لم تقنعني بالمرة المجادلات الدائرة بشأن مستقبل الصين "كقوة صاعدة". يزعم البعض أن الصين قد اختارت، مرة واحدة وإلى الأبد، "الطريق الرأسمالي"، بل وتنوي تسريع الاندماج في العولمة الرأسمالية المعاصرة. وهؤلاء في أتم السعادة باستنتاجهم هذا ويأملون أن يصاحب هذه "العودة إلى الوضع السويّ" (الرأسمالية بوصفها "نهاية التاريخ") المضي قدمًا نحو ديمقراطية على الطراز الغربي (تعددية حزبية، انتخابات، حقوق إنسان..). ويعتقدون أو هم بحاجة لأن يعتقدوا بإمكانية أن تحقق الصين عبر هذا الطريق "اللحاق" (من حيث دخل الفرد) بالمجتمعات الغنية في الغرب، حتى لو تم هذا بالتدريج.. وهو غير ممكن في اعتقادي. ويؤيد اليمين الصيني وجهة النظر هذه. بينما يستنكرها آخرون باسم قيم "اشتراكية تتعرض للخيانة". بل إن بعض الاشتراكيين يشتركون مع التعبيرات السائدة في الممارسة الغربية لتقريع الصين. ومازال آخرون وأعني بهم من في السلطة في بيجنج- يعرفون الطريق الذي اختاروه بـ "النمط الصيني للاشتراكية" دون أن يتعاملوا مع هذا التعريف بشكل أكثر دقة وتفصيلاً. وإن كان بمقدور المرء استبيان خصائص هذا النمط من خلال القراءة المعمقة للنصوص الرسمية، وبخاصة الخطط الخمسية التي تتصف بالدقة وتنفذ بجدية والتزام.
وفي الحقيقة إن سؤال "هل الصين رأسمالية أم اشتراكية؟" هو سؤال مغلوط وشديد التعميم والتجريد، حتى ليصبح من الصعب الإجابة على هذه الثنائية الإطلاقية. وفي الحقيقة أن الصين كانت تسير في مسار أصيل منذ 1950، وربما منذ ثورة تايبنج في القرن التاسع عشر. وسأحاول هنا توضيح هذا المسار في مختلف مراحل تطوره منذ 1959 حتى اليوم .
المسألة الزراعية
وصف ماو طبيعة الثورة التي يقودها الحزب الشيوعي في الصين بثورة معادية للإمبريالية/ معادية للإقطاع وتتطلع نحو بناء الاشتراكية. ولم يحدث قط أن افترض ماو أنه بعد الانتصار على الإمبريالية والإقطاع سيكون الشعب الصيني قد بنى "المجتمع الاشتراكي". فقد وصف هذا دومًا بأنه المرحلة الأولى على الطريق الطويل إلى الاشتراكية.
ويجب التشديد على الطبيعة الخاصة جدًا لطريقة تعامل الثورة الصينية مع المسألة الزراعية. فلم تتم خصخصة الأراضي (الزراعية) الموزعة، وبقيت في ملكية الأمة ممثلة في الكوميونات القروية، ولاستخدام الأسر الريفية فقط. ولم تكن هذه هي الحالة في روسيا حيث اعترف لينين- المواجه بواقع التمرد الفلاحي عام 1917- بالملكية الخاصة للمستفيدين من توزيع الأراضي. لماذا كان ممكنا في الصين (وفيتنام) تطبيق مبدأ أن الأرض الزراعية ليست سلعة؟ بينما يتردد القول دائمًا بأن الفلاحين في سائر أنحاء العالم يتشوقون إلى الملكية الفردية للأرض. ولو كانت الحال كذلك في الصين لكان قرار تأميم الأرض قد أدى ربما إلى حرب فلاحية لا تعرف النهاية، مثلما حدث مع ستالين عندما بدأ تطبيق المزارع الجماعية الإجبارية في الاتحاد السوفيتي. ولا يمكن تفسير موقف فلاحي الصين وفيتنام (وأماكن أخرى) بـ "تقليد" مزعوم، بمقتضاه لا يعون الملكية. إنما هو نتاج خط سياسي ذكي واستثنائي طبقه الحزبان الشيوعيان في هذين البلدين. كانت الأممية الثانية تعتبر أن طموح الفلاحين الحتمي في الملكية هو من المسلمات، وهو ما يؤكده بما فيه الكفاية واقع أوروبا في القرن التاسع عشر. فخلال الانتقال الطويل الذي عرفته أوربا من الإقطاع إلى الرأسمالية (1500-1800) كانت الأشكال المؤسسية الإقطاعية القديمة للحصول على الأرض من خلال حقوق يشترك فيها الملك والسادة والفلاحون الأقنان، قد تحللت تدريجيًا وحلت محلها الملكية الخاصة البرجوازية التي تتعامل مع الأرض كسلعة يستطيع مالكها أن يتصرف فيها بحرية (بالبيع والشراء). وقبل اشتراكيو الأممية الثانية هذا الأمر الواقع "للثورة البرجوازية"، حتى إن سخطوا عليه. كما فكروا بأنه لا مستقبل للملكية الفلاحية الصغيرة، والتي انتمت لمشروع زراعي مُمَيكن صُمِّم على نموذج الصناعة. ورأوا أن التطور الرأسمالي نفسه سيؤدي إلى تركيز الملكية، ولأكثر أشكال الاستغلال حدة (انظر كتابات كاوتسكي في هذا الصدد). وقد أثبت التاريخ خطأهم. إذ أفسحت الزراعة الفلاحية الطريق أمام الزراعة العائلية بمعنى مزدوج، فمن ناحية هي تنتج للسوق (وأصبح استهلاك المزرعة ضئيلاً نسبيًا)، ومن ناحية أخرى تستخدم الماكينات الحديثة والمدخلات الصناعية والائتمان المصرفي. وأكثر من ذلك، تحولت الزراعة العائلية الرأسمالية إلى زراعة بالغة الكفاءة مقارنة بالمزارع الكبيرة، من حيث حجم إنتاج الهكتار وحجم إنتاج العامل في السنة. ولا تنفي هذه الملاحظة حقيقة استغلال فلاح الرأسمالية الحديثة من جانب رأس المال الاحتكاري المعمم، الذي يتحكم من المنبع في المدخلات والائتمان، مثلما يتحكم في تسويق المنتجات. وقد تحول أولئك الفلاحون إلى مقاولين من الباطن لرأس المال السائد.
وهو ما أغرى (خطأً) باستنتاج أن المشروع الكبير هو أكثر كفاءة دائمًا من المشروع الصغير في كل القطاعات (الصناعة، الخدمات، والزراعة)، فأكد الاشتراكيون الراديكاليون في الأممية الثانية أن تصفية ملكية الأراضي (تأميم الأرض) ستسمح بخلق مزارع اشتراكية كبيرة تشبه السوفخوزات (مزارع الدولة) والكولخوزات (المزارع التعاونية) التي عرفها الاتحاد السوفيتي فيما بعد. بيد أنهم لم يتمكنوا من وضع هذه الاستنتاجات موضع الاختبار حيث لم تكن الثورة وقتها على جدول الأعمال في بلدانهم (المراكز الإمبريالية).
وقد قبل البلاشفة هذه الأطروحات حتى عام 1917. وشرعوا في تأميم الضياع الكبيرة المملوكة للأرستقرطية الروسية، وترك أراضي المشترك القروي للفلاحين. غير أنهم فوجئوا فيما بعد بالتمرد الفلاحي الذي استولى على الضياع الكبيرة.
استخلص ماو الدروس من هذا التاريخ، وصاغ خطًا مغايرًا تمامًا للفعل السياسي. فبدءًا من الثلاثينيات، وتحديدًا في جنوب الصين أثناء حرب التحرير الأهلية الطويلة، أسس ماو الوجود المتزايد للحزب الشيوعي على تحالف صلب مع الفلاحين الفقراء والمعدمين (الأغلبية)، وحافظ على علاقات ودية مع الفلاحين المتوسطين، بينما انعزل عن الفلاحين الأغنياء في كل مراحل الحرب دون أن يدخل في عداء معهم بالضرورة. وأعد نجاح هذا الخط الأغلبية الكبيرة من سكان الريف لإدراك والقبول بان حل مشكلاتهم لا يتطلب الملكية الخاصة لقطعة من الأرض، يحصل عليها عن طريق عملية للتوزيع. وأعتقد أن لأفكار ماو وتطبيقها الناجح جذورًا تاريخية في ثورة تايبنج في القرن التاسع عشر. وهكذا نجح ماو في تحقيق ما فشل فيه البلاشفة: أي إقامة تحالف صلب مع الأغلبية الريفية الساحقة. وقد تسببت وقائع صيف 1917 في القضاء على فرص التحالف مع الفلاحين الفقراء والمتوسطين ضد الفلاحين الأغنياء (الكولاك)، وذلك لأن الفلاحين الفقراء والمتوسطين كانوا حريصين على حماية الملكية الخاصة المكتسبة، ومن ثم فضلوا السير وراء الكولاك وليس البلاشفة. وتمنعنا هذه "الخصوصية الصينية"- بنتائجها بالغة الأهمية- منعًا باتًا من توصيف الصين المعاصرة (حتى 2012) بأنها "رأسمالية"، لأن الطريق الرأسمالي يقوم على تحويل الأرض إلى سلعة.
الإنتاج الصغير حاليًا ومستقبلاً
مع ذلك بمجرد قبول ذلك المبدأ يمكن أن تختلف تمامًا أشكال استغلال هذا الأصل العام (الأرض) في المجتمعات القروية. وكي نفهم هذا يجب أن نفصل بين الإنتاج الصغير والملكية الصغيرة. لقد سيطر الإنتاج الصغير (الفلاحي والحرفي) على الإنتاج في جميع المجتمعات الماضية. كما احتفظ بمكانة خاصة في الرأسمالية الحديثة، ويرتبط الآن بالملكية الصغيرة في الزراعة والخدمات وحتى بعض قطاعات الصناعة. وهي تنحسر الآن بالتأكيد في الثالوث المسيطر على العالم المعاصر (الولايات المتحدة، أوربا، اليابان). ومن أمثلة ذلك: اختفاء كل الأعمال الصغيرة وحلول العمليات التجارية الكبيرة محلها. بيد أنني لا أقول إن هذا التغير هو "تقدم"، حتى من منظور الكفاءة، فالأمر أعقد من هذا إذا أخذنا في الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والثقافية والحضارية. وفي الحقيقة هو مثال على التشويه الذي تحدثه سيطرة الاحتكارات الريعية. ومن هنا نقول إنه ربما يستعيد الإنتاج الصغير مكانته وأهميته في اشتراكية المستقبل. وعلى أية حال يحتفظ الإنتاج الصغير (وهو غير مرتبط حكمًا بالملكية الصغيرة) في الصين المعاصرة بمكانة هامة في الإنتاج الوطني، ليس في الزراعة وحدها، وإنما في سائر قطاعات الحياة الحضرية كذلك. ولقد خبرت الصين أشكالًا شديدة التنوع، بل وحتى التناقض، لاستخدام الأرض كسلعة عامة. وما أحوجنا لأن نناقش- من ناحية- مسألة الكفاءة (حجم إنتاج العامل/ سنة من الهكتار) ، ومن ناحية أخرى: ديناميات التحولات الجارية. ويمكن لأشكال الاستخدام هذه أن تقوي الاتجاهات نحو التنمية الرأسمالية، وهو ما يضع محل التساؤل الوضعية غير السلعية للأرض، وإمكان أن تصبح جزءًا من التطور في الاتجاه الاشتراكي. لا يمكن الإجابة على مثل هذه الأسئلة سوى من خلال التحري الملموس لأشكال الاستخدام كما طُبقت في المراحل المتعاقبة للتطور الصيني من 1950 حتى اليوم.
في الخمسينيات كان الشكل المعتمد هو الإنتاج العائلي الصغير مصحوبًا بأشكال بسيطة من التعاون في إدارة الري، وهو عمل يتطلب تنسيقًا واستخدام أنواع معينة من المعدات. كذلك أدى إدخال الإنتاج العائلي الصغير إلى الحفاظ على احتكار شراء المنتجات الموجهة للسوق، وكذا الائتمان والمدخلات، وكل هذا على أساس الأسعار المخططة (بواسطة المركز). كانت تجربة الكوميونات التي أعقبت إنشاء تعاونيات إنتاجية في السبعينيات مليئة بالدروس. فلم تكن بالضرورة مسألة تحول من الإنتاج الصغير إلى المزارع الكبيرة، بالرغم من الفكرة القائلة بتفوق المزارع الكبيرة والتي اعتنقها بعض مؤيديها. نشأت أسس هذه المبادرة من الطموح في بناء اشتراكي لا مركزي. لم تقتصر مهمة الكوميونات على إدارة الإنتاج الزراعي بقرية كبيرة أو مجموعة من القرى والنجوع (كان هذا التنظيم نفسه مزيجًا من الإنتاج العائلي الصغير والإنتاج المتخصص الأكثر طموحًا) ولكن مسئوليتها شملت أيضًا: توفير إطار للأنشطة الصناعية التي تشغل الفلاحين في مواسم بعينها، الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية المتمفصلة مع الخدمات الاجتماعية (التعليم، الصحة، الإسكان)، كما بدأ تنفيذ اللامركزية في الإدارة السياسية للمجتمع. فمثلما انتوت كوميونة باريس، كان على الدولة الاشتراكية أن تصبح- جزئيًا على الأقل- اتحادًا بين الكوميونات الاشتراكية.
ولا شك أن الكوميونات كانت سابقة لعصرها في كثير من النواحي، ولم تسر الأمور بسلاسة دائمًا فيما يتصل بالجدل بين لا مركزية سلطات صنع القرار وبين المركزية الطاغية للحزب الشيوعي الصيني. غير أن النتيجة المحققة جاءت أبعد ما تكون عن وصفها بالكارثية كما يظن اليمين. ففي كوميونة في إقليم بيجنج قاومت حل النظام، تَواصل تسجيل نتائج اقتصادية ممتازة مرتبطة باستمرار المجادلات السياسية الراقية، وهو ما اختفى في أماكن أخرى. وبالنسبة للمشروعات الحالية (1912) التي تطبقها المجتمعات المحلية "لإعادة بناء الريف" في عديد من الأقاليم الصينية، فمن الواضح أنها تستلهم تجربة الكوميونات.
أدى قرار دنج سياو بينج بحل الكوميونات عام 1980 إلى تقوية الإنتاج العائلي الصغير، والذي استمر كالشكل السائد خلال العقود الثلاثة التالية لهذا القرار (1980-2012). غير أن نطاق حقوق المستخدمين (للكوميونات القروية والوحدات العائلية) قد اتسع إلى حد كبير. وقد أصبح ممكناً لحائزي تلك الأراضي استغلال هذا الحق "بتأجير الأرض" (وليس "بيعها") إما إلى منتجين صغار- مما يسهل الهجرة إلى المدن وبخاصة هجرة الشباب المتعلم الذي لا يريد أن يظل مقيمًا بالريف- أو إلى شركات تدير مزارع أكبر وأحدث (وهي لم تكن لاتيفونديا قط، وهو الشكل الذي لم تعرفه الصين، لكنها كانت أكبر بكثير من المزارع العائلية). وكان هذا الشكل وسيلة لتشجيع الإنتاج المتخصص (مثل النبيذ الفاخر الذي استدعت له الصين خبراء من بورجندي) ولاختبار أساليب علمية جديدة (النباتات والكائنات المعدلة وراثياً وغيرها). في رأيي أن "الموافقة" أو "رفض" تنوع هذه النظم مسبقًا لم يكن له معنى. ومن المهم القيام بتحليل ملموس لكل منها، سواء للتصميم أم لواقع التطبيق. وتبقى حقيقة أن التنوع الخلاق لأشكال الاستخدام للأرض موضع حيازة عامة قد أدى إلى نتائج مدهشة. يتعلق أولها بالكفاءة الاقتصادية، فعلى الرغم من نمو سكان الحضر من 20% إلى 50% من إجمالي السكان، نجحت الصين في زيادة الإنتاج الزراعي لمواكبة الاحتياجات الضخمة للتوسع الحضري. وهي نتيجة ملفتة واستثنائية لا نظير لها في بلدان الجنوب "الرأسمالية". وهو ما قوى وحافظ على الاستقلال الغذائي، على الرغم مما تعانيه من معوقات كبرى: فالزراعة الصينية تغذي 22% من سكان العالم على نحو معقول، بينما لا تملك سوى 6% من الأراضي الصالحة للزراعة عالميًا. يضاف إلى هذا أنه لم يعد هناك شيء مشترك بين القرية الصينية وبين الذي مازال سائدًا في بقية العالم الثالث الرأسمالي. فهناك اختلاف كبير بين الحياة المريحة المستقرة في الريف الصيني اليوم وبين تاريخية حالة الجوع والفقر المدقع هناك، بل ومقارنةً بأشكال الفقر المتطرفة التي مازالت سائدة في الريف الهندي أو الأفريقي. وتقف المبادئ والسياسات المطبقة (الحيازة الجماعية للأرض، دعم الإنتاج الصغير دون الملكية الصغيرة) وراء هذه النتائج المتباينة. فهي التي جعلت من الممكن التحكم نسبيًا في الهجرة من الريف إلى الحضر. قارن هذا بالطريق الرأسمالي في البرازيل على سبيل المثال. فقد أدت الملكية الخاصة للأراضي الزراعية في البرازيل إلى تفريغ ريفها، فلا يقطنه اليوم سوى 11% فقط من السكان. لكن أكثر من 50% من سكان الحضر يعيشون في عشوائيات (مدن الصفيح) ويحافظون على بقائهم بفضل "الاقتصاد غير الرسمي" (بما فيه الجريمة المنظمة). بينما لا يوجد شيء مشابه في الصين، حيث يعمل ويسكن سكان الحضر- في مجملهم- على نحو ملائم، حتى بالمقارنة مع كثير من "البلدان الصناعية المتقدمة"، ناهيك عن ذكر البلدان التي يقارب نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها مستوى نظيره في الصين. إن انتقال السكان من الريف الصيني بالغ الكثافة السكانية (ولا تماثله إلا حالات فيتنام وبنجلاديش ومصر) هو من الأمور الضرورية. وقد نجحت الصين في تحسين أوضاع الإنتاج الصغير بالريف ما أتاح المزيد من الأرض. ورغم التحكم الرسمي في ذلك الانتقال (نؤكد ثانية أن تاريخ الإنسانية لم يعرف الكمال، سواء في الصين أم في أي مكان آخر) فربما يكتنفه خطر أن يجري بسرعة زائدة للغاية. وهو موضوع مطروح للنقاش في الصين.
