحك.. هل تعلم أيها الشاب..أن العظماء هم من كانوا دوماً يقدسون أنفسهم ومصالحهم .. هل تصدق مثلاً أن الاسكندر الأكبر قد قاتل من أجل الآخرين.. أو أن القديسين لم يكونوا سعداء بتقديس الناس لهم...هل تصدق ذلك الهراء الذي يقال عن الأخلاق فعلاً..ماهي الأخلاق؟ إن هذا العالم البشري مؤسس تاريخياً على نفي كل قيمة للآخر..
الشبح الأبيض: هذا غير صحيح..إن الحياة ليست مادة فقط..وإلا فما الفرق بين مُرُوج الزهور وبين أكوام القمامة..
الشاب: على رسلكما..فلم يبق من وقتي الكثير..ألا يمكنكما رعاية جثة والدي ريثما أعود..
الشبح الأبيض: كيف سنرعى جثة والدك..هل سنرضعه مثلاً؟!!!..
الشاب: لا أعرف..ولكن..ولكن مستقبلي سيضيع لو بقيت أكثر من ذلك..
الشبح الأسود: لقد مات والدك...عليك الآن أن تفكر في أولادك الذين لا زالوا أحياء..هذا هو العقل..لو مرض أحدهم مرضاً عضالاً وأنت مفلس وبلا عمل..فلن تجد من يدفع لهم ثمن الدواء...نحن في عالم قاسٍ..يتطلب منا التفكير بحكمة وبتروٍ .. وبعقلانية لا بمثالية..إذهب أيها الفتى ولا تضيع زمنك...
(يسمع رنين هاتف الشاب فيخرجه من جيبه)
الشاب: ألو؟
صوت رجل: لقد اقتربت مواعيد الإجتماع وأنت لم تظهر حتى الآن..يجب أن تكون هنا في أسرع وقت لكي تشرف على الترتيبات..لا نريد إحراج السيد الوزير..
الشاب: كارثة يا عزيزي..كارثة..لقد توفى والدي الآن..أرجوك حاول إيجاد مخرج لي..
الصوت: لوالدك الرحمة..لكن الوضع هنا لا يتحمل مزيداً من التأخير..
الشاب: وجثة والدي؟
الصوت: اتركها لتتعفن وتعال بسرعة..
الشاب: أرجوك..
الصوت: لا مجال للمجاملة..إنه يوم تاريخي ولحظة فارقة..لا يوجد مزيد من الوقت..تعال بسرعة..
(ينغلق الهاتف بصوت تكة خفيفة فينظر الشاب لهاتفه بوجه جزع)
الشاب: (يلتفت نحو جثة والده) أما كان بإمكانك أن تموت في يوم آخر...(ينظر نحو الجمهور بأسى) مع ذلك..فلن أتحمل تركك هنا...كما لم تكن تتحمل تركي عارياً في البرد..من أقحم في نفوسنا تلك العاطفة الحمقاء التي تربط بيننا وبين الآخرين...
الشبح الأسود: لا تكن أحمقاً..
الشاب: اغرب عن وجهي..
(يتراجع الشبحان الأبيض والأسود ويختفيان خلف الكواليس)
(يسمع صوت رنين الهاتف)
الشاب: ألو...لن استطيع حضور الاجتماع..أنا آسف..
الصوت: لا حاجة لذلك..لقد تم تأجيل الاجتماع..
الشاب: ماذا؟
الصوت: نعم..لقد توفى والد الوزير اليوم...فاعتذر وتم تأجيل الاجتماع..
الشاب: مات والد الوزير فتم تأجيل الإجتماع...من ليس له ظهر في هذه الحياة لا قيمة لحياته..
الشبح الأسود: (يخرج رأسه من الكواليس) ألم أقل لك..
الشاب: أغرب عن وجهي (يغلق الهاتف ويتجه نحو جثة والده محاولاً رفعه من الكرسي)..
(تصدر حشرجة من حنجرة والده)
الشاب: ما هذا الصوت؟
(يفتح والده عينيه بصعوبة ويتثاءب)
الأب: لقد نمت نومة طويييلة..
(يتمطى)
الشاب: أنت حي؟
الأب: (ينظر لولده بحنق) ماذا تقصد يا ولد..ألا زال عقلك غبياً كما كان..
الشاب: يا إلهي..
الأب: هل حفظت جدول الضرب؟
الشاب: لا يا أبي..لم احفظه أبداً..ولن استطيع حفظه..
الأب: لذلك ستعيش بلا مستقبل.. أنت دائماً بلا همة وبلا طموح..يا لله..لماذا أنجبت أحمقاً مثلك...(يتثاءب) لقد نمت نوماً طويلاً..وحلمت أحلاما سعيدة..حلمت بجارتنا الأرملة التي تسكن في المنزل الرابع..مات زوجها قبل بضعة أشهر..سيدة جميلة ورقيقة.. آه..أعتقد أن حضورها في منامي علامة من السماء على ضرورة اتخاذ موقف حاسم من حبي لها..
الشاب: حبك لها؟
الأب: نعم حبي لها؟ هل لديك اعتراض..
الشاب: لا..
الأب: (ينهض من الكرسي ويتحرك خارج المسرح) لن أخسر دقيقة أخرى مقابل سعادتي.. هيا يا ولد..هيا أيها العاق واتبعني..
الشاب: إلى أين يا والدي؟
الأب: سنذهب فوراً إلى منزل الأرملة لأخطبها..بل وأعقد قراني عليها فوراً..هل معك بطاقتك..
الشاب: بالتأكيد معي..
الأب: إذا هيا بنا نحو المغامرة (يقهقه بجزل) مرحى مرحى...تعلم من والدك الطموح ايها القرد الأحمق...
(يخرجان)
(ستار)