أستمع إلى سوناتة "شوبان" "ضوء القمر". كانت هذه المعزوفة عزيزة على تشيخوف... أتركها وأعود إلى قصة "مزحة" لأنصت إليها جيدا. وأتملى كيف تولد ناديا (نادينكا) في المشهد الأخير واقفة في الحديقة تحت ضوء القمر فاتحة ذراعها كمسيح جديد، تولد من كلمةٍ وهمٍ، من كلمةٍ كذب ألقاها إليها صديقها وهُما في الزلاجة تهوي بهما في منحدر جليدي: "أحبك ناديا"... وأجد أني كتبت تحت عنوان القصة جملة الشاعر الكوري كوو أون: "الأوهام: إنها رحم الأزهار." لا شك أني فكرت أن هذه الجملة تصلح استهلالا للقصة... بعد الظهيرة فتحت كتاب مختارات شعرية وقرأت فيه مقطوعة شعرية لـ"غوته". قصيدة خطها على باب كوخه الجبلي... ربما كتبها على عجل... وهو يقوم بجولة جبلية أصبحت الآن ضرورية لاسترجاع النور الذي أطفأه حبه الكارثي لشابة تصغره بحوالي خمسين سنة... لقد صور الكاتب الألماني "مارتن فالزر" مأساة "غوته" هذه في روايته "رجل عاشق"... هل كان فالزر قاسيا على غوته... لا أظن أنه كان أقسى عليه من ذلك الحب المر السرابي الذي بدأ نارا وانتهى رمادا عقيما ومِرّة مفرطة القسوة... أستعيد صورة نادينكا التي تجعلها كلمةٌ وهمٌ كائنا جديدا، وصورة غوته في رواية فالزر الذي تهوي به قصة حب حقيقية في مهاوي يأس وقنوط عظيمين. وأعيد الاستماع إلى سوناتة شوبان "ضوء القمر"... تقول القصيدة المنسية على باب كوخ جبلي: فوق كل القممِ هدوء. في أعالي الشجر، لا تكاد تحس نفسا واحدا. الطيور الصغيرة أخلدت للسكينة. وكسا الغابةَ صمت. اِنتظر، أنت أيضا، فقريبا تستريح.
العالم يتهاوى ويخرج الشعر من بتلات وردة ليؤدي مهمته مثل محارب حكيم... ويعيد الشاعر إلى نصابه. السطر الأخير يقول لنا إن الشاعر يعيش نقيض الحال الموصوفة في متن القصيدة. لكننا نبقى في حيرة من الأمر: هل يتشوف الشاعر إلى السكينة التي تغلف الطبيعة أم يتشوف إلى الموت؟ ربما من وضع المراوحة هذا تنبعث جاذبية هذه القصيدة. الإحساس الجمالي إحساس بأن شيئا سيحدث دون أن يحدث. إحساس بالـ"ما بين". في المساء أسترجع مشهد السكينة في قصيدة غوته وأنا أشاهد مشهد سكينة آخر في فيلم عن حياة الموسيقي الروسي تشايكوفسكي للمخرج ديمتري تيومكين. يُنزل الحوذي تشايكوفسكي في الغابة فيهيم على وجهه بروحه المعذبة وسط الأشجار. باسقات رمادية. ولا ورقة. كأنها أشباح طالعة. جذوع عالية مبقعة بخز الرطوبة، ولحاؤها مكسور بالجليد القاطع. تصورها الكاميرا من تحت فتبدو كأنها تتسامق كل ثانية أكثر. وتظهر السماء فوق كأنما تلقي إليها نظرات متوجسة. والسحابات البيضاء القليلة متسارعة تنأى مخافة أن تكشطها رؤوس قضبانها العارية المسننة. الوحشة والسكون في هذا المشهد كاملان تعمقهما موسيقى تشايكوفسكي المصاحبة. موسيقى عنيفة كثيرة التلفت، متحيرة، شكاكة. وتبدو معها الروح والهة عن الطبيعة. ثم تتوقف الموسيقى. ويسود الصمت. ولا نفَس. لكن ما أنأى الصمت في هذا المشهد عن الصمت في قصيدة غوته. والتوحد مع هذه "الطبيعة" يبدو بعيد التحقق. حين تبدو السماء خائفة من السكون، من هذا السكون الرمادي، كيف للإنسان أن يتشوف إلى راحة. يتوقف الموسيقار. وينظر إلى أعالي الشجر. ويتلفظ بجملة بوشكين: "ما من نهاية سعيدة." ويسود الظلام. كان تشايكوفسكي من الآلهة الصغيرة التي يحبها تشيخوف. وكان يمكن أن يكون شخصية لقصص مثل "حكاية مملة" أو "عنبر رقم ستة"... على الأقل تبدو موسيقاه صالحة في صيغة فيلمية أو مسرحية لهاتين القصتين... لكن موسيقى تشايكوفسكي لا تصلح لقصة نادينكا... كنت أفكر أننا لو استخرجنا موسيقى من قصيدة "حافط الشيرازي" التي يقول فيها: "الإنسان ناي الله" لكانت جميلة جدا لقصة نادينكا، وتسمّعتُ هذه الموسيقى المتخيلة مندغمةً بمعزوفة "ضوء القمر" وهي تنبعث من جنبات حديقة ناديا التي تتحول مع الموسيقى إلى بستان... وحين وضعت رأسي على الوسادة، وبدأت الدرس الذي نقضي حياتننا في تعلُّمه:" كيف نذهب في النوم"، شرعت تتصادى في داخلي جملة غوته الأخيرة: "انتظر. أنت أيضا، فقريبا تستريح." مع جملة بوشكين: "ما من نهاية سعيدة." مع جملة أخرى تخرج من الصمت الذي يرعى هاتين الكلمتين، جملة محمد زفزاف التي ينهي بها قصة "الديدان التي تنحني": "لا، لا موت ولا أي شيء. لا أدري. فقط أريد راحة". فقط أريد راحة.