رأسمالية الدولة الصينية
تعتبر رأسمالية الدولة هي أول ما يقفز إلى الذهن عند محاولة وصف الواقع الصيني. لكن هذا التوصيف يبقى غامضًا وسطحيًا ما لم يتم تحليل محتواه. إنها حقًا رأسمالية من زاوية أن العلاقة التي يتم بها إخضاع العمال للسلطات المنظمة للإنتاج تشابه تلك العلاقة التي تسم الرأسمالية: عامل خاضع ومستلب، واستخلاص العمل الفائض. ومازال موجودًا في الصين أشكال مختلفة للاستغلال الزائد للعمال في الصين، مثلما في مناجم الفحم أو الورش المشغلة للنساء. وهو أقرب للفضيحة بالنسبة لبلد يزعم أن يريد المضي قدمًا على الطريق إلى الاشتراكية. بيد أن تأسيس نظام رأسمالية دولة أمر لا يمكن تجنبه، وسوف يظل الوضع هكذا في كل بلد. فالبلدان الرأسمالية المتطورة نفسها لن تستطيع الدخول في طريق الاشتراكية (وهو ما ليس مطروحًا على الأجندة المرئية اليوم) دون المرور بهذه المرحلة الأولى في إطار سعي أي مجتمع لتحرير نفسه من الرأسمالية التاريخية على الطريق الطويل إلى الاشتراكية/ الشيوعية. إن تشريك وإعادة تنظيم المنظومة الاقتصادية على كل مستوياتها، من الشركة (الوحدة الأولية)، للأمة، للعالم، يحتاج إلى نضال طويل يستغرق حقبة زمنية تاريخية ليس بالإمكان تقصيرها لمجرد توافر الإرادة. بعد هذه الفكرة الأولية، يجب أن نصف رأسمالية الدولة على نحو ملموس، عن طريق استيضاح طبيعة ومشروع الدولة المعنية، لأنه لا يوجد نمط واحد لرأسمالية الدولة، وإنما أنماط مختلفة كثيرة. فمثلاً استهدفت رأسمالية الدولة أثناء الجمهورية الرابعة في فرنسا (1958-1975) خدمة ودعم الاحتكارات الفرنسية الخاصة، وليس وضع البلد على طريق الاشتراكية.
أما رأسمالية الدولة الصينية فقد بُنيت لتحقيق ثلاثة أهداف:
(1) بناء منظومة صناعية حديثة، متكاملة ومستقلة.
(2) إدارة علاقة هذه المنظومة مع الإنتاج الريفي الصغير.
(3) التحكم في اندماج الصين في النظام العالمي، الذي تسيطر عليه احتكارات الثالوث الإمبريالي (الولايات المتحدة، أوربا، اليابان).
لم يكن هناك مفر من التمسك بهذه الأهداف الثلاثة ذات الأولوية عما عداها. وهو ما سمح بإمكانية التقدم على الطريق الطويل نحو الاشتراكية، لكنه في الوقت نفسه يقوي الاتجاهات للابتعاد عن هذه الإمكانية لصالح انتهاج تنمية رأسمالية نقية وبسيطة. ويجب التسليم بأن هذا الصراع حتمي وحاضر دائمًا. ومن ثم يكون السؤال هو: لصالح أي من الطريقين تعمل الخيارات الصينية الملموسة؟
اقتضت رأسمالية الدولة الصينية في مرحلتها الأولى (1954-1980) تأميم جميع الشركات الكبيرة والصغيرة على السواء (مصحوبًا بتأميم الأراضي الزراعية). ثم تبع ذلك انفتاح على المشروع الخاص الوطني و/أو الأجنبي، وتحرير (لبرلة) الإنتاج الصغير في الريف والحضر (الشركات والتجارة والخدمات من الحجم الصغير). غير أن الصناعات الرئيسية الكبرى والمنظومة الائتمانية التي أقيمت في الحقبة الماوية لم يتم التراجع عن تأميمها، حتى في حالة تعديل الأشكال التنظيمية لاندماجها في اقتصاد "السوق".
مضى هذا الخيار جنبًا إلى جنب مع إنشاء أشكال للرقابة على المبادرة الخاصة والمشاركة المحتملة مع رأس المال الأجنبي. ويتبقى أن نرى إلى أي مدى أوفت هذه الوسائل بوظائفها المحددة، أم أنها على العكس من ذلك لم تعدو أن تكون هياكل فارغة، وأن اليد العليا قد أصبحت للتواطؤ مع رأس المال (من خلال "فساد" الإدارة). يبقى الإقرار بأن ما أنجزته رأسمالية الدولة الصينية في الفترة 1950-2012 مدهش تمامًا وبكل المقاييس. فقد نجحت في بناء منظومة إنتاجية حديثة متكاملة ومستقلة بحجم هذا البلد الكبير جدًا، ولا يمكن مقارنته بالولايات المتحدة. كما نجحت في أن تخلف وراءها التبعية التكنولوجية الشديدة عند نشأتها (استيراد النماذج السوفيتية ومن أوربا الغربية) عن طريق تطوير قدراتها الخاصة على لإنتاج الابتكارات التكنولوجية. بيد أنها لم تبدأ (بعد؟) إعادة تنظيم قوة العمل من منظور تشريك الإدارة الاقتصادية. ومازالت "الخطة"- وليس "الانفتاح"- هي الوسيلة الرئيسية لتطبيق هذا البناء المنهجي. ظلت الخطة طوال فترة تخطيط التنمية الماوية هي الحافز وراء كل التفاصيل: طبيعة وموقع المؤسسات الجديدة، أهداف الإنتاج، الأسعار.. في تلك الفترة لم يكن هناك بديل معقول آخر عن ذلك. وسأتطرق هنا- دون استفاضة- للجدل المهم حول طبيعة قانون القيمة الذي حكم التخطيط في هذه الفترة. تطلب النجاح الكبير- وليس الفشل- في تلك الفترة تغيير الوسائل لاتباع مشروع للتنمية المتسارعة. فكان من الضروري "الانفتاح" على المبادرة الخاصة (الذي بدأ في الثمانينيات، ثم في التسعينيات بدرجة كبيرة) لتجنب الركود المميت الذي سبق أن أصاب الاتحاد السوفيتي. وبالرغم من حقيقة تزامن هذا الانفتاح مع الانتصار المعولم للنيوليبرالية- مع كل التأثيرات السلبية لهذا التزامن وهو ما سأعود إليه لاحقًا- فإن خيار "اشتراكية السوق"، أو ربما كان من الأفضل القول "الاشتراكية مع السوق"، كخيار أساسي لهذه الحقبة الثانية من التنمية المتسارعة، هذا الخيار كان مبررًا إلى حد كبير في رأيي.
مرة ثانية: جاءت نتائج هذا الخيار مدهشة. ففي غضون عقود قليلة تمكنت الصين من إنجاز عملية توسع حضري منتجة وصناعية، تضم 600 مليون إنسان، جاء ثلثاهم إلى المناطق الحضرية خلال العقدين الماضيين (أي ما يعادل سكان أوربا تقريبًا!). ويرجع هذا إلى "الخطة" وليس إلى السوق. وتوجد في الصين الآن منظومة إنتاجية مستقلة حقًا. ولم ينجح أي بلد آخر في الجنوب (فيما عدا كوريا وتايوان) في بناء مثل هذه القاعدة. فبالنسبة للهند والبرازيل لا يوجد سوى عناصر متناثرة- لا أكثر- لمشروع مستقل من هذا النوع.
وقد حدثت تحولات على أساليب تصميم وتطبيق الخطة في ظل هذه الشروط الجديدة. ولا تزال الخطة تركز على الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية التي يحتاجها المشروع: إسكان 400 مليون قاطن جديد في المدن وبشروط مناسبة، بناء شبكة لا نظير لها من الطرق السريعة والعادية والسكك الحديدية والسدود ومحطات الكهرباء، الانفتاح على معظم إن لم يكن كل الريف الصيني، تحويل مركز ثقل التنمية من الأقاليم الساحلية إلى الغرب القاري. كما تحافظ الخطة على اهتمامها- جرئيًا على الأقل- بأهداف المشروعات المملوكة للدولة ومواردها المالية (على المستوى الوطني أو الإقليمي أو البلديات). وبالنسبة لبقية الأهداف فهي الأهداف الممكنة والمحتملة للتوسع في الإنتاج السلعي الصغير بالحضر، وكذا الإنتاج الصناعي وغيره من الأنشطة الخاصة. ويتم التعامل مع هذه الأهداف بمنتهى الجدية، وتُرصد الموارد اللازمة لتحقيقها. وبوجه عام ليست النتائج مختلفة كثيرًا عن التوقعات "المخططة". وقد اندمجت رأسمالية الدولة الصينية مع الأبعاد الاجتماعية (ولا أقول "الاشتراكية") المعلنة لمشروع التنمية. وكانت هذه الأهداف حاضرة بالفعل في العهد الماوي: القضاء على الأمية، توفير الرعاية الصحية للجميع،..الخ. وساد في الجزء الأول من فترة ما بعد الماوية (التسعينيات) اتجاه واضح لإهمال المضي في هذه الجهود. ولكن يجب ملاحظة أن البعد الاجتماعي للمشروع قد استعاد مكانته مرة أخرى، استجابةً للحركات الاجتماعية النشيطة والقوية، ومن المتوقع أن تزداد قوة هذا التوجه في المستقبل. ولا يوجد نظير في أي من بلدان الجنوب لعملية التوسع الحضري التي شهدتها الصين. ومن المؤكد أن هناك أحياء "راقية" وأحياء أخرى ليست غنية على الإطلاق، ولكن لا توجد توجد عشوائيات مثل تلك المستمرة في الانتشار في مدن العالم الثالث.
اندماج الصين في العولمة الرأسمالية
لا نستطيع المضي في تحليل رأسمالية الدولة الصينية (وتسميها الحكومة: "اشتراكية السوق") دون أن نأخذ في الاعتبار اندماجها في العولمة.
كان لدى الكتلة السوفيتية تصور لفك الارتباط مع المنظومة الرأسمالية العالمية، ويصحبه بناء منظومة اشتراكية متكاملة تضم الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية. وحقق الاتحاد السوفيتي فك الارتباط هذا إلى حد كبير، والذي فرضه أيضًا عداء الغرب له والذي بلغ حد الحصار وفرض العزلة عليه. غير أن مشروع إدماج أوربا الشرقية لم يذهب بعيدًا قط، على الرغم من مبادرات الكوميكون. إذ ظلت بلدان أوربا الشرقية في أوضاع غير مؤكدة وضعيفة، حيث فكت الارتباط جزئيًا- ولكن على أساس وطني صارم- كما انفتحت جزئيًا على أوربا الغربية بدءًا من السبعينيات. ولم تُطرح قط مسألة تكامل سوفيتي- صيني، ليس فقط بسبب عدم تقبل القومية الصينية لذلك، ولكن السبب الأكبر كان عدم وجود هذه المهمة ضمن الأولويات الصينية. وقد مارست الصين الماوية عدم الارتباط على طريقتها. فهل ينبغي القول أنها مع إعادة إدماج نفسها في العولمة في التسعينيات قد تنكرت تمامًا ونهائيًا لفك الارتباط؟
دخلت الصين العولمة في التسعينيات عن طريق التنمية المتسارعة لصادرات السلع المصنعة بفضل ما تمتلكه من منظومة إنتاجية، وإعطاء الأولوية التي كانت معدلات نموها وقتذاك تتجاوز معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي. وقد ساعد انتصار النيوليبرالية على نجاح هذا الخيار على مدى خمسة عشر عامًا (1990-2005). وهو الخيار الذي كان محل خلاف، ليس فقط بسبب آثاره السياسية والاجتماعية، وإنما أيضًا بسبب الانهيار الداخلي الذي شهدته الرأسمالية المعولمة النيوليبرالية بدءًا من العام 2007. ويلوح أن الحكومة الصينية واعية بذلك، حيث بدأت مساعي التصحيح مبكرًا وأعطت اهتمامًا أكبر للسوق الداخلية، وللتنمية في غرب الصين. ومما يثير الاشمئزاز القول بأن نجاح الصين يجب نسبته إلى التخلي عن الماوية (التي كان "فشلها" واضحًا) وكذلك السخافة المحضة في نسبة النجاح إلى الانفتاح على الخارج ودخول رأس المال الأجنبي. ينما عملية البناء الماوية هي التي وضعت الأسس التي بدونها ما كان الانفتاح قد حقق نجاحه الباهر. ويتبين هذا بالمقارنة مع الهند التي لم تقم بثورة يمكن المقارنة معها. أما القول بأن نجاح الصين يرجع أساسًا (وحتى "بالكامل") إلى مبادرات رأس المال الأجنبي فليس أقل من سفاهة. فلم يكن رأس المال متعدد القوميات هو من بنى المنظومة الصناعية الصينية وأنجز أهداف التوسع الحضري وتشييد البنية التحتية. ويمكن نسبة 90% من النجاح إلى المشروع الصيني المستقل. ومن المؤكد أن رأس المال الأجنبي قد قام بوظائف مفيدة مثل زيادة استيراد التكنولوجيات الحديثة. غير أن الصين استطاعت من خلال أساليب المشاركة استيعاب هذه التكنولوجيات وأصبحت متمكنة من تطويرها الآن. ولا يوجد شئ مماثل لهذه التجربة في أي بلد آخر، حتى في الهند أو البرازيل، ومن باب أولى: تايلاند وماليزيا وجنوب أفريقيا وغيرها.
يضاف إلى هذا أن اندماج الصين في العولمة ظل على أي حال جزئيًا ومتحكَّم فيه (أو قابل للتحكم على الأقل). كما بقيت الصين خارج العولمة المالية. فنظامها المصرفي وطني بالكامل ويركز على سوق الائتمان الداخلية. ولا يزال اليوان مسألة تخص صناعة القرار الصيني المستقل. وهو ليس خاضعًا للتقلبات الشديدة المرتبطة بالعولمة المالية. فتستطيع بيجنج أن تقول لواشنطن: "اليوان عملتنا ومسألة تخصنا"، بالضبط مثلما قالت واشنطن للأوربيين عام 1971: "الدولار عملتنا ومسألة تخصنا". وفوق هذا تحتفظ الصين باحتياطي كبير جاهز لنشره في منظومة الائتمان العام. أما الدين العام فهو ضئيل مقارنةً بمعدلات المديونية التي تنوء بها الولايات المتحدة وأوربا واليابان وكثير من بلدان الجنوب. وبإمكان الصين التوسع أكثر في الإنفاق العام دون المخاطرة بتضخم كبير. إن اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية- الذي استفادت منه الصين- لم يكن وراء نجاح مشروعها. بل على العكس تمامًا كان نجاح هذا المشروع هو ما جعل الصين جاذبة للشركات الغربية متعدية القوميات. أما بلدان الجنوب التي فتحت أبوابها بدرجة أوسع بكثير من الصين، وقبلت الخضوع دون شروط للعولمة المالية، فلم تستطع جذب رؤوس الأموال الأجنبية بنفس الدرجة. بل إن رأس المال متعدي القوميات لم تجذبه للصين موارد طبيعية يرغب في نهبها، أو تصدير العمليات للصين- دون نقل أي تكنولوجيا- للاستفادة من أجور العمال المنخفضة، أو الحصول على فوائد من تدريب وإدماج الوحدات المنقولة للخارج غير المرتبطة بنظم إنتاجية وطنية كما الحال في المغرب وتونس، أو حتى القيام بغارات مالية والسماح للبنوك الإمبريالية بالاستحواز على المدخرات الوطنية كما في حالة المكسيك والأرجنتين وجنوب شرق آسيا. على العكس من هذا كله يمكن للاستثمارات الأجنبية الاستفادة بالتأكيد من الأجور المنخفضة وتحقيق أرباح جيدة، شرط أن تكون خططها ملائمة للخطط الصينية وتسمح بنقل التكنولوجيا. باختصار هي مزايا "طبيعية"، ولكن يمكن تحقيق ما هو أكثر إذا حدث تواطؤ مع سلطات صينية!
