كم أتوق إلى الأيام التي وصلتُ فيها إلى لندن (مطلع عام 1970م) واكتشفت ما لم يكن لدينا في بغداد: الأندرغراوند (Underground) بأنفاقه العميقة تحت الأرض، وعربات قطاراته العتيقة. فأدركت فورًا كم كانت تفتقر الحداثة الشعرية العربية آنذاك إلى ما كان يمكن أنْ يجعلها حديثة: السرعة ومعمعان الخيال. محطة «هولبورن» ربما هي المحطة الأعمق في لندن… حين كنت أنزل سلالمها المؤدية إلى رصيف القطار، كنت أشعر أني أنزل في إحدى ردهات كوميديا دانتي الإلهية. ففي هذا العالم السفلي ترى سكان لندن بمظلاتهم، وجرائدهم وقبعاتهم يتزاحمون بانتظار القطار الأفعى… وإذا بأبوابه تنفتح فتجد نفسك في العربة واقفًا وسط الزحام أو جالسًا قبالة امرأة أو رجل أو مقعد فارغ.
أحبُّ كثيرًا نافذة القطار لأنّها تختلف عن كلّ نوافذ المواصلات الأخرى… لربّما بسبب ما تخلقه السرعة، أو ما يسمّى السرعة في السكون، من صور تتعاقب كشريط سينمائي… فهي ليست مجرّد زجاج، إنما مرآة نابضة يمتزج فيها عالم القطار الخارجي الفسيح بعالمك الداخلي الصغير… المناظر التي يمر بها…، بأخيلة اليقظة التي تتقوْقَع فيها… نافذة القطار «منظر ذهنيّ» بامتياز؛ تومض فيها صورةٌ دفينة؛ رغبتك المقموعة التي غالبًا ما تتراءى حلمًا… حين أتراءى في زجاج النافذة بصفتها سطحًا عاكسًا، لا أبحث عما يحدثه الشعاع الساقط عليه، ولا أريد أنْ أشعر بنرجسيتي… إنّما أبحث عمّا تحدثه سرعةُ القطار من امتزاج خيميائي بينهما… كما لو أنّ شريطَ فلم ينفلت، فتُعيد لفَّه في أعماق ذاتك… الزجاج الذي يفصل بينك وبين خارجه، هو عينُ الحاجز الذي يفصل بين وعيِك وما تحت وعيِك. اسند ظهرك إلى خلفية المقعد… وأَلْقِ بكلّ نظرك على زجاج النافذة، حيث يتدفق كم هائل من المناظر الخارجية… ابقَ مستسلمًا حتّى الانخطاف، حتّى تستيقظ ذاكرتك، يسقط شعاعها على الزجاج، فيرتدّ باتجاه عينك: وها أنت تسبح في سيلِ أناكَ البصريّ الذي تدفعه تدفّقات داخلية، لا عِلمَ لك بها من قبلُ، وإنْ هي في أعماقك تجري… وفي الوقت ذاته تحافظ على مسارك في واقع ملموس حتّى لا يفقد الانعكاس خطَّ سيره، فتجد نفسك في مدار الهلوسة! المسألة هي أنْ تعرف، حقًّا، كيف تنظر، من زاوية ما، إلى نافذة القطار حتّى تتراءى لك أعماقُك واقعًا وحقيقةً… (انظر روايتي القصيرة «المرآة والقطار» الصادرة عام 2017م عن «دار التنوير»، بيروت).
آه، كم كنت آخذ القطار ليس بهدف الوصول إلى محطة معينة، إنما لأغتني بأفكار جديدة…
***
مهما كانت محطةُ القطار بعيدةً، فإنها تبقى دائمًا أقرب من مطار! لا تاكسي ولا يحزنون… مجرد سلالم، سلالم، سلالم… وفي نهاية كل رحلة، يرتسم العالم كما هو: قطار!
***
القطار جَدّد المخيّلة الكتابية! فكلّ تطوّر حصل له، حصل للسرد في الجوهر… الصفحات هي سكك الكتّاب!
***
حين ينطلق بك القطار، يُغلِق ماضيك أبوابَه… وتُستأصَل جذورك… فلا يعود لك هُوية سوى ذكرياتك!
