بشير خلف - الصّحراء.. مبْعث الحكي السّاحر

الصحراء ذلك السحر الأسطوري الكامن في الـمخيال الجمعي للإنسانية عامة، وفي الذاكرة العربية بشكل خاص، حيث تبرز الصحراء في الوعي، والمُخيّلة مَـجْمَعًا للنقائض، منسجمة مع طبيعتها المتقلِّبة، فهي لا تسكن حينًا حتَّى تثور، ولا ترضى لحظة حتَّى تغضب، تفرح فيتحوَّل الكون إلى مسرح شعريّ رائع، وتغضب، فيكون في غضبها الهلاك والشقاء. ولوج الصحراء فـــتْحٌ لإمكانية السرد.. أن تعيش وترى، وتحكيَ عمّا رأيت، والرؤية هنا لا تأبه كثيراً بالمنظور الحسي، بل تتعداه. فالصحراء هي واحدة من مُحرِّضات روح المغامرة الإنسانية، وهي التي توسع أفق التصور المحفّـــز على الإبداع..
للصحراء سرْدها الساحر
إن للصحراء سردَها، وسرد العرب في جذوره سردٌ صحراوي إجمالا، إذا كان يخيّـل إلينا أن الشعر هو فـــنّ الصحراء الأثير، أو الوحيد فإن ذلك الوهم سببه ثبات الشعر أكثر من النثر، والمرويات السردية. إن الشفاهية هي مفتاح الصحراء وعنوانها، وهي مفتاح السرد الصحراوي حتى بصيغة المعاصرة المتأثرة بالكتابة والكتابية.. إنها الكتابة بلغة الرمل.. يقول الشاعر أحمد عبد الكريم: « كتابة الصحراء، لا تُــعْـني الوصف الخارجي لجغرافيا الصحراء بطريقة وثائقية، وإنما تعـني نقْـــل روح الصحراء من خلال تفاعل الإنسان مع المكان والتعبير عنها بشكل عميق بعيدا عن النظرة الايكزوتيكية" الغرائيبية "»، ويذكر في مقاله عن رواية ربيعة جلطي“ نادي الصنوبر” التي تتناول عالم التوارڤ ـ ما ورد على لسان المرحوم عثمان بالي في كلامه للجمهور في إحدى الحفلات: « الليلة إن شاء الله ما قدرناش نجيبوا لكم الصحراء.. نُـدّوكم أنتم للصحراء ».
الـمُـبدعون توّاقون إلى غرائيبيتها
وأولئك الذين ولجوا الصحراء، أياً كانت دوافعهم، قد غادروها وهم مُثقــلون بوفرة من الحكايات. غير أن الصحراء في الوقت نفسه مرتع فــــــــذٌّ للخيال، وفضاء لا يُضاهى لمسارات من السرد لا تنتهي، وهي التي ألهمت شعراء، وروائيين، ومغامرين، ومستكشفين، وجواسيس، ومغرمين بأحابيل الجغرافيا، وعتمات التاريخ، ومتصوفةً، ومهووسين بالتحرش بحدود الموت، وغيرهم ليدخلوها، ويخرجوا منها وهم على غير ما كانوا عليه. كتب لوكليزيو رواية "صحراء"، الفرنسي الحائز على جائزة نوبل سنة 1980م، ومثله فعل، ولكن في مدار تجربة مختلفة، الضابط الإنجليزي توماس إدوارد لورنس، أو كما يعرفه الكثير من الناس بلورنس العرب، وهو يكتب "أعمدة الحكمة السبعة"، وكذا انطوان ده سانت ـ أكزوبري الذي بأسلوبه الأدبي البديع، وبروحه الفلسفية، صوِّر لنا عظمة الطيران، وإثارته، وأخطاره، وعزلته في كتابه الجميل:" أرض البشر"، لمّا قاد طائرات البريد الجوي عبر صحراء شمال أفريقيا.
روائيون رصدوا لحظات التحوّل
تـناول روائيون عرب عديدون الصحراء حاضنة مكانية لها فرادتها، والتي تحدد تعرجات الأحداث وتؤطرها؛ ذلك لأن للصحراء قوانينها، وسطوتها الثقيلة على إنسانها، وقدر هذا الإنسان ومصيره. لكنَّ هؤلاء الروائيين رصدوا لحظات التحول في الصحراء، لحظات الاختراق التاريخية مع دخول المستعمر، واكتشاف النفط، وبناء المدن، وانتشار وسائل التقنية، ومؤسسات الإدارة الحديثة، أي في شبكة علاقاتها مع خارجها.. نذكر هنا، رواية " فساد الأمكنة " لصبري موسى، وروايات "النهايات" و" سباق المسافات الطويلة "، و" مدن الملح بأجزائها الخمسة " لعبد الرحمن منيف.