الصين : قوة صاعدة
لا أحد يستطيع التشكيك في كون الصين قوة صاعدة. وتقول فكرة متداولة أن الصين تحاول استعادة المكانة التي احتلتها لقرون ولم تفقدها إلا في القرن التاسع عشر. بيد أن هذه الفكرة- الصحيحة بالتأكيد والمرضية للذات- لا تساعدنا كثيرًا في فهم طبيعة هذا الصعود وآفاقه الواقعية في العالم المعاصر. وقد تصادف أن من يروجون لهذه الفكرة العامة والغامضة لم يهتموا بنظر ما إذا كانت الصين ستصعد وفق الالتزام بالمبادئ العامة للرأسمالية (وهو ما يعتبرونه ضروريًا) أم ستلتزم حقًا بمشروعها عن "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية". من جانبي أرى أن كون الصين قوة صاعدة فإن هذا يرجع في الحقيقة وعلى وجه الدقة لأنها لم تختر طريقًا في التطور يتسم بطابع رأسمالي خالص وبسيط، وأنها- نتيجة لذلك- إن قررت انتهاج ذلك الطريق الرأسمالي فإن مشروع الصعود نفسه سوف يواجه خطر السقوط. إن الأطروحة التي أؤيدها تقتضي رفض فكرة أن الشعوب تستطيع القفز فوق التسلسل الضروري للمراحل، ومن ثم لا بد أن تمر الصين بالطور الرأسمالي قبل بحث مسألة مستقبلها الاشتراكي الممكن. لكن الجدل حول تلك المسألة بين مختلف اتجاهات الماركسية التاريخية لم ينته قط إلى نتيجة محددة. فقد ظل ماركس مترددًا إزاء المسألة. ونحن نعرف أنه كتب بعد الاعتداءات الأوربية الأولى مباشرة (حروب الأفيون): "في المرة القادمة التي ترسلون جيوشكم للصين سوف يرحبون بكم بلافتة (انتبه، أنت على حدود جمهورية الصين البرجوازية)". وهو حدس رائع ويبين الثقة في قدرة الشعب الصيني على مواجهة التحدي، ولكنه في الوقت نفسه ينطوي على خطأ لأن المكتوب حقًا على اللافتة "أنت على حدود جمهورية الصين الشعبية". لكننا نعرف أن ماركس لم يرفض فكرة تخطي المرحلة الرأسمالية بالنسبة لحالة روسيا (انظر مراسلاته مع فيرا زاسوليتش). واليوم ربما يميل المرء إلى اعتبار أن ماركس الأول كان محقًا وأن الصين في الحقيقة على طريق التطور الرأسمالي. لكن ماو فهم على نحو أفضل من لينين أن الطريق الرأسمالي لن يقود إلى شيء وأن إحياء الصين سيكون من عمل الشيوعيين وحدهم. وكان أباطرة كنج في نهاية القرن التاسع عشر، وتبعهم صن يات سن والكيومنتانج قد خططوا بالفعل لإحياء الصين في مواجهة تحدي الغرب. غير أنهم لم يتصورا طريقًا لهذا غير الرأسمالية ولم تكن لديهم القدرة الفكرية الكافية لفهم ما تعنيه الرأسمالية حقًا، وأن هذا الطريق مغلق أمام الصين مثلما هو مغلق أمام كل تخوم المنظومة الرأسمالية. وهو ما فهمه ماو بروحه الماركسية المستقلة. أكثر من هذا فهم ماو أن هذه المعركة لن يتحقق فيها النصر مبكرًا- بانتصار 1949- وأن الصراع بين الالتزام بالطريق الطويل نحو الاشتراكية- وهو الشرط الضروري لنهضة الصين- وبين العودة إلى حظيرة الرأسمالية.. سوف يستغرق المستقبل المرئي بأكمله.
وقد شاركت دائمًا تحليل ماو وسوف أعود إلى هذا الموضوع عند عرض بعض أفكاري عن دور ثورة التايبنج (التي أعتبرها الأصل العميق للماوية، ثورة 1911 في الصين وغيرها من ثورات الجنوب أوائل القرن العشرين) والجدالات عند بداية فترة باندونج وتحليل الطرق المسدودة التي واجهتها ما تسمى البلدان الناشئة في الجنوب التي انتهجت الطريق الرأسمالي. وتعتبر كل هذه الاعتبارات بمثابة بديهيات في أطروحتى الرئيسية عن الاستقطاب (أي مقولة التناقض بين المركز والأطراف) المتأصل في التطور العالمي للرأسمالية التاريخية. ويقضي هذا الاستقطاب على إمكانية أن يحقق بلد من بلدان الأطراف "اللحاق" في ظل سياق الرأسمالية. ومن هنا يكون الاستنتاج أنه: لما كان "اللحاق" بالبلدان المتقدمة مستحيلاً، فإنه يجب القيام بشيء ما آخر، أي ما يسمى اتباع الطريق الاشتراكي. لم تنهج الصين مسارًا خاصًا منذ 1980 فحسب، وإنما منذ 1950، رغم أن هذا المسار قد مر بمراحل مختلفة من جوانب كثيرة. وقد طورت الصين مشروعًا متماسكًا ومستقلاً وبما يناسب احتياجاتها. وهو لم يكن الرأسمالية بكل تأكيد، ذلك لأن المنطق الرأسمالي يتطلب التعامل مع الأراضي الزراعية كسلعة. ويظل هذا المشروع مستقلاً بقدر ما تبقى الصين خارج العولمة المالية المعاصرة.
إن حقيقة كون المشروع الصيني غير رأسمالي لا تعني أنه اشتراكي "بالفعل"، وإنما تعنى فقط أن المشروع يجعل من الممكن التقدم على الطريق الطويل المؤدي للاشتراكية. ومع ذلك يظل هذا المشروع مهددًا بانحراف قد يخرجه من ذلك الطريق وينتهي بعودة واضحة وصريحة إلى الرأسمالية.
لقد كان صعود الصين الناجح نتيجة لمشروعها المستقل وحده. بهذا المعنى كانت الصين البلد الصاعد الأصيل الوحيد (إلى جانب كوريا وتايوان اللتين سنتحدث عنهما أكثر فيما بعد). وقد منح البنك الدولي الكثير من البلدان الأخرى شهادات بالصعود، رغم أن أيًا منها لا يمكن اعتباره صاعدًا، لأنها لم تتبع مشروعًا مستقلاً ومتماسكًا. فجميعها يشترك في المبادئ الواضحة للرأسمالية، حتى فيما يتعلق بقطاعات رأسمالية الدولة فيها. كما قبلت جميعًا الخضوع للعولمة المعاصرة بكل أبعادها، بما فيها العولمة المالية. وتُستثنى روسيا والهند جزئيًا من النقطة الأخيرة، على العكس من البرازيل وجنوب أفريقيا وغيرهما. وقد توجد في بعض الحالات "سياسة صناعية وطنية" ولكنها لا تقارن بالمشروع الصيني المتسق لبناء منظومة صناعية صناعية مستقلة، كاملة ومتكاملة (وخاصة في مجال الخبرة التكنولوجية).
لكل هذه الأسباب يكون من قبيل التسرع وصف تلك البلدان الأخرى بالصاعدة، حيث تظل منكشفة دائمًا- بدرجات مختلفة طبعًا- بدرجة أكبر بكثير من الصين. كما ترتبط مظاهر الصعود السطحية (معدلات نمو مرتفعة، قدرة على تصدير المنتجات المصنعة) في تلك البلدان ارتباطًا دائمًا بعمليات الإفقار التي تلحق بغالبية السكان (الفلاحين على وجه الخصوص) على العكس تمامًا من الحال في الصين. ومن المؤكد أن نمو عدم المساواة أمر واضح في جميع البلدان بما فيها الصين، لكن هذه الملاحظة تظل سطحية وخادعة. فهناك فرق بين اللامساواة في توزيع فوائد نموذج للنمو لا يستبعد أحدًا (بل حتى يصاحبه تقلص جيوب الفقر- كما في حالة الصين) وبين اللامساواة المرتبطة بنمو لا يفيد منه إلا أقلية (من 5% إلى 30% من السكان حسب الحالة) بينما يستمر مصير الآخرين بائسًا. لكن المداومين على تقريع الصين ليسوا على دراية- أو يتظاهرون بعدم الدراية- بهذا الفرق الحاسم.
فعدم المساواة الواضح من وجود الأحياء ذات الفيلاّت الفخمة من ناحية، والأحياء ذات الإسكان المريح للطبقتين الوسطى والعاملة من ناحية أخرى.. ليس هو نفسه عدم المساواة الظاهر في تجاور الأحياء الغنية ومساكن الطبقة المتوسطة والأحياء الفقيرة والعشوائية التي يعيش فيها غالبية السكان. ويعتبر معامل جيني قيمًا في قياس التغيرات من سنة إلى أخرى في نظام ذي بنية ثابتة. غير أن معامل جيني يفقد معناه عند عقد مقارنات دولية بن نظم ذات بنيات مختلفة، مثله في ذلك مثل المؤشرات الأخرى في الحسابات القومية للاقتصاد الكلي. فالبلدان الناشئة الأخرى (غير الصين) هي في حقيقتها "أسواق ناشئة" مفتوحة أمام تغلغل احتكارات الثالوث الإمبريالي. وتسمح هذه الأسواق لتلك الاحتكارات بأن تنتزع لصالحها جزءًا كبيرًا من القيمة الفائضة المنتجة في إطار هذه العملية. لكن الوضع في الصين مختلف، فهي بلد صاعد ذو نظام يعمل على احتجاز أغلب القيمة الفائضة المنتَجة داخله. وتعتبر كوريا وتايوان المثالين الناجحين الوحيدين لصعود أصيل في بلدان الجنوب من داخل الرأسمالية ومن خلالها. ويدين هذان البلدان بنجاحهما إلى أسباب جيوستراتيجية دعت الولايات المتحدة إلى السماح لهما بإنجاز ما منعت واشنطون البلدان الأخرى من إنجازه. ومن الأمور المضيئة حقًا لما نتحدث فيه: فهم ذلك التناقض بين دعم الولايات المتحدة لرأسمالية الدولة في هذين البلدين، ومعارضتها بالغة العنف لرأسمالية الدولة في مصر عبد الناصر أو جزائر بومدين. لن أناقش هنا مشروعات الصعود المحتملة، والتي تبدو ممكنة تمامًا في فيتنام وكوبا، أو شروط الاستئناف الممكن للتقدم في هذا الاتجاه في روسيا. كما لن أناقش الأهداف الاستراتيجية لنضال القوى التقدمية في بلدان أخرى في الجنوب الرأسمالي مثل الهند وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي وأفريقيا، وهو ما يمكن أن ييسر تجاوز المآزق الحالية ويشجع المشروعات المستقلة التي تبادر بقطع حقيقي مع منطق الرأسمالية السائدة.
نجاحات عظيمة وتحديات جديدة
إن الصين لم تصل للتو إلى مفترق الطرق، فهي هناك كل يوم منذ 1950. حيث وقع ولا يزال صدام مستمر بين القوى السياسية والاجتماعية من اليمين واليسار، والتي تنشط في المجتمع والحزب. من أين يأتي اليمين الصيني؟ من المؤكد أن البرجوازية الكمبرادورية والبيروقراطية للكيومنتانج قد أزيحت من السلطة. غير أنه عبر مسيرة حرب التحرير أصابت خيبة الأمل قطاعات بأكملها من الطبقات المتوسطة والمهنيين والموظفين والصناعيين بسبب عدم فعالية الكيومنتانج في مواجهة العدوان الياباني، الأمر الذي قربهم من الحزب الشيوعي، بل حتى الالتحاق به. وبقي الكثيرون منهم- وإن لم يكن كلهم- قوميين لا أكثر. ونتيجة لهذا، ومع بدء الانفتاح على المبادرة الخاصة في 1990 برز يمين جديد أكثر قوة. ولا ينبغي اختزال الأمر في "رجال أعمال" حققوا نجاحات وراكموا ثروات (هائلة في بعض الحالات) مستفيدين من دعم مسئولين في الدولة والحزب، حيث اختلطت السلطة بالتواطؤ وحتى الفساد.
وكما هي الحال دائمًا، يشجع هذا النجاح على انتشار الأفكار اليمينية وسط الطبقات الوسطى المتعلمة. وبهذا المعني تنطوي زيادة اللامساواة (حتى إن لم يكن بينها شيء مشترك مع اللامساواة السائدة في بلدان الجنوب الأخرى) على خطر سياسي كبير، حيث تكون أداة لانتشار الأفكار اليمينية وعدم التسييس والأوهام الساذجة. سأقدم هنا ملاحظة إضافية أعتقد بأهميتها: إن الإنتاج الصغير- والفلاحي على وجه الخصوص، لا تحركه أفكار يمينية مثلما ظن لينين (وكان هذا دقيقًا في الشروط الروسية). ويتناقض وضع الصين هنا مع الوضع في الاتحاد السوفيتي السابق. فطبقة فلاحي الصين- في مجملها- ليست رجعية لأنها على النقيض من نظيرتها السوفيتية لا تدافع عن الملكية الخاصة، حيث لم ينجح الشيوعيون السوفيت قط في إبعاد الفلاحين عن تأييد الكولاك في الدفاع عن الملكية الخاصة. بينما اليوم يشكل فلاحو الصين من صغار المنتجين (دون أن يكونوا صغار ملاك) طبقة لا تسعى لحلول يمينية، وإنما هي جزء من معسكر القوى الداعية لتبني أكثر السياسات الاجتماعية والإيكولوجية شجاعة. وتشهد على هذا الحركة القوية من أجل "تجديد المجتمع الريفي". إذن تقف الأغلبية الساحقة من الطبقة الفلاحية الصينية ضمن المعسكر اليساري إلى جانب الطبقة العاملة. كما يملك اليسار مثقفيه العضويين ويمارس بعض النفوذ على جهاز الدولة والجهاز الحزبي.