***
كم عمل السينمائيون على استغلال القطار كملجأ للصوص والمجرمين، ومخدعٍ للعُشّاق الفارّين. ما أجملَها نهايةَ فلم هتشكوك «شمالًا، إلى الشمال الغربي»، إذ نرى بطل الفلم «كاري غرانت» يمد يده لمساعدة بطلة الفلم «إيفا ماري سانت» المتشبثة بصخرة وهي على وشك أن تسقط في الهاوية، ثم يسحبها (وإذا بالمشهد يتغير) فنراه يرفعها إلى فراش المقصورة الخاصة بالعشاق! لقد قال هتشكوك: «إنه المشهد الأكثر وقاحة بين المشاهد التي صورتها في حياتي»!
***
القطار يعلِّمنا الصبر أكثر من أي واسطة نقل أخرى..
***
لا يمكن تنظيف نص من الشوائب إلا في قطار المترو… فقراءة قصيدة هنا لها تأثير مختلف عن قراءتها خارج المترو… فسرعة القطار وهمهمات الركّاب تُريك أين يكمن الخلل الإيقاعي… فتضطر إلى شطب أبيات وتنقل البيت الثالث، مثلًا، إلى نهاية القصيدة! لا يمكنك أنْ تكون عضوًا في ثريا الشعراء… إلا حين تكون قد أدركتَ الفرق الجوهري بين النسخة قبل أخذ القطار، والنسخة بعد خروجك منه!
***
كافكا
كافكا
إنّ أنفاق مترو باريس المتشعبة تشعُّبَ الأوردة في جسم الإنسان، لهي شرايين باريس. أيّ انعطاف في المترو داخل النفق هو الانعطاف عينه الذي تصادفه وأنت تمشي في شارع باريسي. قرأت لكافكا، تشخيصًا جميلًا، يقول فيه: «إن المترو يتيح للغريب أجود فرصة لكي يتصور أنه أدرك على نحو سريع ودقيق، جوهر باريس».
***
المترو يعلمك كيف تدرك أنّ الكتابة شبكة من الخطوط… وأيَّ خطٍّ من خطوط الخيال يجب أن تأخذ.
***
المترو هو «لا وعي» باريس الذي تغرف المخيّلةُ الشعريةُ من تيارِه أعمالَها!
***
في المترو يجد الروائي شخصيات روائية حقيقية: شحّاذين، لصوصًا، عاهرات، تجارَ مخدرات، بسطاء معروضين طوال الرصيف للإيجار… القرار يعود لمخيلتك: أي شيء صالح لرواية جديدة! أما الشاعر فحصته قليلة: بيت أو بيتان!
***
لا خوف في القطار إلا إذا جاء شخص لا تعرفه، وجلس إلى جانبك والعربة كلُّها فارغة…
***
القطار حياة… لذلك تبقى واعيًا بفكرة الموت طوال الرحلة. من يدري، ربما انحراف واحد عن السكة، ويُصبح اسمك مدونًا في لائحة المختفين.
***
ينام الأثرياء في مقصورات مخصصة للنوم؛ مدفأة ومجهزة بكلّ ما يوحي بالثراء والترف، وبأضواء صغيرة زاهية الألوان…، لكن في أعماقهم ثمّة خوف سحيق: ألّا يصيبهم البرد… يسدلون الستار، فيحرمون أنفسَهم من التمتع برؤية المناظر الوهمية الرائعة التي تتجلى على زجاج النافذة! أما الشحّاذون، الصعاليك، الفقراء المحشورون في عربات الدرجة الثانية، فإنهم -والنوافذ شبه مفتوحة، ولا شيء يقيهم سوى أسمالهم- ينامون إلى أن ينغزهم شعاع من الشمس فيستيقظون، ومن ثم يطلُّون برؤوسهم… هكذا كان ديدني، حين كنت آخذ القطار، ليلًا، من باريس إلى سالزبورغ في منتصف سبعينيات القرن الماضي… أتقلَّبُ في مقعدي، بين برودة الهواء ونعاس دافئ أحفز نفسي على الاستسلام له، فأنام وأحلم بكل مجامر العالم وحرارة النفس الإنسانية، لكي أستيقظ الشاب نفسه… فأطلّ برأسي، أوان ترسل الشمس أشعتها، وأنظر إلى ما يقع بصري عليه: مروج وحقول، نهر لا أعرف اسمه إلى اليوم… وجبال الألب الممتدة في البعيد… أستنشق هواء طازجًا، فأشعر بنشاط محموم… حتى يتوقّف القطار… وما أن أضع قدمي على الرصيف، حتّى يتملكني شعور بأني على أُهبة الاستعداد لمعاشقة، النهارَ كلَّه، خليلتي التي تنتظرني في محطة سالزبورغ… لو كان بوسعي أن آخذ واسطة نقل من باريس إلى سالزبورغ، أسرع من القطار، لَما كان لي أجنحة تساعدني على التحليق! القطار مِشحَذُ الخيال…
***
في القطار، يزداد شعور المسافرين بالجنس، ينام في أجسادهم محصورًا، لا منفذَ له، فيذوب في حنايا أعماقهم النفسية… فتصبح نظراتهم حادة، ثم تغفو في تخيلات، فيخيم سكون لا تسمع فيه سوى هدير العجلات وأنين الأبواب… آه، كم من علاقة حب كانت تتمّ في القطار خلال رحلة واحدة…
***
القطارات-كلها-اسمُها-رغبة-٢في قطار الـعُزلةِ يأكلُني ظلّي
«وَمضةً،
وَمضهْ».