أمّا ما فعله إبراهيم الكوني فإنه رسم الصحراء في عزلتها الكونية وعذريتها، وتمنُّعها، حتى بعد تصديها لغزو الأغراب " المجوس والفرنسيس"، وإصرارها على البقاء مِهاداً للحكايات العجيبة والأساطير، وعالماً فسيحاً مُقْــفرًا للإنسان. وعندما نتقصّى متْــن السرد، والصحراء حتى إلى وقت قريب سيقفز تأكيدًا أمامنا اسم الروائي الليبي إبراهيم الكوني بكمّ رواياته، وبثيماتها المنفتحة على فضاءات متفرّدة زماناً ومكاناً وأنماط علاقات، ورؤية ورؤيا.
مــتْنُ السّرد الصحراوي تعدّد
فرض فضاء الصحراء نفسه، وبقوة كبيرة على النص الروائي الجزائري المعاصر، بحكم جاذبيته، وروائع طقوسه، وعاداته وتقاليده الساحرة الآسرة، وبحثا من الروائيين الجزائريين عن فُـرص جديدة للتجريب، وممارسة مغامرة الكتابة بنوع من الممارسة العشقية مستعينة بقاموس صوفي ثري بمصطلحاته الموغلة في الوله والوجد والفناء؛ خاصّة لدى مبدعي أبناء الصحراء مولدًا، ونشأة، وإقامة؛ ممّا سمح بتعدّد مبدعي السرد قصصًا، وروايات، كما لم يبق هذا الجنس الأدبي حكْرًا على مبدع بعينه؛ لكوْن أسماء أخرى ظهرت على الساحة العربية، وخاصة في منطقة المغرب العربي منهم الروائي الموريتاني موسى ولد ابنو وروايته "مدينة الرياح"، والروائي المالي عمر الأنصاري صاحب رواية "الرجال الزرق".
تـــجاربُ مهمّةٌ
الحديث عن الصحراء يجعلنا نلتفت إلى تجربة مهمة، هي تجربة الكاتب الجزائري حبيب السايح الذي عرفت فترةُ إقامته بأدرار تحولا نوعيا في لغة، ومعمارية، وتيمات رواياته، وفي تبلور رؤية جديدة عبْــر تلك اللغة التي تنسكب كلمات معجونة بالرمل. إضافة إلى أعمال سردية أخرى تتخذ الصحراء فضاء معماريا كرواية" تميمون" لرشيد بوجدرة، رواية " نادي الصنوبر" لربيعة جلطي، رواية اعترافات أسكرام لعـــزّ الدين ميهوبي، والمجموعة القصصية" حائط رحمونة " للصديق لعبد الله كرّوم، ومجموعة" مغارة الصابوق"، رواية " مملكة الزيوان " للصّدّيق الحاج أحمد الزيواني، رواية " تنزروفت .. بحثًا عن الظلّ" لضيف الله عبد القادر، ورواية " الشهيلي " LE SIMON باللغة الفرنسية لعلي عبيد من الوادي، رواية " أعوذ بالله " للسعيد بوطاجين. رواية "الخابية" للكاتبة الإعلامية جميلة طلباوي، وكذا روايتها" وادي الحنّاء"، رواية" صحراء الظمإ "للأخضر بن السايح، وكذا رواية" فجْر الغيطان" للكاتب الإعلامي خليفة قعيد .
ونـختم برواية" نبوءات رايكا " للكاتب خيري بلخير التي فازت بالمرتبة الأولى للغة العربية في جائزة علي معّاشي لسنة 2019. كما في شهر فيفري 2020 فاز القاص، الروائي عبد الرشيد هميسي في جائزة راشد بن حمد الشرقي للإبداع بروايته الموسومة بــ " الملحد بقيّ بن يقظان" التي تجري وقائعها في بلدة حاسي خليفة بربوع وادي سُوفْ.
وتبقى الصحراءُ مصدرَ إلْـــهامٍٍ
في رأيي الشخصي النصّ السّردي الصحراوي، ليس فقط الذي يتّكئ على الصحراء مصدرًا للأحداثِ فحسبُ، وإنّما تلكم أيضًا الروائح، والأساطير، والذكرياتٍ التي سكنت الصحراء، وآثار الإنسان من رسومٍ، ونقوش، ممّا قد يُكسبُ النصّ السّرديَّ الغرائبية.
التفاعلات: نزيهة زهواني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...