ولقد انعكس دائمًا الصراع المستمر بين اليمين واليسار في الصين في الخطوط السياسية المتعاقبة التي طبقتها قيادة الدولة والحزب. ولم يسد الخط اليساري في العهد الماوي دون صراع. وبعد تقييم ماو للتقدم الذي أحرزته الأفكار اليمينية داخل الحزب وقيادته- وهي الأفكار التي تشبه النموذج السوفيتي قليلاً- أطلق الثورة الثقافية لمحاربتها. ورُفِع شعار "لنقصف هيئة الأركان"- أي القيادة الحزبية- حيث تتشكل "البرجوازية الجديدة". غير أنه بعدما حققت الثورة الثقافية أهداف ماو خلال العامين الأولين، انحرفت نحو الفوضى، وما ارتبط بهذا من فقدان ماو يسار الحزب لسيطرتهما على تسلسل الأحداث. وأدى هذا الانحراف بالدولة والحزب لاستعادة الأمور تحت سيطرتهما ثانيةً، الأمر الذي منح اليمين الفرصة. ومنذ هذا الوقت مازال اليمين يمثل الجناح الأقوى في جميع الهيئات القيادية. غير أن اليسار حاضر على الأرض ويحول دون عقد القيادة العليا مساومات مع "الوسط"- لكن هل هو يمين الوسط أم يسار الوسط؟
ولكي نفهم طبيعة التحديات التي تواجه الصين، لا بد أن نفهم أولاً أن الصراع بين مشروع الصين المستقل- كما هو- وبين إمبريالية أمريكا الشمالية وحليفيها الثانويين الأوربي والياباني، هذا الصراع سوف يحتدم مع استمرار الصين في نجاحها. وهناك مجالات عديدة لهذا الصراع: تمكُّن الصين من التكنولوجيات الحديثة، النفاذ إلى الموارد الطبيعية في الكوكب، تزايد القدرات العسكرية الصينية، واستهداف إعادة بناء السياسة الدولية على أساس حقوق الشعوب في السيادة واختيار نظامها السياسي والاقتصادي. إذ تدخل كل هذه الأهداف في صراع مباشر مع الأهداف التي يتوخاها الثالوث الإمبريالي.تستهدف الاستراتيجية السياسية الأمريكية تحقيق السيطرة العسكرية على الكوكب، باعتبارها الطريقة الوحيدة التي تمكّن واشنطون من الاحتفاظ بالمزايا التي تسمح لها بالهيمنة. وهي تسعى لتحقيق هدفها هذا بوسائل مثل الحروب الوقائية في الشرق الأوسط، وتعد هذه الحروب بمثابة التمهيد لحرب (نووية) وقائية ضد الصين، تخطط لها المؤسسة الأمريكية بدم بارد كضرورة محتملة "قبل أن يصبح الوقت متأخرًا جدًا". ولا ينفصل إذكاء العداء للصين عن تلك الاستراتيجية العالمية، والتي تأخذ حاليًا صورة دعم ملاك العبيد في التبت وسنكيانج، وتعزيز حضور الأسطول الأمريكي في بحر الصين والتشجيع غير المحدود لليابان كي تبني قوتها الحربية. ويسهم المشاركون في تقريع الصين في الإبقاء على هذا العداء حيًا. في الوقت نفسه تبذل واشنطون جهودًا حثيثة في ممارسة التلاعب والخداع في الموقف بمغازلة الطموحات القائمة لدى الصين وغيرها من البلدان المسماة الصاعدة، من خلال خلق مجموعة العشرين G20 ، التي تهدف إلى إيهام تلك الدول بأن تأييد العولمة الليبرالية يخدم مصالحها. وفي السياق نفسه تعتبر مجموعة الاثنين G2(الولايات المتحدة/ الصين) بمثابة الفخ لأنها ترمي إلى جعل الصين شريكة في المغامرات الإمبريالية للولايات المتحدة، ومن ثم فقدان السياسة الخارجية الصينية السلمية لمصداقيتها.
إن الرد الفعال والممكن الوحيد على هذه الاستراتيجية يجب أن يتم على مستويين: (1) دعم القوات المسلحة الصينية وتزويدها بالقدرة على الردع. (2) العمل بإصرار على تحقيق هدف بناء نظام سياسي دولي متعدد المراكز، يحترم السيادة الوطنية للدول، وهو ما يتطلب التحرك لإصلاح الأمم المتحدة التي يتم تهميشها الآن لصالح الناتو. وأشدد هنا على الأهمية الحاسمة للهدف الثاني، والذي يتطلب إعطاء الأولوية لبناء "جبهة الجنوب" (باندونج 2 ؟) القادرة على دعم المبادرات المستقلة لشعوب ودول الجنوب. وهو ما يقتضى أيضًا أن تدرك الصين لا تستطيع المشاركة في ممارسات النهب التي تقوم بها الإمبريالية (نهب الموارد الطبيعية للكوكب) لأنها لا تملك قوة عسكرية مماثلة للولايات المتحدة، حيث تعتبر القوة العسكرية الأمريكية هي الملاذ الأخير لضمان نجاح المشاريع الإمبريالية. من ناحية أخرى يمكن للصين أن تكسب الكثير من وراء دعم تصنيع بلدان الجنوب، وهو ما يحاول نادي "المانحين" الإمبرياليين جعله مستحيلاً.
وتتسم اللغة التي تستخدمها السلطات الصينية في القضايا الدولية بضبط النفس إلى أقصى حد (وهو أمر مفهوم) لكنه يجعل من الصعب معرفة مدى وعي قادة الصين بالتحديات السابق تحليلها. والأمر الأخطر أن اختيار لغة الحديث هذه يعزز الأوهام الساذجة وعدم تسييس الرأي العام.
ويتعلق الجزء الآخر من التحدي بدمقرطة الإدارة السياسية والاجتماعية للبلاد. لقد صاغ ماو وطبق مبدأً عامًا للإدارة السياسية في الصين الجديدة يمكن اختصاره في العبارة التالية: حشد اليسار، تحييد (أضيف: عدم تصفية) اليمين، والحكم من موقع يسار الوسط. وفي رأيي أن هذه أفضل طريقة لتصور مسلك فعال للتحرك عبر مراحل متعاقبة، شرط أن تفهمها وتؤيدها الغالبية العظمى. وقد أضفى ماو بهذه الطريقة مضمونًا إيجابيًا على مفهوم دمقرطة المجتمع بأن جمعه مع التقدم الاجتماعي على الطريق الطويل نحو الاشتراكية. وقد صاغ أسلوب تنفيذ هذا: "الخط الجماهيري" (اذهبوا إلى الجماهير، تعلموا من نضالاتهم، وعودوا إلى قمم السلطة). وقد حلل لين تشون هذا الخط ونتائجه الممكنة بدقة.
إن مسألة الدمقرطة المرتبطة بالتقدم الاجتماعي (على النقيض من "الديمقراطية" المنفصلة عن التقدم الاجتماعي، بل ربمت تقترن بالردة الاجتماعية) لا تهم الصين وحدها، وإنما تهم جميع شعوب العالم. ولا يمكن اختصار الأساليب الواجب تطبيقها من أجل النجاح في صيغة واحدة، صالحة لكل زمان ومكان. وفي كل الحالات ينبغي بكل بساطة رفض الصيغة التي تطرحها الدعاية الإعلامية الغربية: أي التعددية الحزبية والانتخابات. ذلك أن هذا النوع من "الديمقراطية" يتحول في كل مكان- حتى في الغرب- إلى هزل. أما "الخط الجماهيري" فقد كان الوسيلة لتحقيق إجماع حول التقدم المستمر المتصاعد والأهداف الاستراتيجية. ويتناقض هذا مع "الإجماع" في البلدان الغربية، والذي يتحقق بالخداع الإعلامي والمظاهر الانتخابية التي لا تعدو أن تكون انحيازًا لمتطلبات رأس المال. لكن بالنسبة لليوم كيف يجب أن تبدأ الصين صياغة خط جماهيري جديد في الشروط الاجتماعية الجديدة؟ لن يكون هذا سهلاً لأن سلطة القيادة- التي تحركت بوجه عام نحو اليمين في الحزب الشيوعي- تؤسس استقرار إدارتها على نزع التسييس والأوهام الساذجة المصاحبة لذلك. ومما يقوي الاتجاه التلقائي للتحرك في هذا الاتجاه، النجاح الذي حققته سياسات التنمية. وهناك اعتقاد واسع في الصين- لدى الطبقات المتوسطة- بأن الطريق الملكي للحاق بطريقة الحياة في البلدان الغنية أصبح الآن مفتوحًا وخاليًا من العقبات، والاعتقاد بأن دول الثالوث (الولايات المتحدة، أوربا، اليابان) لا تعارض هذا، بل هناك أيضًا إعجاب غير نقدي بالأساليب الأمريكية..الخ. وينطبق هذا بشكل خاص على الطبقات المتوسطة الحضرية التي تتسع قاعدتها بسرعة وتتحسن ظروف حياتها بشكل لا يصدق. كما كان لغسيل المخ الذي يتعرض له الطلاب الصينيون في الولايات المتحدة- خاصة طلاب العلوم الاجتماعية- إلى جانب رفضهم للتعاليم الماركسية الرسمية الجامدة وغير الخلاقة.. كان لهما دورهما في تضييق الفضاءات المتاحة للجدل النقدي الراديكالي.
ليس معنى هذا أن السلطات الصينية لا تتمتع بالحساسية إزاء المسألة الاجتماعية، ولا يرجع هذا فقط لتقاليد الخطاب المؤسس على الماركسية، وإنما يرجع أيضًا إلى الشعب الصيني نفسه الذي تعلم كيف يناضل ويستمر في النضال حتى يجبر الحكومة على الاستجابة. وإذا كان هذا البعد الاجتماعي قد تراجع في التسعينيات أمام الأولويات الملحة لتسريع النمو، فإن الصين تشهد الآن اتجاهًا بعودة هذا البعد. ففي نفس الوقت الذي يشهد تآكل إنجازات الديمقراطية الاجتماعية في مجال الضمان الاجتماعي بالبلدان الغنية، نجد الصين الفقيرة تتوسع في الضمان الاجتماعي بأبعاده الثلاثة: الصحة، السكن، رواتب التقاعد. ولنأخذ مثلاً سياسة الإسكان الشعبي- التي تشوهها قطاعات في اليمين واليسار الأوربي- بينما يمكن أن تكون موضع الحسد ليس فقط في الهند أو البرازيل، وإنما كذلك في الأحياء البائسة في باريس أو لندن أو شيكاغو! كما تغطي منظومة الضمان الاجتماعي والتقاعد 50% من سكان الحضر الذين ازدادوا من 200 إلى 600 مليون نسمة! وتستهدف الخطة (موضع التنفيذ حاليًا) زيادة نسبة التغطية تلك إلى 85% في السنوات المقبلة. ولندع جانبًا من تخصصوا في تقريع الصين ويضربون لنا أمثلة للمقارنة من "بلدان شرعت في سلوك الطريق الديمقراطي" والتي يكيلون لها المديح المتواصل. غير أن الجدل يظل مفتوحًا حول أساليب تطبيق المنظومة. فيدافع اليسار عن المنظومة الفرنسية للتوزيع القائمة على مبدأ التضامن بين العمال والأجيال المختلفة- وهو يمهد للاشتراكية التي ستأتي- بينما يفضل اليمين وبشكل واضح منظومة صناديق التقاعد الأمريكية التي تقسم العمال وتنقل المخاطر من رأس المال إلى العمل. مع ذلك يظل الحصول على المكاسب الاجتماعية غير كافٍ ما لم يرتبط بدمقرطة الإدارة السياسية للمجتمع، مع إعادة تسييسه من خلال أساليب تعزز الابتكار الخلاق لأشكال تصلح للمستقبل الاشتراكي/ الشيوعي.
ولا يصلح لمواجهة ذلك التحدي اتباع مبادئ نظام انتخابي متعدد الأحزاب من النوع الذي تدافع عنه- بشكل يثير الغثيان- وسائل الإعلام الغربية والمتخصصون في تقريع الصين، وكذلك "المنشقون" الذين يتم تصويرهم "كديمقراطيين" أصلاء. وعلى العكس من هذا فإن تطبيق تلك المبادئ لا يمكن أن ينتج في الصين، مثلما تبين التجارب العالمية المعاصرة (في روسيا وأوربا الشرقية والعالم العربي)، سوى التدمير الذاتي لمشروع الصعود والنهوض الاجتماعي، وهو في الحقيقة الهدف الفعلي للمدافعين عن تلك المبادئ مرتدين قناعًا من الرطانة الفارغة (مثل قول: "لا يوجد حل آخر سوى الانتخابات متعددة الأحزاب"). ومع ذلك لا تكفي مواجهة هذا الحل الرديء بالعودة إلى الموقف الصلب للدفاع عن شرف "الحزب"، الذي أصابه الجمود وتحول إلى مؤسسة متخصصة في إمداد الدولة بالمسئولين. ولا بد من ابتكار شيء ما جديد. ولا يمكن لحملات "البروباجندا" (الدعاية) أن تنجح في تحقيق أهداف إعادة التسييس وخلق الشروط الملائمة لابتكار إجابات جديدة. إنما يمكن تحقيقها فقط من خلال النضالات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية. وهو ما يتطلب الاعتراف أولاً بشرعية هذه النضالات، وإصدار التشريعات المبنية على الحقوق الجماعية في التنظيم والتعبير واقتراح المبادرات التشريعية. وهو ما يقتضي في المقابل أن ينخرط الحزب نفسه في تلك النضالات، أو بعبارة أخرى: يعيد اكتشاف الصيغة الماوية للخط الجماهيري. ولن يكون هناك معنى لإعادة التسييس إن لم يصحبها اتخاذ إجراءات تكفل تشجيع تسلم العمال تدريجيًا لمسئولية إدارة المجتمع على كل المستويات، في الشركة والمجتمع المحلي والوطن. وإن تبني برنامج من هذا النوع لن يستبعد الاعتراف بالحقوق الشخصية للأفراد. بل على العكس يتوقع من ذلك البرنامج إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الحقوق. وسيؤدي هذا وذاك إلى إمكانية حقيقية لاكتشاف طرق جديدة لاستخدام الانتخابات في اختيار القادة.
ملاحظات
(1) تدين هذه الورقة بالكثير لمناقشات نظمها في الصين (نوفمبر- ديسمبر 2012) لاو كين تشي (من جامعة لينجانج، هونج كونج) بالتعاون مع جامعة جنوب شرقي تشونج كنج (وين تيجون) وجامعتي ريمين وجينهوا في بيجنج (داي جينهوا، وانج هوي) والكاس CASS (هوانج بنج).. وكذلك لقاءات عقدت مع جماعات من النشطاء في الحركة الريفية بمقاطعات شانكسي، شآنكسي، هوبي، هونان، تشونج كنج. وأتوجه بالشكر لكل هؤلاء، وآمل أن تكون هذه الورقة مفيدة في المناقشات المستمرة. كما أدين بشكل خاص لقراء كتابات وين تيجون ووانج هوي.
(2) أقصد بتعبير "تقريع الصين" China bashing تلك الرياضة المحببة في الإعلام الغربي بكل اتجاهاته- بما فيها اليسارية للأسف- لتشويه، وحتى تجريم، كل شيء يجري في الصين. فإذا كانت الصين تصدر سلعًا رخيصة منخفضة الجودة للأسواق الفقيرة في العالم الثالث (وهو أمر صحيح) يعتبرون هذا جريمة. مع أن الصين تنتج أيضًا القطارات فائقة السرعة والطائرات والأقمار الصناعية التي يمتدح الغرب نفسها جودتها التكنولوجية، وإن كان ينكر عليها الحق في الحصول عليها! ويبدو أنهم لا يرون في عمليات البناء الضخمة لإسكان الطبقة العاملة شيئًا سوى ترحيل العمال إلى أحياء فقيرة، وتشبيه "اللامساواة" في الصين (مساكن العمال ليست فيلات فخمة بالطبع) بالهند (حيث توجد الفيلات الفاخرة جنبًا إلى جنب مع الأحياء الفقيرة). ويروج المشتركون في تقريع الصين للرأي الطفولي الذي نقابله عند بعض تيارات "اليسار" الهامشية في الغرب: إذا لم تكن شيوعية بمعايير القرن الثالث والعشرين فإنها تكون خيانة! ويشترك هؤلاء في الحملة الممنهجة للإبقاء على حالة الكراهية إزاء الصين، كما لو كنا في حالة هجوم عسكري محتمل. وهو ليس أقل من محاولة تدمير فرص صعود أصيل لشعب عظيم من الجنوب.
المصادر
الطريق الصيني والمسألة الزراعية:
Karl Kautsky, On the Agrarian Question, (1899) 2 vols. London; Winchester, MA: Zwan Publications, 1988.
Samir Amin, “À l'origine du monde contemporain: la Commune de Paris (1871), la révolution des Taipings (1851-1864)” [The Origin of the Contemporary World: The Paris Commune (1871), the Taiping Revolution (1851-1864)]
Samir Amin, “The 1911 Revolution in a World Historical Perspective: A Comparison with the Meiji Restoration and the Revolutions in Mexico, Turkey and Egypt” (published in Chinese in 1990).
Samir Amin, Ending the Crisis of Capitalism or Ending Capitalism? Oxford: Pambazuka Press, 2011, Chapter 5 (The Agrarian Question). French: Sur la crise, sortir de la crise du capitalisme ou sortir du capitalisme en crise?, 2009, Chapter 5 (Agriculture paysanne...)
العولمة المعاصرة والتحدي الإمبريالي:
Samir Amin, A Life Looking Forward: Memoirs of An Independent Marxist. London; New York: Zed Books, 2006, Chapter 7, Deployment and Erosion of the Bandung Project.
Samir Amin, The Law of Worldwide Value. New York: Monthly Review Press, 2010, Initiatives from the South, p. 121 and following (section 4).
Samir Amin, L'implosion du capitalisme contemporain: automne du capitalisme, printemps des peuples? [The Implosion of Contemporary Capitalism: Autumn of Capitalism, Springtime of Peoples?]. Paris: Éditions Delga, 2012, Chapter 2, Le Sud: émergence et lumpendéveloppement [The South: Emergence and Lumpendevelopment].