بَعدها يَتقيَّؤُني
لقطةً
لقطهْ
في فَسيــحِ الْمَحطّة!
***
لم يعد اليوم القطار كما كان: رمز السفر إلى مناطق الحلم النائية… فالبخار بات زرًّا كهربائيًّا، والمحطة باتت جزءًا من عالم رقمي آخر… وكل شيء تلاشى وتغير: فلم نعد نسمع ذاك الصفير الجنائزي، يعلو وهو يقترب، الذي تميزت به قطارات الماضي، ولا ذاك الدخان الذي كانت الرغبة في السفر تستيقظ فينا بمجرد أنْ نراه…
***
في ضواحي بعض المدن، ثمة خرائب – مقابر ترتكن فيها بقايا قطارات الأزمنة القديمة؛ عجلات الحلم وسرد المغامرة الفردانية؛ قطارات بعد أن كانت شققًا مؤثَّثة تبتلع كلّ شيء… ها هي في ذاكرة ركّاب اليوم مجرد هياكلَ حديديةٍ محطَّمةٍ لا عجلة ولا باب… مشرّعة للذباب والطير، للقطط والكلاب السائبة… لا يعبأ بذِكْرها حتى الشاعر الرديء… في حين أنها كانت جزءًا من إلهام عظماء الشعراء… في حين أن «قطارات» اليوم مجرد أنابيب بلا روح أو اتجاه…
***
القطارات هي أيضًا مصيرها الموت… دموع ذكرياتها تبلل الأرصفة!
أحبُّ كثيرًا نافذة القطار لأنّها تختلف عن كلّ نوافذ المواصلات الأخرى… لربّما بسبب ما تخلقه السرعة، أو ما يسمّى السرعة في السكون، من صور تتعاقب كشريط سينمائي… فهي ليست مجرّد زجاج، إنما مرآة نابضة يمتزج فيها عالم القطار الخارجي الفسيح بعالمك الداخلي الصغير… المناظر التي يمر بها…، بأخيلة اليقظة التي تتقوْقَع فيها… نافذة القطار «منظر ذهنيّ» بامتياز؛ تومض فيها صورةٌ دفينة؛ رغبتك المقموعة التي غالبًا ما تتراءى حلمًا… حين أتراءى في زجاج النافذة بصفتها سطحًا عاكسًا، لا أبحث عما يحدثه الشعاع الساقط عليه، ولا أريد أنْ أشعر بنرجسيتي… إنّما أبحث عمّا تحدثه سرعةُ القطار من امتزاج خيميائي بينهما… كما لو أنّ شريطَ فلم ينفلت، فتُعيد لفَّه في أعماق ذاتك… الزجاج الذي يفصل بينك وبين خارجه، هو عينُ الحاجز الذي يفصل بين وعيِك وما تحت وعيِك. اسند ظهرك إلى خلفية المقعد… وأَلْقِ بكلّ نظرك على زجاج النافذة، حيث يتدفق كم هائل من المناظر الخارجية… ابقَ مستسلمًا حتّى الانخطاف، حتّى تستيقظ ذاكرتك، يسقط شعاعها على الزجاج، فيرتدّ باتجاه عينك: وها أنت تسبح في سيلِ أناكَ البصريّ الذي تدفعه تدفّقات داخلية، لا عِلمَ لك بها من قبلُ، وإنْ هي في أعماقك تجري… وفي الوقت ذاته تحافظ على مسارك في واقع ملموس حتّى لا يفقد الانعكاس خطَّ سيره، فتجد نفسك في مدار الهلوسة! المسألة هي أنْ تعرف، حقًّا، كيف تنظر، من زاوية ما، إلى نافذة القطار حتّى تتراءى لك أعماقُك واقعًا وحقيقةً… (انظر روايتي القصيرة «المرآة والقطار» الصادرة عام 2017م عن «دار التنوير»، بيروت).