* [قدمت هذه الورقة في ندوة "القصة والأشكال الفنية الأخرى" ، ضمن ملتقى زاكورة القصصي الأخير].
العالم يتهاوى ويخرج الشعر من بتلات وردة ليؤدي مهمته مثل محارب حكيم... ويعيد الشاعر إلى نصابه. السطر الأخير يقول لنا إن الشاعر يعيش نقيض الحال الموصوفة في متن القصيدة. لكننا نبقى في حيرة من الأمر: هل يتشوف الشاعر إلى السكينة التي تغلف الطبيعة أم يتشوف إلى الموت؟ ربما من وضع المراوحة هذا تنبعث جاذبية هذه القصيدة. الإحساس الجمالي إحساس بأن شيئا سيحدث دون أن يحدث. إحساس بالـ"ما بين". في المساء أسترجع مشهد السكينة في قصيدة غوته وأنا أشاهد مشهد سكينة آخر في فيلم عن حياة الموسيقي الروسي تشايكوفسكي للمخرج ديمتري تيومكين. يُنزل الحوذي تشايكوفسكي في الغابة فيهيم على وجهه بروحه المعذبة وسط الأشجار. باسقات رمادية. ولا ورقة. كأنها أشباح طالعة. جذوع عالية مبقعة بخز الرطوبة، ولحاؤها مكسور بالجليد القاطع. تصورها الكاميرا من تحت فتبدو كأنها تتسامق كل ثانية أكثر. وتظهر السماء فوق كأنما تلقي إليها نظرات متوجسة. والسحابات البيضاء القليلة متسارعة تنأى مخافة أن تكشطها رؤوس قضبانها العارية المسننة. الوحشة والسكون في هذا المشهد كاملان تعمقهما موسيقى تشايكوفسكي المصاحبة. موسيقى عنيفة كثيرة التلفت، متحيرة، شكاكة. وتبدو معها الروح والهة عن الطبيعة. ثم تتوقف الموسيقى. ويسود الصمت. ولا نفَس. لكن ما أنأى الصمت في هذا المشهد عن الصمت في قصيدة غوته. والتوحد مع هذه "الطبيعة" يبدو بعيد التحقق. حين تبدو السماء خائفة من السكون، من هذا السكون الرمادي، كيف للإنسان أن يتشوف إلى راحة. يتوقف الموسيقار. وينظر إلى أعالي الشجر. ويتلفظ بجملة بوشكين: "ما من نهاية سعيدة." ويسود الظلام. كان تشايكوفسكي من الآلهة الصغيرة التي يحبها تشيخوف. وكان يمكن أن يكون شخصية لقصص مثل "حكاية مملة" أو "عنبر رقم ستة"... على الأقل تبدو موسيقاه صالحة في صيغة فيلمية أو مسرحية لهاتين القصتين... لكن موسيقى تشايكوفسكي لا تصلح لقصة نادينكا... كنت أفكر أننا لو استخرجنا موسيقى من قصيدة "حافط الشيرازي" التي يقول فيها: "الإنسان ناي الله" لكانت جميلة جدا لقصة نادينكا، وتسمّعتُ هذه الموسيقى المتخيلة مندغمةً بمعزوفة "ضوء القمر" وهي تنبعث من جنبات حديقة ناديا التي تتحول مع الموسيقى إلى بستان... وحين وضعت رأسي على الوسادة، وبدأت الدرس الذي نقضي حياتننا في تعلُّمه:" كيف نذهب في النوم"، شرعت تتصادى في داخلي جملة غوته الأخيرة: "انتظر. أنت أيضا، فقريبا تستريح." مع جملة بوشكين: "ما من نهاية سعيدة." مع جملة أخرى تخرج من الصمت الذي يرعى هاتين الكلمتين، جملة محمد زفزاف التي ينهي بها قصة "الديدان التي تنحني": "لا، لا موت ولا أي شيء. لا أدري. فقط أريد راحة". فقط أريد راحة.
* [قدمت هذه الورقة في ندوة "القصة والأشكال الفنية الأخرى" ، ضمن ملتقى زاكورة القصصي الأخير].