Samir Amin, Beyond US Hegemony. London; New York: Zed Books, 2006 (The Project of the American Ruling Class; China, Market Socialism?; Russia, Out of the Tunnel?; India, A Great Power?; Multipolarity in the 20th century).
Samir Amin, Obsolescent Capitalism. London; New York: Zed Books, 2003, Chapter 5, The Militarization of the New Collective Imperialism.
André Gunder Frank, ReOrient: Global Economy in the Asian Age. Berkeley: University of California Press, 1998.
Yash Tandon, Ending Aid Dependence. Oxford: Fahamu, 2008.
التحدي الديمقراطي:
Samir Amin, "The Democratic Fraud and the Universalist Alternative", Monthly Review, October 2011, p. 29-45.
Lin Chun, The Transformation of Chinese Socialism. Durham, NC: Duke University Press, 1996.
وفي الحقيقة إن سؤال "هل الصين رأسمالية أم اشتراكية؟" هو سؤال مغلوط وشديد التعميم والتجريد، حتى ليصبح من الصعب الإجابة على هذه الثنائية الإطلاقية. وفي الحقيقة أن الصين كانت تسير في مسار أصيل منذ 1950، وربما منذ ثورة تايبنج في القرن التاسع عشر. وسأحاول هنا توضيح هذا المسار في مختلف مراحل تطوره منذ 1959 حتى اليوم .
المسألة الزراعية
وصف ماو طبيعة الثورة التي يقودها الحزب الشيوعي في الصين بثورة معادية للإمبريالية/ معادية للإقطاع وتتطلع نحو بناء الاشتراكية. ولم يحدث قط أن افترض ماو أنه بعد الانتصار على الإمبريالية والإقطاع سيكون الشعب الصيني قد بنى "المجتمع الاشتراكي". فقد وصف هذا دومًا بأنه المرحلة الأولى على الطريق الطويل إلى الاشتراكية.
ويجب التشديد على الطبيعة الخاصة جدًا لطريقة تعامل الثورة الصينية مع المسألة الزراعية. فلم تتم خصخصة الأراضي (الزراعية) الموزعة، وبقيت في ملكية الأمة ممثلة في الكوميونات القروية، ولاستخدام الأسر الريفية فقط. ولم تكن هذه هي الحالة في روسيا حيث اعترف لينين- المواجه بواقع التمرد الفلاحي عام 1917- بالملكية الخاصة للمستفيدين من توزيع الأراضي. لماذا كان ممكنا في الصين (وفيتنام) تطبيق مبدأ أن الأرض الزراعية ليست سلعة؟ بينما يتردد القول دائمًا بأن الفلاحين في سائر أنحاء العالم يتشوقون إلى الملكية الفردية للأرض. ولو كانت الحال كذلك في الصين لكان قرار تأميم الأرض قد أدى ربما إلى حرب فلاحية لا تعرف النهاية، مثلما حدث مع ستالين عندما بدأ تطبيق المزارع الجماعية الإجبارية في الاتحاد السوفيتي. ولا يمكن تفسير موقف فلاحي الصين وفيتنام (وأماكن أخرى) بـ "تقليد" مزعوم، بمقتضاه لا يعون الملكية. إنما هو نتاج خط سياسي ذكي واستثنائي طبقه الحزبان الشيوعيان في هذين البلدين. كانت الأممية الثانية تعتبر أن طموح الفلاحين الحتمي في الملكية هو من المسلمات، وهو ما يؤكده بما فيه الكفاية واقع أوروبا في القرن التاسع عشر. فخلال الانتقال الطويل الذي عرفته أوربا من الإقطاع إلى الرأسمالية (1500-1800) كانت الأشكال المؤسسية الإقطاعية القديمة للحصول على الأرض من خلال حقوق يشترك فيها الملك والسادة والفلاحون الأقنان، قد تحللت تدريجيًا وحلت محلها الملكية الخاصة البرجوازية التي تتعامل مع الأرض كسلعة يستطيع مالكها أن يتصرف فيها بحرية (بالبيع والشراء). وقبل اشتراكيو الأممية الثانية هذا الأمر الواقع "للثورة البرجوازية"، حتى إن سخطوا عليه. كما فكروا بأنه لا مستقبل للملكية الفلاحية الصغيرة، والتي انتمت لمشروع زراعي مُمَيكن صُمِّم على نموذج الصناعة. ورأوا أن التطور الرأسمالي نفسه سيؤدي إلى تركيز الملكية، ولأكثر أشكال الاستغلال حدة (انظر كتابات كاوتسكي في هذا الصدد). وقد أثبت التاريخ خطأهم. إذ أفسحت الزراعة الفلاحية الطريق أمام الزراعة العائلية بمعنى مزدوج، فمن ناحية هي تنتج للسوق (وأصبح استهلاك المزرعة ضئيلاً نسبيًا)، ومن ناحية أخرى تستخدم الماكينات الحديثة والمدخلات الصناعية والائتمان المصرفي. وأكثر من ذلك، تحولت الزراعة العائلية الرأسمالية إلى زراعة بالغة الكفاءة مقارنة بالمزارع الكبيرة، من حيث حجم إنتاج الهكتار وحجم إنتاج العامل في السنة. ولا تنفي هذه الملاحظة حقيقة استغلال فلاح الرأسمالية الحديثة من جانب رأس المال الاحتكاري المعمم، الذي يتحكم من المنبع في المدخلات والائتمان، مثلما يتحكم في تسويق المنتجات. وقد تحول أولئك الفلاحون إلى مقاولين من الباطن لرأس المال السائد.
وهو ما أغرى (خطأً) باستنتاج أن المشروع الكبير هو أكثر كفاءة دائمًا من المشروع الصغير في كل القطاعات (الصناعة، الخدمات، والزراعة)، فأكد الاشتراكيون الراديكاليون في الأممية الثانية أن تصفية ملكية الأراضي (تأميم الأرض) ستسمح بخلق مزارع اشتراكية كبيرة تشبه السوفخوزات (مزارع الدولة) والكولخوزات (المزارع التعاونية) التي عرفها الاتحاد السوفيتي فيما بعد. بيد أنهم لم يتمكنوا من وضع هذه الاستنتاجات موضع الاختبار حيث لم تكن الثورة وقتها على جدول الأعمال في بلدانهم (المراكز الإمبريالية).
وقد قبل البلاشفة هذه الأطروحات حتى عام 1917. وشرعوا في تأميم الضياع الكبيرة المملوكة للأرستقرطية الروسية، وترك أراضي المشترك القروي للفلاحين. غير أنهم فوجئوا فيما بعد بالتمرد الفلاحي الذي استولى على الضياع الكبيرة.
استخلص ماو الدروس من هذا التاريخ، وصاغ خطًا مغايرًا تمامًا للفعل السياسي. فبدءًا من الثلاثينيات، وتحديدًا في جنوب الصين أثناء حرب التحرير الأهلية الطويلة، أسس ماو الوجود المتزايد للحزب الشيوعي على تحالف صلب مع الفلاحين الفقراء والمعدمين (الأغلبية)، وحافظ على علاقات ودية مع الفلاحين المتوسطين، بينما انعزل عن الفلاحين الأغنياء في كل مراحل الحرب دون أن يدخل في عداء معهم بالضرورة. وأعد نجاح هذا الخط الأغلبية الكبيرة من سكان الريف لإدراك والقبول بان حل مشكلاتهم لا يتطلب الملكية الخاصة لقطعة من الأرض، يحصل عليها عن طريق عملية للتوزيع. وأعتقد أن لأفكار ماو وتطبيقها الناجح جذورًا تاريخية في ثورة تايبنج في القرن التاسع عشر. وهكذا نجح ماو في تحقيق ما فشل فيه البلاشفة: أي إقامة تحالف صلب مع الأغلبية الريفية الساحقة. وقد تسببت وقائع صيف 1917 في القضاء على فرص التحالف مع الفلاحين الفقراء والمتوسطين ضد الفلاحين الأغنياء (الكولاك)، وذلك لأن الفلاحين الفقراء والمتوسطين كانوا حريصين على حماية الملكية الخاصة المكتسبة، ومن ثم فضلوا السير وراء الكولاك وليس البلاشفة. وتمنعنا هذه "الخصوصية الصينية"- بنتائجها بالغة الأهمية- منعًا باتًا من توصيف الصين المعاصرة (حتى 2012) بأنها "رأسمالية"، لأن الطريق الرأسمالي يقوم على تحويل الأرض إلى سلعة.
الإنتاج الصغير حاليًا ومستقبلاً
مع ذلك بمجرد قبول ذلك المبدأ يمكن أن تختلف تمامًا أشكال استغلال هذا الأصل العام (الأرض) في المجتمعات القروية. وكي نفهم هذا يجب أن نفصل بين الإنتاج الصغير والملكية الصغيرة. لقد سيطر الإنتاج الصغير (الفلاحي والحرفي) على الإنتاج في جميع المجتمعات الماضية. كما احتفظ بمكانة خاصة في الرأسمالية الحديثة، ويرتبط الآن بالملكية الصغيرة في الزراعة والخدمات وحتى بعض قطاعات الصناعة. وهي تنحسر الآن بالتأكيد في الثالوث المسيطر على العالم المعاصر (الولايات المتحدة، أوربا، اليابان). ومن أمثلة ذلك: اختفاء كل الأعمال الصغيرة وحلول العمليات التجارية الكبيرة محلها. بيد أنني لا أقول إن هذا التغير هو "تقدم"، حتى من منظور الكفاءة، فالأمر أعقد من هذا إذا أخذنا في الاعتبار الأبعاد الاجتماعية والثقافية والحضارية. وفي الحقيقة هو مثال على التشويه الذي تحدثه سيطرة الاحتكارات الريعية. ومن هنا نقول إنه ربما يستعيد الإنتاج الصغير مكانته وأهميته في اشتراكية المستقبل. وعلى أية حال يحتفظ الإنتاج الصغير (وهو غير مرتبط حكمًا بالملكية الصغيرة) في الصين المعاصرة بمكانة هامة في الإنتاج الوطني، ليس في الزراعة وحدها، وإنما في سائر قطاعات الحياة الحضرية كذلك. ولقد خبرت الصين أشكالًا شديدة التنوع، بل وحتى التناقض، لاستخدام الأرض كسلعة عامة. وما أحوجنا لأن نناقش- من ناحية- مسألة الكفاءة (حجم إنتاج العامل/ سنة من الهكتار) ، ومن ناحية أخرى: ديناميات التحولات الجارية. ويمكن لأشكال الاستخدام هذه أن تقوي الاتجاهات نحو التنمية الرأسمالية، وهو ما يضع محل التساؤل الوضعية غير السلعية للأرض، وإمكان أن تصبح جزءًا من التطور في الاتجاه الاشتراكي. لا يمكن الإجابة على مثل هذه الأسئلة سوى من خلال التحري الملموس لأشكال الاستخدام كما طُبقت في المراحل المتعاقبة للتطور الصيني من 1950 حتى اليوم.
في الخمسينيات كان الشكل المعتمد هو الإنتاج العائلي الصغير مصحوبًا بأشكال بسيطة من التعاون في إدارة الري، وهو عمل يتطلب تنسيقًا واستخدام أنواع معينة من المعدات. كذلك أدى إدخال الإنتاج العائلي الصغير إلى الحفاظ على احتكار شراء المنتجات الموجهة للسوق، وكذا الائتمان والمدخلات، وكل هذا على أساس الأسعار المخططة (بواسطة المركز). كانت تجربة الكوميونات التي أعقبت إنشاء تعاونيات إنتاجية في السبعينيات مليئة بالدروس. فلم تكن بالضرورة مسألة تحول من الإنتاج الصغير إلى المزارع الكبيرة، بالرغم من الفكرة القائلة بتفوق المزارع الكبيرة والتي اعتنقها بعض مؤيديها. نشأت أسس هذه المبادرة من الطموح في بناء اشتراكي لا مركزي. لم تقتصر مهمة الكوميونات على إدارة الإنتاج الزراعي بقرية كبيرة أو مجموعة من القرى والنجوع (كان هذا التنظيم نفسه مزيجًا من الإنتاج العائلي الصغير والإنتاج المتخصص الأكثر طموحًا) ولكن مسئوليتها شملت أيضًا: توفير إطار للأنشطة الصناعية التي تشغل الفلاحين في مواسم بعينها، الأنشطة الاقتصادية الإنتاجية المتمفصلة مع الخدمات الاجتماعية (التعليم، الصحة، الإسكان)، كما بدأ تنفيذ اللامركزية في الإدارة السياسية للمجتمع. فمثلما انتوت كوميونة باريس، كان على الدولة الاشتراكية أن تصبح- جزئيًا على الأقل- اتحادًا بين الكوميونات الاشتراكية.
ولا شك أن الكوميونات كانت سابقة لعصرها في كثير من النواحي، ولم تسر الأمور بسلاسة دائمًا فيما يتصل بالجدل بين لا مركزية سلطات صنع القرار وبين المركزية الطاغية للحزب الشيوعي الصيني. غير أن النتيجة المحققة جاءت أبعد ما تكون عن وصفها بالكارثية كما يظن اليمين. ففي كوميونة في إقليم بيجنج قاومت حل النظام، تَواصل تسجيل نتائج اقتصادية ممتازة مرتبطة باستمرار المجادلات السياسية الراقية، وهو ما اختفى في أماكن أخرى. وبالنسبة للمشروعات الحالية (1912) التي تطبقها المجتمعات المحلية "لإعادة بناء الريف" في عديد من الأقاليم الصينية، فمن الواضح أنها تستلهم تجربة الكوميونات.
أدى قرار دنج سياو بينج بحل الكوميونات عام 1980 إلى تقوية الإنتاج العائلي الصغير، والذي استمر كالشكل السائد خلال العقود الثلاثة التالية لهذا القرار (1980-2012). غير أن نطاق حقوق المستخدمين (للكوميونات القروية والوحدات العائلية) قد اتسع إلى حد كبير. وقد أصبح ممكناً لحائزي تلك الأراضي استغلال هذا الحق "بتأجير الأرض" (وليس "بيعها") إما إلى منتجين صغار- مما يسهل الهجرة إلى المدن وبخاصة هجرة الشباب المتعلم الذي لا يريد أن يظل مقيمًا بالريف- أو إلى شركات تدير مزارع أكبر وأحدث (وهي لم تكن لاتيفونديا قط، وهو الشكل الذي لم تعرفه الصين، لكنها كانت أكبر بكثير من المزارع العائلية). وكان هذا الشكل وسيلة لتشجيع الإنتاج المتخصص (مثل النبيذ الفاخر الذي استدعت له الصين خبراء من بورجندي) ولاختبار أساليب علمية جديدة (النباتات والكائنات المعدلة وراثياً وغيرها). في رأيي أن "الموافقة" أو "رفض" تنوع هذه النظم مسبقًا لم يكن له معنى. ومن المهم القيام بتحليل ملموس لكل منها، سواء للتصميم أم لواقع التطبيق. وتبقى حقيقة أن التنوع الخلاق لأشكال الاستخدام للأرض موضع حيازة عامة قد أدى إلى نتائج مدهشة. يتعلق أولها بالكفاءة الاقتصادية، فعلى الرغم من نمو سكان الحضر من 20% إلى 50% من إجمالي السكان، نجحت الصين في زيادة الإنتاج الزراعي لمواكبة الاحتياجات الضخمة للتوسع الحضري. وهي نتيجة ملفتة واستثنائية لا نظير لها في بلدان الجنوب "الرأسمالية". وهو ما قوى وحافظ على الاستقلال الغذائي، على الرغم مما تعانيه من معوقات كبرى: فالزراعة الصينية تغذي 22% من سكان العالم على نحو معقول، بينما لا تملك سوى 6% من الأراضي الصالحة للزراعة عالميًا. يضاف إلى هذا أنه لم يعد هناك شيء مشترك بين القرية الصينية وبين الذي مازال سائدًا في بقية العالم الثالث الرأسمالي. فهناك اختلاف كبير بين الحياة المريحة المستقرة في الريف الصيني اليوم وبين تاريخية حالة الجوع والفقر المدقع هناك، بل ومقارنةً بأشكال الفقر المتطرفة التي مازالت سائدة في الريف الهندي أو الأفريقي. وتقف المبادئ والسياسات المطبقة (الحيازة الجماعية للأرض، دعم الإنتاج الصغير دون الملكية الصغيرة) وراء هذه النتائج المتباينة. فهي التي جعلت من الممكن التحكم نسبيًا في الهجرة من الريف إلى الحضر. قارن هذا بالطريق الرأسمالي في البرازيل على سبيل المثال. فقد أدت الملكية الخاصة للأراضي الزراعية في البرازيل إلى تفريغ ريفها، فلا يقطنه اليوم سوى 11% فقط من السكان. لكن أكثر من 50% من سكان الحضر يعيشون في عشوائيات (مدن الصفيح) ويحافظون على بقائهم بفضل "الاقتصاد غير الرسمي" (بما فيه الجريمة المنظمة). بينما لا يوجد شيء مشابه في الصين، حيث يعمل ويسكن سكان الحضر- في مجملهم- على نحو ملائم، حتى بالمقارنة مع كثير من "البلدان الصناعية المتقدمة"، ناهيك عن ذكر البلدان التي يقارب نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فيها مستوى نظيره في الصين. إن انتقال السكان من الريف الصيني بالغ الكثافة السكانية (ولا تماثله إلا حالات فيتنام وبنجلاديش ومصر) هو من الأمور الضرورية. وقد نجحت الصين في تحسين أوضاع الإنتاج الصغير بالريف ما أتاح المزيد من الأرض. ورغم التحكم الرسمي في ذلك الانتقال (نؤكد ثانية أن تاريخ الإنسانية لم يعرف الكمال، سواء في الصين أم في أي مكان آخر) فربما يكتنفه خطر أن يجري بسرعة زائدة للغاية. وهو موضوع مطروح للنقاش في الصين.