آه، كم كنت آخذ القطار ليس بهدف الوصول إلى محطة معينة، إنما لأغتني بأفكار جديدة…
***
مهما كانت محطةُ القطار بعيدةً، فإنها تبقى دائمًا أقرب من مطار! لا تاكسي ولا يحزنون… مجرد سلالم، سلالم، سلالم… وفي نهاية كل رحلة، يرتسم العالم كما هو: قطار!
***
القطار جَدّد المخيّلة الكتابية! فكلّ تطوّر حصل له، حصل للسرد في الجوهر… الصفحات هي سكك الكتّاب!
***
حين ينطلق بك القطار، يُغلِق ماضيك أبوابَه… وتُستأصَل جذورك… فلا يعود لك هُوية سوى ذكرياتك!
***
كم عمل السينمائيون على استغلال القطار كملجأ للصوص والمجرمين، ومخدعٍ للعُشّاق الفارّين. ما أجملَها نهايةَ فلم هتشكوك «شمالًا، إلى الشمال الغربي»، إذ نرى بطل الفلم «كاري غرانت» يمد يده لمساعدة بطلة الفلم «إيفا ماري سانت» المتشبثة بصخرة وهي على وشك أن تسقط في الهاوية، ثم يسحبها (وإذا بالمشهد يتغير) فنراه يرفعها إلى فراش المقصورة الخاصة بالعشاق! لقد قال هتشكوك: «إنه المشهد الأكثر وقاحة بين المشاهد التي صورتها في حياتي»!
***
القطار يعلِّمنا الصبر أكثر من أي واسطة نقل أخرى..
***
لا يمكن تنظيف نص من الشوائب إلا في قطار المترو… فقراءة قصيدة هنا لها تأثير مختلف عن قراءتها خارج المترو… فسرعة القطار وهمهمات الركّاب تُريك أين يكمن الخلل الإيقاعي… فتضطر إلى شطب أبيات وتنقل البيت الثالث، مثلًا، إلى نهاية القصيدة! لا يمكنك أنْ تكون عضوًا في ثريا الشعراء… إلا حين تكون قد أدركتَ الفرق الجوهري بين النسخة قبل أخذ القطار، والنسخة بعد خروجك منه!
***
كافكا
كافكا
إنّ أنفاق مترو باريس المتشعبة تشعُّبَ الأوردة في جسم الإنسان، لهي شرايين باريس. أيّ انعطاف في المترو داخل النفق هو الانعطاف عينه الذي تصادفه وأنت تمشي في شارع باريسي. قرأت لكافكا، تشخيصًا جميلًا، يقول فيه: «إن المترو يتيح للغريب أجود فرصة لكي يتصور أنه أدرك على نحو سريع ودقيق، جوهر باريس».
***
المترو يعلمك كيف تدرك أنّ الكتابة شبكة من الخطوط… وأيَّ خطٍّ من خطوط الخيال يجب أن تأخذ.
***
المترو هو «لا وعي» باريس الذي تغرف المخيّلةُ الشعريةُ من تيارِه أعمالَها!
***
في المترو يجد الروائي شخصيات روائية حقيقية: شحّاذين، لصوصًا، عاهرات، تجارَ مخدرات، بسطاء معروضين طوال الرصيف للإيجار… القرار يعود لمخيلتك: أي شيء صالح لرواية جديدة! أما الشاعر فحصته قليلة: بيت أو بيتان!
***
لا خوف في القطار إلا إذا جاء شخص لا تعرفه، وجلس إلى جانبك والعربة كلُّها فارغة…
***
القطار حياة… لذلك تبقى واعيًا بفكرة الموت طوال الرحلة. من يدري، ربما انحراف واحد عن السكة، ويُصبح اسمك مدونًا في لائحة المختفين.