رأسمالية الدولة الصينية
تعتبر رأسمالية الدولة هي أول ما يقفز إلى الذهن عند محاولة وصف الواقع الصيني. لكن هذا التوصيف يبقى غامضًا وسطحيًا ما لم يتم تحليل محتواه. إنها حقًا رأسمالية من زاوية أن العلاقة التي يتم بها إخضاع العمال للسلطات المنظمة للإنتاج تشابه تلك العلاقة التي تسم الرأسمالية: عامل خاضع ومستلب، واستخلاص العمل الفائض. ومازال موجودًا في الصين أشكال مختلفة للاستغلال الزائد للعمال في الصين، مثلما في مناجم الفحم أو الورش المشغلة للنساء. وهو أقرب للفضيحة بالنسبة لبلد يزعم أن يريد المضي قدمًا على الطريق إلى الاشتراكية. بيد أن تأسيس نظام رأسمالية دولة أمر لا يمكن تجنبه، وسوف يظل الوضع هكذا في كل بلد. فالبلدان الرأسمالية المتطورة نفسها لن تستطيع الدخول في طريق الاشتراكية (وهو ما ليس مطروحًا على الأجندة المرئية اليوم) دون المرور بهذه المرحلة الأولى في إطار سعي أي مجتمع لتحرير نفسه من الرأسمالية التاريخية على الطريق الطويل إلى الاشتراكية/ الشيوعية. إن تشريك وإعادة تنظيم المنظومة الاقتصادية على كل مستوياتها، من الشركة (الوحدة الأولية)، للأمة، للعالم، يحتاج إلى نضال طويل يستغرق حقبة زمنية تاريخية ليس بالإمكان تقصيرها لمجرد توافر الإرادة. بعد هذه الفكرة الأولية، يجب أن نصف رأسمالية الدولة على نحو ملموس، عن طريق استيضاح طبيعة ومشروع الدولة المعنية، لأنه لا يوجد نمط واحد لرأسمالية الدولة، وإنما أنماط مختلفة كثيرة. فمثلاً استهدفت رأسمالية الدولة أثناء الجمهورية الرابعة في فرنسا (1958-1975) خدمة ودعم الاحتكارات الفرنسية الخاصة، وليس وضع البلد على طريق الاشتراكية.
أما رأسمالية الدولة الصينية فقد بُنيت لتحقيق ثلاثة أهداف:
(1) بناء منظومة صناعية حديثة، متكاملة ومستقلة.
(2) إدارة علاقة هذه المنظومة مع الإنتاج الريفي الصغير.
(3) التحكم في اندماج الصين في النظام العالمي، الذي تسيطر عليه احتكارات الثالوث الإمبريالي (الولايات المتحدة، أوربا، اليابان).
لم يكن هناك مفر من التمسك بهذه الأهداف الثلاثة ذات الأولوية عما عداها. وهو ما سمح بإمكانية التقدم على الطريق الطويل نحو الاشتراكية، لكنه في الوقت نفسه يقوي الاتجاهات للابتعاد عن هذه الإمكانية لصالح انتهاج تنمية رأسمالية نقية وبسيطة. ويجب التسليم بأن هذا الصراع حتمي وحاضر دائمًا. ومن ثم يكون السؤال هو: لصالح أي من الطريقين تعمل الخيارات الصينية الملموسة؟
اقتضت رأسمالية الدولة الصينية في مرحلتها الأولى (1954-1980) تأميم جميع الشركات الكبيرة والصغيرة على السواء (مصحوبًا بتأميم الأراضي الزراعية). ثم تبع ذلك انفتاح على المشروع الخاص الوطني و/أو الأجنبي، وتحرير (لبرلة) الإنتاج الصغير في الريف والحضر (الشركات والتجارة والخدمات من الحجم الصغير). غير أن الصناعات الرئيسية الكبرى والمنظومة الائتمانية التي أقيمت في الحقبة الماوية لم يتم التراجع عن تأميمها، حتى في حالة تعديل الأشكال التنظيمية لاندماجها في اقتصاد "السوق".
مضى هذا الخيار جنبًا إلى جنب مع إنشاء أشكال للرقابة على المبادرة الخاصة والمشاركة المحتملة مع رأس المال الأجنبي. ويتبقى أن نرى إلى أي مدى أوفت هذه الوسائل بوظائفها المحددة، أم أنها على العكس من ذلك لم تعدو أن تكون هياكل فارغة، وأن اليد العليا قد أصبحت للتواطؤ مع رأس المال (من خلال "فساد" الإدارة). يبقى الإقرار بأن ما أنجزته رأسمالية الدولة الصينية في الفترة 1950-2012 مدهش تمامًا وبكل المقاييس. فقد نجحت في بناء منظومة إنتاجية حديثة متكاملة ومستقلة بحجم هذا البلد الكبير جدًا، ولا يمكن مقارنته بالولايات المتحدة. كما نجحت في أن تخلف وراءها التبعية التكنولوجية الشديدة عند نشأتها (استيراد النماذج السوفيتية ومن أوربا الغربية) عن طريق تطوير قدراتها الخاصة على لإنتاج الابتكارات التكنولوجية. بيد أنها لم تبدأ (بعد؟) إعادة تنظيم قوة العمل من منظور تشريك الإدارة الاقتصادية. ومازالت "الخطة"- وليس "الانفتاح"- هي الوسيلة الرئيسية لتطبيق هذا البناء المنهجي. ظلت الخطة طوال فترة تخطيط التنمية الماوية هي الحافز وراء كل التفاصيل: طبيعة وموقع المؤسسات الجديدة، أهداف الإنتاج، الأسعار.. في تلك الفترة لم يكن هناك بديل معقول آخر عن ذلك. وسأتطرق هنا- دون استفاضة- للجدل المهم حول طبيعة قانون القيمة الذي حكم التخطيط في هذه الفترة. تطلب النجاح الكبير- وليس الفشل- في تلك الفترة تغيير الوسائل لاتباع مشروع للتنمية المتسارعة. فكان من الضروري "الانفتاح" على المبادرة الخاصة (الذي بدأ في الثمانينيات، ثم في التسعينيات بدرجة كبيرة) لتجنب الركود المميت الذي سبق أن أصاب الاتحاد السوفيتي. وبالرغم من حقيقة تزامن هذا الانفتاح مع الانتصار المعولم للنيوليبرالية- مع كل التأثيرات السلبية لهذا التزامن وهو ما سأعود إليه لاحقًا- فإن خيار "اشتراكية السوق"، أو ربما كان من الأفضل القول "الاشتراكية مع السوق"، كخيار أساسي لهذه الحقبة الثانية من التنمية المتسارعة، هذا الخيار كان مبررًا إلى حد كبير في رأيي.
مرة ثانية: جاءت نتائج هذا الخيار مدهشة. ففي غضون عقود قليلة تمكنت الصين من إنجاز عملية توسع حضري منتجة وصناعية، تضم 600 مليون إنسان، جاء ثلثاهم إلى المناطق الحضرية خلال العقدين الماضيين (أي ما يعادل سكان أوربا تقريبًا!). ويرجع هذا إلى "الخطة" وليس إلى السوق. وتوجد في الصين الآن منظومة إنتاجية مستقلة حقًا. ولم ينجح أي بلد آخر في الجنوب (فيما عدا كوريا وتايوان) في بناء مثل هذه القاعدة. فبالنسبة للهند والبرازيل لا يوجد سوى عناصر متناثرة- لا أكثر- لمشروع مستقل من هذا النوع.
وقد حدثت تحولات على أساليب تصميم وتطبيق الخطة في ظل هذه الشروط الجديدة. ولا تزال الخطة تركز على الاستثمارات الضخمة في البنية التحتية التي يحتاجها المشروع: إسكان 400 مليون قاطن جديد في المدن وبشروط مناسبة، بناء شبكة لا نظير لها من الطرق السريعة والعادية والسكك الحديدية والسدود ومحطات الكهرباء، الانفتاح على معظم إن لم يكن كل الريف الصيني، تحويل مركز ثقل التنمية من الأقاليم الساحلية إلى الغرب القاري. كما تحافظ الخطة على اهتمامها- جرئيًا على الأقل- بأهداف المشروعات المملوكة للدولة ومواردها المالية (على المستوى الوطني أو الإقليمي أو البلديات). وبالنسبة لبقية الأهداف فهي الأهداف الممكنة والمحتملة للتوسع في الإنتاج السلعي الصغير بالحضر، وكذا الإنتاج الصناعي وغيره من الأنشطة الخاصة. ويتم التعامل مع هذه الأهداف بمنتهى الجدية، وتُرصد الموارد اللازمة لتحقيقها. وبوجه عام ليست النتائج مختلفة كثيرًا عن التوقعات "المخططة". وقد اندمجت رأسمالية الدولة الصينية مع الأبعاد الاجتماعية (ولا أقول "الاشتراكية") المعلنة لمشروع التنمية. وكانت هذه الأهداف حاضرة بالفعل في العهد الماوي: القضاء على الأمية، توفير الرعاية الصحية للجميع،..الخ. وساد في الجزء الأول من فترة ما بعد الماوية (التسعينيات) اتجاه واضح لإهمال المضي في هذه الجهود. ولكن يجب ملاحظة أن البعد الاجتماعي للمشروع قد استعاد مكانته مرة أخرى، استجابةً للحركات الاجتماعية النشيطة والقوية، ومن المتوقع أن تزداد قوة هذا التوجه في المستقبل. ولا يوجد نظير في أي من بلدان الجنوب لعملية التوسع الحضري التي شهدتها الصين. ومن المؤكد أن هناك أحياء "راقية" وأحياء أخرى ليست غنية على الإطلاق، ولكن لا توجد توجد عشوائيات مثل تلك المستمرة في الانتشار في مدن العالم الثالث.
اندماج الصين في العولمة الرأسمالية
لا نستطيع المضي في تحليل رأسمالية الدولة الصينية (وتسميها الحكومة: "اشتراكية السوق") دون أن نأخذ في الاعتبار اندماجها في العولمة.
كان لدى الكتلة السوفيتية تصور لفك الارتباط مع المنظومة الرأسمالية العالمية، ويصحبه بناء منظومة اشتراكية متكاملة تضم الاتحاد السوفيتي وأوربا الشرقية. وحقق الاتحاد السوفيتي فك الارتباط هذا إلى حد كبير، والذي فرضه أيضًا عداء الغرب له والذي بلغ حد الحصار وفرض العزلة عليه. غير أن مشروع إدماج أوربا الشرقية لم يذهب بعيدًا قط، على الرغم من مبادرات الكوميكون. إذ ظلت بلدان أوربا الشرقية في أوضاع غير مؤكدة وضعيفة، حيث فكت الارتباط جزئيًا- ولكن على أساس وطني صارم- كما انفتحت جزئيًا على أوربا الغربية بدءًا من السبعينيات. ولم تُطرح قط مسألة تكامل سوفيتي- صيني، ليس فقط بسبب عدم تقبل القومية الصينية لذلك، ولكن السبب الأكبر كان عدم وجود هذه المهمة ضمن الأولويات الصينية. وقد مارست الصين الماوية عدم الارتباط على طريقتها. فهل ينبغي القول أنها مع إعادة إدماج نفسها في العولمة في التسعينيات قد تنكرت تمامًا ونهائيًا لفك الارتباط؟
دخلت الصين العولمة في التسعينيات عن طريق التنمية المتسارعة لصادرات السلع المصنعة بفضل ما تمتلكه من منظومة إنتاجية، وإعطاء الأولوية التي كانت معدلات نموها وقتذاك تتجاوز معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي. وقد ساعد انتصار النيوليبرالية على نجاح هذا الخيار على مدى خمسة عشر عامًا (1990-2005). وهو الخيار الذي كان محل خلاف، ليس فقط بسبب آثاره السياسية والاجتماعية، وإنما أيضًا بسبب الانهيار الداخلي الذي شهدته الرأسمالية المعولمة النيوليبرالية بدءًا من العام 2007. ويلوح أن الحكومة الصينية واعية بذلك، حيث بدأت مساعي التصحيح مبكرًا وأعطت اهتمامًا أكبر للسوق الداخلية، وللتنمية في غرب الصين. ومما يثير الاشمئزاز القول بأن نجاح الصين يجب نسبته إلى التخلي عن الماوية (التي كان "فشلها" واضحًا) وكذلك السخافة المحضة في نسبة النجاح إلى الانفتاح على الخارج ودخول رأس المال الأجنبي. ينما عملية البناء الماوية هي التي وضعت الأسس التي بدونها ما كان الانفتاح قد حقق نجاحه الباهر. ويتبين هذا بالمقارنة مع الهند التي لم تقم بثورة يمكن المقارنة معها. أما القول بأن نجاح الصين يرجع أساسًا (وحتى "بالكامل") إلى مبادرات رأس المال الأجنبي فليس أقل من سفاهة. فلم يكن رأس المال متعدد القوميات هو من بنى المنظومة الصناعية الصينية وأنجز أهداف التوسع الحضري وتشييد البنية التحتية. ويمكن نسبة 90% من النجاح إلى المشروع الصيني المستقل. ومن المؤكد أن رأس المال الأجنبي قد قام بوظائف مفيدة مثل زيادة استيراد التكنولوجيات الحديثة. غير أن الصين استطاعت من خلال أساليب المشاركة استيعاب هذه التكنولوجيات وأصبحت متمكنة من تطويرها الآن. ولا يوجد شئ مماثل لهذه التجربة في أي بلد آخر، حتى في الهند أو البرازيل، ومن باب أولى: تايلاند وماليزيا وجنوب أفريقيا وغيرها.
يضاف إلى هذا أن اندماج الصين في العولمة ظل على أي حال جزئيًا ومتحكَّم فيه (أو قابل للتحكم على الأقل). كما بقيت الصين خارج العولمة المالية. فنظامها المصرفي وطني بالكامل ويركز على سوق الائتمان الداخلية. ولا يزال اليوان مسألة تخص صناعة القرار الصيني المستقل. وهو ليس خاضعًا للتقلبات الشديدة المرتبطة بالعولمة المالية. فتستطيع بيجنج أن تقول لواشنطن: "اليوان عملتنا ومسألة تخصنا"، بالضبط مثلما قالت واشنطن للأوربيين عام 1971: "الدولار عملتنا ومسألة تخصنا". وفوق هذا تحتفظ الصين باحتياطي كبير جاهز لنشره في منظومة الائتمان العام. أما الدين العام فهو ضئيل مقارنةً بمعدلات المديونية التي تنوء بها الولايات المتحدة وأوربا واليابان وكثير من بلدان الجنوب. وبإمكان الصين التوسع أكثر في الإنفاق العام دون المخاطرة بتضخم كبير. إن اجتذاب رؤوس الأموال الأجنبية- الذي استفادت منه الصين- لم يكن وراء نجاح مشروعها. بل على العكس تمامًا كان نجاح هذا المشروع هو ما جعل الصين جاذبة للشركات الغربية متعدية القوميات. أما بلدان الجنوب التي فتحت أبوابها بدرجة أوسع بكثير من الصين، وقبلت الخضوع دون شروط للعولمة المالية، فلم تستطع جذب رؤوس الأموال الأجنبية بنفس الدرجة. بل إن رأس المال متعدي القوميات لم تجذبه للصين موارد طبيعية يرغب في نهبها، أو تصدير العمليات للصين- دون نقل أي تكنولوجيا- للاستفادة من أجور العمال المنخفضة، أو الحصول على فوائد من تدريب وإدماج الوحدات المنقولة للخارج غير المرتبطة بنظم إنتاجية وطنية كما الحال في المغرب وتونس، أو حتى القيام بغارات مالية والسماح للبنوك الإمبريالية بالاستحواز على المدخرات الوطنية كما في حالة المكسيك والأرجنتين وجنوب شرق آسيا. على العكس من هذا كله يمكن للاستثمارات الأجنبية الاستفادة بالتأكيد من الأجور المنخفضة وتحقيق أرباح جيدة، شرط أن تكون خططها ملائمة للخطط الصينية وتسمح بنقل التكنولوجيا. باختصار هي مزايا "طبيعية"، ولكن يمكن تحقيق ما هو أكثر إذا حدث تواطؤ مع سلطات صينية!
الصين : قوة صاعدة
لا أحد يستطيع التشكيك في كون الصين قوة صاعدة. وتقول فكرة متداولة أن الصين تحاول استعادة المكانة التي احتلتها لقرون ولم تفقدها إلا في القرن التاسع عشر. بيد أن هذه الفكرة- الصحيحة بالتأكيد والمرضية للذات- لا تساعدنا كثيرًا في فهم طبيعة هذا الصعود وآفاقه الواقعية في العالم المعاصر. وقد تصادف أن من يروجون لهذه الفكرة العامة والغامضة لم يهتموا بنظر ما إذا كانت الصين ستصعد وفق الالتزام بالمبادئ العامة للرأسمالية (وهو ما يعتبرونه ضروريًا) أم ستلتزم حقًا بمشروعها عن "الاشتراكية ذات الخصائص الصينية". من جانبي أرى أن كون الصين قوة صاعدة فإن هذا يرجع في الحقيقة وعلى وجه الدقة لأنها لم تختر طريقًا في التطور يتسم بطابع رأسمالي خالص وبسيط، وأنها- نتيجة لذلك- إن قررت انتهاج ذلك الطريق الرأسمالي فإن مشروع الصعود نفسه سوف يواجه خطر السقوط. إن الأطروحة التي أؤيدها تقتضي رفض فكرة أن الشعوب تستطيع القفز فوق التسلسل الضروري للمراحل، ومن ثم لا بد أن تمر الصين بالطور الرأسمالي قبل بحث مسألة مستقبلها الاشتراكي الممكن. لكن الجدل حول تلك المسألة بين مختلف اتجاهات الماركسية التاريخية لم ينته قط إلى نتيجة محددة. فقد ظل ماركس مترددًا إزاء المسألة. ونحن نعرف أنه كتب بعد الاعتداءات الأوربية الأولى مباشرة (حروب الأفيون): "في المرة القادمة التي ترسلون جيوشكم للصين سوف يرحبون بكم بلافتة (انتبه، أنت على حدود جمهورية الصين البرجوازية)". وهو حدس رائع ويبين الثقة في قدرة الشعب الصيني على مواجهة التحدي، ولكنه في الوقت نفسه ينطوي على خطأ لأن المكتوب حقًا على اللافتة "أنت على حدود جمهورية الصين الشعبية". لكننا نعرف أن ماركس لم يرفض فكرة تخطي المرحلة الرأسمالية بالنسبة لحالة روسيا (انظر مراسلاته مع فيرا زاسوليتش). واليوم ربما يميل المرء إلى اعتبار أن ماركس الأول كان محقًا وأن الصين في الحقيقة على طريق التطور الرأسمالي. لكن ماو فهم على نحو أفضل من لينين أن الطريق الرأسمالي لن يقود إلى شيء وأن إحياء الصين سيكون من عمل الشيوعيين وحدهم. وكان أباطرة كنج في نهاية القرن التاسع عشر، وتبعهم صن يات سن والكيومنتانج قد خططوا بالفعل لإحياء الصين في مواجهة تحدي الغرب. غير أنهم لم يتصورا طريقًا لهذا غير الرأسمالية ولم تكن لديهم القدرة الفكرية الكافية لفهم ما تعنيه الرأسمالية حقًا، وأن هذا الطريق مغلق أمام الصين مثلما هو مغلق أمام كل تخوم المنظومة الرأسمالية. وهو ما فهمه ماو بروحه الماركسية المستقلة. أكثر من هذا فهم ماو أن هذه المعركة لن يتحقق فيها النصر مبكرًا- بانتصار 1949- وأن الصراع بين الالتزام بالطريق الطويل نحو الاشتراكية- وهو الشرط الضروري لنهضة الصين- وبين العودة إلى حظيرة الرأسمالية.. سوف يستغرق المستقبل المرئي بأكمله.
وقد شاركت دائمًا تحليل ماو وسوف أعود إلى هذا الموضوع عند عرض بعض أفكاري عن دور ثورة التايبنج (التي أعتبرها الأصل العميق للماوية، ثورة 1911 في الصين وغيرها من ثورات الجنوب أوائل القرن العشرين) والجدالات عند بداية فترة باندونج وتحليل الطرق المسدودة التي واجهتها ما تسمى البلدان الناشئة في الجنوب التي انتهجت الطريق الرأسمالي. وتعتبر كل هذه الاعتبارات بمثابة بديهيات في أطروحتى الرئيسية عن الاستقطاب (أي مقولة التناقض بين المركز والأطراف) المتأصل في التطور العالمي للرأسمالية التاريخية. ويقضي هذا الاستقطاب على إمكانية أن يحقق بلد من بلدان الأطراف "اللحاق" في ظل سياق الرأسمالية. ومن هنا يكون الاستنتاج أنه: لما كان "اللحاق" بالبلدان المتقدمة مستحيلاً، فإنه يجب القيام بشيء ما آخر، أي ما يسمى اتباع الطريق الاشتراكي. لم تنهج الصين مسارًا خاصًا منذ 1980 فحسب، وإنما منذ 1950، رغم أن هذا المسار قد مر بمراحل مختلفة من جوانب كثيرة. وقد طورت الصين مشروعًا متماسكًا ومستقلاً وبما يناسب احتياجاتها. وهو لم يكن الرأسمالية بكل تأكيد، ذلك لأن المنطق الرأسمالي يتطلب التعامل مع الأراضي الزراعية كسلعة. ويظل هذا المشروع مستقلاً بقدر ما تبقى الصين خارج العولمة المالية المعاصرة.
إن حقيقة كون المشروع الصيني غير رأسمالي لا تعني أنه اشتراكي "بالفعل"، وإنما تعنى فقط أن المشروع يجعل من الممكن التقدم على الطريق الطويل المؤدي للاشتراكية. ومع ذلك يظل هذا المشروع مهددًا بانحراف قد يخرجه من ذلك الطريق وينتهي بعودة واضحة وصريحة إلى الرأسمالية.
لقد كان صعود الصين الناجح نتيجة لمشروعها المستقل وحده. بهذا المعنى كانت الصين البلد الصاعد الأصيل الوحيد (إلى جانب كوريا وتايوان اللتين سنتحدث عنهما أكثر فيما بعد). وقد منح البنك الدولي الكثير من البلدان الأخرى شهادات بالصعود، رغم أن أيًا منها لا يمكن اعتباره صاعدًا، لأنها لم تتبع مشروعًا مستقلاً ومتماسكًا. فجميعها يشترك في المبادئ الواضحة للرأسمالية، حتى فيما يتعلق بقطاعات رأسمالية الدولة فيها. كما قبلت جميعًا الخضوع للعولمة المعاصرة بكل أبعادها، بما فيها العولمة المالية. وتُستثنى روسيا والهند جزئيًا من النقطة الأخيرة، على العكس من البرازيل وجنوب أفريقيا وغيرهما. وقد توجد في بعض الحالات "سياسة صناعية وطنية" ولكنها لا تقارن بالمشروع الصيني المتسق لبناء منظومة صناعية صناعية مستقلة، كاملة ومتكاملة (وخاصة في مجال الخبرة التكنولوجية).
لكل هذه الأسباب يكون من قبيل التسرع وصف تلك البلدان الأخرى بالصاعدة، حيث تظل منكشفة دائمًا- بدرجات مختلفة طبعًا- بدرجة أكبر بكثير من الصين. كما ترتبط مظاهر الصعود السطحية (معدلات نمو مرتفعة، قدرة على تصدير المنتجات المصنعة) في تلك البلدان ارتباطًا دائمًا بعمليات الإفقار التي تلحق بغالبية السكان (الفلاحين على وجه الخصوص) على العكس تمامًا من الحال في الصين. ومن المؤكد أن نمو عدم المساواة أمر واضح في جميع البلدان بما فيها الصين، لكن هذه الملاحظة تظل سطحية وخادعة. فهناك فرق بين اللامساواة في توزيع فوائد نموذج للنمو لا يستبعد أحدًا (بل حتى يصاحبه تقلص جيوب الفقر- كما في حالة الصين) وبين اللامساواة المرتبطة بنمو لا يفيد منه إلا أقلية (من 5% إلى 30% من السكان حسب الحالة) بينما يستمر مصير الآخرين بائسًا. لكن المداومين على تقريع الصين ليسوا على دراية- أو يتظاهرون بعدم الدراية- بهذا الفرق الحاسم.
فعدم المساواة الواضح من وجود الأحياء ذات الفيلاّت الفخمة من ناحية، والأحياء ذات الإسكان المريح للطبقتين الوسطى والعاملة من ناحية أخرى.. ليس هو نفسه عدم المساواة الظاهر في تجاور الأحياء الغنية ومساكن الطبقة المتوسطة والأحياء الفقيرة والعشوائية التي يعيش فيها غالبية السكان. ويعتبر معامل جيني قيمًا في قياس التغيرات من سنة إلى أخرى في نظام ذي بنية ثابتة. غير أن معامل جيني يفقد معناه عند عقد مقارنات دولية بن نظم ذات بنيات مختلفة، مثله في ذلك مثل المؤشرات الأخرى في الحسابات القومية للاقتصاد الكلي. فالبلدان الناشئة الأخرى (غير الصين) هي في حقيقتها "أسواق ناشئة" مفتوحة أمام تغلغل احتكارات الثالوث الإمبريالي. وتسمح هذه الأسواق لتلك الاحتكارات بأن تنتزع لصالحها جزءًا كبيرًا من القيمة الفائضة المنتجة في إطار هذه العملية. لكن الوضع في الصين مختلف، فهي بلد صاعد ذو نظام يعمل على احتجاز أغلب القيمة الفائضة المنتَجة داخله. وتعتبر كوريا وتايوان المثالين الناجحين الوحيدين لصعود أصيل في بلدان الجنوب من داخل الرأسمالية ومن خلالها. ويدين هذان البلدان بنجاحهما إلى أسباب جيوستراتيجية دعت الولايات المتحدة إلى السماح لهما بإنجاز ما منعت واشنطون البلدان الأخرى من إنجازه. ومن الأمور المضيئة حقًا لما نتحدث فيه: فهم ذلك التناقض بين دعم الولايات المتحدة لرأسمالية الدولة في هذين البلدين، ومعارضتها بالغة العنف لرأسمالية الدولة في مصر عبد الناصر أو جزائر بومدين. لن أناقش هنا مشروعات الصعود المحتملة، والتي تبدو ممكنة تمامًا في فيتنام وكوبا، أو شروط الاستئناف الممكن للتقدم في هذا الاتجاه في روسيا. كما لن أناقش الأهداف الاستراتيجية لنضال القوى التقدمية في بلدان أخرى في الجنوب الرأسمالي مثل الهند وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية والعالم العربي وأفريقيا، وهو ما يمكن أن ييسر تجاوز المآزق الحالية ويشجع المشروعات المستقلة التي تبادر بقطع حقيقي مع منطق الرأسمالية السائدة.
نجاحات عظيمة وتحديات جديدة
إن الصين لم تصل للتو إلى مفترق الطرق، فهي هناك كل يوم منذ 1950. حيث وقع ولا يزال صدام مستمر بين القوى السياسية والاجتماعية من اليمين واليسار، والتي تنشط في المجتمع والحزب. من أين يأتي اليمين الصيني؟ من المؤكد أن البرجوازية الكمبرادورية والبيروقراطية للكيومنتانج قد أزيحت من السلطة. غير أنه عبر مسيرة حرب التحرير أصابت خيبة الأمل قطاعات بأكملها من الطبقات المتوسطة والمهنيين والموظفين والصناعيين بسبب عدم فعالية الكيومنتانج في مواجهة العدوان الياباني، الأمر الذي قربهم من الحزب الشيوعي، بل حتى الالتحاق به. وبقي الكثيرون منهم- وإن لم يكن كلهم- قوميين لا أكثر. ونتيجة لهذا، ومع بدء الانفتاح على المبادرة الخاصة في 1990 برز يمين جديد أكثر قوة. ولا ينبغي اختزال الأمر في "رجال أعمال" حققوا نجاحات وراكموا ثروات (هائلة في بعض الحالات) مستفيدين من دعم مسئولين في الدولة والحزب، حيث اختلطت السلطة بالتواطؤ وحتى الفساد.
وكما هي الحال دائمًا، يشجع هذا النجاح على انتشار الأفكار اليمينية وسط الطبقات الوسطى المتعلمة. وبهذا المعني تنطوي زيادة اللامساواة (حتى إن لم يكن بينها شيء مشترك مع اللامساواة السائدة في بلدان الجنوب الأخرى) على خطر سياسي كبير، حيث تكون أداة لانتشار الأفكار اليمينية وعدم التسييس والأوهام الساذجة. سأقدم هنا ملاحظة إضافية أعتقد بأهميتها: إن الإنتاج الصغير- والفلاحي على وجه الخصوص، لا تحركه أفكار يمينية مثلما ظن لينين (وكان هذا دقيقًا في الشروط الروسية). ويتناقض وضع الصين هنا مع الوضع في الاتحاد السوفيتي السابق. فطبقة فلاحي الصين- في مجملها- ليست رجعية لأنها على النقيض من نظيرتها السوفيتية لا تدافع عن الملكية الخاصة، حيث لم ينجح الشيوعيون السوفيت قط في إبعاد الفلاحين عن تأييد الكولاك في الدفاع عن الملكية الخاصة. بينما اليوم يشكل فلاحو الصين من صغار المنتجين (دون أن يكونوا صغار ملاك) طبقة لا تسعى لحلول يمينية، وإنما هي جزء من معسكر القوى الداعية لتبني أكثر السياسات الاجتماعية والإيكولوجية شجاعة. وتشهد على هذا الحركة القوية من أجل "تجديد المجتمع الريفي". إذن تقف الأغلبية الساحقة من الطبقة الفلاحية الصينية ضمن المعسكر اليساري إلى جانب الطبقة العاملة. كما يملك اليسار مثقفيه العضويين ويمارس بعض النفوذ على جهاز الدولة والجهاز الحزبي.
ولقد انعكس دائمًا الصراع المستمر بين اليمين واليسار في الصين في الخطوط السياسية المتعاقبة التي طبقتها قيادة الدولة والحزب. ولم يسد الخط اليساري في العهد الماوي دون صراع. وبعد تقييم ماو للتقدم الذي أحرزته الأفكار اليمينية داخل الحزب وقيادته- وهي الأفكار التي تشبه النموذج السوفيتي قليلاً- أطلق الثورة الثقافية لمحاربتها. ورُفِع شعار "لنقصف هيئة الأركان"- أي القيادة الحزبية- حيث تتشكل "البرجوازية الجديدة". غير أنه بعدما حققت الثورة الثقافية أهداف ماو خلال العامين الأولين، انحرفت نحو الفوضى، وما ارتبط بهذا من فقدان ماو يسار الحزب لسيطرتهما على تسلسل الأحداث. وأدى هذا الانحراف بالدولة والحزب لاستعادة الأمور تحت سيطرتهما ثانيةً، الأمر الذي منح اليمين الفرصة. ومنذ هذا الوقت مازال اليمين يمثل الجناح الأقوى في جميع الهيئات القيادية. غير أن اليسار حاضر على الأرض ويحول دون عقد القيادة العليا مساومات مع "الوسط"- لكن هل هو يمين الوسط أم يسار الوسط؟
ولكي نفهم طبيعة التحديات التي تواجه الصين، لا بد أن نفهم أولاً أن الصراع بين مشروع الصين المستقل- كما هو- وبين إمبريالية أمريكا الشمالية وحليفيها الثانويين الأوربي والياباني، هذا الصراع سوف يحتدم مع استمرار الصين في نجاحها. وهناك مجالات عديدة لهذا الصراع: تمكُّن الصين من التكنولوجيات الحديثة، النفاذ إلى الموارد الطبيعية في الكوكب، تزايد القدرات العسكرية الصينية، واستهداف إعادة بناء السياسة الدولية على أساس حقوق الشعوب في السيادة واختيار نظامها السياسي والاقتصادي. إذ تدخل كل هذه الأهداف في صراع مباشر مع الأهداف التي يتوخاها الثالوث الإمبريالي.تستهدف الاستراتيجية السياسية الأمريكية تحقيق السيطرة العسكرية على الكوكب، باعتبارها الطريقة الوحيدة التي تمكّن واشنطون من الاحتفاظ بالمزايا التي تسمح لها بالهيمنة. وهي تسعى لتحقيق هدفها هذا بوسائل مثل الحروب الوقائية في الشرق الأوسط، وتعد هذه الحروب بمثابة التمهيد لحرب (نووية) وقائية ضد الصين، تخطط لها المؤسسة الأمريكية بدم بارد كضرورة محتملة "قبل أن يصبح الوقت متأخرًا جدًا". ولا ينفصل إذكاء العداء للصين عن تلك الاستراتيجية العالمية، والتي تأخذ حاليًا صورة دعم ملاك العبيد في التبت وسنكيانج، وتعزيز حضور الأسطول الأمريكي في بحر الصين والتشجيع غير المحدود لليابان كي تبني قوتها الحربية. ويسهم المشاركون في تقريع الصين في الإبقاء على هذا العداء حيًا. في الوقت نفسه تبذل واشنطون جهودًا حثيثة في ممارسة التلاعب والخداع في الموقف بمغازلة الطموحات القائمة لدى الصين وغيرها من البلدان المسماة الصاعدة، من خلال خلق مجموعة العشرين G20 ، التي تهدف إلى إيهام تلك الدول بأن تأييد العولمة الليبرالية يخدم مصالحها. وفي السياق نفسه تعتبر مجموعة الاثنين G2(الولايات المتحدة/ الصين) بمثابة الفخ لأنها ترمي إلى جعل الصين شريكة في المغامرات الإمبريالية للولايات المتحدة، ومن ثم فقدان السياسة الخارجية الصينية السلمية لمصداقيتها.