***
ينام الأثرياء في مقصورات مخصصة للنوم؛ مدفأة ومجهزة بكلّ ما يوحي بالثراء والترف، وبأضواء صغيرة زاهية الألوان…، لكن في أعماقهم ثمّة خوف سحيق: ألّا يصيبهم البرد… يسدلون الستار، فيحرمون أنفسَهم من التمتع برؤية المناظر الوهمية الرائعة التي تتجلى على زجاج النافذة! أما الشحّاذون، الصعاليك، الفقراء المحشورون في عربات الدرجة الثانية، فإنهم -والنوافذ شبه مفتوحة، ولا شيء يقيهم سوى أسمالهم- ينامون إلى أن ينغزهم شعاع من الشمس فيستيقظون، ومن ثم يطلُّون برؤوسهم… هكذا كان ديدني، حين كنت آخذ القطار، ليلًا، من باريس إلى سالزبورغ في منتصف سبعينيات القرن الماضي… أتقلَّبُ في مقعدي، بين برودة الهواء ونعاس دافئ أحفز نفسي على الاستسلام له، فأنام وأحلم بكل مجامر العالم وحرارة النفس الإنسانية، لكي أستيقظ الشاب نفسه… فأطلّ برأسي، أوان ترسل الشمس أشعتها، وأنظر إلى ما يقع بصري عليه: مروج وحقول، نهر لا أعرف اسمه إلى اليوم… وجبال الألب الممتدة في البعيد… أستنشق هواء طازجًا، فأشعر بنشاط محموم… حتى يتوقّف القطار… وما أن أضع قدمي على الرصيف، حتّى يتملكني شعور بأني على أُهبة الاستعداد لمعاشقة، النهارَ كلَّه، خليلتي التي تنتظرني في محطة سالزبورغ… لو كان بوسعي أن آخذ واسطة نقل من باريس إلى سالزبورغ، أسرع من القطار، لَما كان لي أجنحة تساعدني على التحليق! القطار مِشحَذُ الخيال…
***
في القطار، يزداد شعور المسافرين بالجنس، ينام في أجسادهم محصورًا، لا منفذَ له، فيذوب في حنايا أعماقهم النفسية… فتصبح نظراتهم حادة، ثم تغفو في تخيلات، فيخيم سكون لا تسمع فيه سوى هدير العجلات وأنين الأبواب… آه، كم من علاقة حب كانت تتمّ في القطار خلال رحلة واحدة…
***
القطارات-كلها-اسمُها-رغبة-٢في قطار الـعُزلةِ يأكلُني ظلّي
«وَمضةً،
وَمضهْ».
بَعدها يَتقيَّؤُني
لقطةً
لقطهْ
في فَسيــحِ الْمَحطّة!
***
لم يعد اليوم القطار كما كان: رمز السفر إلى مناطق الحلم النائية… فالبخار بات زرًّا كهربائيًّا، والمحطة باتت جزءًا من عالم رقمي آخر… وكل شيء تلاشى وتغير: فلم نعد نسمع ذاك الصفير الجنائزي، يعلو وهو يقترب، الذي تميزت به قطارات الماضي، ولا ذاك الدخان الذي كانت الرغبة في السفر تستيقظ فينا بمجرد أنْ نراه…
***
في ضواحي بعض المدن، ثمة خرائب – مقابر ترتكن فيها بقايا قطارات الأزمنة القديمة؛ عجلات الحلم وسرد المغامرة الفردانية؛ قطارات بعد أن كانت شققًا مؤثَّثة تبتلع كلّ شيء… ها هي في ذاكرة ركّاب اليوم مجرد هياكلَ حديديةٍ محطَّمةٍ لا عجلة ولا باب… مشرّعة للذباب والطير، للقطط والكلاب السائبة… لا يعبأ بذِكْرها حتى الشاعر الرديء… في حين أنها كانت جزءًا من إلهام عظماء الشعراء… في حين أن «قطارات» اليوم مجرد أنابيب بلا روح أو اتجاه…
***
القطارات هي أيضًا مصيرها الموت… دموع ذكرياتها تبلل الأرصفة!
القطارات كلها اسمُها رغبة (عبدالقادر الجنابي) | مجلة الفيصل
www.alfaisalmag.com