إن الرد الفعال والممكن الوحيد على هذه الاستراتيجية يجب أن يتم على مستويين: (1) دعم القوات المسلحة الصينية وتزويدها بالقدرة على الردع. (2) العمل بإصرار على تحقيق هدف بناء نظام سياسي دولي متعدد المراكز، يحترم السيادة الوطنية للدول، وهو ما يتطلب التحرك لإصلاح الأمم المتحدة التي يتم تهميشها الآن لصالح الناتو. وأشدد هنا على الأهمية الحاسمة للهدف الثاني، والذي يتطلب إعطاء الأولوية لبناء "جبهة الجنوب" (باندونج 2 ؟) القادرة على دعم المبادرات المستقلة لشعوب ودول الجنوب. وهو ما يقتضى أيضًا أن تدرك الصين لا تستطيع المشاركة في ممارسات النهب التي تقوم بها الإمبريالية (نهب الموارد الطبيعية للكوكب) لأنها لا تملك قوة عسكرية مماثلة للولايات المتحدة، حيث تعتبر القوة العسكرية الأمريكية هي الملاذ الأخير لضمان نجاح المشاريع الإمبريالية. من ناحية أخرى يمكن للصين أن تكسب الكثير من وراء دعم تصنيع بلدان الجنوب، وهو ما يحاول نادي "المانحين" الإمبرياليين جعله مستحيلاً.
وتتسم اللغة التي تستخدمها السلطات الصينية في القضايا الدولية بضبط النفس إلى أقصى حد (وهو أمر مفهوم) لكنه يجعل من الصعب معرفة مدى وعي قادة الصين بالتحديات السابق تحليلها. والأمر الأخطر أن اختيار لغة الحديث هذه يعزز الأوهام الساذجة وعدم تسييس الرأي العام.
ويتعلق الجزء الآخر من التحدي بدمقرطة الإدارة السياسية والاجتماعية للبلاد. لقد صاغ ماو وطبق مبدأً عامًا للإدارة السياسية في الصين الجديدة يمكن اختصاره في العبارة التالية: حشد اليسار، تحييد (أضيف: عدم تصفية) اليمين، والحكم من موقع يسار الوسط. وفي رأيي أن هذه أفضل طريقة لتصور مسلك فعال للتحرك عبر مراحل متعاقبة، شرط أن تفهمها وتؤيدها الغالبية العظمى. وقد أضفى ماو بهذه الطريقة مضمونًا إيجابيًا على مفهوم دمقرطة المجتمع بأن جمعه مع التقدم الاجتماعي على الطريق الطويل نحو الاشتراكية. وقد صاغ أسلوب تنفيذ هذا: "الخط الجماهيري" (اذهبوا إلى الجماهير، تعلموا من نضالاتهم، وعودوا إلى قمم السلطة). وقد حلل لين تشون هذا الخط ونتائجه الممكنة بدقة.
إن مسألة الدمقرطة المرتبطة بالتقدم الاجتماعي (على النقيض من "الديمقراطية" المنفصلة عن التقدم الاجتماعي، بل ربمت تقترن بالردة الاجتماعية) لا تهم الصين وحدها، وإنما تهم جميع شعوب العالم. ولا يمكن اختصار الأساليب الواجب تطبيقها من أجل النجاح في صيغة واحدة، صالحة لكل زمان ومكان. وفي كل الحالات ينبغي بكل بساطة رفض الصيغة التي تطرحها الدعاية الإعلامية الغربية: أي التعددية الحزبية والانتخابات. ذلك أن هذا النوع من "الديمقراطية" يتحول في كل مكان- حتى في الغرب- إلى هزل. أما "الخط الجماهيري" فقد كان الوسيلة لتحقيق إجماع حول التقدم المستمر المتصاعد والأهداف الاستراتيجية. ويتناقض هذا مع "الإجماع" في البلدان الغربية، والذي يتحقق بالخداع الإعلامي والمظاهر الانتخابية التي لا تعدو أن تكون انحيازًا لمتطلبات رأس المال. لكن بالنسبة لليوم كيف يجب أن تبدأ الصين صياغة خط جماهيري جديد في الشروط الاجتماعية الجديدة؟ لن يكون هذا سهلاً لأن سلطة القيادة- التي تحركت بوجه عام نحو اليمين في الحزب الشيوعي- تؤسس استقرار إدارتها على نزع التسييس والأوهام الساذجة المصاحبة لذلك. ومما يقوي الاتجاه التلقائي للتحرك في هذا الاتجاه، النجاح الذي حققته سياسات التنمية. وهناك اعتقاد واسع في الصين- لدى الطبقات المتوسطة- بأن الطريق الملكي للحاق بطريقة الحياة في البلدان الغنية أصبح الآن مفتوحًا وخاليًا من العقبات، والاعتقاد بأن دول الثالوث (الولايات المتحدة، أوربا، اليابان) لا تعارض هذا، بل هناك أيضًا إعجاب غير نقدي بالأساليب الأمريكية..الخ. وينطبق هذا بشكل خاص على الطبقات المتوسطة الحضرية التي تتسع قاعدتها بسرعة وتتحسن ظروف حياتها بشكل لا يصدق. كما كان لغسيل المخ الذي يتعرض له الطلاب الصينيون في الولايات المتحدة- خاصة طلاب العلوم الاجتماعية- إلى جانب رفضهم للتعاليم الماركسية الرسمية الجامدة وغير الخلاقة.. كان لهما دورهما في تضييق الفضاءات المتاحة للجدل النقدي الراديكالي.
ليس معنى هذا أن السلطات الصينية لا تتمتع بالحساسية إزاء المسألة الاجتماعية، ولا يرجع هذا فقط لتقاليد الخطاب المؤسس على الماركسية، وإنما يرجع أيضًا إلى الشعب الصيني نفسه الذي تعلم كيف يناضل ويستمر في النضال حتى يجبر الحكومة على الاستجابة. وإذا كان هذا البعد الاجتماعي قد تراجع في التسعينيات أمام الأولويات الملحة لتسريع النمو، فإن الصين تشهد الآن اتجاهًا بعودة هذا البعد. ففي نفس الوقت الذي يشهد تآكل إنجازات الديمقراطية الاجتماعية في مجال الضمان الاجتماعي بالبلدان الغنية، نجد الصين الفقيرة تتوسع في الضمان الاجتماعي بأبعاده الثلاثة: الصحة، السكن، رواتب التقاعد. ولنأخذ مثلاً سياسة الإسكان الشعبي- التي تشوهها قطاعات في اليمين واليسار الأوربي- بينما يمكن أن تكون موضع الحسد ليس فقط في الهند أو البرازيل، وإنما كذلك في الأحياء البائسة في باريس أو لندن أو شيكاغو! كما تغطي منظومة الضمان الاجتماعي والتقاعد 50% من سكان الحضر الذين ازدادوا من 200 إلى 600 مليون نسمة! وتستهدف الخطة (موضع التنفيذ حاليًا) زيادة نسبة التغطية تلك إلى 85% في السنوات المقبلة. ولندع جانبًا من تخصصوا في تقريع الصين ويضربون لنا أمثلة للمقارنة من "بلدان شرعت في سلوك الطريق الديمقراطي" والتي يكيلون لها المديح المتواصل. غير أن الجدل يظل مفتوحًا حول أساليب تطبيق المنظومة. فيدافع اليسار عن المنظومة الفرنسية للتوزيع القائمة على مبدأ التضامن بين العمال والأجيال المختلفة- وهو يمهد للاشتراكية التي ستأتي- بينما يفضل اليمين وبشكل واضح منظومة صناديق التقاعد الأمريكية التي تقسم العمال وتنقل المخاطر من رأس المال إلى العمل. مع ذلك يظل الحصول على المكاسب الاجتماعية غير كافٍ ما لم يرتبط بدمقرطة الإدارة السياسية للمجتمع، مع إعادة تسييسه من خلال أساليب تعزز الابتكار الخلاق لأشكال تصلح للمستقبل الاشتراكي/ الشيوعي.
ولا يصلح لمواجهة ذلك التحدي اتباع مبادئ نظام انتخابي متعدد الأحزاب من النوع الذي تدافع عنه- بشكل يثير الغثيان- وسائل الإعلام الغربية والمتخصصون في تقريع الصين، وكذلك "المنشقون" الذين يتم تصويرهم "كديمقراطيين" أصلاء. وعلى العكس من هذا فإن تطبيق تلك المبادئ لا يمكن أن ينتج في الصين، مثلما تبين التجارب العالمية المعاصرة (في روسيا وأوربا الشرقية والعالم العربي)، سوى التدمير الذاتي لمشروع الصعود والنهوض الاجتماعي، وهو في الحقيقة الهدف الفعلي للمدافعين عن تلك المبادئ مرتدين قناعًا من الرطانة الفارغة (مثل قول: "لا يوجد حل آخر سوى الانتخابات متعددة الأحزاب"). ومع ذلك لا تكفي مواجهة هذا الحل الرديء بالعودة إلى الموقف الصلب للدفاع عن شرف "الحزب"، الذي أصابه الجمود وتحول إلى مؤسسة متخصصة في إمداد الدولة بالمسئولين. ولا بد من ابتكار شيء ما جديد. ولا يمكن لحملات "البروباجندا" (الدعاية) أن تنجح في تحقيق أهداف إعادة التسييس وخلق الشروط الملائمة لابتكار إجابات جديدة. إنما يمكن تحقيقها فقط من خلال النضالات الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية. وهو ما يتطلب الاعتراف أولاً بشرعية هذه النضالات، وإصدار التشريعات المبنية على الحقوق الجماعية في التنظيم والتعبير واقتراح المبادرات التشريعية. وهو ما يقتضي في المقابل أن ينخرط الحزب نفسه في تلك النضالات، أو بعبارة أخرى: يعيد اكتشاف الصيغة الماوية للخط الجماهيري. ولن يكون هناك معنى لإعادة التسييس إن لم يصحبها اتخاذ إجراءات تكفل تشجيع تسلم العمال تدريجيًا لمسئولية إدارة المجتمع على كل المستويات، في الشركة والمجتمع المحلي والوطن. وإن تبني برنامج من هذا النوع لن يستبعد الاعتراف بالحقوق الشخصية للأفراد. بل على العكس يتوقع من ذلك البرنامج إضفاء الطابع المؤسسي على هذه الحقوق. وسيؤدي هذا وذاك إلى إمكانية حقيقية لاكتشاف طرق جديدة لاستخدام الانتخابات في اختيار القادة.
ملاحظات
(1) تدين هذه الورقة بالكثير لمناقشات نظمها في الصين (نوفمبر- ديسمبر 2012) لاو كين تشي (من جامعة لينجانج، هونج كونج) بالتعاون مع جامعة جنوب شرقي تشونج كنج (وين تيجون) وجامعتي ريمين وجينهوا في بيجنج (داي جينهوا، وانج هوي) والكاس CASS (هوانج بنج).. وكذلك لقاءات عقدت مع جماعات من النشطاء في الحركة الريفية بمقاطعات شانكسي، شآنكسي، هوبي، هونان، تشونج كنج. وأتوجه بالشكر لكل هؤلاء، وآمل أن تكون هذه الورقة مفيدة في المناقشات المستمرة. كما أدين بشكل خاص لقراء كتابات وين تيجون ووانج هوي.
(2) أقصد بتعبير "تقريع الصين" China bashing تلك الرياضة المحببة في الإعلام الغربي بكل اتجاهاته- بما فيها اليسارية للأسف- لتشويه، وحتى تجريم، كل شيء يجري في الصين. فإذا كانت الصين تصدر سلعًا رخيصة منخفضة الجودة للأسواق الفقيرة في العالم الثالث (وهو أمر صحيح) يعتبرون هذا جريمة. مع أن الصين تنتج أيضًا القطارات فائقة السرعة والطائرات والأقمار الصناعية التي يمتدح الغرب نفسها جودتها التكنولوجية، وإن كان ينكر عليها الحق في الحصول عليها! ويبدو أنهم لا يرون في عمليات البناء الضخمة لإسكان الطبقة العاملة شيئًا سوى ترحيل العمال إلى أحياء فقيرة، وتشبيه "اللامساواة" في الصين (مساكن العمال ليست فيلات فخمة بالطبع) بالهند (حيث توجد الفيلات الفاخرة جنبًا إلى جنب مع الأحياء الفقيرة). ويروج المشتركون في تقريع الصين للرأي الطفولي الذي نقابله عند بعض تيارات "اليسار" الهامشية في الغرب: إذا لم تكن شيوعية بمعايير القرن الثالث والعشرين فإنها تكون خيانة! ويشترك هؤلاء في الحملة الممنهجة للإبقاء على حالة الكراهية إزاء الصين، كما لو كنا في حالة هجوم عسكري محتمل. وهو ليس أقل من محاولة تدمير فرص صعود أصيل لشعب عظيم من الجنوب.
المصادر
الطريق الصيني والمسألة الزراعية:
Karl Kautsky, On the Agrarian Question, (1899) 2 vols. London; Winchester, MA: Zwan Publications, 1988.
Samir Amin, “À l'origine du monde contemporain: la Commune de Paris (1871), la révolution des Taipings (1851-1864)” [The Origin of the Contemporary World: The Paris Commune (1871), the Taiping Revolution (1851-1864)]
Samir Amin, “The 1911 Revolution in a World Historical Perspective: A Comparison with the Meiji Restoration and the Revolutions in Mexico, Turkey and Egypt” (published in Chinese in 1990).
Samir Amin, Ending the Crisis of Capitalism or Ending Capitalism? Oxford: Pambazuka Press, 2011, Chapter 5 (The Agrarian Question). French: Sur la crise, sortir de la crise du capitalisme ou sortir du capitalisme en crise?, 2009, Chapter 5 (Agriculture paysanne...)
العولمة المعاصرة والتحدي الإمبريالي:
Samir Amin, A Life Looking Forward: Memoirs of An Independent Marxist. London; New York: Zed Books, 2006, Chapter 7, Deployment and Erosion of the Bandung Project.
Samir Amin, The Law of Worldwide Value. New York: Monthly Review Press, 2010, Initiatives from the South, p. 121 and following (section 4).
Samir Amin, L'implosion du capitalisme contemporain: automne du capitalisme, printemps des peuples? [The Implosion of Contemporary Capitalism: Autumn of Capitalism, Springtime of Peoples?]. Paris: Éditions Delga, 2012, Chapter 2, Le Sud: émergence et lumpendéveloppement [The South: Emergence and Lumpendevelopment].
Samir Amin, Beyond US Hegemony. London; New York: Zed Books, 2006 (The Project of the American Ruling Class; China, Market Socialism?; Russia, Out of the Tunnel?; India, A Great Power?; Multipolarity in the 20th century).
Samir Amin, Obsolescent Capitalism. London; New York: Zed Books, 2003, Chapter 5, The Militarization of the New Collective Imperialism.
André Gunder Frank, ReOrient: Global Economy in the Asian Age. Berkeley: University of California Press, 1998.
Yash Tandon, Ending Aid Dependence. Oxford: Fahamu, 2008.
التحدي الديمقراطي:
Samir Amin, "The Democratic Fraud and the Universalist Alternative", Monthly Review, October 2011, p. 29-45.
Lin Chun, The Transformation of Chinese Socialism. Durham, NC: Duke University Press, 1996.